Wednesday, February 17, 2016

دولة المراهقين


تغريدة 

دولة المراهقين

إبراهيم فرغلي



نحتفل هذا الأسبوع بالذكرى الخامسة لثورة 25 يناير، التي أطاحت بواحد من أفسد الأنظمة التي حكمت مصر في تاريخها، ولكننا حين نتأمل الوضع السياسي والمعارض والمؤسسي من حولنا، فلا نرى إلا مجموعات من المراهقين. مراهقون سياسيون لا يمتلكون سوى بعض الخطب والشعارات، وأحزاب بلا جماهيرية لغياب العمل الحزبي الجماهيري من الأساس، ونواب برلمان لا يصلح بعضهم إلا لتأليف قواميس للسب، أوإلهام بلطجية الشوارع بكيفية الابتذال داخل المؤسسة التشريعية للدولة. كما قد لا يصلح البعض منهم إلا لجلسات الثرثرة على مصاطب قضاء أوقات الفراغ بجوار الترع. ويا للعار!
جهاز شرطة، سيحتفل بعيده أيضا في نفس الوقت، يُشهد له بأنه تمكن من استعادة الأمن، وإنقاذ الدولة من البلطجية، ويضم قطاعات من كفاءات مقاومة الإرهاب، والعمل الأمني، المشهود لهم بالكفاءة والتضحية بالذات، وإنقاذ الدولة يوميا من عناصر المخططين لإرهاب الدولة. ولكنك تسمع، أيضا، عن عناصر من نفس الجهاز ممن يمنعون ضيوفا من المثقفين العرب من دخول البلاد، أو منع بعض المواطنين من السفر، وإلقاء القبض على عناصر من شباب صغير هنا وهناك من دون تهم حقيقية، وقيام بعض مراهقي هذا الجهاز بتعذيب مواطنين حتى الموت تحت سمع وبصر المصريين والعالم بلا رادع.
وقس على ذلك مراهقي مؤسسات عديدة في الدولة ممن يجيدون توصيل أصواتهم للإعلام الذي يحتفي بالابتذال أينما كان. يتناثرون في كل مكان حتى في المؤسسة الدينية مع الأسف.

شباب ثوري يفتخر، وله الحق، بأنه شارك في ثورة 25 يناير، بعيدا عن الإخوان ومن لف لفهم، لكنه يتصور أن الثورة مجرد حلم رومانسي طويل، وليست عملا بدأت شرارته بأحداث 25 يناير، وتحتاج لجهد دؤوب؛ سياسي، نعم سياسي، وتثقيفي وإعلامي على الأرض، في مجتمع لا تزال نسبة الأمية فيه تفوق الخيال. ويكتفي، فقط، باستعراض قدراته في الغمز واللمز.
مخربون للغة يدونون أفكارهم بالعامية بزعم "الوصول للناس"، من دون تقدير لمستقبل هذه الآفة التي ليست سوى مرحلة مراهقة خطيرة من تشويه اللغة، تعبر عن التباس الهوية، وتشوش الأفكار.
مثقفون مشغولون بإلقاء التهم على بعضهم البعض، أو بمنافع صغيرة من مؤسسة الثقافة الرسمية، بدلا من الانشغال بإنتاج الفكر والثقافة والاشتغال على أنفسهم.
مجتمع يعاني من النكوص، لا يرى فاجعة مراهقته المتأخرة أو الأصيلة، ولا يدرك أن النضوج هو ما ينتقل بالمجتمعات من الحضيض إلى القمة، وأن العمل والمبادرات الجادة لكل فرد في مجاله أبرز وسائل النضج والنهضة.

مع ذلك فالمراهقة بسمتها المتمثل في طاقة الاستفزاز التي يمتلكها المراهق، لتوقه دخول عالم الناضجين، ويقينه أنه لا يمتلك من أدوات ذلك العالم شيئا، لا يمكن أن تستمر، لأن دولة المراهقين، مهما تباهى فيها المراهقون بعدم نضجهم، لا تعدم المخلصين الصامتين من أصحاب الرسالات الإنسانية، في الطب والعلم، والفن والموسيقى والأدب، والسياسة والاقتصاد، وحتى في الداخلية والجيش والدبلوماسية. فهؤلاء هم منبع الإلهام وإن لم ينتبه لهم اليوم أحد، ووقود النضج القادم؛ على يد أجيال ستنتفض على المراهقة لتحقق المستقبل اللائق. فتحية إلى المخلصين، في الدولة وبين أفراد الشعب، الذين يعملون بلا ضجيج، ويعلموننا الإخلاص والأمل والسبيل الى النضج.

