فصل من رواية مفتاح الحياة
توريل القديمة
إبراهيم فرغلي
Artist: Jane Ward لوحة "قرية إيطالية" للفنان الإيطالي جان وارد |
يقولون إن حي
توريل من أكثر أحياء المنصورة هدوءا، ولم أشعر بذلك في أغلب الوقت. في الطابق الأول
يمكن لنا سماع همسات المارة في الشارع، فما بالك بمناداة الباعة، الذين يتوالون
على الحي من الصباح المبكر وحتى العصر. وضجيج شباب الحي وهم يلعبون الكرة في
"ميدان فريد المصري"، كل يوم تقريبًا.
لازلت أذكر حتّى تلك الأيام، حين كانوا يلعبون الكُرة
الشراب، قبل أن تنتشر الكرة الجلدية الحديثة. ونداءات الشباب على بعضهم البعض من أسفل
النوافذ. وإزعاج نفير سياراتهم الصاخبة. ففي توريل لا أحد يصعد ليدق جرس الباب، بل
يتنادون من أسفل المنازل أو يقرعون نفير السيارات.
ربما ورثنا فكرة هدوء "توريل" من الأجيال
السابقة، لكني لم أعرف هذا الهدوء. فكل صوت يصل إلينا في البيت، من طرقات أقدام الخيل
ورنات أجراس الحناطير، قبل اختفاء "الحناطير" مثل أشياء أخرى كثيرة، أو مرور
بائع العرقسوس وهو يصلصل بطبقي النحاس، معلنا عن مشروب العرق السوس. ونداء الباعة المختلفة،
من الخضراوات للفواكه إلى البقول، ومن بائع اللبن إلى الروبابيكيا، وغيرهم.
فابتداء من
وقت العصرية يأتي "عم عَنْتر" بعربة الذُرَة المشوي، وإن كان من أكثر الباعة
هدوءًا، لكن زبائنه ليسوا كذلك. ومن بعده يتوافد باعة التين الشوكي، وغيرهم، وغيرهم.
أحيانًا أستيقظ
في الفجر، لأستمتع بتوريل الهادئة. أُمتّع بصري بالشارع الهادئ وهو مُغبّش بشبح
النهار الذي لم يأت بعد، من النافذة، ولا أسمع إلا وشيشًا بعيدًا لموقد مطعم الفول
والطَعْميّة، القريب، الذي يبدأ استعداداته مبكراً.
في الصيف أيضا،
وقت الظهيرة والعصر، يُصبح الحي صامتًا أغلب الأحيان. وكثيرًا ما طاب لأمي في تلك الأيام
الهادئة أن تجمع "لب البطيخ والشمام"، لعدّة أيام، ثم تغسله جيدًا، ثم
تفصل لب البطيخ الأسود عن لب الشمام الأبيض، وتتركه ليجف، ثم تُحمّصه في الصينية مع
الملح.
وبهذا
يكتمل بالنسبة لها طقس العصاري في الصيف. حين تبدأ كافة الدكاكين والمحلات في رش
المنطقة المواجهة لها من الشارع بالمياه لترطيب المكان. وتجلس لـ "تقزقز اللب"
مع الشاي والبطيخ، في البلكون، وتطلب مني أن أجلس معها لنتسامر، إذا لم تأت جدتي،
أو إحدى خالاتي أو صديقات أمي لزيارتنا.
في مثل هذه الأوقات، ومع الهدوء الذي لا تقطعه إلا
أصوات بعض السيارات العابرة بين آنٍ وآخر، اعتدتُ إقناع نفسي أن الحياة في توريل مثالية
وجميلة.
لكن جاكلين
التي تعبد الهدوء والتأمّل، رأت في الحي الهادئ موضعًا مستمرا للإزعاج؛ خصوصًا
لسكّان الطوابق المنخفضة، بل إن الإزعاج كثيرا ما تحول إلى جحيم عندما تنشب المشادات
المروّعة بين شباب الحي في "توريل" ومجموعات الشباب من الضواحي الأخرى
القريبة، خصوصا أبناء حي "كفر البدماص"، حيث يتحول "ميدان فريد المصري"
لساحة معركة.
