Monday, June 8, 2015

أيها الفحم يا سيدي.. جنون عالمنا كما عكسته دفاتر فان جوخ - قاسم حداد



سيرة كتاب
أيها الفحم يا سيدي..

قاسم حداد يعود لزمن فان جوخ كاشفا جنون عالمنا!

إبراهيم فرغلي

فنسنت فان جوخ




رأيت وجه فنسنت، من خلف زجاج النافذة البعيد. لوّح بيده أو هكذا تهيأ لي، بينما وقف قاسم حداد في فناء قصر العزلة الشاسع، شاخصا بنظره، للوجه الشبحي.

ثم رأيت فنسنت، في الساحة نفسها، يبتسم لقاسم الواقف خلف النافذة. كأنهما يتبادلان موقعيهما، كلاهما يتأمل الآخر بامتنان.

قاسم حداد


وجهان ينتمي كل منهما إلى ثقافة تخصه.
 فنان هولندي، مثقف عصامي، وحشي الموهبة، وشاعر بحريني، مجرب، مثقف عصامي دؤوب، يمتلك طاقة فنية وحشية وعذبة في الآن نفسه. التقيا أخيرا. الأول قادم من زمن يمتد إلى ما يزيد عن قرن من الزمان، والآخر ماض إليه.

"يعرف أن كتابا في انتظاره.هناك، في الأعالي، في مكان الضوء الشاحب في هضبة العزلة، في الكوّة الصغيرة، في الغرفة العلوية في بيت عليل تقود الأشباح خطواته إليه".

كان بإمكاني تخيل اللقطة التي افتتح بها قاسم حداد كتابه "أيها الفحم يا سيدي"، والاسترسال في تقمص حال قاسم حداد وهو يحتشد لكتابه المروع هذا. لكني توقفت.

استسلمت لصوت الفنان وتتبعت الخطى؛إلى مدينة الطواحين، في جروت زندرت، حيث ولد فنسنت، شاهدا على طفولته وعذاباته من سوء فهم العائلة، من اتهامات الأب المتدين، القس المغال في التشدد، وقسوة الأم المنحازة للأب، باستثناء الشقيق المدهش.

 "آه ثيودور العظيم، لقد كان وحده حنان العائلة".

أنصت لفنسنت، في أروقة العقل الفنان، الذي يضج بالخيال،
يرى ألوانا لا يراها سواه، فينقلها على لوحات صمدت أمام اختبار الزمن؛ ترينا ما رآه فنسنت في الحقول، وفي وجوه معاصريه، في المشافي، وفي أعماق المناجم المظلمة، وفي السماء.


يا صديقي يا أخي!


 "يا صديقي، يا أخي، يا أنا، تعرف أننا لا نستطيع أن نفعل شيئا لأنفسنا. ولا ينبغي أن نأخذ الآخرين بالوهم. ما من أحد يمكنه فعل شيئ لنا. وحيدون نحن، وحيدون جدا، كلانا وحيد".

أهو نداء قاسم لفنسنت؟ أم نداء الأخير لشقيقه ثيو: صديقه وخدينه وشقيقه وداعمه الأوحد؟ السؤال مفتوح على كل الإجابات، تماما كما هذا الكتاب. المفتوح على الاحتمالات، العصي على التصنيف. يمتح من الشعر لغته، ومن السرد صفته، ومن الخيال أفقه.


 غلاف كتاب أيها الفحم يا سيدي الصادر عن دار مسعى للنشر 


يشبه السيرة، ويتغول في أزقة التاريخ البعيد. وإذ تتعثر فيها خطاك قد يباغتك أن تجد نفسك في واحد من ميادين الحرية التي استعارت من الثورات البعيدة كلمة الربيع، لكنها لم تنتج سوى أكثر من خريف!

نص له صوتان: صوت لفنسنت وآخر لقاسم.

في  حواري مع قاسم حداد،بدا محتشدا بالفضول ليعرف رأيي في الكتاب. قلت له: الكتاب عصي على التصنيف. كتاب معرفة.

قال: "وهذا تماما ما أود اقتراحه على القارئ: الإصغاء لما يقترحه النص. من متعة أو لغة أو معرفة أو أفكار.  في تجربة من هذا النوع ينبغي تفادي تصنيفها مسبقا، بل نمنحها الفرصة لنرى ما الذي تقترحه".

قاسم حداد وإبراهيم فرغلي بعد الحوار 


مالي وفنسنت؟ ماذا يخصنا منه؟ مالي وطواحين هولندا وزهور خشخاش فان جوخ، والحقول ونجوم السماء؟ ردد لي صديق ما افترضه من تساؤلات محتملة قد يلهج بها هذا أو ذاك. قلت ربما يكون  الحق مع من يظن هذا الظن. لكن الملاحظة خدشت صدري، وضميري، لأن بعض الظن إثم.

