Wednesday, December 30, 2015

ثورة ثقافية


تغريدة

ثورة ثقافية

إبراهيم فرغلي




يعييني التفكير يوميا في الكيفية التي يمكن أن ينجو بها الجيل الجديد الذي يتفتح وعيه اليوم فيرى على الشاشات هذا الكم من الفضائح والجهل والتفاهة التي تقدم بوصفها برامج تلفزيونية، والذي يشاهد البلطجية باعتبارهم النماذج، ولن أقول القدوة، على شاشات السينما وشاشات القنوات الخاصة، بوصفهم إعلاميين أو نوابا برلمانيين أو حتى أحيانا مسؤولين. 

جيل سيئ الحظ لأنه حتى لو أغلقت من أجله الشاشات
فبمجرد أن ينزل إلى الشارع أيضا سيتعلم السباب من اللحظات الأولى، وسيرى أن ثقافة الكراهية والإقصاء محمولة في النفوس وتنفجر يمينا ويسارا في الطرقات والأزقة، وسيرى أقرانا له في مثل عمره وهم يستبيحون أعراض الفتيات والسيدات بلا تمييز أو تفريق.
أين المفر؟ وكيف يمكن أن نحمي جيلا جديدا من هذا المناخ الموبوء والفاسد القادر على إنتاج أجيال أكثر ضحالة وسطحية وتفاهة؟
ومع ذلك، وبرغم كل هذه القتامة،  فلا يمكنني أن أفكر من دون اعتبار للمجتمعات التي تجاوزت محنات كهذه. وصفحات التاريخ ممتلئة بالدروس لمن يود أن يفهم دروس التاريخ، وكم من شعوب اتحدت فيها إرادتها بإرادة الدولة وتجاوزت محنها الأخلاقية والاجتماعية لكي تصبح مجتمعات إنسانية يتعايش فيها الناس، لكنها  دول ومجتمعات تجاوزت السلبيات التي تماثل وأحيانا تفوق ما نمر به اليوم باتحاد إرادة الدولة ورجال الأعمال ورأس المال الخاص.

لا يمكنني إلا أن
أكون متفائلا ولو كره الكارهون، لأنني مثلا على يقين أنه لو تمكن رجل أعمال، أو أكثر بطبيعة الحال، من استثمار أمواله في قناة تلفزيونية تنظف عيون الناس وآذانهم ببث الموسيقى الكلاسيكية الرفيعة، ورقصات الباليه، التي كانت في السابق جزءا ثابتا من البرامج التلفزيونية الحكومية، وتطلعهم على تراث الموسيقى الشرقية لكان ذلك جزءا من الرسالة التي ينبغي أن تقدم الآن وهنا.
وإذا تمكن وزير الثقافة من التنسيق مع وزارة التعليم بحيث تصبح الثقافة والفنون والآداب جزءا رئيسا من المنهج التربوي عبر أنشطة دورية يشارك فيها الكتاب والأدباء في المدارس ستكون هذه محاولة أخرى لسد فجوة أكبر.
وتزويد المكتبات بالكتب التي تهذب وجدان الطلبة وتحفز خيالهم وتمنحهم الفرصة للاطلاع على جمال الفكر والآداب والفنون.


وإذا تدخلت الوزارة بثقلها لتمويل أعمال سينمائية راقية تعيد للسينما المصرية وهجهها، سيكون ذلك جانبا ثالثا في عملية صعبة وطويلة لاستعادة الذوق وإعادة إحياء الاهتمام بالفنون، الذي من شأنه أن يهذب الوجدان والنفوس، ويلبي بالتأكيد رغبات محمومة ومقموعة لشعب يتعطش للفنون.

لا أظن أننا يمكن أن نواهج الظلام المرعب الذي يحيط بنا ويقتات من الفساد والجهل والتخلف وينشرها باضطراد إلا عبر ثورة ثقافية بالمعنى الحقيقي. ثورة ربما ستحتاج إلى تشريعات وقوانين أخرى لضبط الشارع وضبط أداء القنوات الإعلامية الخاصة وتفعيل مواثيق الشرف الإعلامي، لكنها لا بد أن تبدأ الآن وهنا؛ لأن كل دقيقة تمضي اليوم يتأثر فيها عشرات آلاف من شباب ومراهقين بما يدور حولهم من مظاهر التأثير الإجرامي للإعلام المنحط، الذي يشارك فيه أسماء معروفة للجميع من الإعلاميين، وللفنون الهابطة، التي تصبح جزءا من تكوينهم الثقافي والوجداني، مع الأسف، يتحركون بها بدورهم للشارع ويحولونها لكرة ثلج تتضخم يوما بعد آخر. فهل من منصت؟ أتمنى.

نشرت في "القاهرة" الثلاثاء 29 ديسمبر 2015


Sunday, December 27, 2015

شرف الكاتب

تغريدة

شرف الكاتب

إبراهيم فرغلي





ما هو سر الكتابة الجيدة برأيك؟

أظن أن "الكاتب" يقضي عمره كله تقريبا بحثا عن إجابة هذا السؤال. والإشكال الكبير هنا ليس في كلمتي كتابة أو سر، بل في هذه المرادفة المخاتلة "جيدة". معيار قيمي مرعب، وحمال أوجه أيضا. تخيل مثلا أن قارئا ما يصف كتابة واحد من كتاب العامية الجدد، الذين يتخذون من منطق كلام المصطبة وسيلة للتجديد، ويصنع منها عدة إفيهات مغزولة بلهجة العوام بدعوى أن الكتابة ينبغي أن تكون ذات مسحة شعبية لكي تُقرأ. غالبا سوف يصف القارئ الموجهة له هذه اللغة المبتذلة بالجودة. وهذا مثال ضعيف لأن هذا الكاتب وقارئه، عندي من صنف واحد، لا علاقة لهما لا بالقراءة ولا الكتابة، لكني استعنت به لتوضيح المدى البعيد الذي تتراوح فيه معايير الجودة.

بل إننا سنجد أن مثل هذا التباين في معايير جودة الكتابة قد يوجد حتى بين من يمتلكون معايير نخبوية في الكتابة، ممن يتفقون على اعتبار سلامة اللغة والاختلاق والابتكار، مثلا، من شروط جودة الكتابة، لكنهم سيختلفون، مع ذلك، حول نص واحد واقعي كلاسيكي على سبيل المثال أيضا، فبينما سيراه من يمنحون التخييل أولوية القداسة أنه مارق عن معايير الكتابة الجيدة، لأنه ينقل الواقع، سيرى آخرون في نقله الفني للواقع عوامل جودته، وهذا التباين يعود في أغلب الأحوال لاختلاف الأذواق والبيئة الثقافية والمرجعيات الفنية.

لذلك أعتقد أن ما يصنع جودة كتابة ما، هي درجة حساسية كاتبها لما يقتضيه النص، الذي يقنع القارئ بصدق الكتابة، أي درجة حساسيته لإتقان الكذب إلى حد الصدق. ثم بمدى قدرة الكاتب على تقمص ما يكتب عنه، ومعرفته الدقيقة بقماشة السرد التي ابتدع.
والأهم من هذا كله أن "الأسلوب شرف الكاتب" كما يقول الصديق الكاتب مصطفى ذكري. شرف الكاتب هذه لا تعني الأسلوب الذهني للكاتب فقط، بل تمتد لوعيه بالقماشة التي يعمل عليها وما تقتضيه. وعيه بأن الجمل الطويلة في الكتابة التي تستلهم الخرافي والعجائبي هي نتاج لإيقاع سردي يتناسب مع لغة تخلق شيئا من لاشيئ، ولا بد للكاتب فيها أن يساعد القارئ أن يرى ما يراه بعين الخيال مبتدعا ومختلقا بالكامل. بينما الإسهاب في وصف الواقعي أحيانا قد يكون مملا، وبالتالي يحتاج الكاتب الجيد الحساسية لإدراك أن النص يناسبه هنا جملا مقتضبة قصيرة مكثفة.

الحساسية هي التي تجعل الكاتب أو الكاتبة حين يتناول موضوعا مثل حرية المرأة لا يغفل الجسد في النص. لا يحول النص إلى مجرد تهويمات أفكار الشخصيات عن حريتهم أو حريتهن من دون مثلا أن يصف ما يرتديه كل منهم وبدقة؛ لأن هذا المعيار هنا كاشف جدا ومكمل للفكرة وملمح غير مباشر لوعي الكاتب بما يكتب عنه.

أظن أيضا أن انشغال الكتاب الذين منحهم تاريخ السرد وجمهور القراء أوسمة التقدير لما يكتبون، بالإجابة عن السؤال المطروح عاليه، في كل نص يكتبونه هو ما يحقق جودة الكتابة، ولهذا مثلا يستدعينا كاتب لقراءة كل أعماله بينما قد نكتفي لكاتب آخر مجيد بكتاب واحد أو اثنين، لتوقفه عن طرح السؤال بعد تلقيه أولى الإجابات في نص من نصوصه المبكرة. والله أعلم.




Sunday, December 20, 2015

المجرمــــــــون!


تغريدة
المجرمون

إبراهيم فرغلي




في الوقت الذي يتعرض فيه الكاتب المصري أحمد ناجي للمحاكمة بسبب رواية أصدرها مؤخرا ورأى فيها مواطن "شريف" أن بها ما يخدش حياءه ويهز قلبه الضعيف ويعرضه للخفقان، يتعرض الكاتب أشرف فياض لحكم بالإعدام بعد أن تعرض لموقف شبيه من قبل مواطن سعودي تربص به بعد خلاف على المقهى لكي يوعز لجماعة الأمر بالمعروف أن فياض كتب كتابا يسيئ للذات الإلهية. وفي الأثناء أقامت لجنة الرقابة الخاصة بفحص كتب معرض الكويت للكتاب مجزرة دامية سفحت فيها دماء آلاف الأفكار والإبداعات الروائية والأدبية لدعاوي لا يعلم الله حقيقتها حتى اللحظة.