أحيانا أتصور
أن جاكلين خطّطت للهجرة مبكرًا، هروبًا من الضوضاء. لكني أعود وأسخر من سذاجة هذه الفكرة؛
لأن "جاكي" قد تكون الوحيدة التي فعلت الأمر الصحيح، وقررت الهجرة من بلدٍ تحمل هويته، ولا يعاملها إلا
كمواطنة درجة ثانية، لتذهب إلى بلدٍ لا تحمل هوّيته لكنه يعاملها كمواطنة تتساوى حقوقها
مع أي شخص آخر يعيش في المكان.
لم أمتلك هذا الحسّ بالمغامرة، خصوصًا أن تذهب واحدة
مثلي لآخر العالم بحثًا عن المساواة، كما أرادت وفعلت جاكي.
أما "ريمو"،
شقيقتها، فتشبهني في طبيعة علاقتها وإحساسها بالمنصورة. تحب المدينة رغم كل شيء. تشعر
أنها مثل سمكة خرجت من المياه إذا سافرت مع والدتها للقاهرة ولو حتى ليومٍ واحد. لا
تستعيد قدرتها على التنفس بشكل طبيعي إلا حين تعبر كوبري المنصورة من جهة سندوب،
الذي تبدأ بعده مباشرة أولى ملامح المدينة، بالطريق الطويل الذي تصطف على جانبيه
الشجيرات الكثيفة التي جسدّت طابعًا مميزًا لمدخل المنصورة.
لا شك في وجود ندّاهة جميلة، يؤويها النهر، تُنادي
علينا إذا ما ابتعدنا عنها. تذكرت "الندّاهة"، التي اعتادت أمي إرهابنا
بها أنا وبنات خالاتي، في الطفولة، حتى لا نبتعد عن البيت. عماد قال لي إنه سمع
صوتها بالفعل مرة، ولكن رامي سبح في النيل لكي يؤكد لهم أنهم واهمون!
لكن، لكل أم
من الأمهات، أبناء يحملون جينات العقوق والعصيان، ككل الذين هربوا منها وهجروها مع
أول فرصة، مثل جاكلين، التي عرفنا أمثالها كثيرين باستمرار. عشرات من أصحاب
الطموحات، بينهم أولئك الذين أحبّوا أن يكونوا نجوم غناء، ووقفت حدود المنصورة الخانقة
عائقا لطموحهم. كل الفرق الموسيقية التي أحببنا أغنياتها، أو بالأصح؛ الأغنيات الغربية
الشهيرة التي كانوا يقلدونها بإتقان، والذين كنا نستمع لأغنياتها في حفلات راقصة في
رأس البر، فريق الـ"إيجلز" Eagles، أواخر السبعينيات، سنوات المراهقة، وفريق الـ"ديفلز"
Devils. كان
كلّ من الفريقين يضمّان شبابًا نرى في كل شخص منهم نموذجًا من نماذج فرسان خيالنا.
نتابع عروضهم الموسيقية والغنائية في الحفلات الجامعية وفي بعض حفلات الزفاف، أو في
إجازات الصيف في "رأس البر". بعد سنوات عرفنا أن أغلبهم هاجروا خارج مصر.
قائمة المهاجرين من المنصورة ضمّت الكثير من
الفئات الأخرى، بينهم بعض الطامحين في الزواج من أجنبيات، بلا مبرر ربما غير عُقد النقص.
أو لأسباب وجدت في الزواج منهن فرصة للهجرة. طبعا هناك عائلات مسيحية كثيرة فكرت في
الهجرة بعد خروج الإخوان المسلمين من السجون في عصر السادات، وكذلك بعد اغتياله.