يا أخي، يا صديقي، أنصت أولا، لتدرك أن هذا النص عولمي، يخص قاسم، وفنسنت معا. وعمال الفحم أو أطيافهم تماما كما يخص سجناء الزنازين الضيقة المعتمة الخانقة،
المماثلة لحفر المناجم في باطن الأرض. يحتفي بالشعر، ويتقصد الجيم والضاد.

قلت السؤال يمكن أن يصاغ في كلمتين "لماذا فان جوخ؟". فأجاب منفعلا بالحميمية 

والحماس: 


"أعجبت كثيرا بفان جوخ منذ الثمانينات، ولكن اهتمامي أو اعجابي به في الحقيقة يعود إلى ما قبل ذلك. كانت مجلة "الهلال" في الستينات والسبعينات تصدر ملفات شديدة التميز عن التشكيليين الأوروبيين، وفي واحد من هذه الملفات شاهدت أعمال فان جوخ فأعجبتني جدا وتعلقت به".


عدت إلى أعمال قاسم حداد ونقبت بينها حتى عثرت على نص بعنوان "ورشة أورسي"، 

في ديوانه "دع الملاك".

يقول قاسم حداد:

لوحة استراحة الفلاح وزوجته


"لوحةاستراحة الفلاح وزوجته، بملابسهما الزرقاء، حيث الروح الفعالة تفيض على الجسد، في حقل القمح الذهبي. أوصاني الصديق صبحي حديدي، بهذه اللوحة بالذات، وهو ينصحني بعدم تفويت زيارة متحف أورسي، سرّني أنه فعل ذلك، فهو قد لامَسَ شغافَ مُولَعٍ بـ فان غوخ. الرسامُ الذي رافقني السنوات الأخيرة، كما لو أنه قرينٌ غير معلن لنص في الحسبان. فليس أقل من أن أشترك مع هذا الفنان في عمل إبداعي.
إذن،
هذا هو (فان غوخ) الرهيب".


زهرة الخشخاش يا أختي!


بعدما تلمست الولع القديم لقاسم حداد بفان جوخ،
عرجت على لوحاته، لكي أعيد تأملها، وفهمها، بعد أن أضاءها لي، تشكيلا وقيما فنية، وأحيانا عبر التحليل الذهني والنفسي لفنسنت نفسه خلال عمله فيها.
استدعيت تأملاتي للعمل الوحيد "الأصلي" لفان جوخ الذي كنت شاهدته مرات عديدة، ممثلا في "زهرة الخشخاش" التي كانت بين مقتنيات متحف محمود خليل.
واستعدت، انخلاع قلبي، حين أعلنت كارثة سرقة عمل فان جوخ الوحيد، من المتحف في آواخر عهد الديكتاتور المخلوع مبارك.
أين أنت يا زهرة الخشخاش لأحتضنك مثل أختي؟!

تأملت "زهرة الخشخاش"، مرة أخرى،
عبر الوسائط الحديثة، مستدعيا عبقرية استخدام الأصفر، بينما كان أزرق السماء يخاتلني من لوحة أخرى يقشعر بدني كلما رأيتها وهي لوحة "سماء مضيئة بالنجوم".


لوحة زهرة الخشخاش التي كانت موجودة في متحف محمود خليل بالقاهرة وسرقت في أواخر عهد مبارك في اغسطس 2010




الأصفر والأزرق، دائما وأبدا. وبسببهما يكاد يدرك المتطلع للوحات ذلك الفنان الاستثنائي، ليس فقط قدراته المدهشة في مزج الألوان، ولا اللعب بالإضاءة، وابتكار تقنية خاصة للضوء، بل أنه شخص يضج بالحيوية.






لم ينتـــــــحر!


استعيد صوت قاسم حداد مؤكدا بنبرة مشحونة بالحماس والعاطفية: "إبراهيم، ما ممكن. ما قبلت فكرة انتحاره، لأني أحسست إن هذه ليست حقيقة، لأنك لما تشوف أعماله، هذه أعمال شخص مقبل على الحياة، لا يمكن أن ينتحر"

يستطرد موضحا: "جمعت الكثير من المعلومات.
من بين ما تورده الوثائق أنه حصل من صديق بندقية صغيرة لكي يطيّر الطيور ليصورها، وكانا يقفان على صخرة وسقطا في الأثناء. في نفس الفترة قرأت كتابا لكاتبين أمريكيين يشككان في انتحاره. شعرت انهما يساندان فكرتي بشكل غير مباشر. وكذلك مسألة قطع الأذن. أيضا صغت القصة كما أقنعتني".

