Wednesday, May 2, 2018

ترجمة الأدب العربي بين الاستشراق القديم والجديد

ترجمة الأدب العربي
 بين الاستشراق القديم والجديد

الصورة من موقع Future Trans



نشرت قبل عدة سنوات، في عام 2012، مقالا ترجم للألمانية أولا، ونشر في صحيفة NZZ السويسرية ( Neue Zürcher Zeitung)، تحت عنوان "لماذا يقرأ الغرب الكتب العربية الخاطئة؟" ثم قمت بنشر المقال باللغة العربية في جريدة الحياة في العام 2013، ثم قام المترجم روبين موجر بترجمته للإنجليزية ونشر في صحيفة The Nation في أبو ظبي، وأظن أنه كان مثار نقاشات وتعليقات طويلة، بين أطراف عديدة من المهتمين بالأدب العربي. 
ومؤخرا نشر المترجم جوناثان رايت بالإنجليزية على صفحته تعليقا موسعا على المقال، (طبعا لا بد هنا من الإشارة إلى أنني حين كتبت المقال واقترحت بعض الأسماء للترجمة مثل أعمال يوسف رخا، أو نائل الطوخي أو سعد مكاوي) لم تكن قد ترجمت آنذاك، وتعليق جوناثان رايت كتب بعد ترجمة هذه الأعمال وغيرها مما يستشهد به جوناثان في تعقيبه، وبالمناسبة آنذاك ايضا أشرت إلى أعمال غالب هلسا، وأعمال معاصرة عديدة وأسماء مثل علي بدر ومها حسن وسواهما، وأظن أن بعض أعمالهما ترجمت بالفعل.  
وفي كل الأحوال فكل ترجمة لعمل جيد هي مما يهتم به مقالي الأول، ويجب أن نشكرعليه المترجمين الذين قاموا به، ومع ذلك فهذا كله يظل استثناء في مناخ عام لا يزال يبدو لي وإن حمل بعض الأمل بعد مساهمة الجوائز الأدبية في ترجمة أعمال عربية بعضها وصل للبوكر الإنجليزية مثل رواية فرانكشتاين في بغداد، لأحمد سعداوي، وغيرها. لكن آمالنا في الأمل العربي ووضعه في خارطة الأدب العالمي ستظل كبيرة وطموحة وتبتغي أن يعبر عن هذا الأدب يوما مثل كافة الآداب (التي لا تنتمي للثقافة المركزية الأوربية) وتحظى بالمقروئية والتقدير الأدبي. 

وفيما يلي أنشر تباعا، المقال الأول الذي كتبته قبل سنوات طويلة، ثم تعقيب جوناثان رايت المتأخر عليه، والذي قام بترجمته الصديق أمير الغندور، وتعقيب أمير ثم تعقيبي على المقال، ثم إشارة من الكاتب سنان أنطون عبارة عن تعليق على الموضوع لأنني التقيته في ندوة في الكويت في تكوين وسألته عن رأيه في القضية المثارة. 

بالمناسبة : جانب من هذه الحوارات نشر في موقع قل الالكتروني بالإنجليزية 

ملاحظة أخيرة: تجدر الإشارة إلى أن هناك جهود مهمة تسهم في الاهتمام بترجمة الادب العربي من هيئات مستقلة ومترجمين مستقلين، وجهات تقوم بدور مهم مثل الجامعة الأمريكية في القاهرة، ومجلة بانيبال التي تصدر بالإنجليزية في لندن، والجائزة المهمة التي أنشأتها سيف غباش- بانيبال للترجمة، وجهد موقع مثل Arablit، وغيرهم من المؤسسات والأفراد، لكن الطريق لا يزال طويلا  


