Sunday, June 11, 2017

غمزات الصخر الحنون في رام الله

لروائيّ المصريّ إبراهيم فرغلي: غمزات الصخر الحنون في رام الله!
أصبحت فلسطين واقعاً بالنسبة لي سيستمر في حياتي للأبد، لم تعد مجرد حلم بعيد، أو بكائيّات ومرثيّات، أو حتى فولكلور نضاليّ ووسيلة لبطولات "دون كيشوتات" زمننا البائسة، وشعارات يرتزق بها مرتزقو السياسة والثقافة. تنشقت هواء رام الله، ورأيت أهلها، بشراً على الأرض، لهم أحلام ورغبات ومشاعر، وطموحات، وآمال، وليسوا مجرد كائنات مصنوعة من كارتون الأخبار ومانشتات الصحف والإعلام. وليسوا أيضاً مجرد شعب لا يستحق إلا الشفقة والرثاء على وطنه المغدور. بل كائنات تملك القدرة على أن تعلمنا الكثير عن الأمل والحب والحياة المستمرة تحت الخطر ونحن نرسم ابتسامة. وقفت معهم على جسر اللنبي، متوتراً، متحفزاً وقلقاً، أداري هواجسي مثلهم، وأتمنى أن تنتهي ساعات المعبر الطويلة من دون كارثة متوقعة في أي لحظة. أراقب المحتلّ مثلهم، راجياً اليوم الذي يمكن لهم فيه العبور من دون تفتيش وإجراءات العبور المقيتة التي يمارس بها المحتلّ دوره كمغتصب للأرض. وجلست على المقاهي بينهم نضحك ونعيش اللحظات المسروقة من الخوف المسيطر على أجواء المكان الذي تشعر أن عيون المحتلّ تراقبه من أماكن غير منظورة، وتتوقع اقتحامه لأيّ مكان بلا سبب.
تابعت معهم فيلماً سينمائياً، شاركتهم فيه الشغف، والابتسامات التي تنشق من رحم مآسي السجن، رغم المعاناة، والضحكات التي يبحثون عنها رغم كل شيء. وشاهدت بينهم مسرحية كنت أتابعها كأنني متفرج بين مسرحيتين الأولى هي العرض الفني الحقيقيّ الذي يشاهده الجميع، والثاني هو الجمهور الفلسطينيّ الذي كنت أتابع ابتساماته وضحكاته محاولاً فهم الشفرة السريّة للكنة والسخرية المبطنة مما يغيب عنيّ من خارطة الطبقات واللكنات والاختلافات المذهبيّة والعرقيّة. وقفت في الغرفة التي حوصر فيها ياسر عرفات من قبل قوّات شارون، وأنا أستدعي مكان جلوسي في غرفة المعيشة في شقتي في مصر مذهولا من البجاحة التي بلغها المحتلّ الأرعن. وأحاول استدعاء مشاعر الختيار في تلك المساحة التي حوصر فيها مندهشاً من شدة تقشفه الذي تكشفه غرفة نومه البسيطة، ومطبخه الذي لا يختلف عن مطبخ أي عائلة صغيرة في أي منزل عاديّ.
رأيت رام الله عندها كمكان تم تخليصه من فم الأسد، حتى لو لم تكن السيادة كاملة اليوم بسبب الجيش الذي يحتلّ شعباً أعزل لا قوّة له إلا إرادة أهله. 
شاهدت المستوطنات وكيف تحيط بالمدينة على أعلى التلال، وأنا أشعر أن كاميرا خفيّة في مكان ما منها تراني كما تراقب كل ما يدور في المكان. ومع ذلك كنت أوجه الكاميرا لألتقط الصور بقدر ما يمكنني لأوثق صورة المستوطنة التي يعزل فيها المحتلّ نفسه.
تجوّلت في وسط المدينة مندهشاً ومغتبطاً من جمال العمارة والحجارة، ومن النظافة وجمال الطبيعة معاً. خطف بصري الصخر الحنون، هذا الذي تراه أينما وجهتّ وجهك في أرجاء فلسطين، الحجر الذي يشكل صورة الفضاء العامّ للمبنى الفلسطينيّ الكبير، أو "البلاد" كما يطلق عليها أهلها، والذي يُلفت الانتباه بمجرد أن يتنشق المرء النسمات الأولى لهواء فلسطين. الصخر الحنون في رام الله تجلى في الكنائس القديمة التي تتوسط مركز المدينة، وفي المساجد والبيوت العتيقة الجميلة والمحال والأسواق والمتاحف. الصخر الذي كنت ألمح ابتسامته وهو يغمز لي مذكراً أنه لا يغدو طيعاً إلا حين تمسك به أيدي أهل البلاد، الذين يعرفون أسراره، ويدركون متى يستخدمونه موضوعاً للجمال، وكيف يحوّلونه سلاحاً طيّعا في أيدي الكبار والأطفال حينما تنتفض فلسطين وتصبح الحجارة حُلماً يهز جدران الظلم، كما رأينا في الانتفاضتين الأولى والثانية.
هذا ما تسمح به هذه العجالة، لكن الحديث عن فلسطين سيطول كثيرا
نقلا عن موقع رمان - يونية 2017 