"كنت في لحظة الهياج،
 فأحدثت تلك الحركة جرحا في شحمة الأذن. هل كنت في اللوحة، في الرسم، أم في المرآة(..)اختلط الأمر علي بين رأسي خارج اللوحة ورأسي هناك".


بورتريه رسمه فان جوخ لنفسه وأذنه مجروحة باستخدام المرايا



يستطرد حداد:"هذه متعة انك تعيد صياغة الحدث بقناعاتك. في النهاية لست مؤرخا بل شاعر. فلا يأتيني شخص يقول لي هذا غلط أو صحيح تاريخيا.  طيب ما كل شيئ غلط بالعالم. حبكت على هذه؟".


صحيح والله! أقول له، ونضحك.

لكني لا أستطيع أن أكبح فضولي عما ذكره لي في بداية حوارنا عن تماس تجربة المناجم التي مر بها فنسنت فان جوخ مع تجربة اعتقاله وتعرضه للسجن. يخبرني أنه اعتقل في السبعينات في البحرين، لأسباب سياسية بطبيعة الحال، مرة في 1973، ثم استغرقت فترة الاعتقال الثانية خمس سنوات.

لمن يود العودة لقصائد السجن لقاسم حداد وفيها يقول:

("أنا قابع في زنزانتي المظلمة ولكن قلبي يخفق مع ابعد نجم في السماء". هكذا تحدث ناظم حكمت، وهكذا تعلمت قلوبنا كيف تخفق مع نجوم السماء، مهما ابتعدت وتعايش العالم كما لو كانت موجودة في كل العالم").

لون الظلام!

خرج حداد من السجن في العام 1980، وحين استدعى فان جوخ في فترة المناجم تداعت لذهنه، تجربة السجن. ولعله لذلك رأى أن:

"للظلام لون أيضا"!


"في زنزانة الأرض بالمناجم، ثمة لون واحد هو الظلام. ما من لون آخر هناك. الشعل الصغيرة المرتعشة تهدي العمال لمواقع خطواتهم، نقاط شاحبة في صقيع سحيق( ..) الظلام هو اللون الوحيد الذي كنت اخرج مكنوزا منه، فـأسرع نحو غرفتي محاولا رسم الظلام ".

يقول قاسم حداد: "أنجزت هذا الجزء بتفاصيل صغيرة، عن عمله مبشرا لصالح الكنيسة في أحد المناجم. لكنه كان فنانا في أول الأمر ومنتهاه. كان يرى العمال يموتون. وبسبب ما شاهده من بؤس ما يتعرض له عمال المناجم كفر، وأخذ يسأل الله عن سر إهمال هؤلاء، من فرط ما رأى من قسوة ما يتعرض له العمال".

"أيها الفحم، يا ذهب النار وذريعة الحياة، من أين لك كل هذا

 الصمت عن صريخ الأرواح المعذبة في غياهبك".

يستطرد موضحا:" كان شديد التعاطف معهم، يتبرع لهم بما يملك وبملابسه.ثم أصيب بنزلة صحية ولما جاء أخوه ثيو فجأة وشاهد تخطيطاته بالفحم، أدرك حجم موهبته، فأنقذه وطلب منه أن يتفرغ للرسم".

-         بالمناسبة هل كان للواقعة دور في اختيار العنوان:"أيها الفحم يا سيدي"؟

** الحقيقة الاسم اقترحه أمين صالح (الكاتبالبحريني صاحب التجارب السردية التجريبية اللافتة وصديق مقرب من حداد)، وهو يقرأ المخطوط وأعجبني. لأنه يضئ دور الفحم في الحياة وفي المنجم وفي الرسم وفي كل شئ.

يحيلني عنوان الكتاب على لغة النص: لغة مكثفة، قاموسها متسع. يقول حداد:
"هذه المقاطع لم أكتبها متواصلة كما هي في الكتاب. بل منفصلة كمقاطع، ثم رتبتها لاحقا. كنت أكتبها كشعر في حالات نفسية وذهنية مختلفة. لكن في الوقت نفسه كل جملة لها أصل معلوماتي. كنت أتدفق في الكتابة في قصر العزلة في شتوتغارت، لأيام، وبسبب الثلوج وغياب الحدود بين الليل والنهار أكتب وأقرأ، دون وعي بالزمن. كنت أشعر بالخوف من أني قد أكون لازلت أعيش في غمار تجربة طرفة بن الوردة، وهذا ما ضاعف قلقي".

حاولت تخيل حال الشاعر الصديق في أثناء الكتابة؛ مستدعيا وصفه لنفسه في سيرته قائلا: "التمرين الأخير على موت في حياة لا تحتمل.


