Saturday, May 28, 2016

قوة الرواية 3



قوة الرواية 3


إبراهيم فرغلي



هل هناك علاقة بين الاستخفاف بالرواية وتصورها موضوعا للتسلية وبين مستوى اللغة السائد اليوم في الحياة اليومية والتي انتقلت لمدونات وسائل التواصل الاجتماعي ومنها إلى الصحف اليومية ومقالات الكتاب الذين يتوسلون العامية في مقالاتهم؟ دعونا نرى.
لنعد بالزمن قليلا إلى تاريخ بدء انحطاط اللغة الفرنسية، على حد قول بعض المؤرخين، وسنجد أنه يوازي زمن الثورة الفرنسية.
ففي كتابه المهم "فكر اللغة الروائي"، يقتطف الناقد الفرنسي فيليب دوفور مقولة لجوزيف دو ميستر قوله:"إن كل تدهور فردي أو وطني يسبقه فورا تدهورا بنسبة مماثلة تماما في اللغة، فكيف يمكن للمرء أن يفقد فكرة أو مجرد صوابية فكرة ما من دون أن يفقد الكلام أو صحة الكلام المعبر عنها، وفي المقابل كيف يمكنه أن يفكر إلى هذه الدرجة أو تلك من دون أن يظهر فكره في لسانه؟".
كما يقتطف مقولة اخرى من كتاب ادموند يورك عما خلقته الثورة الفرنسية من حالة غموض في اللغة جاء فيها :"يدعون اطلاق اسم الحرية المقدس على الآثار الناجمة عن عجز رؤسائكم في كل فروع الدولة. ولكن هذه الحرية التي تكفر عن كل الذنوب أين نجدها؟ ومن ناحية أخرى ما هي الحرية من دون الحكمة والفضيلة؟ إنها هذه أسوأ كلمة بين الكلمات لأنها تعني الفوضى والرذيلة والجنون من دون ما يرشد أو يكبح ويقيد. من يعرف ماهية الحرية التي تحييها الفضيلة لا يستطيع أن يقبل بأن يلحق بها العار خطباء يتصنعون الكلمات الكبيرة".
يأتي ذلك بين دراساتعديدة جدا يضمها كتاب دوفور، حول سجالات بالغة القوة حول تدهور اللغة الفرنسية وارتباكها خلال فترة الثورة، حتى استعادت تطورها مرة أخرى بعد انتهاء فترات الفوضى.
ونشهد اليوم هنا، في مصر خصوصا، حالة من السجال الشبيه، لكن أطرافه مجرد هواة عابثون باللغة، لأن جانبا أساسيا للجدل يقول بأن المشكل له علاقة بالهوية، ومحاولة البعض الإشارة أو التأكيد على أن هناك كلمات "مصرية" أصولها ليست العربية، نفيا للهوية العربية لصالح جذور مصر الفرعونية.
وبالتأكيد الفارق كبير بين أزمة الانحطاط اللغوي التي شهدتها فرنسا في زمن الثورة، مقارنة بما نشهده من انحطاط لغوي مفزع، لأن فرنسا كانت تعاين تغيرات اجتماعية أثرت على مدلول الكلمات، وهو ما دعا بلزاك للتعبير عنه فنيا في حوارات بين أطراف لا يفهم بعضهم بعضا، رغم أنهم يستخدمون نفس المفردات في نص له بعنوان "الثوار الملكيون"، في العام 1839، وظل هذا الإشكال هاجسا عبر عنه فيكتور هوجو نفسه لاحقا في رواية "ثلاثة وتسعون" المنشورة عام 1874.
أما بالنسبة لوضعنا فالقضية مفتعلة، فبينما يفترض القائمون عليها أنها تطوير للغة، وبعث لمفردات الهوية المصرية، يتناسون أن الحروف المستخدمة ونطقها وجذور الكثير منها تنتمي للغة العربية. من دون وعي بأن كبار مفكري إسبانيا العرب مثل ابن رشد وأقرانه، وضعوا تراثهم الفكري بالعربية من دون أن يقلل انتمائهم للهوية الأندلسية.
وبسبب هذا التسطيح لقضية تطوير اللغة اصبحت لغة الكثير من السرديات الموسومة تعسفا "رواية" دليل مدهش ليس على انحطاط اللغة والثقافة فقط، بل وأساسا على محاولة الحط من فن الرواية نفسه. وللحديث بقية. 