نشرت في "القاهرة" في 19 يناير 2016

طعنة الشعر

تغريدة
طعنة الشعر!

إبراهيم فرغلي

"كتيبة سوداء" أم "يحمل جبلا بين كتفيه"؟ أو لعلنا يمكن أن نصوغ السؤال بطريقة أخرى أيضا: نجيب محفوظ أم أحمد شوقي؟
لكن يجب أن يحذر جيدا من يود الإجابة، ويتريث، فقد تكون الإجابة أخطر مما يتصور أحد.
نعم، فقد تداولت الصحف الغربية، مؤخرا، خبرا غريبا عن جريمة قتل راح ضحيتها رجل روسي في السابعة والستين على يد صديقه، المدرس المتقاعد، إثر نقاش حول أحقية نوعين أدبيين بالتفوق، فبينما ذهب القتيل إلى أحقية السرد أن يجلس على عرش الأدب، لم يحتمل القاتل أن يهوي صديقه بالشعر من أعلى عرش مملكة الأدب فطعنه بسكين وفر هاربا.
معركة أدبية روسية على الشعر والسرد، كأن العالم لم تعد تكفيه الخلافات على الطائفة والعقيدة والمذهب السياسي والإيديولوجيا.
وبهذا أصبح سؤالا مثل: دوستويفسكي أم بودلير؟ مثلا أو الحب في زمن الكوليرا أم الأرض الخراب؟ سؤالا يحتاج للكثير من التفكير قبل الإجابة إذ قد يكون ثمن الإجابة الخطأ طعنة من سكين الشعر، أو رصاصة السرد في الجبهة.
نعم رصاصة في الجبهة كتلك التي تلقاها مواطن روسي آخر في منطقة قريبة، كان سبب إطلاقها تلك المرة الفيلسوف الألماني كانت. رصاصة وسكين قتلا شخصين في بلد يعرف بأن أهله الأكثر قراءة في العالم. فأين الخطأ؟
مرة أخرى الخطأ في السؤال؟ الأفضلية الثنائية المستلبة من ذهنيات القرون الوسطى التي لا تستطيع أن تزن قيمة أي شئ إلا عبر معيار الصواب والخطأ؟ المثالية التي تحتوي في قلبها جوهر الخطيئة التي عرفتها البشرية مبكرا حين لم تكن قيم الحوار والنقاش والاختلاف قد ولدت بعد.
هذه الواقعة المدهشة في الحقيقة تعود لتدق جرس الإنذار، لتؤكد أن الخلاف المذهبي بين العوام ليس هو الخطر الوحيد الذي يتهدد البشرية التي تتقدم نحو حتفها بإصرار بسبب من جنون الاختلافات والصراعات، بل يتهدد حتى العقلانيين الذين يتحزبون لأفكارهم وإيديولوجياتهم ويقينهم فيما يرونه خيرا وعدلا، ولكنهم لن يتورعوا، إذا احتدم الخلاف، عن إقصاء الآخر، بأي وسيلة، قتلا بالرصاص أو حتى بالإقصاء والتجاهل بغية القتل المعنوي، وهو ما نراه جميعا اليوم واضحا وساطعا بجلاء التحزبات القبلية للقيم والأفكار المتنازع حولها والمختلف عليها.
وكما يبدو خبر الصراع على الأدب وأحقية الأنواع الأدبية بسيادة عرشه عبثيا بل وعدميا، لا يعرف المرء حتى كيف يستقبله من فرط جنونه، فإن انقسام النخب اليوم وإن بدا مغلفا بالتعالي الأخلاقي الذي يتسلح به كل فريق، لا تختلف دلالاته عن هذا العبث. إذ يكشف الانغلاق الذهني المغلف بقشور الأفكار النخبوية وامتلاك الحقائق المطلقة، خصوصا ممن يتحركون وفق مبادئ يؤمنون بها بعيدا عن أية مصالح من أي نوع بين فرق المختلفين والمتناحرين.
صحيح أيضًا أن المسارات التاريخية تضع الجميع على منصة الاختبار، وتفرز المدعين في الأدب والنقد والثقافة عن سواهم من أصحاب المواهب، ولكن العقلاء في الجانبين مدعوين لمراجعة ليس أفكارهم، فهذا حق الجميع، وإنما في أخلاق الاختلاف، وفي طرح الموضوعية أساسا لكل اختلاف، واستبعاد الشخصاني عن الموضوعي، وتفريق الإنساني عن السياسي، فكما تكون للمبادئ جذور فإن التعبير عنها له مبادئ أساسها الحوار والدفاع عن حق الاختلاف.