الصورة من أرشيف جريدة الرياض، وفيها تصوير لقاسم حداد في أثناء عمله في كتابه طرفة بن الوردة الذي استخدم فيه خط اليد تأكيدا على أن طرفة بن العبد كان متعلما قادرا على الكتابة على عكس ما أشيع عنه



فهو في كل يوم وأمام أية تجربة جديدة يبدو كأنه يكتب للمرة الأولى والأخيرة في آن واحد. جسد يرتعش مثل طفل مذعور مقبل على الوحش.

 كثيرا ما تركته وحده في الغرفة مريضا يوشك على الموت، وعندما أعود إليه في اليوم التالي، يضع أمامي النص ويجلس مثل شحاذ ينتظر ردة فعلي. ينتحب كأنه الميت يرثي نفسه. وما إن أقول له الكلمة، حتى يستعيد صحته ويقفز مثل العفريت، مستعدا للحياة كأنه يولد توا".

عبر صفحات الكتاب تتسلل إلينا صرخات فنسنت العاتبة للعائلة التي خذلته والقت به في المصحات. للأطباء الذين لم يتفهموا متاعبه، باستثناء طبيبه الفنان بول جاشيه. 


الدكتور بول جوشيه، أحد أطباء فان جوخ، والذي عرف بعلاج الفنانين، وكان محبا للفنون


نسمع صرخاته في عتاب جوجانالذي خذله بمصاحبة النادلة (راشيل) وأفقده أعصابه، وخذل مشروعه أيضا لبيت الفنانين. ولاحقا ننصت لشكواه من أهل آرل (في جنوب فرنسا، والتي أسماها يابان أوربا بسبب سطوع الشمس) حين نكلوا به واستهجنوا وجوده بينهم. ننصت لأفكاره عن الجنون الذي لم يدفعه عن نفسه كتهمة، موضحا أن أي مبدع حقيقي لا بد أن يمسه شيئ منه، مفرقا بينه كمأزق إنساني ووسيلة من المجتمع لتقييد حرية المختلف مع عاداته، وبين الجنون كطاقة هائلة على إنتاج الفن الذي يتقوت من الخيال. نرى فنون العصر كما رآها فان جوخ، وفلسفته الفنية، وعلاقته بالفنانين الآخرين مثل كوربيه، جوجان، كلود مونيه، ديلاكروا، ادوارد مانيه، ديجا، ورامبرنت، الذي يدين له بالكثير من التأثر والإعجاب.

يوضح لي حداد أنه لأجل الاطلاع على أعماله وأعمال هؤلاء تجول جولات واسعة في متاحف فان جوخ خصوصا في هولندا.


كومونة باريس- خريف العرب!

ثم تأتي الثورة، كومونة باريس، فنرى فيها ما نرى اليوم، ربيعنا العربي الذي انقلب خريفا، بسبب رومانسية الثوار؟ ربما. أولأن النار تحرق نارها؟ ممكن. وربما لأن "من يجني الثورات هم اسفل السفلة" بقول رمز الثورة الفرنسية جورج دانتون، ولأسباب بينها أن الاقتصاد وحده الذي يمتلك الكلمة الأخيرة كما يقول ثيودور لشقيقه في أحد حواراتهما.

لوحة الحرية تقود الشعب للفنان الفرنسي ديلاكروا، أثارت اهتمام العالم، لكن فان جوخ انتقد رومانسيتها ودمويتها وواقعيتها المباشرة 


"الحرية تقود الشعب"، لوحة من انبثاقات ديلاكروا الرومانسية، قدم نموذجا فنيا دمويا للعالم. الحرية تتقدم على جثث القتلى". وفي موضع آخر يقول فان جوخ – حداد ما معناه أن الحاكم يقدم الدم دفاعاعن عرشه أما الحكيم فبديله الثوري أخلاقي ينبغي أن يخلو تماما من الدم أو قيادته.

الفن له منطقه، والثورة أيضا، وهما معا لا يتسقان. الثورة بنت الواقع الآني.

بينما ثورة الفن ابنة الخيال، وهي وحدها التي تتحدى الزمن وتنجح.الخيال هو معيار الثورة الوحيد، لا تنجح إلا بقدرتها على تحويل الخيال لقوة على الأرض.

وبإمكان القارئ أن يستفيض من أفكار عديدة أخرى عن الربيع الأوروبي، وعن الفرق بين الثورة ووهم الثورة. وكيف أن الثورة الفرنسية المتغنى بها قادت فرنسا لاستعمار العالم!

هذه رحلة استثنائية بين الشعر والسيرة، على تخوم السرد، وفي قلب المعرفة، وتاريخ الفن. تبدوعائدة للماضي فيما تتوجه للمستقبل.ولا يغني عنها سوى نصها الذي يدعونا لأكثر من قراءة. نص يفتح به قاسم حداد أفقا جديدا للكتابة في الثقافة العربية.