هل هناك أهمية لترجمة الأدب العربي إلى لغات أجنبية حقا؟
إبراهيم فرغلي

أتابع منذ فترة بحكم عملي كصحفي وكاتب ووفقا لاهتماماتي أخبار ما يترجم من الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية في أوربا، خصوصا للغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية. كما أتابع باهتمام أخبار الجوائز العربية التي تحظى باهتمام مؤسسات الترجمة وبينها على وجه الخصوص جائزتي نجيب محفوظ التي يمنحها سنويا قسم النشر بالجامعة الامريكية بالقاهرة، والجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة باسم بوكر العربية.
ولفترة طويلة كنت استقبل تلك الأخبار بحسن نية، وبتقدير الجهات الغربية المهتمة بترجمة ادب ليس له شعبية عالمية، مبتسما في الحالات جميعا ابتسامة مرارة، لكني اليوم، وبعد الكثير من المراقبة والمتابعة وجدتني اسأل نفسي سؤالا ملحاً وهو: هل ثمة أهمية بالفعل لأن يترجم الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية؟ وهل تؤدي مثل تلك الجوائز حقا إلى انتشار الأدب العربي في لغات أخرى؟ وأخشى أن إجابتي على السؤالين هي إجابة بالنفي، بـ "لا" قاطعة وبلا تردد. فمن مجمل ما نراه اليوم مترجما ومحتفى به من الأدب العربي في الغرب، ومن الجائزتين المذكورتين وسواهما أرى أن شيئا لم يتغير، فلا هذه الترجمات نجحت في التعبير عن الإنتاج الأدبي الحقيقي في العالم العربي من جهة، ولا استطاعت أن تحقق أية جماهيرية لهذا الأدب، ولا أتوقع أن يحدث هذا مستقبلا طالما استمرت الطريقة التي تعمل بها آليات الترجمة الموجودة الآن على النحو نفسه. خصوصا وأن المشكلة الكبرى التي تواجه ترجمة الأدب العربي هي غياب مؤسسات عربية تدعم وتروج وتخطط لعملية ترجمة منظمة. ولعله من الضروري هنا أن أذكر نفسي أننا نعيش في مجتمع فُرجة كما يقول جي دوبور  Guy Debor، وأن القيم الرأسمالية الربحية تصوغ القيم في العالم كله غربا وشرقا، وتعمل مؤسسات تسويق الصور الاستهلاكية الجبارة على خلق أسواق تؤدي للربح ايا كان المنتج، وللأسف يبدو لي أن سوق النشر والترجمة، أوربيا وعربيا لم يعد استثناء من هذه القاعدة. لكن ما يهمني هنا ككاتب عربي هو التأكيد على أن الكتاب العربي الذي يتم تصديره خارج حدوده عبر الترجمة، ممثلا للمجتمع العربي الذي يصدر فيه، أصبح ضحية مزدوجة؛ مرة من الإعلام السطحي التجاري المهتم بالصورة على حساب الجوهر في بلد إنتاجه العربي، ثم هو، مرة أخرى ضحية أيضا  لـ "الصورة" التي تحاول المركزية الأوربية أن تقدمها للعالم عنه. فمن الجلي اليوم أن هناك تركيزا من الناشرين على "موضوعات" كتابة وليس على "أساليب" كتابة، تركز عادة على موضوعات مثل الفساد ودور المرأة العربية في مجتمعها والعلاقات الجنسية خصوصا في المجتمعات المغلقة في محاولة تبدو كأنها مدفوعة من سوق نشر يقدم للقاريء الغربي صورة تقول بأن هذه المجتمعات قد لا تمتلك كتّابا عالميين، وهذا مفهوم مخلوق بواسطة المركزية الأوربية على أي حال، لكنها تمتلك مجتمعات يمكن للقاريء الغربي أن يتسلى بالتعرف عليها؛ مجتمعات مغلقة غير مفهومة تنتج الإرهاب والعنف، ويعيش اهلها العديد من مظاهر الفساد والاضطهاد وتعاني فيه المرأة