قوة الرواية 2



قوة الرواية 2



إبراهيم فرغلي



استكمالا لفكرة الاستخفاف العام بالرواية الأدبية رغم الاهتمام القرائي الظاهر بها، يعنيني التوقف عند مفهوم شائع عن الرواية، إذ عادة ما توصف قراءة الروايات بأنها مسلية، أو أن يعبر أحد القراء عن جودة رواية بأنها مسلية. فهل الرواية مسلية؟ وربما بالأحرى هل القراءة يجب أن تكون مسلية؟
معنى التسلية في اللغة إدخال السرور على النفس وإبعاد الضيم عنها، وأغلب المعاني تتعلق باللهو أو تلهية النفس عما يحزنها. فهل هذا هو ما يحدث للقارئ حين يقرأ؟ ربما تتحقق فكرة التسلية المرتبطة بالقراءة حين يقرأ المرء مثلا قصة مصورة خفيفة، أو كتابا مشوقا، أو قصة من قصص المغامرات الخفيفة أو حتى بعض روايات قصص الحب الرومانسية، التي قد يقرأها المرء ليس بهدف المعرفة بقدر ما يحاول بها أن يزجي الوقت، أو أن يخفف بها من التركيز على مشاغل حياتية، أو أعباء مما نتعرض له جميعا في حياتنا اليومية.
لكن هل تندرج مثل هذه القراءة على كتاب في الفكر أو الاقتصاد، أو المعارف العامة، أو حتى على الروايات بمعناها الحقيقي؟
تقديري أن القراءة، كفعل وعي ومعرفة، لا يمكن أن تتناغم مع مفهوم التسلية أو تزجية الوقت، لأن التسلية بالمناسبة يمكن أن تتحقق كذلك عبر وسائل أخرى، مثل لعب ألعاب النرد أو الورق أو قضاء وقت للترفيه مع الأصدقاء، أو مشاهدة حلقة من مسلسل كوميدي، وغير ذلك، وهي كلها وسائل من شأنها تعطيل العقل عن ممارسة الانشغال بالتفكير المركب والاستيعاب.
بالتالي فلا الرواية يمكن أن تكون وسيلة تسلية، ولا أي من كتب الفكر والمعارف والفلسفة. لأنها جميعا تقدم أفكارا يتعامل معها العقل بمنطق يختلف عن التخدير الذي تحدثه التسلية، فالأفكار تحفز العقل على المزيد من التفكير، للاستيعاب، ثم للتأكد من جدة الفكرة، وتمثيلها على الواقع، ومطابقتها بالمعارف المخزونة لدى الإنسان، ورؤية ما يحدث حوله وفق تفسيرات جديدة بسبب ما أضافته القراءة لإدراكه، وبالتالي فهي من خلال القراءة تكون لدى القارئ أو تراكم لديه لونا من الوعي المختلف بالعالم.
وحين يقرأ الفرد كتبا تهتم بتاريخ الأفكار مثلا، أو الاقتصاد، أو الإعلام، أوتاريخ الثقافة والفكر، من خلال رؤى المحللين الذين يجمعون المعرفة التاريخية بالمجالات السابق الإشارة لها سيدرك، بشكل أو آخر، أن فكرة ربط القراءة بالتسلية نتاج لحالة اقتصادية أنتجت مفاهيم تحويل كل شئ إلى سلعة بما فيها الكتاب، والرواية.
هناك رأسمال ضخم يوجه السوق لكتابات بعينها، يصح أن يطلق عليها "مسلية"، وبالتالي هذا النوع من القراءات يعمل، في الأجل الطويل، على تقليل الوعي بفهم العديد من الظواهر التي حولت كل شئ لسلعة، بسبب انتشار مفاهيم النيوليبرالية التي طالت حتى الخدمات الأساسية، مثل الخدمات الصحية والتعليم. بالتالي أيضا يصح القول، أن التشظي المرعب للمعلومات والأخبار والتقارير والنمائم على الإنترنت، التي يطالعها الفرد بربع تركيز، وبذهن مشتت، ويعيد نشرها، هي جزء من حالة إلهاء مستمرة للوعي، بحيث يتم تمييع القضايا وتشتيت الانتباه عن قضية بأخرى، وباستمرار.

ولأجل تسليع الرواية يفرغها رأسالمال من قيمتها ويروج لأنها وسيلة تسلية، أي وسيلة إضاعة الوقت، وتغييب الوعي. وللحديث بقية. 

مقالي في "القاهرة" الثلاثاء 17 مايو 2016

قوة الرواية 1

تغريدة

قوة الرواية

إبراهيم فرغلي



بالرغم من رواج الرواية مقارنة بغيرها من الأجناس الأدبية خصوصا القصة والشعر، فإنني أشعر أنها لا تحظى بالمكانة التي تستحقها في مجتمعاتنا العربية.