Saturday, June 10, 2017

اللاشيء المقدس!



 اللاشيء المقدس 

وائل فاروق
 

 في ثلاثينيات القرن الماضي قدس اليابانيون هيروهيتو الامبراطور الإله الذي قادهم إلى تحقيق نهضة اقتصادية وبناء قوة عسكرية مكنتهم من السيطرة على مساحات واسعة من العالم، بعد الهزيمة المخزية لليابان في الحرب احتفظ الإمبراطور بقداسته، إلا أنها قد فقدت معناها ليس فقط لأن الإمبراطور قد تحول إلى ديكور ولكن لأن الإمبراطور الإله قد قاد شعبه إلى تدمير الآخرين قبل أن يدمر بلادهم، هكذا بدأ اليابانيون يطلقون عليه اللاشيء المقدس. (Japan: a Reinterpretation : Patrick Smith, Knopf dubleday publishing group 2011)
 اللاشيء المقدس هي أفضل عبارة نصف بها قيم الحضارة الغربية اليوم، فعلى مستوى الممارسة والثقافة يتم تفريغ هذه القيم من معناها بالرغم من تقديس الجميع لها مثل قيمة الحرية ، في القرن 18 تعرف المصريون على الحرية والإخاء والمساواة على إيقاع مدافع بونابرت، كما تعرف العراقيون على الليبرالية في القرن الواحد والعشرين عن طريق قنابل بوش الذكية، إن الضمير الجمعي العربي يربط الليبرالية بالخضوع للاستعمار لأنها كانت دائما ليبرالية بدون حرية. المؤسف في الأمر أن الأمر لا يتوقف عند الفشل في تقديم هذه القيم للآخر ولكنه يمتد لتفريغها من معناها في الداخل على مستوى الفكر والممارسة في الثقافة الإنسانية المعاصرة أصبح المؤقت مركزيا، نعيش حياة مؤقتة، أعمال مؤقتة، علاقات مؤقتة، زواج مؤقت، سكن مؤقت، كل ما نستخدمه أيضا في حياتنا اليومية أصبح مؤقتا كالمناديل الورقية والأكياس والأكواب والملاعق البلاستيكية، لا شيئ يحمل علامة، لا شيئ يحمل معنى لأن كل شيئ زائل، هكذا تحول الانتباه الثقافي المعاصر من الكينونة أو الوجود في العالم إلى الصيرورة أو العبور في العالم، إنه عالم العابر والمؤقت، نعم سقطت الأيديولوجية ولكن الخوف من الآخر يتزايد، تراجعت العدمية لكن الحياد السلبي من كل شيئ قد حل محلها، فمصطلح "المابعد" الذي يسبق كل أوجه المعرفة الإنسانية – مابعد الصناعة، التاريخ، الاستعمار، الحداثة – لا يعني إلا غياب القدرة على إضفاء المعنى على الحالة الإنسانية الراهنة. 
 وهو ما يرى هابرماس أنه أحد نتائج إقصاء الدين من الحياة العامة، إن كل ما نواجهه من تحديات اجتماعية في مجتمعاتنا يرجع بشكل أساسي إلى انعدام القدرة على انتاج معنى للحياة يعد الدين أحد أهم مصادره. 
 يعتقد ما بعد الحداثيون أنهم حرروا الإنسانية من أسر الثنائيات الفكرية ( الخير/الشر- الحضور/الغياب- الأنا/ الآخر) لكنهم في الحقيقة لم يفعلوا إلا الانتقال من التقابل بين الثنائيات وما يترتب عليه من القدرة على إصدار أحكام تعكس في مجموعها ثقافة وهوية وشخصية فردية/جماعية إلى التساوي بين الثنائيات وما يترتب عليه من عدم القدرة على إصدار الأحكام الذي يعني التوقف عن التفاعل مع الواقع وهو ما يؤدي بالهوية الفردية والجماعية إلى التنميط . 