هذه الأخبار التي نتداولها كواقع تبدو أكثر ما تكون ككابوس مستلهم من عصور محاكم التفتيش، بالإضافة لأنها اعتداء سافر على المبدعين والكتاب وحقهم في التعبير عن أفكارهم، ووأد لفكرة الحوار ومقارعة الأفكار بغيرها. والأدهى من ذلك أنها اعتداء سافر على المواطن، كل مواطن في الحقيقة، حيث يتوهم الرقيب أنه يملك الحق في أن يسمح لي بما أقرأ لأنه يوافق هواه الشخصي ويمنع عني ما لا يتوافق مع هواه الشخصي.

ثم إذا كان البعض يعتبر أن مجتزآت الفكر أو الأدب "جرائم"، فبماذا يمكننا نحن أن نصف ممارسات الرقيب، تحت رعاية المسؤولين عن الثقافة والإعلام في المجتمعات العربية؟، وهي، أيا كان توصيفها، ترقى إلى إساءات لا يمكن أن تسقط بالتقادم لإهانتها للمثقفين والكتاب وأهل الفكر والرأي وللمواطنين جميعا. وإن أردتم الحقيقة فالرقيب الذي يتصور أنه شرطي الأدب والفكر، ويتعالى علينا بمنعه ما يحب واجتراءه على المجتمع بتحويل مبدعيه للسجن أو تعريضهم للقتل، بدلا من محاورة الأفكار، أقول من يدير هذه الاعتداءات على أهل الفكر هو من يمارس الاعتداء على المجتمع ويحرض على القتل ويكدر السلم العام في المجتمع وليس العكس.

وإذا كان السياف الذي يجهر بعصاه الحكومية بالاعتداء على خصوصيات البشر يتذاكى علينا، متظاهرا ومدعيا أنه يمتلك مفتاح الحقيقة، فنذكره بوقائع التاريخ التي أمسكت بكل أشباهه وألقت بهم في الأماكن التي تليق بهم. أما الخفافيش الذين يؤدون وظائف المنع وهتك الفكر وهم مطمئنون لأنهم مجرد خفافيش ظلام لا يعرف بهم ولا يسمع أحد، فهم يخشون حتى من إعلان أنفسهم لأنهم في قرارة ذواتهم يعلمون حقيقة ما يفعلون.  

والأدهى أن هذه الجهات الرقابية لا تستأسد إلا على ما يثير ريبة موظفيها، وفي المقابل فإنهم يمررون كتبا غثة وتافهة وسطحية من دون أن يهتز ضميرهم الذي لا يتوفز إلا لما يتصوره حفظا لتعليمات رؤسائه.

المهم الآن تضافر الجهود الثقافية إزاء هذه الممارسات الإرهابية التي وتوحيد الصفوف في مواجهتها، فلا يمكن لاتحادات الأدباء والكتاب العرب، أن تقف لتشاهد هذه الممارسات والاعتداءات على الكتاب والأدباء، مكتوفة الأيدي، كما أدعو المثقفون العرب أيضا للاتفاق على بعض المواقف الموحدة لمواجهة بطش الرقيب سواء بالامتناع عن المشاركة في المهرجانات الأدبية التي تقام في دول لا تحترم حرية التعبير، أو تتعسف تجاه أصحاب الفكر والأدب أو تستشرس أجهزتها الرقابية على أعمالهم الأدبية والفكرية. أو لنمرح جميعا في هذا الهراء حتى تأتي ثورة فكرية حقيقية تعيد الأمور إلى نصابها. وقد يكون ذلك بعد قوات الأوان.

مقالي في جريدة القاهرة نوفمبر 2015


تجارة بيع الأحلام !


تغريدة

الأحلام والوقائع





إبراهيم فرغلي


عم صباحا يا عم نجيب. ها أنا ذا أكتب إليك في يوم ميلادك المائة، أطال الله عمر ذكراك بيننا، وفتح علينا لكي نعيد التأمل والفهم.

وقد رأيت فيما يرى النائم أن ذكراك المائة حلّت فاحتُفل بها بما يليق. أقيم متحفا أنيقا ضم متعلقاتك، وصورك وأقلامك وأوراقك، وكتبك، وكثيرا من أدوات معمل الكتابة التي أبدعت بها نصوصك التي لا تزال تلهم الأجيال، خصوصا أولئك الذين أفلتوا من مشاهدة الأفلام المقتبسة عنها، ويعرفون قيمة ما تكتب عبر النص دون ادعاء بأنهم يعرفون ذلك من الأفلام!

كما رأيت أن كتبك قد طبعت في طبعات شعبية، وأتيحت في منافذ بيع الكتب والصحف في النجوع والقرى قبل المدن وعواصم الأقاليم. واقيمت في المدارس مسابقات ثقافية حول أعمالك، وأنشأت الجامعات المركزية أقساما متخصصة لدراسة نصوصك، وقامت مسارح الدولة بعرض مسرحياتك على خشباتها، واستلهمت نصوصا من رواياتك تصلح للخشبة فعرضت في عدد من مسارح الدولة. وأقرت وزارة التعليم روايتين من رواياتك في مناهج اللغة العربية في المدارس، كما زُودت مدارس الحكومة بنسخ من أعمالك، ونشرت عددا من النصوص المبسطة من هذه الأعمال.
لكن يا عم نجيب مالي أراك متجهما غير سعيد!

لعلك أدركت ببصيرتك النافذة أنني أسرد لك حلما، بينما روحك التي تطوف حولنا  تعرف الحقيقة. بصراحة أردت أن أقدم إليك ما تصورت أنه قد يمنحك في مثواك قدرا من السعادة والحبور، إذ أن الحقائق، مع شديد الأسف قد تبدو لك، مُرّة ومؤسفة.

لكنك علمتنا أن نقول الحق ونسعى له. ولعلك تشعر ببعض القلق ولك الحق.
فقد جاءت الوقائع مخالفة لكل أحلامي، إذ ثار لغط طويل قبل فترة عن اختفاء أعمالك من مكتبات ناشرك، ورغم أنه لم يرد على ذلك حتى هذه اللحظة فقد بث بعض مخلصينه من مسؤولي المبيعات، صورا لبعض أعمالك في بعض المكتبات، وتنفسنا الصعداء، من دون أن نفهم لماذا اختفت الكتب من الأساس وكيف ظهرت. وهل ظهرت كلها حقا أم لا.

ويبدو أنه ارتأى أن يقدم لنا نحن جمهورك مفاجأة من العيار الثقيل، احتفاء بذكراك، معلنا وقوع ابنتكم الموقرة على مسودات قديمة بخط من يقال أنه الشخص الذي أمليته أحلامك القديمة في فترة النقاهة، وقد عرضها الناشر على من رأى أنهم عالمين ومختصين بنصوصك وأدبك، فاطمأن قلبه لأنها أحلامك صدقا ويقينا،  وقرر أن تكون هذه هديته لنا في عيدك. لكنه في الوقت نفسه لم يتمكن من أن يجيب على تساؤلات ثارت بعد نشر الكتاب عن إحساس البعض ممن قرأوا النصوص بأن بعضها لا ترقى لأن تكون من إبداعك، وبعضها اتخذ ترقيما يثير القلق والشك إما لأنه يتناقض مع الترقيم السابق للأحلام المنشورة بأمرك ومعرفتك، أو لأنها كلها تخلو من توقيعك الذي ميز ما نشر منها في حياتك.
 
يصف الناشر أوراقك بأنها كنز يضيف لتراث السرد العربي، حتى لو لم تكن ممهورة بتوقيعك، ولكونها وجدت بين أوراقك القديمة. أما أنا فلا أجد ما قوله سوى استعادة تحذيرك على لسان الشيخ عبد ربه التائه :"حذار، فإني لم أجد تجارة هي أربح من بيع الأحلام".


والسلام. 

مقالي في القاهرة بمناسبة العيد المائة لميلاد أديب نوبل نجيب محفوظ ديسمبر 2015

وأستاذ الأجيال الذي تعلمت منه الكتابة الإيروتيكية


إدوار الخراط

عمود الحداثة في بناء الرواية المعاصرة





إبراهيم فرغلي


حين قررت العمل في الصحافة لم أكن قد انتهيت من دراستي الجامعية بعد، وكنت أقضي العام كاملا في القاهرة، وأعود لمدة شهرين إلى المنصورة، أقيم معسكرا دراسيا، أقضي فيه شهرا لدراسة كافة المواد، والآخر لأداء الامتحانات. وخلال  هذين الشهرين، في العام 1992، فوجئت باتصال هاتفي في منزلنا في المنصورة وكان المتصل إدوار الخراط.

مثّل لي هذا الاتصال أكثر من مفاجأة في الحقيقة، فالخراط كان قد لاحظ اختفائي لفترة في القاهرة، وشعر أنه يود أن يطمئن علي. أخبرته بقصة الامتحانات ووعدته أنني سأمر عليه فور عودتي للقاهرة.

منذ تلك اللحظة أدركت جانبا خفيا من شخصية إدوار الخراط؛ هو ذلك الجانب الحنون، الذي سيتمثل خلال علاقتي به لاحقا، في عديد المواقف، وليس معي بل ربما مع كل جيلي وأكثر من جيل آخر.