 نشرت في جريدة القاهرة الثلاثاء 17 فبراير 2016




Friday, February 5, 2016

رغيف ودستور !



تغريدة

رغيف ودستور!

إبراهيم فرغلي

تابعت مبادرة رغيف وكتاب، لمؤسسة بتانة الأهلية، التي دشنت مع فعاليات معرض القاهرة للكتاب هذا العام. أولا لأني من المتحمسين لأي مبادرة "عمل" إيجابية؛ بوصفها جزء من صناعة الأمل الذي تعيش به الحضارات وتنتصر على هزائمها، وتاليا لأن الفكرة وجيهة، بداية من دلالاتها الرمزية في أن يصبح اهتمام الفرد بالكتاب مماثلا لاهتمامه برغيف العيش، مرورا بأنها توفر كتابا بسعر يكاد يكون رمزيا لأفراد ربما لا يكون بينهم من فكر في شراء  كتاب من قبل.

أسعدني أن تلقى المبادرة الإقبال، في مجتمع تشتد فيه اليوم وطأة الظروف الاقتصادية على الجميع، حيث أصبح الغلاء ظاهرة تطبق بخناق البلد، للسلع كافة تقريبا،  فما بالك بالكتاب، الذي يعد رفاهية لكثير من فئات الشعب.

لكن، هل كل من يمتلك بطاقة التموين من الأساس يمتلك مهارة القراءة؟ وللإجابة اطلعت على الإحصاءات الخاصة بنسبة الأمية في مصر. وكما هو متوقع وجدت أرقاما مفزعة، فالإحصاءات الموثقة تشير إلى وجود نحو 17 مليون أمي أبجدية في مصر، وإحصاءات غير رسمية ترفع هذا التقدير إلى ما نسبته نصف عدد السكان، ناهيك عن الأمية الثقافية.
يعني هناك نحو 20 مليون شخص تقريبا،أضف إليهم المتسربين من التعليم، والأميين ثقافيا، لا يصل إليهم شيئا من كل وسائل النشر المطبوعة في مصر. وغالبا يتغذون إما على الإعلام المريض الذي يبث سموم التخلف يوميا، أو على خطب الدعاة المتطرفين الذين يبثون سموم كراهية الآخر، ويغيبون قيمة العلم والعقلانية في خطابات لا حد لها.
عدت إلى الدستور المصري فوجدت المادة 25 تنص على التزام الدولة" بوضع خطة شاملة للقضاء على الأمية الهجائية والرقمية بين المواطنين فى جميع الأعمار، وتلتزم بوضع آليات تنفيذها بمشاركة مؤسسات المجتمع المدنى، وذلك وفق خطة زمنية محددة".
أما المادة 48 فتنص على "الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة وتلتزم بدعمه وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافي أو غير ذلك. وتولي اهتمامًا خاصًا بالمناطق النائية والفئات".
لكن كيف تكفل الدولة الثقافة لكل مواطن، بينما هناك نحو ثلث السكان تقريبا يفتقدون الأداة الرئيسة الخاصة باستقبال الثقافة ممثلة في القراءة والكتابة؟
ثم إذا كان الدستور المصري يقضي بضرورة إنهاء الأمية في زمن محدد فأين هي هذه الخطط؟ وما هي مؤسسات المجتمع المدني التي ستعاون الدولة في ذلك؟ وكم عاما سنحتاجها للقضاء على الأمية في مصر حقا؟
هذه الأسئلة لا تتعلق بمدى احترام بنود الدستور من الدولة فقط؟ بل هي أسئلة ضرورية لرفع مستوى تأهيل قطاعات كبيرة من المواطنين الذين يمارسون أعمالا في أنشطة الدولة لكن تكلفتها باهظة  بسبب عدم الكفاءة، أو العمل العشوائي في قطاعات النقل الأهلي بعيدا عن رقابة الدولة، أو في أعمال البلطجة والجريمة، وبينهم بعض فئات تستعين بهم الداخلية في عملها الذي أصبح صداعا في رأس الدولة بسبب الممارسات غير المسؤولة والوحشية ايضا في كثير من الأحيان. 
مشروع كتاب ورغيف لمؤسسة بتانة الاهلية مشروع نبيل ومهم، لكنه يحتاج تضافر جهود الدولة ووزارة الثقافة والتعليم لكي يحقق المأمول منه في اسرع وقت ممكن.