 نشر هذا النص في جريدة القاهرة - في 2 يونية 2015




Sunday, June 7, 2015

فئران أمي حصة في المكتب الثقافي المصري

فئران أمي حصة لسعود السنعوسي

الهوية المشتتة والذاكرة المفقودة



إبراهيم فرغلي وسعود السنعوسي 



بعد أسابيع قليلة من صدور رواية سعود الأولى ساق البامبو، وبينما كنت اقرأها هتفت لنفسي، يا إلهي! رواية كويتية أخيرا! رددت ذلك لنفسي بينما أراجع ما أعرفه عن الرواية الكويتية التي كتبها رواد الرواية في الكويت اسماعيل فهد، ليلى العثمان، سليمان الشطي، ووليد رجيب وسواهم. كانت الملاحظة العامة لأغلب ما قرأت من أعمال كتاب الكويت أن المجتمع الكويتي، رغم كل ما كتبه كل هؤلاء ظل بالنسبة لي مجتمعا غامضا. رغم أنني قرأت مثلا أعمالا لليلى العثمان في وقت مبكر لكني أدرك الآن أن اهتمامها الأكبر انصب على الوضع الاجتماعي للمرأة في الكويت في مجتمع تقليدي.
لكن ساق البامبو، خصوصا في جزئها الثاني الخاص بسيرة ورحلة خوزيه مندوزا، بطل الرواية في الكويت بعد وصوله إليها تحقيقا لوصية والده، كشفت لي جانبا من المسكوت عنه في حياة الطبقات الكويتية المختلفة، وتأثير المجتمع الاستعراضي الاستهلاكي على القيم، مقارنة بما كانت عليه الأمور في الماضي. بالإضافة قطعا لكونها رواية حاولت بجدية تقديم نقد ذاتي  للمجتمع من خلال أحد ابنائه، منبها لصورة الكويتي لدى الآخر، ومنتقدا الشائع من تعامل الكويتي مع هذا الآخر خصوصا في داخل الكويت.

في نهاية المقال الذي كتبته عن الرواية، طالبت القراء بأن يتذكروا اسم سعود السنعوسي جيدا لأنه سيكون، وقريبا جدًا، فخرا للكويت. ولحسن الحظ لم تكن نبوءتي مجرد أمل بقدر ما كانت يقينا سرعان ما تحقق بعد شهور قليلة جدا، حين وصلت رواية ساق البامبو لشريحة واسعة من القراء العرب وأثرت فيهم بسبب الطابع شديد الإنسانية للنص، من جهة، ولقدرة سعود على التوغل في مجتمع آخر هو المجتمع الفلبيني، في نص حساس، ملهم. (ولهذا فكل نجاح يحرزه سعود أعتبره كأنه نجاح يخصني شخصيا).
وحين أعطاني سعود مخطوط روايته الجديدة فئران أمي حصة انتبهت إلى أنه يواصل مشروعا نقديا للمجتمع الكويتي، لكنه في الوقت نفسه يطور أدواته بشكل لافت من خلال اعتماد نص مركب يمتد بين زمنين أولهما زمن واقعي يفترض أنه يحدث الآن، لكن هذه الآن سرعان ما تتجلى للقارئ بكونها نبوءة أو محاولة متخيلة لمستقبل قريب هو تقريبا العام 2020، وتتمحور وقائع هذا الآن في يوم واحد تقريبا، أما زمن الرواية الثاني فيتجلى من خلال نص روائي، بعنوان "إرث النار" الثاني فيتضمن زمنا ماضيا يتراوح بين منتصف الثمانينات تقريبا وحتى الغزو وصولا للعام 2017.
في النص الذي يسرد وقائع اليوم على مدار الساعة، حيث نرى أهوالا وأحداث عنف بالغة أطرافها معسكرين يتجلى لنا أنهم طائفتي السنة والشيعة المتطرفين الذين أغرقوا البلد فيما يبدو حربا أهلية.

 بينما يبدو الراوي وفريقه المكون من أصدقاء الطفولة فهد وقاسم وابن خاله ضاري ومعهم أيوب، وهم يتبنون فريقا يشعر بخطورة التحزب لفئات المجتمع ويسمون أنفسهم عيال فؤادة، الذين يولون الوطنية اولوية تسبق كل انتماء طائفي أو طبقي. ويؤمنون بأن الوحدة في التنوع، وبقيم التسامح والاختلاف. لكنهم سرعان ما يصبحوا هدفا لنيران الفريقين المتناحرين، الذين يتفقان، رغم تنافرهما،  للمرة الأولى في نقد عيال فؤادة وسبهم واتهامهم بالإلحاد.