كنت قد تعرفت على الخراط عبر بعض نصوصه القصصية التي كان ينشرها نهاية الثمانينات في الحياة وفي مجلة "إبداع"، وكانت نصوصا تبدو لي مختلفة تماما عن كثيرا مما كنت أقرأ وأتابع آنذاك من نصوص قصصية في الدوريات المختلفة، من حيث لغتها أولا، بفصاحتها وشعريتها وإحكامها، ثم من حيث أنها نصوص تركز على الوجداني والباطني ومنه تنطلق طاقة السرد.
ولكنها نصوص كانت توحي بصرامة كاتبه وتجهمه، أو هكذا تصورت، حتى اتصلت بالخراط للمرة الأولى في يوم وفاة الكاتب الراحل يوسف إدريس، وقد هاتفته فور عودتي من الجنازة  لكي أحصل منه على تعليق حول أعمال إدريس. وتبينت في هذه المكالمة الهاتفية القصيرة مدى دماثة الرجل، وهو ما سيتبين لي أكثر بعد لقائي به في نفس الأسبوع تقريبا.
في منزله الأنيق في حي الزمالك استقبلني في غرفة مكتبه الشهيرة التي جمعت عشرات من الكتاب والأدباء من محبي الخراط وأصدقائه على مدى عقود وكانت بيتا صغيرا حميما مفتوحا للنقاش والحوار.

يجلس إدوار إلى مكتبه حيث تحيط به الكتب التي تتراص على جدران الغرفة كلها،
تتناثر بينها لوحات فن تشكيلي وتتكدس على مكتبه عشرات المخطوطات والكتب، فيما تنعكس إضاءة قوية من أباجورة إلى يمينه. ومن حولنا تنطلق نغمات موسيقى كلاسيك أظنها كانت ترافقه دائما في أثناء القراءة والكتابة.
أجلس على الكرسي المقابل لمكتبه، وخلفي باب الشرفة المطلة على شارع احمد حشمت، فأرى بروفيله الأيمن، وشعره الأبيض الطويل المنسدل خلف رقبته، وأنصت له فيما يمسك بقلمه، دائما وابدا، يسهب أو يقتصد حسب الحالة. في المقابلة الصحفية يجيب بالفصحى: جملا دقيقة مكثفة ولا يمكن أن تضيف إليها حرفا أو تنزع عنها كلمة. كمحاور كانت حواراته بالنسبة لي نعمة، أنقلها كما هي، ولا أتدخل في الصياغة على أي نحو.

أما في شؤون الحياة والعالم والثقافة والأدب فسوف يكون مقتصدا ومكثفا، لكن الكلمات القليلة لها مغزاها. يسألني عن إبراهيم عيسى، لأني كنت أعمل في مجلة"روزاليوسف" آنذاك، فأقول له أنه شخص حيوي جدا ومتحمس جدا كعادته، فيبتسم إدوار ويسأل سؤالا من كلمتين: متحمس لإيه؟، وبهذا يكون قد سأل السؤال وأجاب عنه في الوقت نفسه.
وبعد سنوات حين أحدثه عن مصاعب تواجهني في كتابة أولى رواياتي ينصت جيدا ثم يقول :"الرواية عمل يحتاج إلى الشجاعة"، ويتركني أكتشف معنى إجابته المحيرة هذه على مدى سنوات؛ ليس فقط لأستكمل أولى رواياتي، بل لأدرك أن طريق الرواية، طريق وعرة وطويلة، وتحتاج بالفعل قدرا كبيرا من الشجاعة التي تمكنك من فهم ما تستلزمه كتابة الرواية من قراءة ومعرفة وامتلاك لغتك الخاصة وأن تتمكن من إضافة كل ما تقتضيه جدية أن يكون لديك مشروعا يمكن به أن تحقق إضافة حقيقية لتاريخ السرد.
وبعد أن أفرطت في قراءة أعماله؛ "رامة والتنين"، "الزمن الآخر"، "ترابها زعفران"، ثم تحفته الصغيرة "أمواج الليالي"، كتبت نصا قصصيا أظنني تأثرت فيه بأسلوبه بشكل واضح. قرأه باهتمام، ثم طلب أن نناقشه في وقت لاحق. وفي الوقت اللاحق قال لي كأنه يود العبور على الموضوع بسرعة :"أرجو أن تكون تخلصت من بعض التأثيرات، عليك أن تجد نبرة صوتك".

أظنني بعد هذا اللقاء مباشرة  أسرعت للبحث عن كتاب "أسرار البلاغة" لعبد القاهر الجرجاني، و"نهج البلاغة" لعلي بن أبي طالب، ثم اقتناء معاجم اللغة العربية. وعدت مرة أخرى لقراءة "الزمن الآخر"، بين أعمال أخرى لكتاب متعددين ممن منحوا اللغة أولوية كبيرة. فقد كانت بنية نص "الزمن الآخر" تتشكل من تداعيات الذاكرة في علاقة ميخائيل برامة، وترتقي من المونولوج الداخلي الذي يتحرك بين زمن استدعاء الأحداث، وبين عدة أزمنة ماضية،تقريبا كما هو بناء نص "رامة والتنين" لكنه أضاف في "الزمن الآخر" تقنية لغوية تقوم على التركيز على الكلمات المعجمية، في فقرات تتخلل الحوار الثنائي العاطفي المستمر بين رامة وميخائيل، تتكئ على حرف بعينه، فتتشكل الفقرةمن غابة كثيفة من المعاني القائمة على معجم مشتقاته كلمات يلعب حرف الألف فيه دور البطولة، ثم الباء لاحقا وهكذا. وكنت أتأمل الكلمات المعجمية محاولا التأكد من مدى ملائمة كل منها للفقرة والنص، وبين كونها مجرد لعبة لغوية مقحمة.

وفي هذه القراءات كنت أعيد تأمل شخصية رامة كمعشوقة تمكن من ترسيخها في وعيي، وأنا أقرأ النص بوصف رامة أنثى شديدة الجمال والحسية مرة، ثم كوطن حقيقي لرجل يشعر بالغربة في الوطن مرة أخرى. فأجد أن هذا المستوى الرمزي وارد جدا بالفعل.

كانت الأسئلة في نصوص إدوار الخراط مصدر إلهام لي، حول اللايقين، وضرورة إعادة السؤال، وسرد الواقع باعتباره سؤالا وليس حقيقة، وأن الحقيقة وكل حقيقة ينبغي أن تكون موضوع سؤال.
السؤال الذي كان يجعل مثلا من جسد رامة موضعا للإيروتيكي الحسي في وصفه الفيزيولوجي، منحوتة شبقية للجمال الأنثوي، مرة، ولها كموضع للحب الملاذ مرة أخرى، ثم يتحول بهذا الجسد في أعمال أخرى بحيث يكون هذا الجسد نفسه موضوعا للسؤال عن المقدس والأسطوري مازجا سؤال الجسد الماثل أمامه أو تحت يدي وعيني الراوي بسؤال أجساد الأيقونات التاريخية والأسطورية البعيدة. وهذا ما يجعلني دائما أرى في رامة معادل لما هو أكبر من مجرد عشيقة لمحب ولهان، يصل إلى كونها معادل لتراث المرأة المصرية كاملا : الفرعونية القبطية اليهودية المسلمة، الملكة وخادمة المعبد، الأم والابنة، المرأة المعرفة أو تلك المغتصبة بالقهر؛ المرأة في كامل إحالاتها، وتاريخها المقترن بالتاريخ المصري.

كانت علاقتي بإدوار الخراط، علاقة تلميذ بأستاذ، ليس فقط من خلال اللقاءات المستمرة التي كانت تجمعنا صباحا في بيته، أو بين مجموعة المحبين والمريدين الذين يلتقون به مساء الأربعاء أسبوعيا في نفس المكان، بل وأيضا من خلال التفاعل والحوار المستمر مع نصوصه البالغة الحساسية. النصوص التي كنت أرى فيها معالجة فنية تشبه تجويد الفنان حسن سليمان في لوحاته. أقصد تلك اللوحات التي كان يصور فيها نفس المشهد الثابت لكنه يغير المنظور وعلاقة الضوء بمركز الصورة في كل لوحة. كانت روايتا "رامة والتنين" و"الزمن الآخر" مثالا ناصعا على هذه الرؤية، وتقديري أن "يقين العطش" مثلا جاءت لكي تضع حلا لغويا جديدا بعد سنوات، يتخلص من الصناعة اللفظية إلى الرشاقة والتدفق السردي المبهر.

دروسه الكبيرة بالنسبة لي تلك التي تتعلق بالجرأة في تناول الإيروتيكي بمزيج رهيف من الحسية والشبقية وتضفيرها في السؤال الوجودي. الجنس كسؤال عن معنى الذات، ثم عن علاقة هذه الذات بالعالم.

 كنت أتابع كتبه النقدية وترجماته وأتأمل الكيفية التي تتوزع بها جهوده الإبداعية، وأظنه قدم لي نموذجا للكاتب الذي لا يجد حرجا من أن يتعامل مع النصوص الأدبية بمنظور يجمع بين أدوات الناقد الفاحصة وحساسية الكاتب، بل لعلني كنت أجد في هذا النوع من النقد وسيلة أكثر جاذبية من النقد الأكاديمي الجاف من جهة وبين النقد الانطباعي الصحفي السائد.

هناك الكثير مما يقال وسيقال عن إدوار الخراط الذي هالني نسيانه حين أصيب هو بفقدان الذاكرة، ولكني أعرف، أن الزمن، كما شأنه العربي، الزمن الذي قتله بحثا، ومجده، سوف يوفي إليه بدوره ما يستحق من تقدير وإعادة قراءة، هو الذي يقف وحده كقرين وحيد لمشروع نجيب محفوظ في صيغته الحديثة البلاغية التي فتحت لأجيال متعاقبة إجابات عدة، ولا تزال تتوالد، مما اقترحه فنيا. نعم، إذا كان الأدب المعاصر في ريادته يقف على ساقين فأحدهما لمحفوظ والآخر للخراط، وهذا زعمي ويقيني.