 نشرت في جريدة "القاهرة" الثلاثاء 2 فبراير2016

Tuesday, February 2, 2016

الغالب والمغلوب


تغريدة

الغالب والمغلوب

إبراهيم فرغلي

خلال الاحتفاء الشعبي بمرور39 عاما على انتفاضة 17 و18 يناير 1977، التي تعد واحدة من أقوى الانتفاضات الشعبية ضد السلطة الحاكمة في عهد الرئيس السادات، تناول العديد من جمهور وسائل التواصل الاجتماعي المناسبة بالاحتفاء. وبغض النظر عن المعنى المقصود من استدعائها، فقد لفت انتباهي قيام البعض بتدوين بعض الشعارات التي نادى بها الغاضبون تعبيرا عن رفضهم لسياسات رأى الشعب أنها تأتي على حساب الفقراء وتزيد من تجويعهم.
توقفت متأملا شعارا بثه صديق مقرب استدعاه من تراث الهتافات الشعبية آنذاك يقول: "لما الشعب يقوم و ينادي.... يا احنا يا هُمّا في الدنيا دي.. شوف من فينا هيغلب مين".
وبعيدا عن كونه شعار يأتي من زمن آخر، وعبر جمهور أغلبهم اليوم في عقدهم السادس تقريبا، يرفض سلطة بعينها في ظروف تاريخية محددة، لكنه بدا لي ملخصا لأزمة عميقة في ذهنية "المعارض" المصري.
فالشعار يشير إلى عقيدة معارضة تنبني على وضع السلطة كلها في كفة وكل المعارضة في أخرى. وتصور العلاقة بينهما كعلاقة خصمين لا يمكن أن "ينتصر" أحدهما إلا بإبادة الآخر.
وعلى مستوى التعبير عن القهر فإن الشعار يجمع بين جماهير الشعب عاطفيا، ضد إرادة المستغلين والفاسدين، مع الأخذ في الاعتبار أن تلك السنوات شهدت وجود كفاءات سياسية وحزبية وفكرية  في كل من معسكري السلطة والمعارضة معا.
أعتقد أن هذه الذهنية تعبر عن نوع منالمراهقة السياسية التي لم تتمكن من تغيير الخطاب الذي استلبته من تاريخ المقاومة الوطنية ضد الاستعمار والاحتلال، فاستخدمته كما هو، من دون تمييز من الفارق بين معارضة الاحتلال التي تأخذ شكلا حادا، دونه الموت، من سلطة الاحتلال، وبين طبيعة المعارضة في حالة وصول حكومة وطنية إلى السلطة لا يمكن النظر إليها كعدو، مهما اختلفنا أو اتفقنا على الممارسات الفاسدة أو الجاهلة أو الفاشلة التي تمارسها، لأنها في الحقيقة، هي تمثل بديلا سياسيا من المفترض أن تعمل المعارضة على إقصائه لتقدم البديل المتضمن للسياسات والإجراءات التي تود أن تقدمها كبديل للسلطة الحاكمة.
وبافتراض نجاح قيادات ثورة 1977، فهل المفترض أن تعد نفسها حكومة خصومة مع كل من قام بعمل سياسي في عهد السادات؟ وهل يعني ذلك أن يتحول الجمهور لخصوم مع السلطة الوطنية الجديدة إذا ما خالفت ممارساتهم توقعات الشعب أو مصالحهم؟
أظن أن هذا الشعار يحتاج للمراجعة، في ظل مناخ يفتقر الحد الأدنى من الثقافة السياسية كما يتجلى اليوم على الساحة السياسية الهشة، والبرلمان الجديد خير مثال. إضافة إلى أن ما يعبر عنه هذا الشعار ليس مجرد رفض سياسات بعينها بقدر ما يؤسس ويمثل رؤية أحادية تذكرنا بالخطاب الإقصائي السلطوي من جهة، وذلك المعبر عن خطاب المتأسلمين الذين يقتلون كل من يخالفهم تاليا.
في ظل ثقافة سياسة مراهقة كهذه سيكون من الطبيعي جدا، وربما البديهي أن يسود المناخ العام، الثقافي والسياسي، مفهوم التخوين كاتهام وحيد وبديل يستخدمه كل فصيل أو جماعة أو طائفة أو جماعة سياسية مع معارضيهم، ثقافة قبلية تنتهج قيام قبيلة أنصار السلطة أو قبيلة الثوريين بإقصاء كافة القبائل الأخرى والعكس صحيح. 

نشر في صحيفة القاهرة 26 يناير 2016