من الاضطهاد الجنسي والاجتماعي،  وهذه الكتب تحاول أن تفتح لكم هذا العالم. والحقيقة أن هذه الظاهرة أصبحت مثار تعليق الكثير من الكتاب العرب والمهتمين، واقتطف فيما يلي من مقالة لجابر عصفور الناقد والأكاديمي ورئيس المجلس الأعلى للثقافة المصري ووزيرالثقافة سابقا، في مقال له نشر في صحيفة الحياة متأملا هذه الظاهرة مؤكدا ان ما يحركها ما يسميه بنزعة الاستشراق الجديدة ويقول:"ترعى نزعة عالمية الاستشراق الجديد مجموعة من الأعمال الأدبية والفنية التي ينتجها العالم الثالث بوجه عام، والعالم العربى بوجه خاص، وهي أعمال تتوافر فيها صفات التشهير وفضح أشكال التخلف البشع في كل مكان، والفساد المستشري على كل مستوى، بهدف التسويق لهذه الأعمال بعد ترجمتها وتوزيعها، بعد الترويج الإعلامي لها على نحو غير مسبوق. ومن هنا نشأت ظاهرة الروايات الرائجة المحدودة القيمة الإبداعية الفضائحية التي لا تترك فساداً أو قمعاً أو شذوذاً أو انحرافاً إلا وتبديه مبرزة صوراً بشعة في تخلفها"، ويرى عصفور أن هذا الأمر ليس صدفة مشيرا إلى أن "ارتباط نزعة الاستشراق بأيديولوجيا هيمنة موازية، لحقها صعود أيديولوجيا العولمة، وتهدف إلى تحقيق أمرين، أولهما إبقاء صورة الشرق المتدني الغريب والعجيب والمتخلف والمقموع في آن في أذهان الغربيين، تبريراً لضرورة الهيمنة الاستعمارية على هذا الشرق ، وثانيها إيهام أبناء هذا الشرق العجيب بتخلفهم الأبدي الذي هو مصدر الإعجاب بهم، والفتنة بعوالمهم، وذلك بما يبقي الشرق المتخلف على تخلفه، مصدراً لثروات منهوبة، ومتحفاً لعجائب البشر وغرائب عوائدهم". المستعرب الصديق شتيفان فايدنر كان واحدا ممن احتفوا ببعض هذه الكتب محدودة القيمة وبينها مثلا كتاب "تاكسي" لخالد الخميسي، قائلا:"سيتساءل بعض النقاد في الغرب: "أليست القيمة الأدبية لهذا الكتاب محدودة؟". لكن علينا حقا أن نتخلى عن الفهم الغربي التقليدي للأدب، من أجل فهم ما تمكن الكاتب من تحقيقه هنا. علينا أن نعترف أن الخميسي قد حل بضربة حاسمة عقدة الأدب العربي المعاصر والتي تكمن في أن المشاكل التي يفترضها أن يتناولها الكُتّاب في اعمالهم كبيرة جدا بحيث تصعب معالجتها أدبيا". والحقيقة أنني بشكل شخصي لا أفهم لماذا يجب أن يتحول النص الأدبي إلى وثيقة سوسيولوجية متخليا عن قيمته الأدبية؟ ولماذا يروج لحكايات من هذا النوع على أنها ادبا من الأساس؟ والحقيقة أنه في مقابل هذه الفكرة التجارية تاكسي أنجزت الباحثة اللبنانية دلال البزري كتابا مهما صدر عن ميريت، بعنوان "السياسة أقوى من الحداثة" وهذا بحق هو الكتاب الذي يمكن أن يقدم لنا توضيحا رائعا للتغيرات التي مرت بها مصر اجتماعيا وسياسيا عبر شهادات هي اجابات على اسئلة لعدد من الاشخاص من أجيال مختلفة وطبقات مختلفة اكبرهم عمره 90 عاما واصغرهم في العشرين . واعتبرت المؤلفة أن ما قدمته هو بحث سوسيولوجي للكيفية التي يتم بها استقبال عناصر الحداثة والتعامل معها سلبا أو إيجابا في مقابل المفاهيم التقليدية. فهذا ما يجب أن يبحث عنه القاريء الغربي ليفهم العرب إن شاء.  وما يجعلني اشعر بالغبن تجاه قيمة الأدب العربي في الغرب سأضرب له مثلا صغيرا يخص الكتب التي تنتج في آسيا، وتترجم ويحتفى بها، ليس فقط لموضوعاتها بل واساسا لأساليب كتابها. أذكر عندما زرت الفلبين قبل عامين سألت عن الكتاب الشباب فعرفوني إلى رواية كاتب شاب حازت جائزة البوكر الآسيوية وهي Illustrado للكاتب Miguel Syjuco، وهالني المستوى الرفيع للرواية وتركيبها والجهد المبذول فيها لغة واسلوبا ومهارة. فهذا هو الدور الحقيقي للجوائز في ظني، وليس هذا هو وضع الأدب العربي للأسف.