بالنسبة لي الأمر مختلف تمامًا. أنا أعشق المنصورة
حرفيًا. وأعشق فيها أشياءً بسيطة. مثلا حين كنت أزور "منال"، صديقة طفولتي
أيضًا، بعد أن ترقّى والدها ليصبح مديرًا لتفتيش الريّ، انتقلت عائلتها للفيلا الجميلة
الموجودة في نهاية الشارع الرئيسي في حي المختلط، قبل مزلقان القطار مباشرة. والتي
لا يظهر شيء منها في الغالب بسبب عُلّو سورها وصِغَر بابها الخشبي.
أذهب لزيارتها
سعيدة جدًا. أمشي الطريق من توريل للمختلط، إذا لم يوصلني بابا، ووجهي في الأرض،
لا ألتفت يمينا أو يسارا حتى أصل لباب الفيلا. ورغم أننا نسكن بجوار فيلا، عُلقت على
بابها الرئيسي لافتة مكتوب عليها "فيلا حسن الإمام"، لكنها ظلت خاوية باستمرار.
"فيلاّ" بلا سُكّان، لكن الأشجار التي تظهر من خلف السور تبدو خضراء ونضرة.
وما يدور داخلها يظل سرّا لا يعرفه أحد، أو يبقى مخترعا في تهيؤات أصحاب الخيال
الواسع عن حياة أسرة المخرج الشهير في الداخل، رغم أنني لم أصادف رؤية أي منهم
أبدًا.
تمنيت ظهور أي من أفراد عائلة المُخرج السينمائي
الشهير يومًا، لكن لم يحدث ذلك أبدًا.
أما الفيلا
الثانية فهي تخص سكرتير عام محافظة الدقهلية، على بعد خطوات من ميدان فريد المصري،
في الشارع الذي تقع فيه بقالة "دعدور"، ولا نرى من سورها الأبيض العالي
سوى الأشجار، وأحيانا نرى سيارة سكرتير المحافظ السوداء تقف أمام الباب.
في الفيلا التي
سكنت بها منال، في حي "المختلط" القريب من توريل، كنت أشعر أنني أنتقل إلى
فيلم بالأبيض والأسود. الممر الطويل الذي يأخذ شكل حرف L، تحيط
به حديقة تمتلئ بأشجار المانجو التي كنا نوقع ثمارها، لأننا نحبها خضراء ولاذعة، والجوافة،
والكثير من أنواع الورد المختلفة، وخصوصا الورد البلدي، وشجيرات الياسمين الكثيفة التي
تتبرقش فروعها الخضراء بزهور الياسمين البيضاء، والتي تمنح للحديقة عبقاً جميلاً.
بينما يُظلل جانبًا من الممشى المؤدي للفيلا "تكعيبة" عنب خشبية، تتدلى
منها القطوف الخضراء.
أما البيت السكني فنصعد له بدرجات عديدة. وعندما
أتأمل جمال الشجر والورد أقول لنفسي إن هذه الحديقة هي ما تصفه الكُتب بـ"البستان".
بيتنا لم يكن صغيرًا، مثل أغلب البيوت القديمة
التي بنيت في الخمسينيات والستينيات، لكن لا يمكن مقارنته ببيت منال أبدًا. كان السقف
عاليًا بشكلٍ مدهش. والممرات بين الغرف طويلة. أما غرفة منال فواسعة وأنيقة بالنسبة
لغرف نومنا العادية الصغيرة. ربما لم يكن البيت من الداخل حديثًا مقارنةً حتّى ببيتنا،
لكنه كان عتيقًا وأنيقًا. كنت أشم فيه رائحة الخشب العتيق الداكن الذي يتمثل في أرضية
البيت المغطاة بالسجاجيد.
أحببنا اللعب في الحديقة، والثرثرة وتبادل
النمائم ونحن نتمشّى بين الأشجار والورود. وحين يصادفنا سامح؛ شقيق منال، وأوجّه له
أي كلمة يحمر وجهه حتى يُصبح مثل التُفاحة، رغم سُمرة وجهه الممتلئ. يُذكّرُني بشكل
"تَخْتَخْ" بطل مغامرات "المغامرون الخمسة" الشهيرة.