 مقالي في القاهرة في العدد التذكاري عن الراحل الكبير إدوار الخراط ديسمبر 2015




تغريدة ..أقنعة الرقيب


تغريدة

أقنعة الرقيب







إبراهيم فرغلي




للعام الثالث على التوالي، تقريبا، لا تزال أجهزة الرقابة التابعة لوزارة التعليم في الكويت تواصل تدخلها في مناهج التعليم الدولية في المدارس الأجنبية على أرض الكويت، وخصوصا كتب بعض مناهج العلوم والتاريخ لكي تلزم المدارس الأجنبية بحذف صور تعرض تشريحا لجسد الإنسان أو أجهزته الحيوية، أو بعض اللوحات الفنية العالمية.
من جهتهم، حين يجد الطلبة صورا محذوفة في كتبهم، يسعون للتعرف على الصور المحذوفة عن طريق شبكة الإنترنت، وباهتمام أكبر؛ لأن الممنوع مرغوب طبعا، إضافة لأنهم يتعلمون وفق مناهج تدربهم على استخدام المنهج العقلي في التفكير، والقدرة على التمييز والفرز. أما الرقيب فيتنفس بارتياح من أدى مهمة جليلة، ظانا أنه قد خلص الفتية والفتيات من شرور الفكر والفن، متوهما أنه منعها عنهم بسيف المنع البتار.
هذا وجه واحد من وجوه الرقيب في مجتمعاتنا العربية، التي نشأت على الازدواجية بين السر والعلن، تقبل كل شئ سرا، وترفض نفس الأشياء في العلن. باختصار إنها القيم التي تنشئ مجتمعا من الكذابين! مجتمع لا يعرف كيف يعبر عما يفكر فيه بشفافية، لأنه لم يعتد ذلك، ثم إن المجتمع الازدواجي يكافئ الكذابين ويحتضنهم، ويمنحهم الفرص وينتظر منهم، في المقابل، مزيدا من النفاق والكذب.

الرقيب، ابن هذه الثقافة، لا يقبل أن يُكشف ما يظن بوجوب ستره، بطبيعة الحال، ويمارس دورا تعلمه من ثقافة الكبت والمنع والازدواجية ممثلا في التجسس وتتبع خصوصيات الآخرين والارتياب في مقاصدهم، ويقرأ النصوص بهذه الذهنية الملتبسة، فلا يدرك الفرق بين النص الفني والواقع، وبين التخييل وكتابة المذكرات.

الرقيب يعبر عن ذهنية عامة في المجتمع، يمكن تلمس أبرز سماتها مثلا بتصفح  الموضوعات الأكثر قراءة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي لا تخرج غالبا عن موضوعات تهتم بالنمائم، وفضائح الحياة الخاصة لمجتمع يتعيش الكثير من أفراده على إظهار الفضيلة والبطولة على الشاشات وأمام الناس، بينما في الخفاء قد يسترون كل نقيض.

ولهذا من المتوقع، مع الأسف، أن يتعاطف الرقيب، مع كهل متصاب، أو متأخر المراهقة؛ ممن تقع عيونهم على سطور من نص أدبي فيرتجف من تسمية الرواية للأشياء بأسمائها، خصوصا لو كانت أعضاء جنسية مثلا.
الرقيب والمتصابي سيتفقان على منع ومعارضة كل ما يخالف تصوراتهما عن الازدواجية، وسيدفعان بمن يخالف تصوراتهما إلى المحكمة أو إلى المقصلة، فالصدق الذي كان منجاة في مدونات القيم القديمة في مجتمعات لم تكن ترى في الجنس ما تخجل منه، أصبح اليوم، في مجتمعات تخاف من الصدق ومن المسميات الحقيقية للأشياء، رذيلة.

لكن الرقيب يتعامى أو يتناسى أنه، مهما بلغت فداحة ما ارتكبه من جرائم تعطيل العقل، ورفض المكتشف العلمي، ونفاق المؤسسة السلطوية الدينية، ونفاق المجتمع الأخلاقي القائم على الكذب، ينتهي به الأمر إلى المجهول، ويصبح نسيا منسيا، بينما يحيا ما منعه أولا بفضل القوة التي يحصل عليها الممنوع، وتاليا، وربما اساسا، لأن المنجز الإبداعي البشري يمتلك عوامل خلوده.
والأمر الذي بات مصيريا اليوم هو إدراك الجهات التشريعية في الدولة أن عليها اليوم مراعاة هذا كله في وقت لم يعد يحتمل ترف القمع الفكري، أيا كان نوعه أو هيئته أو درجته أو أسبابه.

من مقالاتي في جريدة القاهرة 


Thursday, December 17, 2015

ثورة الزمن



ثورة زمانية




هل هناك شكل للزمن؟ وهل تغيرت علاقتنا بالمكان بعد ثورة الاتصالات الراهنة؟ الإجابة هي نعم، بالتأكيد، بل إن ثورة الاتصالات التي تتجسد في الوسائط الافتراضية على شبكة الإنترنت، أسهمت في تحقيق تغيير شامل لمعنى الزمن والمكان، وانضغاطهما، إذا صح التعبير، بما يؤدي إلى تكون نسق جديد لصيغ من العلاقات بين الناس، وبين الحكومات، ورأس المال، ولتولد قيم جديدة، وطرق تفكير مختلفة.
قبل أن تندلع الثورات والانتفاضات العربية بكل ما أفرزته من حراك سياسي واجتماعي، وتغيرات في مفاهيم المطالب والحقوق، وحين كنت، قبل سنوات طويلة من بزوغ الربيع العربي، أتأمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة، آنذاك، متيقنا أنها لا يمكن أن تستمر على النحو الذي كانت تسير فيه حيث طال الفساد كل شئ، وانتفت قيم التجويد والكفاءة، لصالح المصالح المتبادلة. كنت أردد لنفسي أنه لا بد أن تحدث يوما ثورة أو انتفاضة، لكني سرعان ما كنت استبعد الفرض. فقد كنت أرى أن الشعب المصري، في غالبيته العظمى، يميل للتكيف مع الأوضاع السائدة أيا كانت وأيا بلغت درجة سوئها، ومهما تذمر أو أبدى إحباطا ويأسا مما يحدث حوله، فهو عادة ما يختتم حديثه مردداً "ربنا يستر" أو "ربنا يجيب العواقب سليمة"، واثقاً من أن رحمة الله هي التي سوف تنقذ مصيره الشخصي ومصير البلد.
بالتالي فقد كنت أعرف أن شعباً يفكر بهذه الطريقة لن يسعى لعمل ثورة على الأوضاع، لأن الثورات، كما علمتنا دروس التاريخ، لا بد أن تتبعها حالة من حالات خلخلة المجتمع، واضطرابه، وانهيار الدعامات الهشة لمفهوم الاستقرار الذي يتوهم المجتمع أنه يعيشه.