ومن أجل الأمانة يهمني أن أؤكد أن الكثير من الجهات ودور النشر الخاصة والصغيرة، أحيانا، في اوربا عموما، تقوم بدور يفوق طاقتها في التعريف بأهم الروايات العربية، بمعاونة فرسان من المترجمين النبلاء،ولكن لا تبدو أن مهمتهم سهلة. والمشكلة أن بعض الكتب التي تترجم للكتاب العرب الكبار مثل الغيطاني والبساطي وعبدالرحمن منيف وغيرهم، على سبيل المثال، لا يحتفى بها بالقدر التي يحتفى به بكتب متوسطة أخرى، واضرب مثلا واحدا آخر يحضرني الآن وهو مثلا الاحتفاء المبالغ فيه برواية الكاتبة السعودية رجاء الصانع "بنات الرياض"، وهو كتاب محدود فنيا، ولا يمكن لشخص معتاد على قراءة الأدب الالتفات إليه، على الرغم من أن هناك كتابا آخر لروائية سعودية اسمها صبا الحرز مثلا نشرت رواية مهمة عن مجتمع الأقلية الشيعة في السعودية، وعلاقات الغرام بين الفتيات هناك، في أسلوب فني رفيع، كاشفة عن مهارات سردية كبيرة وصدرت بعنوان "الآخرون" ولم يلتفت إليها أحد. لذلك اظن أن جانبا مهما مفقودا في عملية الترجمة من العربية للغات الأجنبية وهو الجانب الأدبي نفسه، أي وضع القيمة الأدبية كمعيار أولي ووحيد، لأن العملية القائمة الآن تقوم على عامل السياسة بمعنى محاولة التعرف على ثقافة تصدر مشكلات تخلفها للغرب. وإقحام الأدب هنا قد تكون له بعض الفوائد لكنها في النهاية قد تسيء للأدب أكثر مما تنفع. والدليل على ذلك أن الكتاب أصحاب الأساليب الكتابية الرفيعة، باستثناء إدوار الخراط ربما، تكاد تكون ترجمتهم معدومة، ومن بينهم من جيل الكتاب المعروف في مصر بجيل التسعينات مثلا مصطفى ذكري وهو سيناريست وكاتب رفيع الطراز يرى السياسة والاجتماع في الأدب تلويث للنص الأدبي، أسلافه بروست وبورخس وكافكا، نصوصه مركبة، ذات لغة خاصة، وثقافته رفيعة، وله عدة نصوص مهمة بينها "مراة 202" الذي أعده أحد أهم تجارب الكتابة الأسلوبية العربية مثلا. كما أن هناك كاتبا استثنائيا هو يوسف رخا من الجيل الجديد أيضا أصدر العام الماضي رواية مهمة بعنوان "كتاب الطغرى" تعد، في اعتقادي، من الروايات الطليعية والتجريبية الهامة، ليس لأن لها لغة خاصة جدا وغير مسبوقة، بل وكنص يتحيز لمفهوم الرواية بصفتها الجنس الأدبي المشغول بإنتاج الفكر، وبوصفها وعاء الفلسفة الأدبية، وليس لكونها مرآه للواقع.تسأل معنى الهوية في مجتمع يمور بالتناقض. وعن أسباب قبول البعض التناقضات التي يحيونها كأنهم يتكيفون مع القهر او يستبدلوا ذلك بالانسياق الكامل لسلطة دينية كأنهم جماعات من الزومبي؟ بالإضافة إلى صوتين بارزين في تجديدهما في النص الروائي الجديد غير التجاري والذي يعتمد على مفاهيم ما بعد الحداثة في الكتابة الأدبية وهما نائل الطوخي "ليلى أنطون"، وطارق إمام "هدوء القتلة".