يقدم الراوي الطفل، كتكوت، عبر صوته في رواية الراوي، معادلا لصوت الهوية الكويتية الوطنية. فكتكوت صبي لا يمل من الأسئلة وأغلبها أسئلة ذكية، غالبًا ما توقع الكبار في أزمة، بل وتحرجهم وتكشف تمسكهم بالموروث حتى لو لم يكن عقلانيا بسبب التقليد. ورغم أنه يصف نفسه بالجاهل، جريا على عادة أهل الكويت في تسمية الأطفال، وعادة ما يصف نفسه بأنه أقل معرفة من صاحبيه بكثير من الأمور، لكننا نشعر في الوقت نفسه أن براءته هذه هي المعرفة الحقيقية، وهو حين يدرك ما يعرفون يتمنى أن يظل جاهلا، بريئا، لا تلوثه معرفة الضغائن والتلاسن والاتهامات المتبادلة بين فريقين، يعيشون على أرض واحدة ويتكلمون بلسان واحد، وتجري في عروقهم جميعا نفس الدماء، لكنهم يخترعون صناديق هوية ضيقة وصغيرة يضخمونها بأوهام تورثها الأجيال من جيل لآخر.
وهو يعاني من حيرة شديدة من أمره حين بدأ يشعر بأن ثمة تفريقا يضعه الكبار بينه وبين صديقيه صادق وفهد، ويحاول أن يصل بشكل غير مباشر إلى المعسكر الذي يفترض أنه ينتمي إليه عبر سؤال يوجهه لأهله وعائلة صديقه وبينهم الجدة حصة التي يسميها أمي حصة.  وسؤاله البسيط هو أين تقع حديقة الحيوان؟
النص مهندس بحيث تبدو ذاكرة الكويت أكثر وقت احتضنت فيه هويتها ممثلا في كتكوت خلال فترة الغزو، سافر أهله وبقي في حماية أمي حصة، تحميه من مخاوفه.
وهذا الجزء من النص الروائي يأخذ عنوان الفأر الثاني لظى، بما يوحي به من كون أحداث الغزو قد اشتعلت فيها ظاهرة الاصطفاف، بأكثر من مدلول، لما صاحبها من خذلان بعض القيادات العربية للشعب الكويتي في محنته، وتأثير ذلك على وضع جالياتها في الكويت من جهة، وما تسبب فيه من أزمة ثقة للشعب الكويتي من جهة أخرى، لكنها كانت اللظى.
ثم الجمر وهي سنوات ما بعد الغزو، وأخيرا الرماد وهو قسم مكون من فصلين.
طبعا سنلاحظ أن هناك اختفاء لبعض الفصول في الرواية، وهي ثلاثة فصول من القسم الأول : شرر، الأول والثاني والسادس، ثم فصل آخر من القسم الثاني، والتفسير بالتأكيد لاحقا نفهمه من إصرار الناشر على حذف أربعة فصول بحيث تمر الرواية من الرقابة. تأكيدا ربما على أن هناك ما يقال أكثر وأكثر في تفاصيل التناحر والشقاق، وأن اللبيب بالإشارة يفهم في النهاية.

أما الملاحظة الثانية فهي استخدام الراوي لضمير المتكلم في الأقسام الأول والثالث والرابع لرواية "إرث النار"، التي تراوحت بين الضمير الفردي أنا، أو الجمعي نحن، بينما القسم الثاني لظى، والخاص بفترة الغزو فقد استخدم فيه ضمير المخاطب أنت أو أنتم. كأن فترة الغزو بكل مآسيها قد صارت بعيدة، أو لأنه اراد أن يحاكم فيه نفسه ومجتمعه مخاطبا إياهم لوثوقهم في الأوهام والاصطفاف خلف من ظنوا أنه حامي المنطقة فإذا به على العكس تماما. وهي عموما ملاحظة تحتاج لمزيد من التأمل والتأويل.

أعتقد أن هناك اختلاف واضح بين تقنيات السرد في النصين المتداخلين، فبينما تطغى حالة من المشهدية النسبية، ودقة وصف الأماكن، والتفاصيل، في فصول رواية إرث النار، فإن الأجزاء الخاصة بالرصد الآني لأجزاء الرواية المعنونة بـ"يحدث الآن" في أغلبها، رغم أنها وصفية، إلا أنها تخلو نسبيا من الوصف الدقيق للأماكن. ربما يعود ذلك إلى حالة التوتر التي تسود الأجواء، حيث تطغى روائح كريهة من نهر مياه راكدة تفصل بين حي السرة وحي الجابرية، والنيران الملتهبة والأدخنة والتفجيرات، وطيور تباع الجيف، وهي أجواء مشوشة تؤثر على الجميع بينهم الراوي بطبيعة الحال.