أقول ذلك لمنال،
فتضحك، فأضيف:
-
وأنت تذكريني بـ
"نوسة" أخت "محب" في المغامرات.
فتنهرني وتقول إنها أحلى كثيرا
من "نوسة"، فأوافقها بسرعة، مؤكّدة
أنني أمزح معها.
مرّة قابلت
نادية؛ توأم رامي، عند منال. تعاملت معي بتحفظ، ولم أفهم لماذا. هل لأنها تعتبرني بنت
شوارع تلعب مع أولاد الجيران؟ أم لأنني مسيحية. هل تختلف عن شقيقها رامي لهذه الدرجة؟
لم تكن عدائية، ولم تتجاهلني أبدا عندما أوجه لها
أي سؤال. بالعكس، كانت دمثة جدا ولطيفة، لكن لا أعرف لماذا تعطيني الإحساس بالتحفظ.
وبالفعل بعد فترة بسيطة من وجودي استأذنتْ
وانصرفت.
منال ووالدتها
طنط ليلى، لم تكن لديهما حساسية بتاتا في التعامل معي. طنط ليلى خريجة مدرسة
"سانت فامي" هي أيضًا، وكثيرًا ما تحكي لي ذكرياتها في المدرسة.
كنتُ سعيدة
أنني درست في مدرسة عريقة خرّجتْ أجيالاً مثل جيل طنط ليلى.
في إحدى زياراتي
لهم طلبت منّا طنط ليلى أن نخرج معها إلى حي "ميت حَدَر" الشعبي، الذي يضم
سوقًا شعبية. قالت لنا إنها تريد أن تشتري "حلوى المولد"، من أحد مصانع
الحلوى، الواقع في حارة متفرعة من "شارع بنك مصر". ولأول مرة أدخل مصنعا
للحلوى الشعبية.
شاهدنا أنا
ومنال، بانبهار، كيف تُصَبُّ الحلوى البيضاء المصهورة في براميل خشبية ضخمة، ومنها
إلى قوالب خشبية صغيرة تأخذ شكل عروس المولد أو الحصان، ثم كيف يقوم العُمّال، بعد
أن تبرد الحلوى وتتجمد، بفصل القالب الخشبي إلى نصفين؛ فنرى قوالب الحلوى التي تتخذ
إما شكل الحصان الشهير وعليه الفارس، وإما "عروس المولد" باللون الأبيض،
قبل أن يُضاف إليها اللون الوردي الشهير. لازلت أذكر رائحة المكان الحار بسبب الأفران،
هذا العبق المزيج من روائح العسل الساخن والسكر وماء الورد. ولم يكن ممكنا أن أعود
للبيت في يوم كهذا بدون علبة "حلاوة المولد"، المهداة لي من طنط ليلى،
والممتلئة بالحُمّصيّة والسِمْسِميّة والفوليّة والمَلْبَن. وكانت أمي تسعد كثيرا
بهذه اللفتة، وتنتظر أي عيد من أعيادنا لكي ترسل إليهم معي علبة كحك من صنع يديها.
طنط ليلى مختلفة
في الطريقة التي تتعامل بها مع منال، وتعتبرها كصديقة وليس ابنة فقط. منال أيضا ناضجة،
وغالبا لا تسلك سلوكا يسئ لأمها.
أجلس لمدة ساعة لأحكي لها حكاية تضايقني عن ماما
أو عن معلمة من المعلمات، وتنصت لي ولا تظهر ضيقها أو استخفافها بما أقول.
أتمنى أن تصبح
أمي صديقة لطنط ليلى يوما.
فصل من رواية مفتاح الحياة، الجزء الثالث من ثلاثية تصدر قريبا في كتاب بعنوان (جزيرة الورد) ثلاثية روائية، تضم "ابتسامات القديسين"، "جنية في قارورة" ثم "مفتاح الحياة
No comments:
Post a Comment