 وحتى الأدباء أصحاب التجارب الاستثنائية الراحلين من جيل محفوظ مثل يحي حقي صاحب الأسلوب الرفيع واللغة الخاصة لم يترجم من أعماله ربما سوى "قنديل أم هاشم" رغم ان له مجموعات قصصية في غاية الأهمية، أو رواية سعد مكاوي "السائرون نياما" وهي إحدى تحف النثر العربي المعاصر لم يترجما على حد علمي، وكذلك سنجد أن كاتبا مثل اللبناني ربيع جابر وهو أحد الكتاب المخلصين للرواية وأغزر الكتاب العرب إنتاجا من جيله مع العراقي علي بدر، لا يحظيان بالحفاوة التي تحظى بها نصوص اقل مستوى كثيرا مما ينتجه كل منهما. 

هناك ايضا كاتبا مصريا مهما هو محمد المخزنجي وهو قصاص في المقام الأول، موهوب بشكل كبير، ويعد امتداد عملاق القصة المصرية يوسف إدريس، لم يترجم بالشكل الكافي، وأظن أن إدريس نفسه لم يلق ما يستحقه من اهتمام.   والقائمة طويلة من الكتاب المهمين من حيث قيمة نصوصهم ولم تلتفت لاعمالهم الترجمة اذكر على سبيل المثال منهم، الكاتب المصري الراحل صبري موسى صاحب النص الفاتن "فساد الأمكنة"، أو الكاتب المصري فتحي غانم وله عدد من الروايات المهمة بينها مثلا رواية "الافيال"، ومن الكويت إسماعيل فهد إسماعيل، بل حتى الكتاب المهمين الرواد في الجزائر مثل الطاهر وطار ومحمد زفزاف أكاد لا اسمع عن شيء ترجمة لأي من كتبهما، وإن لم اكن متأكدا من ترجمة اي منهما للألمانية وهما رائدان مهمان في السرد العربي المعاصر، والفلسطيني غالب هلسا، كما أن هناك اصواتا شابة مجيدة ولها تجارب مهمة لم اسمع عن نصوص قد ترجمت لهم إلى أي لغة اجنبية مثل السورية مها حسن ولها رواية جيدة جدا اسمها "حبل سري" عن معاناة الأكراد السوريين في هويتهم، أو علي المقري من اليمن، وحسين العبري من سلطنة عمان وله رواية جميلة بعنوان "الوخز"، تتناول عالمي المرض النفسي والقهر السياسي في سلطنة عمان بمهارة سردية. وغير هؤلاء الكثير من الأسماء.  عندما زرت المانيا كراو مدينة شتوتجارت في العام 2004 لاحظت أن معرفة الالمان بالعرب غائمة، يكادون لا يفرقون حتى بين مدن منغلقة وذات ثقافة صحراوية مثل السعودية وبين بلد صاحب حضارة قديمة مثل مصر أو مدينة شبه اوربية متحررة تماما مثل بيروت، ويتعاملون مع العرب ذهنيا ككتلة جغرافية متماثلة تمتليء بالتخلف والعنف والرجعية ..الى آخر الكلاشيهات الموروثة من الكتابات الاستشراقية الكلاسيكية. وبمثل هذه التصورات العامة والمشوشة، قد تكون مهمة إثبات أن هذا العالم يمتلك أدبا قيما وكتابا لا يقلون عن نظرائهم في العالم، وان لديهم مدارس واساليب ادبية مختلفة، مسألة ليست من السهولة بمكان. واليوم لا أظن أن الفكرة التي يروج لها شتيفان فايدنر بالاحتفاء بالكتب متوسطة القيمة لأجل التعرف على العالم العربي سيحقق الهدف، بل العكس صحيح، وهو ما يحدث الآن مع الثقافة العربية التي احتفى بها في فرانكفورت في العام 2004 ولكن بلا أثر حقيقي في تحفيز الإقبال على قراءة هذا الأدب كما هو شأن أدب آسيا وامريكا اللاتينية، لاختلاف المنطلق الذي تم منه تناول تلك الأعمال الأدبية.