كنت أعرف أن الدول التي شهدت في تاريخها ثورات وحركات احتجاج شعبية كبيرة، عانت شعوبها طويلا، بمعنى زمني تقليدي يمتد في بعض الحالات لأكثر من قرن، قبل أن تتمكن من تحقيق السلام الاجتماعي والاستقرار والرفاهية، وكلفها السعي لكي تنال حريتها كلفة باهظة من الدماء والتضحيات والصبر على سيناريوهات الثورة المضادة التي تقودها قوى الفساد والرأسمالية المتوحشة.
 لم أكن متأكدا أن الشعب المصري لديه الاستعداد أو القدرة، ولا الصبر والفهم من أجل تحمل مثل هذه التكلفة. خصوصا أنني في النهاية كنت فردا من أفراد مجتمع، عايش وتعايش، بشكل أو آخر، مع كل مظاهر ذلك الفساد الذي كانت تدور حولنا وبيننا في كل مكان، رغم الاستنكار والإحباط والإرهاق النفسي، وحتى محاولات النأي بالذات عن التورط في منظومة الفساد بكل ما يمكنني من طاقة، وممارسة دور وحيد ممكن ممثلا في الكتابة والنقد.
 كنت أدرك، بناء على الوعي بتاريخ الثورات، أن بدء عملية تغيير جذري سوف يتبعها عقود من العمل من أجل تحقيق الاستقرار. وأن الشعوب التي صنعت أبرز الثورات الشعبية مثل الثورة الفرنسية، اكتمل لها اليوم وعيا يناهز تاريخه نحو قرون ثلاثة. وبالتالي قدّرت أننا ربما نحتاج عمراً مماثلاً لكي نصل للوعي بضرورة التغيير، بالمعنى الحقيقي أي أن نمتلك الوعي بأن التغيير لا يحدث إلا إذا الشعب يوما أراده، وامتلك الإرادة والقدرة على التعبير عنها.
كان الأمل الوحيد لأي تغيير أسرع من الحلم بثورة يتجسد في الحلم بأن تحدث معجزة ما في يوم ما، ويأتي لحكم البلاد من يكون قادرا على تنميتها من الداخل، بالرغم من استحالة ذلك نظريا وعمليا.
وفي يومي 25 و28 يناير 2011 كنت أتابع ما يحدث في ميدان التحرير، وفي أرجاء واسعة أخرى من القاهرة والمحافظات المصرية، كما الملايين من المصريين وغيرهم، بتوتر وترقب حذر، ولكن بأمل بالغ، في الوقت نفسه، أن يكون في الحراك المباغت المدهش أول ما يدونه التاريخ كمقدمات الثورة التي كان الفرد يحلم بها، ويراها مجرد معجزة. وحين سقط حسني مبارك في 11 فبراير من نفس العام تأكد إحساسي من أننا بالفعل في طريق ثورة مهمة، إن لم نكن بدأنا حقا في تحقيق معجزة.
تمثلت المفاجأة الحقيقية، رغم نشوة انتصار الشعب على الديكتاتور، بعد تنحي مبارك وتسليمه السلطة الانتقالية للمجلس العسكري، أن أحداً في مصر لم يكن يتوقع ما يحدث، وبالتالي فلم تكن هناك أية بدائل جاهزة لتوجيه دفة الأحداث، وهو الأمر الذي يسر الأمر لتنظيم الإخوان المسلمين أن يحقق هدفا طال الحلم به لديهم بتدبير مخططات تضمن وصولهم للحكم بشكل ديمقراطي، وأكرر بـ"مظهر" ديمقراطي ولكن من دون جوهره، لأول مرة في تاريخهم.
لكن عليّ الاعتراف هنا أن شيئا لم يفاجئني من أي أحداث أعقبت تنحي مبارك وحتى اليوم، بكل ما مرت به مصر من تجارب وخبرات وتحالفات وأعمال فوضى وعمليات قتل مارسها القتلة أيا كانوا، وبداية من تورط المجلس العسكري الذي تسلم الحكم من مبارك بقيادة المشير طنطاوي، أولا في قتل المدنيين، ثم في محاكمتهم عسكريا، وحتى وصول الإخوان للحكم، ثم ممارساتهم المتوقعة في محاولة "أخونة الحكم" وعدم وجود مشروع نهضة حقيقي، وفشل ذريع في إدارة الدولة بالحد الأدنى حتى من الخبرات.
لم يفاجئني شيء، لأن انطلاق شرارة ثورة كان يعني أن عوامل الجمود الشعبي قد انتهت للأبد، وأن ما يلي ذلك سوف يخضع لدروس التاريخ. وتاريخ الثورات في الحقيقة يقول ذلك، بل ويقول ما هو أكثر من ذلك؛ دموية وشيوعا للفوضى وانعدام الأمن، وتكالب كل الانتهازيين على السلطة. وهي كلها عوامل ترتبط بقوة التغيير، والإحساس بتآكل السلطة السابقة التقليدية، إضافة إلى تجليات المسببات الحقيقية التي دعت للثورة أساسا، مثل الفقر الشديد، والإحساس بالمهانة من قمع السلطة الديكتاتورية، والتفاوتات الطبقية، وانسداد الأفق، وقلة الوعي وانخفاض مستوى التعليم.
لكني انتبهت إلى أن معدل تسارع الأحداث هو العنصر الحديث في هذا الحراك الشعبي، ففي عامين اثنين نجح الشعب المصري في إسقاط ديكتاتور، وعزل آخر، وهو محمد مرسي رغم أنه كان قد انتخب، وذلك بسبب الفشل الكبير، وعدم القدرة على تنفيذ أي من مطالب الثورة.
وفي تاريخ الثورات قد يأخذ مثل هذا المسار سنوات طويلة. وبعد تأمل اكتشفت أنه لا بد من وجود علاقة ما بين وسائط الاتصال والتواصل الحديثة كمتغير أساسي واكب هذا الحراك، وبين هذا التسارع المبهر في الوقائع على الأرض.
صحيح أن هذه الوقائع، بالعودة مرتين إلى الجيش لقيادة الدولة في الفترة الانتقالية،  ربما قد تعبر عن فشل الثوار، وعجزهم عن فرض مطالب الثورة على أرض الواقع، ضد قوى الثورة المضادة، وقوى الفاشية الدينية، أكثر من كونها حركة ثورية تتقدم للأمام محققة شعاراتها وفق مخطط ثوري طموح. لكن إيقاع مسيرة الأحداث هو الذي يفرض فكرة "القفزات" الزمنية في مسيرة الحراك الثوري.
 فحين نقارن بين الثورات الكبيرة مثل الثورة الفرنسية، ندرك أنها أصبحت "ثورة" بعد مسارات عديدة وإخفاقات كبيرة، وبالرغم من عودة الملكية مرة أخرى بعد إسقاطها بسنوات، وبالرغم من وجود مجموعة كبيرة من المنظرين المهمين مثل فولتير وسواه. وبالرغم من ان المجتمع الفرنسي مثل أغلب دول أوربا كان يمتلك آنذاك جامعات تقليدية أكاديمية خرجت أجيالا من الأكاديميين والعلماء والباحثين والمفكرين، إلا أن مسار الثورة اتخذ الكثير من التعرجات حتى وصل إلى تحقيق أهداف الثورة في نهاية المطاف.

وهكذا وبالعودة لتأمل الانتفاضتين الشعبيتين اللتين اندلعتا؛ أولاً في تونس بعد أن حرق البوعزيزي نفسه في 10 ديسمبر2010، ثم ما تلى ذلك لاحقاً في مصر في 25 يناير2011، وما واكبهما في توقيتات متقاربة جدا في البحرين في 14 فبراير، وليبيا 17 فبراير واليمن في وسوريا في 18 مارس، اكتشفت، كما هو معروف للجميع اليوم، الدور الكبير الذي لعبته وسائط الاتصال الحديثة ممثلة في شبكة الإنترنت ووسائط الاتصال الاجتماعي المرتبطة بها، مثل "فيسبوك"، و"تويتر".
تراوح هذا الدور في توثيق العديد من مظاهر الفساد في الدول المختلفة، من خلال بث صور وفيديوهات وأفلام قصيرة مصورة، ونشر كل ما يتعلق بحالات تعذيب المواطنين، في أقسام الشرطة المصرية، وحشد رأي عام ضد هذه الممارسات، وفي مرحلة لاحقة تصاعد دور الشبكات الاجتماعية الافتراضية، من خلال بث اخبار الاحتجاجات الفئوية المختلفة وبينها احتجاجات عمال المحلة، في محاولة لتوسيع نطاق انتشارها. وصولا إلى بدء الدعوة إلى التظاهرات المختلفة، ثم الحشد لتظاهرة 25 يناير بعد نجاح الانتفاضة التونسية في إنهاء حكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وهروبه وأسرته خارج تونس.
لكن دور الوسائط الافتراضية في الحقيقة لم يتوقف عند دوره كلاعب أساسي في تحريك الثوار والحشد، وتأكيد إصرار الجماهير على مطالبها، وتناقل خبرات ثوار تونس في مواجهاتهم للقمع البوليسي والغاز. بل شهد أولا تصديا لمحاولات إيقاف عمل شبكات الإنترنت، كما حدث من حكومة أحمد نظيف في مصر، إبان 25 يناير، لكن شبكة الإنترنت تحولت إلى خلية عمل من قبل كل من يعيشون خارج مصر من المصريين والأجانب لدعم ثوار التحرير.
 ثم تعدى  الأمر ذلك إلى المراحل الانتقالية التي أعقبت الثورات، وبالتالي أيضا فإن ما حدث في ليبيا، على سبيل المثال منذ بدء الأحداث لإسقاط الرئيس الأسبق معمر القذافي، مرورا بالتدخل الأجنبي وحتى اعتقال القذافي على يد بعض الثوار وقتله، ثم نقل السلطة وكتابة الدستور لم يستغرق زمنا طويلا، مقارنة حتى بزمن الوجود الأمريكي في العراق.
وهو ما يعني أن هناك بالفعل، على مستوى القياس الزمني، فيما مرت به دول الثورات من أن أحداث، نوع من حرق مراحل مختلفة قد كان من الممكن أن تأخذ فترات تاريخية في ظروف أخرى.

إن تأثير الوسائط الافتراضية الجديدة أدى إلى العديد من الظواهر، بعضها يتعلق بالحراك السياسي والاجتماعي نفسه، وبعضها يتعلق بمولد حالة من التفاعل اجتماعي تام بين كل طوائف المجتمع، بالحوار أو الجدال أو حتى تبادل الاتهامات والتخوين، وهو ما يعني أن المجتمع قد تم تسييسه تماماً بفضل هذا الحراك الفكري على الإنترنت، والذي يعد انعكاساً مباشراً لكل موقف على الأرض من قبل الأطراف المختلفة.
وبالتالي فقد كان للمساحة الافتراضية على شاشات الكومبيوتر والهواتف المحمولة دور كبير أيضا في مسيرة الثورة، والحراك الشعبي، عبر تعبير الأفراد عن أفكارهم ورؤاهم من جهة، وإعلان مواقفهم وأحيانا بالدعوة لاتخاذ مواقف بعينها أو التوقيع على بينات وغير ذلك، من جهة أخرى. كما أن هذه المساحة الافتراضية نفسها جسدت انعكاساً ورد فعل مباشراً يومياً، وربما لحظياً، لما يحدث على أرض الواقع.

ولذلك فحين وصل الإخوان للحكم ممثلين في شخص الرئيس المعزول محمد مرسي، رغم علامات الاستفهام الكبيرة التي أحاطت به، خصوصا وأنه كان هارباً من السجن خلال الثورة، ولكونه لم يكن سوى بديل لمرشح آخر. حين وصل للحكم، كان لدي يقين أن الثورة بمسارها الذي بدا وقد اصابته عدوى الحركة السريعة الذي يميز وسائل التواصل الاجتماعي، سوف لن تصبر طويلا على مرسي إذا ثبت فشله أو إذا تورط في مشروع أخونة الدولة، وهو ما حدث لاحقاً بالفعل، وخلال عام واحد كما هو معروف.