 ناضلت ما بعد الحداثة ضد " إقصاء" الحداثة للآخر "المختلِف" ولكنها لم تجد طريقا لهذا إلا "إقصاء" الاختلاف. حيث الاعتقاد السائد أن التعايش السلمي فيها بين المنتمين لأديان وتقاليد وثقافات مختلفة لا ينجح دون استبعاد التجربة الدينية والأخلاقية من الفضاء العام للمجتمع، وهو ما يعني إقصاء الاختلاف، فإذا كانت التجربة الدينية أهم مكونات الهوية، فإن هذا الإقصاء للاختلاف هو في حقيقته إقصاء (للذات).
هل حققت هذه العلمانية المتطرفة في النهاية هدفها ؟
 لا تخلو عاصمة أوروبية كبرى اليوم من "مجتمع موازي" يعيش فيه المهاجرون المسلمون ؛ فقد انتهت المحاولات الحثيثة لدمج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة إلى جعل الحدود الثقافية والدينية " لامرئية " في الفضاء العام حيث ترسخ مفهوم وممارسة لـ " التعددية " يحول الفضاء العام من بوتقة للقاء والتفاعل الإيجابي بين المكونات الثقافية المختلفة في المجتمع الأوروبي المعاصر إلى " حدود " تفصل بينها، كما نجد في فرنسا حيث التي أصدرت قانون يجرم ظهور الرموز الدينية في الفضاء العام لتصبح فرنسا دولة يحمي دستورها الاختلاف والتعدد الديني وتجرم قوانينها مظاهره. 
 إقصاء الاختلاف من الفضاء العام جعل " التكيف" وليس "التفاعل" هو الإطار الحاكم لعلاقة المهاجرين مع مجتمعهم الجديد وهو ما أدي - إلى جانب عوامل ذاتية أخرى خاصة بطبيعة ثقافة المهاجرين أنفسهم - إلى خلق هذه المجتمعات الموازية التي تصطدم بالمحيط الذي مازال غريبا/ أجنبيا .
الخلاصة 
 في سياق هذه الثقافة إذا سألت ما هي الحرية؟ ستكون الإجابة هي كل شيء، ولكن الحرية التي تعني كل شيء هي لاشيء، الحرية الحقيقية لها وجه واسم وحدود هي الخبرة الإنسانية، التي لا يمكن أن تكون إنسانية إذا نزعت الشخص من هويته من تاريخه من معنى وجوده وغايته، لأنها في هذه الحالة ستكون شكل يخلو من المعنى ولتشترك مع الثقافة الإسلامية المعاصرة في إقصاء الشخص وتجربته وهويته. هكذا ننتقل من "اللاشيء المقدس" إلى "لا شيء مقدس" ، لاشيء مقدس طالما كان الشكل في المركز والإنسان في الهامش
 في القرآن كما في الكتاب المقدس يبدأ آدم علاقته بالعالم بتسمية الأشياء، يفقد آدم المعاصر كل يوم جزءا من عالمه القديم، لأنه ينسى الأسماء، لأنه لم يعد يسمي الأشياء، لأنه لا يهتم بتسمية الأشياء، آدم لم أدم، إنه ما بعد آدم.

هذا المقال المهم نشره كاتبه الأكاديمي والناقد المصري وائل فاروق بالإيطالية وترجمه للعربية