رداً على سؤال إبراهيم فرغلي:
 "هل من الضروري ترجمة الأدب العربي؟"

بقلم: جوناثان رايت

ترجمة: أمير الغندور


ما هي بالضبط شكوى إبراهيم فرغلي ضد أولئك الذين يختارون ويترجمون وينشرون ويشجعون الأعمال الأدبية العربية بلغات أجنبية وأغلبها أوروبية؟ وما هي الحلول التي يقترحها كبدائل للنظام الحالي المعيب؟
لنأخذ الشكاوى واحداً تلو الآخر:

"فلا هذه الترجمات نجحت في التعبير عن (الطبيعة الحقيقية) للإنتاج الأدبي في العالم العربي..."

لست متأكداً من أين أبدأ مع هذه الشكوى، حيث الذاتية متغلغلة بعمق في هذه العبارة. فهناك إحساس ينتمي للرومانسية الألمانية في القرن التاسع عشر، فيما يتعلق بتعبير "الطبيعة الحقيقية" هنا، وأنا أود أن أشكك في أن الأدب العربي له "طبيعة حقيقية". فهو مثل كل الإبداعات البشرية الأخرى، يتنوع بشكل واسع، ومن الغرور أن نزعم أن أي عمل واحد هو "أكثر حقيقية" وتعبيرا عن جوهر معين من أي عمل آخر. لكن إذا كان يقصد أن الأعمال المترجمة لا تعكس النطاق الكامل للأدب باللغة العربية، فمن المحتمل أنه على حق. ولكن هذا ينطبق على أي لغة. فالحقيقة المحزنة هي أن هناك سوقاً محدودة للغاية للأدب الأجنبي المترجم في العالم الناطق باللغة الإنجليزية ، وهناك الكثير من المنافسة. فالقراء يفضلون الأعمال ذات الشخصيات القوية والسرديات القوية. ولا يبدو أن نخبة الكتاب المفضلين في الساحة الأدبية العربية ماهرون في تقديم ذلك لهم.

"ولا استطاعت (هذه الترجمات) أن تحقق أية جماهيرية لهذا الأدب".
هذه الشكوى خاطئة بشكل بين. بالتأكيد أرقام المبيعات متواضعة، لكن الناشرين لا ينشرون الكتب ليراكموها في المخازن. لكن المجادلة بأن انخفاض المبيعات هو أحد أسباب التوقف عن المحاولة هو قمة الانهزامية. فنحن قد نحظى بعروض لهذه الكتب في وسائل الإعلام الرئيسية من وقت لآخر، وهي أمر كان نادر الحدوث قبل عشرين عاما مضت.

"ولعله من الضروري هنا أن أذكر نفسي .. أن القيم الرأسمالية الربحية تصوغ القيم في العالم كله غربا وشرقا... وللأسف يبدو لي أن سوق النشر والترجمة، أوربيا وعربيا لم يعد استثناء من هذه القاعدة."