وربما يقول البعض أن مسار "تدبيج" الإعلان الدستوري الأول في ظل الحكم العسكري، وما تلاه من مسيرة مشوهة باتجاه ديمقراطية مشوهة، بدا جليا في وقت لاحق أنها كانت تخدم فقط "التعجيل الشديد" بوصول الإخوان للحكم، كان نتيجة لمؤامرة ربما تكون أطرافها العسكر بقيادة طنطاوي آنذاك والإخوان وأمريكا، وهو ما لاحت العديد من المؤشرات الدالة عليه عقب قيام الشعب بإسقاط مرسي، وبدعم وطلب شعبي وجهه الشعب للجيش في 3 يوليو بعد إعلان الفريق السيسي تفهمه لمطالب الشعب.
كما قد يفترض آخرون أن المسار السريع لانتقال السلطة للإخوان لا يعود لأسباب لها علاقة بالثقافة التي سادت في زمن الثورة ممثلا في وسائل التواصل السريع الافتراضية، وأنه فقط يعود لمؤامرات القفز على الثورة. وقد يكون هذا صحيحا، لو لم نشهد التسارع المذهل للرفض الشعبي للإخوان فور انكشاف مخططاتهم، وعدم قدرتهم على إدارة البلاد، أو تقديم أي حل اقتصادي للأزمات التي كانت تعصف بالغالبية العظمى من أفراد المجتمع وخصوصا الأكثر فقرا من بينهم.
فمن الشارع وصولا للإنترنت كالعادة، استطاعت "حركة تمرد" أن تجمع تواقيع موثقة لما يزيد عن 22 مليون مواطن قبل حلول  يوم 30يونية 2013، يرفضون حكم مرسي والإخوان، وفي تاريخ واكب مرور عام واحد فقط على تسلم مرسي للحكم، ولكي يتم إسقاطه.
ومن هنا رأيت أهمية تتبع مسار الثورة الافتراضية على الإنترنت باعتبارها مساراً ثورياً موازياً يمكن من خلال رصده وتحليله فهم الكثير مما حدث ويحدث على أرض الواقع.
لكن هل يمكن حقا أن تؤدي وسيلة افتراضية مثل شبكة الإنترنت، بكل إمكاناتها اليوم، وما تحتويه من برامج ومضامين خلخلت فكرة الزمن، إلى خلق مفاهيم مختلفة، أو حديثة، للزمن لدى كلا الشعوب الشرقية (العرب والآسيويون) والغربية على حد سواء؟
وإذا افترضنا جدلاً، أن ضغط الزمن وفقا للتطورات التي تتسبب فيها الثورة التقنية الالكترونية يمكن أن يخلخل مفهوم الزمن، الساكن تقريباً، في المجتمعات الشرقية الميّالة للراحة والسكون، والخاضعة لتراث ذهني يدعو للتواكل باسم المعتقد الديني حيناً، وباسم التراث الطويل من التعامل مع الذات كضحية تتلقى ما يحدث لها، أيَّاً كان، كضربة قدر يُختبر بها إيمانها، أحيانا أخرى.
وإذا حدث وتمكنت الوسائط الافتراضية، بعد زمن من استقرارها في الثقافة الشرقية، في إحداث تغيير ما في مفهوم الإحساس بالزمن، وما يترتب على ذلك من تغيير متوقع في القيم المترتبة على ذلك مثل تقدير قيمة العمل والمبادرة، والإعلاء من القيم العقلانية والتفكير، فكيف سيكون تأثير هذه الوسائط الافتراضية على المجتمعات الغربية العقلانية التي استطاعت أن تمنح للزمن قيمة كبيرة منذ فترة طويلة؟
هذا سؤال من بين أسئلة أخرى يحاول أن يطرحها هذا الكتاب الذي استند في الأصل على عدد من المقالات التي كتبتها ونشرت في مجلة "العربي" الكويتية حول الثقافة الإلكترونية، في علاقتها بالثورات العربية على نحو خاص، وبمقالات أخرى نشرتها في صحيفة النهار اللبنانية، أو على مدونتي الشخصية. وقد قمت بإعادة تحرير هذه المقالات، وإضافة الكثير من الأفكار والأسئلة والبحث، من أجل بناء الكتاب بهذا الشكل.
 وبين الأسئلة التي يطرحها الكتاب هناك سؤال رئيس عن دور وسائل التواصل الاجتماعي، بل ودور الثقافة الافتراضية إجمالاً فيما كان بإمكانها مثلا أن تلعب دوراً في تحقيق "ثورة" في المفاهيم الخاصة بقيمتي التسامح والتعايش؟ وهل يمكن أن يكون "فن صناعة الكراهية" باسم المشروعات السياسية الدينية وباسم الطائفية المقيتة، قادراً على تحقيق سلام اجتماعي من أي نوع في أي مجتمع؟
الإجابة عندي، وعبر أدلة من محطات عديدة تناولتها سرديات التاريخ، هي لا قاطعة ونافية. إذ أعتقد أنه لا يمكن لقوة، أيّاً كانت، أن تحكم، وتقيم دولة عدل وحكم رشيد يراعي حق المساواة كحق أولي وأساسي لأي نظام حكم حقيقي، وفق منطق يميز الطائفة التي تنتمي إليها هذه القوة.
وإذا كان بالإمكان دوماً حشد الجماهير باسم الطائفة، وإيهامهم بأي من الأوهام التي تغذي استعدادهم الطائفي لكي يصبحوا أنصارا مخلصين للمشروع السلطوي الطائفي، فإن هذا الجمهور، في الحقيقة، لا يمكن أن ينتصر للسلام الاجتماعي، الذي يهدف أي مجتمع متوازن لتحقيقه. لأن مشروعه في الأساس عنصري ويقوم على التمييز؛ أي أنه يضرب مشروع الدولة في مقتل عدم المساواة.
المقالات التي يضمها الكتاب هي محاولات مختلفة إذن؛ أولاً لبحث مفهوم التحول في معنى الزمن والمكان، بسبب سيادة لغة العصر الحديث، لغة الكومبيوتر والحواسب الآلية، واجهزة التليفون الذكية، وشبكة الإنترنت.
 وعلى مستوى آخر تكشف هذه المقالات الكيفية التي يمكن بها لمجتمع المعلومات والاتصال السريع والتواصل الاجتماعي غير المسبوق أن يفضح بسهولة زيف المشروعات الطائفية، والأصولية، وكل مشروعات الإسلام السياسي الذي يقوم على أفكار عنصرية لا تحقق جوهر الدين الذي ينادي بالمساواة وعدم التمييز بين البشر، وهو جوهر قيم الإنسانية وحقوق الإنسان.
ثم يقدم الكتاب رصداً منوعا للوسيط الافتراضي كفضاء للثورة؛ كفاعل ثوري مرة، وكراصد لحظي لمسار الثورة مرات. وكذلك كوثيقة افتراضية، تطرح أسئلة عن تناقضات مجتمع صوري، أي يرتدي زي المدنية بينما لا يزال تحتها يرتدي جلبابا ويعتمر عمامة، ولا يزال يعاني من تراث متراكم من التقليدية والأفكار المحافظة وميراث من النقل الثقافي بدلا من الطرح العقلاني.
 أخيرا تحاول مقالات هذا الكتاب تأمل التناقضات في مدى وعي الجمهور في دول الثورات لفكرة المستقبل، لأن المعنى الجوهري لفعل الثورة أنه فعل مستقبلي بامتياز، يتخيل مستقبلا غير موجود ويريد أن يحقق له الوجود، ويرى أن القضاء على كل مظاهر الفشل والتخلف لا يمكن أن توجد سوى بخطوات تُقطع للأمام. ولهذا يكون السؤال هو هل يمكن لثورة أن تنجح إذا كان صانعوها لا يمتلكون الخيال اللازم لنجاح صناعة المستقبل، أو حتى إذا كانوا يريدون أن يستعيروا مشروعا من زمن "ماض" بديلاً للمستقبل؟ هنا بعض محاولات للإجابة.


مقدمة كتابي
ثورة الزمن: الثورات العربية الموازية في الفضاء الافتراضي
صادر عن مكتبة الإسكندرية 2014
سلسلة أوراق

Thursday, December 3, 2015

تغريدة.. المجرمون !


تغريدة
المجرمون



إبراهيم فرغلي



في الوقت الذي يتعرض فيه الكاتب المصري أحمد ناجي للمحاكمة بسبب رواية أصدرها مؤخرا ورأى فيها مواطن "شريف" أن بها ما يخدش حياءه ويهز قلبه الضعيف ويعرضه للخفقان، يتعرض الكاتب أشرف فياض لحكم بالإعدام بعد أن تعرض لموقف شبيه من قبل مواطن سعودي تربص به بعد خلاف على المقهى لكي يوعز لجماعة الأمر بالمعروف أن فياض كتب كتابا يسيئ للذات الإلهية. وفي الأثناء أقامت لجنة الرقابة الخاصة بفحص كتب معرض الكويت للكتاب مجزرة دامية سفحت فيها دماء آلاف الأفكار والإبداعات الروائية والأدبية لدعاوي لا يعلم الله حقيقتها حتى اللحظة.
هذه الأخبار التي نتداولها كواقع تبدو أكثر ما تكون ككابوس مستلهم من عصور محاكم التفتيش، بالإضافة لأنها اعتداء سافر على المبدعين والكتاب وحقهم في التعبير عن أفكارهم، ووأد لفكرة الحوار ومقارعة الأفكار بغيرها. والأدهى من ذلك أنها اعتداء سافر على المواطن، كل مواطن في الحقيقة، حيث يتوهم الرقيب أنه يملك الحق في أن يسمح لي بما أقرأ لأنه يوافق هواه الشخصي ويمنع عني ما لا يتوافق مع هواه الشخصي.
ثم إذا كان البعض يعتبر أن مجتزآت الفكر أو الأدب "جرائم"، فبماذا يمكننا نحن أن نصف ممارسات الرقيب، تحت رعاية المسؤولين عن الثقافة والإعلام في المجتمعات العربية؟، وهي، أيا كان توصيفها، ترقى إلى إساءات لا يمكن أن تسقط بالتقادم لإهانتها للمثقفين والكتاب وأهل الفكر والرأي وللمواطنين جميعا. وإن أردتم الحقيقة فالرقيب الذي يتصور أنه شرطي الأدب والفكر، ويتعالى علينا بمنعه ما يحب واجتراءه على المجتمع بتحويل مبدعيه للسجن أو تعريضهم للقتل، بدلا من محاورة الأفكار، أقول من يدير هذه الاعتداءات على أهل الفكر هو من يمارس الاعتداء على المجتمع ويحرض على القتل ويكدر السلم العام في المجتمع وليس العكس.