ثمة إقبال ملحوظ على الرواية،وهناك اهتمام كبير بتداولها، تعبر عنه الزيادة الملحوظة لمكتبات الكتب الجديدة في ضواحي عديدة في القاهرة، وخارجها. إضافة للاهتمام بنقد القراء للروايات في مواقع الميديا المختلفة. وتعدد الجوائز العربية الإقليمية والمحلية.
لكن، مع ذلك، فلا يبدو أن موقع الرواية، على مستوى الوعي الثقافي، يحظى بنفس الاهتمام. فلا تزال النظرة العامة للرواية نظرة مستريبة، تسمها بالخفة، ولا تتعاطى معها بالجدية التي تتناسب مع قوة الرواية كجنس أدبي معرفي، وكمساحة مهمة لإطلاق طاقة الخيال التي تعاني مجتمعاتنا قصورا شديدا في روافدها.
كنت أقرأ في الكتاب اللافت "هنا والآن" الذي ضم مراسلات الروائيين بول أوستر وجون كوتزي، الصادر بتوقيع أحمد شافعي عن الكتب خان، وانتبهت إلى ملاحظة لكوتزي عن الكهف الذي أشار إليه سقراط قبل قرنين من الزمان ويضم شاشات خيالية مضاءة. انتبهت إلى قوة خيال سقراط  الاستباقية. أقصد أن ما كان في ذلك العهد البعيد مجرد خيال أثبت الزمن أنه استباق مدهش للمستقبل. وفي هذا تحديدا تكمن واحدة من قوة الرواية. وهو ما يقال عنه أحيانا أنه القوة التنبؤية للروائي، وربما بمعنى آخر قدرة الكاتب على أن يتيح للقارئ أن يفهم نفسه أكثر، وأن يفكك له العالم المحيط به لكي يعيد اكتشافه.
في محاضرة شيقة حضرتهاالأسبوع الماضي للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، كانت تتناول بعض الأدلة على كون الرواية في الأساس كتاب معرفة. ضربت أمثلة من روايات عديدة، ومن بينها لفتت اعتراف فرويد أنه يدين بالفضل للكثير مما توصل إليه في نظرياته في علم النفس لأعمال الروائي الكبير دوستويفسكي.
تقول العيسى: إذا قلنا أن الهدف من القراءة هو بناء تصور عن العالم وعن الذات فالرواية هي سيدة النصوص في هذا الشأن. لأنها تكتب من أجل بناء هذا التصور. وتستشهد العيسى بمقولة دالة لغسان كنفاني "إنهم يحكمون عليك لأنهم لا يعرفونك". وتوضح أن قدرة عالمنا العربي المذهلة في تحول كل فرد إلى قاض يحاكم الآخرين، مرتبطة ارتباطا وثيقا بجهلنا ببعضنا البعض.
ما تعنيه بثينة هنا، أن الرواية تتيح للقارئأن يعرف الآخر، ويفهم نفسيته، ومنهج تفكيره بناء على خبراته الحياتية. وإذا عرف القارئ ذلك، فلن يجرؤ على أن يحكم على آخر. وتقترح بنص قولها أن "كل عصبياتنا  وعنصريتنا هي في الحقيقة ضعف في المخيلة"، وهذا هو دور الرواية والقصة: أن تصقل مخيلتنا.
وأظن أن أحد كبار الروائيينالعرب نجيب محفوظ، كان يقدم بسلوكه الشخصي نموذجا مدهشا لهذا الوعي بقوة الرواية، لأنه لم يتورط في الحكم على شخص أو على أحد، في حدود معرفتي بسيرته.
لكن، كما ثبت أن عالمنا العربي لم يقرأ محفوظ كما ينبغي، ولم يفهم حقيقة الدور الذي قدمه في فهم العالم والواقع وما وراء الواقع، يثبت الآن أن الرواية لا تقرأ في عالمنا بالجدية المفترضة.
هل يعود ذلك إلى أزمة قراءة أم أزمة كتابة؟ هذا ما سأتأمله الأسبوع اللاحق.