الذاكرة الكويتية التي يجتمع عليها كل الكويتيين تمثلت في عناصر عدة بينها مثلا أغنيات عبد الكريم عبد القادر، والتذكير بالمناسبات والبطولات الرياضية والشخصيات البارزة في كرة القدم مثلا في الثمانينات مثل مؤيد الحداد، وتراث الحكايات عند أمي حصة، والتقاليد وعادات الأطفال خلال الطفولة، وقصائد خليفة الوقيان، ومسلسلات الدراما في العصر الذهبي للدراما الكويتية، وعلاقة البشر بالنخل والطير. وبعض ما تبدأ به الفصول من شذرات شعرية لعلي السبتي وسعاد الصباح وغير ذلك.
يلفت الانتباه في النص  أيضا استخدام كلمة إشاعات، فهي  كلمة لها دلالة قوية جدا، لأن العم صالح أبو فهد استخدمها في بداية الغزو لأنه لم يكن قادرا على أن يصدق أن ما صدق فيه عن الديكتاتور العراقي بوصفه حامي الجبهة الشرقية، وأسد العرب، قد أصبح كذبة، وإشاعات هي مدلول موازي لفكرة (العيش بالوهم) والتي تنسحب لاحقا على تكذيب احتمالات تطور الاصطفاف الطائفي في المجتمع إلى حقيقة رغم الشواهد التي تتعاقب يوما بعد آخر من دون أن يبذل أحدا جهدا لدرئها.

وسنلاحظ أن العم صالح الذي كان يصرخ إبان الغزو كلما سمع عن تطور جديد يشي ببدء دخول قوات صدام إلى الكويت وكل تطور لاحق بأنها مجرد إشاعات، كان ابنه فهد يكررها لاحقا في ختام رواية إرث النار التي تنتهي بخبر تفجير لأحد المجمعات التجارية الكبيرة في الكويت. بعد نحو 27 عاما من تكرار أبيه لنفس الكلمة.