وإذا كان السياف الذي يجهر بعصاه الحكومية بالاعتداء على خصوصيات البشر يتذاكى علينا، متظاهرا ومدعيا أنه يمتلك مفتاح الحقيقة، فنذكره بوقائع التاريخ التي أمسكت بكل أشباهه وألقت بهم في الأماكن التي تليق بهم. أما الخفافيش الذين يؤدون وظائف المنع وهتك الفكر وهم مطمئنون لأنهم مجرد خفافيش ظلام لا يعرف بهم ولا يسمع أحد، فهم يخشون حتى من إعلان أنفسهم لأنهم في قرارة ذواتهم يعلمون حقيقة ما يفعلون.  
والأدهى أن هذه الجهات الرقابية لا تستأسد إلا على ما يثير ريبة موظفيها، وفي المقابل فإنهم يمررون كتبا غثة وتافهة وسطحية من دون أن يهتز ضميرهم الذي لا يتوفز إلا لما يتصوره حفظا لتعليمات رؤسائه.

المهم الآن تضافر الجهود الثقافية إزاء هذه الممارسات الإرهابية  وتوحيد الصفوف في مواجهتها، فلا يمكن لاتحادات الأدباء والكتاب العرب، أن تقف لتشاهد هذه الممارسات والاعتداءات على الكتاب والأدباء، مكتوفة الأيدي، كما أدعو المثقفون العرب أيضا للاتفاق على بعض المواقف الموحدة لمواجهة بطش الرقيب سواء بالامتناع عن المشاركة في المهرجانات الأدبية التي تقام في دول لا تحترم حرية التعبير، أو تتعسف تجاه أصحاب الفكر والأدب أو تستشرس أجهزتها الرقابية على أعمالهم الأدبية والفكرية. أو لنمرح جميعا في هذا الهراء حتى تأتي ثورة فكرية حقيقية تعيد الأمور إلى نصابها. وقد يكون ذلك بعد قوات الأوان.


 مقالي في جريدة "القاهرة"الثلاثاء 1 ديسمبر 2015

Wednesday, December 2, 2015

الشوارع الخلفية في الرحلة الأوربية


الشوارع الخلفية في الرحلة الأوربية 
مع الصديق عبدالوهاب الحمادي، مدير مركز دروب عقب المحاضرة