مقالي في "القاهرة" في 10 مايو 2016


Monday, May 9, 2016

فصل من ابتسامات القديسين


فصل من ابتسامات القديسين
إبراهيم فرغلي


ألعاب الزمن والصدفة شكلت تفاصيل حياتي كلها، وهي التي أعانتني على الهروب من طيف كريستين بظهور ماريا التي أنقذتني من هلاوس وهواجس عديدة. وهي نفس الألعاب التي جعلتني أستبدل بطيف كريستين طيف ماريا، لكن المفاجأة في هذه المرة كانت أكبر.
كنت قد بدأت التعايش بشكل نسبي مع فكرة الحياة من دون ماريا.
وتجرأت على المرور أمام الأماكن التي كانت تمثل ألماً لا يطاق بفعل التهاب الذكريات المحفورة في أعماق الروح كلما مررت أمام أي منها: المدرسة اليوناني.. راندوبلو... كازينو النيل، وغيرها.
وبفضل الاكتئاب وعدم الرغبة في الخروج كنت أقضي أغلب الوقت جالساً في البيت، أقرأ ما تيسر، إذا ما كان ذهني صافياً، أو أجلس مذهولاً أمام شاشة التليفزيون، بلا أي إرادة حقيقية لمشاهدة شيء بعينه. أما أغلب الوقت فأقضيه في غرفتي، أستمع إلى الموسيقى بلا كلل.. علها تستطيع أن تشفي روحي.
وفي غرفتي تلقيت خبر عودتها مذهولاً حين وجدت نادية تفتح الباب وهي ترسم ابتسامة دهشة بلهاء، لتعلن لي خبر وجود كريستين في الصالون!
مدت لي يدها وهي ترسم ابتسامة ودودة، وتحدق فيّ دون أن تنطق بحرف، وأحسست أن ملامح وجهها الجميلة قد صارت أكثر نضجاً، أمسكت يدها وأنا أتعمد أن أضغط عليها قليلاً، كأنني أحاول أن أنقل لها ما لا أستطيع التعبير عنه قولا». أحتضن كفها الدافئ البض، مستعيداً عمراً من المشاعر الذي خلت أنه قد ولى من حياتي إلى الأبد. اقتربت منها لأقبلها، فتلقت قبلتي بوداعة، ولم تنطق بشيء.
وبعدما أحضرت نادية أقداح الشاي، وبدأت أستوعب وجودها مرة أخرى في الحياة بدأت خيوط الكلام تجمع شتاتها، لكنني بمرور الوقت اكتشفت أنني الذي أخذت أثرثر بلا انقطاع، إذ إنها كانت شاردة، أغلب الوقت. أحسست أن روحها أقل توهجاً مما عرفته عنها.

***

بدأنا نستعيد علاقتنا تدريجياً، وكأننا نحاول تجاوز آثار موت عماد، وإيجاد صياغة جديدة لعلاقة ثنائية لا يوجد فيها مكان لعماد سوى كطيف شاحب لذكريات أيام لن نستطيع استعادة رونقها مرة أخرى، وأن نحاول إحياء المساحات التي ماتت في قلبينا أيضاً. لم يكن من السهل أن أستعيد نفس المشاعر بعد مروري بتجربة ماريا التي فرضت وجودها كطيف أقارنه بكل ما تفعله كريستين، كما كنت على يقين من أنها لا يمكن أن تكون نفس الإنسانة قبل أن تخوض تجربة الرهبنة، حكيت لها عن الدراسة بكلية الحقوق، وعن بعض اساتذة الكلية وخاصة د. الشافعي بشير الذي غالبا ما تتحول محاضراته في القانون الدولي إلى بدايات مظاهرة سرعان ما تخرج من المدرج إلى حرم الجامعة أسبوعياً.
وأخبرتني أنها فقدت سنة دراسية وستضطر لإعادة الثانوية العامة.
حدثتها باقتضاب شديد عن تجربتي مع الجماعة، ولم أكن متحمساً للحديث في الموضوع. وحكت لي باختصار شديد الطقوس الأولى التي بدأتها في الدير.
وعندما سألتها عن السبب الذي قررت من أجله ترك الدير والتخلي عن حياتها كراهبة تقلصت ملامح وجهها لوهلة، ثم بدأت تحاول أن تدخل إلى الموضوع وهي مترددة، ثم صمتت مرة أخرى لفترة قبل أن تقول لي في حسم:
- أحسن ما نتلكمش في موضوع الدين ده تاني.
- يعني إيه؟
- يعني أنا مش هاتكلم عن أي حاجة ليها علاقة بالدين تاني... ويا ريت ما تحاولش تخللينا نتكلم.
- طيب أنا كمان مش هاحكيلك أنا سبت الجماعة ليه!
ابتسمت ولم تعلق بأي شيء.
وبعد فترة صمت أخيرة قلت لها:
- طيب مش هنروح نولع شمع في مار جرجس حتى؟
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تهز رأسها سلباً، وأدركت أن كثيراً من الطقوس المشتركة التي كنا نمارسها معاً لن يكون بإمكاننا أن نكررها مرة أخرى، وتذكرت المرة الأخيرة التي ذهبنا فيها إلى «مار جرجس» في «شارع بورسعيد»، حيث أوقدنا الشموع من أجل عماد للمرة الأخيرة.
سنفقد هذه التجارب المشتركة الجميلة، كما اننا لن نشاهد طيور الحمام التي تحلق وتملأ المكان برفيفها وسط الضوء الساطع كلما سمعنا عن ظهور العذرا في كنيسة من الكنائس.. سنصاب بالعمى من الآن فصاعدا!