الفكرة التي يتبناها هذا النص في الحقيقة تعبر عن اهتمام الرواية الكويتية بأزمة الهوية خلال السنوات الأخيرة، مع تقديم نوع من النقد الذاتي للمجتمع، وهو ما تجلى في عدة أعمال من بينها مثلا العنقاء والخل الوفي وطيور التاجي لإسماعيل فهد اسماعيل، ورواية لأني أسود لسعداء الدعاس، ورواية الصهد لناصر الظفيري، ورواية سلالم النهار لفوزية الشويش، ورواية لا تقصص رؤياك لعبد الوهاب الحمادي. وربما غيرها مما لم تتا فرصة الاطلاع عليه.
وهو دليل على أن هاجس الهوية أصبح هاجسا في المجتمع الذي يعبر عنه هؤلاء الكتاب.
بالرغم من أن رواية إرث النار تبدو رواية سيرة ذاتية لكنها في الوقت نفسه رواية رمزية بامتياز، تؤسس لمفهوم الذاكرة الكويتية عبر عشرات التفاصيل التي تمر عبورا، بينما هي في الحقيقة تبدو كقطع موازييك صغيرة؛ يحفرها سعود بدقة وتأن لكنها معا تصنع قطعة مهمة من ذاكرة المكان. مثل قول الجدة حصة أنها لا تعرف تاريخ ميلادها، في إشارة إلى جانب من تراث المكان الذي كان يؤرخ لتفاصيل حياته بالأحداث الكبرى مثل عام غرق السفن الشهير مثلا، وبالإشارة إلى الحياة في الماضي قبل النفط، حيث كان الشائع لدى الأسر النوم في أعلى أسطح البيوت، وعلاقة هذا التراث أيضا بتراث آخر له علاقة بالكيفية التي يحدد بها ذلك الجيل حركة فصول السنة، وعلاقته أيضا بالأساطير عن نجم سهيل، مثلا، أو التراث الخاص بالجن "سكنهم مساكنهم". بالإضافة إلى الأسماء التي كانت الجدة حصة تطلقها على أبنائها وكنتها ومدلولاتها: تضحك علي يا يهودي!، الست الناظرة، شبّاب النار، وغيرها من التفاصيل التي تمتد على طول نص إرث النار.
أيضا نجد رمزية النخلات الثلاث الموجودة في حوش منزل أمي حصة، بنات كيفان كما اسمتهن، سعمرانة وبرحية وإخلاص، فقد أحضرها أبو صالح، زوج حصة من القصيم والأهواز والبصرة، لكنها عاشت معا، ونمت في مكانها الجديد بروح جعلت منها شقيقات ثلاث بنات الكويت وبنات أمي حصة طبعا، شاهدات على الخير الذي جعل كل منها تنمو وتزدهر، وعلى الجفاف الذي أصابها بعد الشقاق والفتن الذي أصاب أهل المجتمع فأدى إلى إهمالها.
أمي حصة هي نفسها رمز للهوية ومعادل جوهر تراث الكويت ووعيها الثقافي، ذاكرة تاريخ المجتمع، التي تؤكد أن اي مجتمع بلا ذاكرة لا يمكن أن يكون له مستقبل، أو هوية. فهي حافظة التراث، (حتى غرفتها بما تحتويه تمثل اشياء لا تشبه ما اعتاده الجيل الجديد، الصابون العتيق والسرير النحاسي، قطع سجاد عتيق، الخ) وحاملة القيم الأصيلة التي انبنى عليها المجتمع الكويتي وتطور ونهض، وهي ذاكرة المجتمع أيضا، المجتمع المتماسك الذي مكن دولة صغيرة من البقاء وتكوين خصوصيتها عبر إصرارها كمجتمع قابل لاحتضان الجاليات العربية وإعلاء شأن القومية العربية كواحد من سمات أساسية، تتجلى في ما ينثره كتكوت عن هذا المزيج المتنوع من القوميات المختلفة التي عاشت في الكويت من دون إحساس بالتمييز. والذاكرة والجدار الذي يتكئ عليها الجميع والذين أحسوا جميعا بغصة لا نهاية لها برحيلها.
صالح وعباس لعلهما يمثلان رمزان للشرر المتبادل الذي بدأ مع الحرب الإيرانية العراقية، وكل منهما يجسد مرايا للآخر، وفي تماثلهما حول قناعاتهما في وهم الهوية الطائفية يظنان أنهما مختلفان بينما هما في الحقيقة العنصران اللذان يجسدان بأفكارهما معاول هدم المجتمع، عبر نفيهما التام لفكرة الآخر والتنوع.
 وكذلك فوزية عمة فهد، والتي كانت تكبره هي وكتكوت بسنوات قليلة، والتي وقع الأخير في غرامها، يمكن أن تبدو كرمز مزدوج لنصف مجتمع يتم تعطيله تحت شعارات اجتماعية تبتغي كتم صوتها وتقييد حريتها، وعزلها، كما قد تبدو في الآن نفسه رمزا لمجتمع يقيد طاقته الفتية فيمنع المعرفة والفن ويحرم الجمال، لأنها كانت محرومة من التعليم ومن الخروج وحتى من إظهار زينتها أو جمالها.. فيحول هذه الطاقة التي كان من الممكن أن تبني إلى أفراد معزولين فاقدي البصر والرغبة في الحياة والتكيف مع الواقع.
أما الفئران فهي ترمز أيضا إلى فكرة الطاعون أو الوباء الذي يمكن أن تتسبب في نقله لمجتمع تمثله بيضات مكسورة لا تجد من يحميها بعد أن فقدت راعيها ( الذاكرة والتراث ومشاعر الوطنية والمعرفة).
فكرة الرواية فكرة لا تخص الكويت فقط كما قد يتصور البعض،  في الحقيقة، بل تخص مجتمعات عربية عدة، وربما غربية أيضا في ظل ما يشهده العالم اليوم من جنون طائفي حرفيا نيرانه تلتهب حولنا في كل مكان(تابعوا احد المشاهد الدموية التي وصفتها الرواية ممثلة في خليط من الدم والطين والأعضاء البشرية، بما حدث مؤخرا وقريبا جدا منا في القطيف مثلا) ما يضفي أهمية كبيرة على هذا النص ورسالة الكاتب سعود السنعوسي، الذي لا يزال، في تقديري، يحافظ على أهم سماته الأدبية وهي الصدق الفني والإخلاص، والولع بالتفاصيل والدقة.

لكن الأهم أنها رواية تؤسس لذاكرة مجتمع، تأكيدا على أن المستقبل لن يتحقق إلا بامتلاك ذاكرة الماضي، وهي رسالة قوية للمجتمع الكويتي ولكل المجتمعات العربية، التي تتماهى مع خطابات وسلوكيات الفتن والتفريق بين أبناء المجتمع الواحد تحت دعاوي وشعارات يذكيها الجهل.

 سعود السنعوسي مرة أخرى لم يخذلني أنا وقراءه جميعا، فكلما سؤلت عما إذا كان سيواصل بعد ساق البامبو كنت أؤكد لمن يسألني أنه سيواصل بنفس القوة، لأنه كاتب موهوب ويعرف جيدا ما يريد. كما أنه لم يخذل بلاده بهذه الرسالة القوية المباشرة، الفنية أيضا، يصل ماضيها بمستقبلها، وهو يؤكد تمكنه وموهبته بهذا العمل، الذي ربما ما كان ينقصه إلا أن نسمع تعليق أمي حصة، عنه ولعلها إذا أخبرها سعود بمضمونه لسارعت تبتسم من دون أن تولي اهتماما بطقم أسنانها  كاشفة عن موضع أسنانها المفقودة وهي تربت على كتفه وتقول بفخر: عفية عليك يا وليدي!