فكرة الرحلة بالنسبة لي، وسيلة للتعرف على الذات من خلال الآخر، وسيلة لممارسة الإنسانية، باعتبارك آخر في أرضه، واختبار فكرة الهوية الإنسانية التي تحتضن الهويات المختلفة في مكان واحد.ولدي في مقدمة كتابي "وهم الحدود المصنوعة بالدم"  إشارات عديدة على الفكرة وتأملات لفكرة المواطنة. هل لا بد أن ترتبط بحدود جغرافية أم يمكن أن تكون فكرة المواطنة متجاوزة للحدود، وتكون إنسانية على اعتبار أن هذا هو الوضع الذي كانت عليه الحياة في التاريخ البشري بشكل عام.
أما بالنسبة لموضوع الشوارع الخلفية في الرحلة الغربية، فأعتقد أنني بدأت في ملاحظتها مع أول رحلة لي لأوربا، وكانت إلى باريس.
اكتشفت أن باريس لها حضور إعلامي ودعائي قوي جدا، من خلال ما كتب عنها، وانتشار أدبها في العالم، وشهرة الأعمال والأدباء الذين عاشوا فيها إلى آخره، وبالتالي لم تكن رحلتي فيها مجرد اكتشاف، بل مقارنة مستمرة بين ما أعرفه مسبقا، وبين ما أعاينه بنفسي. ولذلك مثلا، وعلى عكس دول أخرى كثيرة زرتها مسبقا، لم أكن أشعر باحتياج لتحديد خطة مسبقة للتحرك فيها. كنت أعرف أنني سأزور الأماكن التي حفظتها عن ظهر قلب منذ الطفولة، لكني أدركت أنني بسبب هذه الشهرة الكبيرة للأماكن كنت أقوم بالمقارنة بين ما قرأته عنها، وبين ما أراه. كيف صوره لي خيالي، وبين إحساسي الواقعي.
واكتشفت طبعا أن الدعاية ترفع سقف التوقعات كثيرا، وحين ترى موضوعها في الواقع قد تحبط. وهو ما حدث مثلا حين شاهدت لوحة الموناليزا لأول مرة، طبعا لما دخلت اللوفر، كنت اعتبر كل خطوة في الطريق إلى الجيوكندا هو طريق للشرف والمجد والتاريخ. وبالفعل وجدت مثلا عشرات الأشخاص يقفون أمام وحول الجيوكندا، التي تتمتع دون غيرها من مئات اللوحات الأخرى، بحماية إضافية من خلال برواز وواجهة زجاجية. وتشعر أنها محاطة ليس فقط باهتمام، بل أيضا بنوع من التأمين الزائد.
لما نظرت وجدت أنها صغيرة جدا، معقول؟ هل هذه هي اللوحة الأسطورة؟ وهل تستحق عذاب الانتظار حتى يمكن أن أصل إليها لمشاهدتها عن قرب. بعد أول جولة لي في اللوفر، أدركت أن الدعاية بالفعل مضللة، وأن هناك مئات اللوحات الأخرى التي تستحق الدعاية والشهرة لم تحظ بمثل شهرة اللوحة منها مثلا لوحة اسمها موت ساردانابالوس لأوجين ديلاكروا، كنت شاهدتها في كتاب عن لوحات المستشرقين، وقرأت عنها وعن أعمال ديلاكروا بعد أن رأيت بعضها في متحف محمود خليل في القاهرة. في اللوفر، وقع بصري على لوحة عالية وضخمة جدا.. 
اكتشفت أنها لوحة جدارية ضخمة، لما شفتها فعلا كدت أبكي من فرط الدقة والجمال، لأنها جسدت تصويرا فنيا للحظة أدبية، ففيها يصوّر ديلاكروا دراما شعرية مقتبسة عن مسرحية لنفس الشاعر تحكي قصّة ملك آشوري قديم يقع تحت حصار فرضه عليه أعداؤه.  وفي النهاية يفضّل الملك الانتحار على الاستسلام. غير انه قبل موته يأمر حرّاسه بقتل جميع خدمه ومحظياته وحيواناته لكي يموتوا ويُدفنوا معه.
من هنا اكتشفت أهمية البحث عن الشارع الخلفي، الذي يضم المسكوت عنه، وهكذا واجهت باريس الأخرى التي لا نعرف عنها شيئا، باريس المشردين، والمتسكعين والإضرابات، الخ.
هذه الخبرة انتقلت معي في رحلتي لألمانيا، لكن في ألمانيا كانت الخبرة مختلفة من ناحيتين: أولا أنه لا يوجد شيئ متوقع، وخصوصا إني أقمت في شتوتجارت وليست مدينة شهيرة مثل برلين أو ميونخ أو فرانكفورت، وثانيا لأني بسبب خبرتي وطبيعة مشروع “مداد” الذي شاركت فيه كان المفترض أن أحاول فهم هذا المجتمع بلغة وسيطة هي الانجليزية، وبالتالي كنت أحاول أن أتأمل الناس وأتحدث معهم وأقيم صداقات، ولكن في النهاية طبعا اكتشفت إني في مجتمع نموذجي صحيح أنالأفراد فيه مثل تروس في آلة، جدول أعمالهم مشحون، لهم أيضا شكاواهم. لكن ذلك لا يقارنبباريس، مثلا، وأظن أن يومياتي في ألمانيا بدت كيوميات شخص مندهش طول الوقت من النظام، والهدوء حتى في المناطق المزدحمة، ومن الريف، كل شئ ملون وجميل وناصع حتى غير باريس. لا أعرف لماذا؟
الرحلة الفردية
أود لفت الانتباه إلى أن منهج الرحلة الفردية يختلف نسبيا، وربما قد يختلف أحيانا تماما عن الرحلة المخططة أو الموجهة، أو التي يتكلف بها الفرد. يعني على سبيل المثال عندي تجربة الرحلة الفردية الخاصة مثل فرنسا، وكذلك رحلة سويسرا، رغم أنني كنت سافرت لتغطية أحداث فنية لكني قمت برحلتي الخاصة في الشوارع الخ.
ففي الرحلة الفردية يترك الفرد نفسه للاكتشافات بلا تخطيط مسبق صارم، لأنك في الأغلب تريد أن تكتشف الآخر بطريقة فطرية، وتريد أيضا أن تتأمل ذاتك وهي تتعرف على الآخر. وكيف تتفاعل مع الاختلافات التي تراها.
لكن في الرحلة الموجهة يكون هناك هدف واضح غالبا، مثلا في رحلات “العربي” على سبيل المثال حين قمت برحلتي الفلبين وإندونيسيا كان العنوان العريض هو “تفقد أوضاع المسلمين” في البلدين، وبالتالي لا بد من الحصول على المعلومات أولا، ثم ترتيب جدول بزيارات لأماكن محددة ومقابلات صحفية تفيد الموضوع، وأن يتم ذلك بشكل دقيق جدا، لأن مدة الرحلة عادة لا تزيد عن أسبوع قد تحتاج فيها مثلا أن تتنقل بين مناطق داخلية بعيدة، وبالتالي أن تتدبر وسائل الانتقال والإقامة الداخلية والعودة إلخ. وأيضا في الرحلة الموجهة لا يمكن الالتفاف على الهدف، وعلى سبيل المثال في رحلة الفلبين كانت الخطة تقصي أحوال المسلمين أولا في المجتمع الفلبيني العادي في العاصمة، في دولة مسيحية أساسا، يعتبر المسلمين فيها أقلية، وبالتالي كان لا بد أن نخطط لرحلة داخلية إلى جزيرة مندناو في الجنوب حيث يعيش الأغلبية المسلمة وحيث أيضا تتمركز بعض الجماعات المتطرفة وأشهرها جماعة أبو سياف. وصادف توقيت الرحلة تصعيد من جهة هذه الجماعات وقيامهم باستهداف الصحافيين الأجانب. ومن هنا كانت السفارة تؤكد أنها غير مسؤولة عن ذهابنا الى الجنوب، وفي مانيلا أيضا تلقينا ما يشبه التحذير من الذهاب إلى هناك.
طبعا في ضوء أن الرحلة قد لا تتكرر أبدا لا يكون أمام المرء إلا المغامرة وتحمل المسؤولية. خلال أيامنا الأولى في مانيلا كانت الأخبار تتواتر عن مقتل صحفيين أجانب في ميندناو، وقبل ليلة من قرارنا السفر لمندناو أنا وزميلي المصور الكويتي تلقيت خبر مقتل الصحفي الخامس، أو ربما في الصباح الباكر لنفس اليوم ولكني لم أخبر زميلي الكويتي حتى لا يتردد، وأخفيت توتري، الذي صاحبني طوال الرحلة إلى الجنوب، حيث أجريت عدة اتصالات ببعض المسؤلين عن الشؤون الإسلامية من الفلبيين، وشجعوني وتمت المهمة.
على سبيل المثال أيضا رحلة جراتس أساسا كانت رحلة خاصة كنت مدعوا فيها ككاتب إلى ندوة، لمدة ثلاثة أيام، وكان كل يوم فيه نشاط، يعني محاضرة في الجامعة أولا، ثم ندوتان للقراءة من الأعمال ونقاش. وبسبب توقفمجلة العربي عن تمويل الاستطلاعات من العام 2010 تقريبا، كنت أرى في أي فرصة لرحلة خاصة أن أجري فيها استطلاعا لصالح العربي حتى نسد الفجوة. المهم كنت بين النشاط والآخر أجري مثلا مقابلة لمسؤول أو أزور معالم المدينة ، وأصور.. الخ.
والأهم من هذا كله هو محاولة التقاط روح وخصوصية المكان وتقديمه للقارئ، وهذا في تقديري أهم دور يقوم به المستطلع أو كاتب الرحلة عموما.
سؤال الحداثة
بشكل عام عندما أعدت النظر في الكتاب كاملا محاولا أن أتأمل حقيقة اهتمام هذا الكتاب، وأحسست أن الرحلة عندي بعد كونها تعرف على الآخر من جهة وبحث عن الذات طبعا، لكنها في عمقها بحث عن سؤال الحداثة.
ولهذا أعتقد أن الشوارع الخلفية بالفعل هي التي تقدم الإجابة الحقيقية عن السؤال. هل هذه المجتمعات التي نراها كنماذج للحداثة حديثة بالفعل؟ وإذا كانت بلدا مثل باريس حديثة فكيف نفسر مظاهر العشوائيات الثقافية مثل الأفارقة في مترو الأنفاق، تجمعات الشخصيات الهامشية في الضواحي. وجود مشردين كنت أراهم يجلسون نائمين وهم يضعون قبعة أو يمدون أيديهم لمن يضع فيها أي نقود… ثم في دولة حديثة كيف أفسر مثلا ذلك الغضب العارم الذي جعل الناس تخرج للشوراع وإضراب سائقي المترو . .بمعنى أن هذه الدولة الحديثة تمارس إجراءات ضد مصالح الناس، والفارق طبعا أن المجتمع يؤكد حق اللناس في التعبير السلمي عن غضبهم.
أيضا في ألمانيا لما زرت مثلا مصنع سيارات بورش وجدت فتيات يعملن في المصنع في تركيب أجزاء السيارات. لما سألت طبعا فهمت انهم مهاجرات من شرق أوربا. ثم هناك مجموعات السكارى غريبي الأطوار الذين يظهرون بالمئات في يوم مباراة لكرة القدم مثلا في شتوتجارت، وبعض الشحاذين أو المشردين الذين يظهرون هنا أو هناك؟ يسأل المرء نفسه فورا كيف تسلل هؤلاء من نظام الدولة الحديثة، وخرجوا عن الضمان الاجتماعي، الخ؟
الريف الألماني
في ألمانيا انشغلت بالسؤال عن الريف ولذلك أردت أن أزور عائلة ريفية، لأني كنت مشغول بفكرة أن القاهرة تريفت بسبب نزوح القرية إلى المدينة. وأن أزمة الحداثة في مصر وتعطل التنمية لها علاقة كبيرة بهذا الأمر، مع ضعف التنمية المحلية.
طبعا الملاحظة الأولى أن الريفي يبدو عليه أولا أنه متعلم، يرتدي أزياء أنيقة، زوجته سيدة ممكن تقول عنها أستاذة جامعة. الشئ الثاني بالتالي إن هذا العقل الأوروبي المتعلم يعمل في الحقل، ويستخدم الوسائل الزراعية المختلفة بشكل علمي. لكن مشكلتهم مثلا تمثلت في أن أبناءهم لا يريدون أن يكملوا هذا النمط من الحياة ويودون الانتقال الى المدن.
كنت مشغولا جدا في التفكير كيف يمكن أن نرتقي بالفرد في الريف وتخليصه من مصادر الرجعية الفكرية والمواريث القبلية وتعليمه الفردية، وتحديث نمط حياته في قرى لها طابع مدني قريبا من الحقول.
الوحدة في التنوع
عندما ذهبت إلى إندونيسيا، كنت بالإضافة طبعا للتعرف على مظاهر حداثة مجتمع آسيوي نامي ومسلم، قد أبديت اهتماما بمحاولة فهم جوهر المكان. أول ملاحظة هي المساحات الواسعة جدا في المساجد، بسبب الكثافة السكانية، وبعد زيارة عدد من تلك المساجد الكبيرة،إضافة إلى المعاهد المختصة في تدريس الفقه والشريعة والعلوم الإسلامية تكتشف إن هذه البلد التي يعيش بها 200 مليون مسلما، هي أغلبية بالنسبة لعدد المسلمين في منطقتنا العربية كلها،والتي تحتكر الكلام باسم الإسلام. ولكنك رغم هذه الأغلبية تجد احتراما كبيرا للآخر، وللتعددية، يعني في المتحف القومي الذي يستعرض التاريخ الاجتماعي لإندونيسيا تجد نماذج للبيوت المستخدمة لدى كل مجموعة عرقية، وصولا لغينيا الجديدة اللي يعيش فيها أناس عرايا يشبهون الإنسان البدائي، ومع ذلك فدستور الدولة لا يقول أن الدولة مسلمة، تأكيدا للتعددية،بل ترفع الدولة شعارا يحدد هويتها القائمة على التنوع وهو “الوحدة في التنوع”.
طبعا هذا المناخ المتسامح ينعكس حتى في القدرة على حل مشكلات الناس البديهية، يعني مثلا هناك منظومات لحل المشكلات الاجتماعية، وستجد ايضا أن فكرة التطرف أو التشدد غير موجودة، وفي مسجد مبنية قبابه من الذهب في إحدى ضواحي جاكرتا عرفنا أن صاحبة المسجد سيدة تتبرع للفقراء وتسفر أعدادا كبيرة سنويا للحج، الخ. في المسجد وجدنا سيدة تقوم بإلقاء محاضرة دينية، وحولها عدد من السيدات، لكنهن غير معزولات، ألا بحاجز صغير يحدد مكان السيدات، ويجلس الرجال في الجهة الأخرى ينصتون للمحاضرة بشكل طبيعي.
هذا المجتمع المسلم أيضا تجده في المقابل، رغم بعض مظاهر العشوائية في الأحياء الفقيرة لديه شبكة مواصلات جيدة، وأحد حلول الزحام مثلا كان الاهتمام بالحافلات.
طبعا النموذج الإسلامي المبهر جدا أيضا، وربما أكثر حتى من إندونيسيا، فتمثل في البوسنة لأنها ذات طابع أوروبي تماما، لكن هويتها إسلامية، وهنا تجد نفسك في مقارنة لمدينة إسلامية حديثة نموذجية تقوم هويتها أيضا على التنوع والاختلاف. وطبعا ستكتشف بعد زيارة لطلبة كلية الشريعة أو للمؤسسة الدينية هناك، أن الفكر العقلاني هو الذي يحكم هذه المؤسسات, وأن النموذج الذي يجب أن يقتدي به المسلمون هو هذا وليس غيره.
في الفلبيناكتشفت أنه لا توجدهناك هوية واضحة للفلبين، الطابع العام للمدن النامية الحديثة، الغربي نسبيا، ويمكن الأمريكي، الحي الصيني مثلا اللي زرناه كان حي فقير،وخصوصيته مستوحاة من الثقافة الصينية في التصميم وواجهات بعض المحال الخ. لكن لفت انتباهي يوم ما يشبه المهرجان سألت قالوا ليهذا يوم عيد ميلاد خوزيه ريزال، البطل القومي للفلبين، سألت وبحثت اكتشفت أنه كان طبيبا وألف كتب أدبية منها رواية كانت السبب في تأجيج ثورة شعبية ضد الإسبان انتهت بخروج الإسبان من الفلبين. وبدأت رحلة البحث عن خوزيه ريزال، ثم عن الثقافة في الفلبين وأدركت أن عندهم حركة ثقافية مهمة في آسيا : مهرجانات أدبية بيشارك فيها كل بلاد آسيا، ولديهم كاتب حصل على جائزة مان بوكر .. وحركة سينمائية وكذلك حركة مسرحية وهي اقوى الأنواع الأدلية عندهم بسبب شعبية الثقافة الشفهية
بالتالي كان سؤالي عن الخصوصية والحداثة والاجابةجاءت من الثقافة والفنون في هذه الحالة.
وهكذا كل رحلة تقدم أسئلتها وتحاول أن تجيب أيضا وتضيف إلى رصيد معرفتنا جديدا، نحن في أمس الحاجة إليه اليوم في عالم مفرط في انغلاقه على ذاته ومفرط في جنونه بذاته بفعل الخيلاء الكاذبة وهيستريا جنون العظمة.
 محاضرة ألقيت في مركز دروب الثقافي بمعرض الكويت العربي للكتاب 26 نوفمبر 2015