حسنا ، نعم ، هذا صحيح إلى حد ما. لكن ألم يكن الحال على هذا الشكل دومًا، باستثناء عندما تسيطر الدولة بشكل كامل على شركات النشر، كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال؟ لكن إلى جانب ذلك، هناك تمويل من منظمات غير حكومية وشبه الحكومية للترجمة الأدبية، وهذا يسهم مساهمة كبيرة في حالة الترجمة العربية-الإنجليزية. قد تجادل فيما يخص الطريقة التي يختار بها مانح التمويل نوعية الأعمال، لكن هذه مسألة مختلفة.

"... تبدو كأنها مدفوعة من سوق نشر يقدم للقارئ الغربي صورة تقول بأن هذه المجتمعات (العربية) ... مجتمعات مغلقة غير مفهومة تنتج الإرهاب والعنف، ويعيش اهلها العديد من مظاهر الفساد والاضطهاد وتعاني فيه المرأة من الاضطهاد الجنسي والاجتماعي..."

هذا اتهام بشع، والدليل عليه ضئيل للغاية. ومن الغريب أنه عندما يتم الضغط لإظهار الدليل على أن الناشرين الغربيين يفضلون مثل هذه الكتب عن عمد، فإن أصحاب هذا الاتهام غالباً دوما ما يستشهدون بكتب مكتوبة أصلاً بالإنجليزية، بواسطة بعض المستبعدين الراغبين في الاستفادة من هذا الشق من السوق. لكني أعجز حقاً عن إيجاد أي كتاب باللغة العربية تم ترجمته إلى اللغة الإنجليزية يتوافق مع وصف فرغلي – وأقصد كتاب تم فيه عن عمد تضخيم هذه الجوانب من المجتمع العربي بهدف زيادة مبيعاته. فإذا كان لدى فرغلي أمثلة جيدة، فدعنا نناقشها. إلى جانب ذلك، فمن ذا الذي بإمكانه أن ينكر أن العنف والفساد والتعصب والنظام الأبوي هي سمات بارزة في العديد من الدول العربية في هذا العقد؟ ولماذا لا يكتب الكتاب العرب عن مثل هذه الأمور؟ إن رأي مصطفى زكري حين "يرى السياسة والاجتماع في الأدب تلويث للنص الأدبي" هو رأي غريب. فبالطبع هناك مكان ما للأدب ذي الطابع الشخصي التام، لكنه ليس في الأدب العالمي العظيم (هل نجده في الحرب والسلام؟ أو في أنتوني وكليوباترا؟ أم لدى نجيب محفوظ؟) فليس بينهم ما يتفق مع حديث مصطفى زكري عن التلويث. وبالتأكيد سيكون هذا الأدب أقل ثراء بكثير إذا ما إذا ما أضطر لفعل ذلك.

أما نظرية جابر عصفور عن وجود مؤامرة من نزعة الاستشراق الجديد لفرض الهيمنة من خلال صور المجتمع العربي، فهي بالأساس نسخة أشد بارانويا وعصبية من الشكوى المذكورة سابقا. فأنا لا أرى أي دليل عليها. أخبرنا بالأعمال التي تعترض عليها. بل أظن أنه في حالة جابر عصفور، الذي لم أقابله أبداً ولم أقرأ له أبداً، فإن هذه الشكوى قد يكون لها علاقة بحقيقة أن أعماله الخاصة لم تترجم. لماذا هذا الأمر، لا أستطيع أن أحكم.

أما هجوم فرغلي على "تاكسي" لخالد الخميسي، فهذه قصة قديمة، لكن فرغلي يضيف إليها حيلة جديدة حين يفترض خطأ أن "تاكسي" هي محض تقارير اثنوجرافية - "لا أفهم لماذا يجب أن يتحول النص الأدبي إلى وثيقة سوسيولوجية متخليا عن قيمته الأدبية؟"، كما يقول. بطبيعة الحال، "تاكسي" هي رواية، بل وقطعة جميلة من الأدب المصري اليومي، وتحتوي على شخصيات قوية ولغة ثرية وحيوية. لذا أظن أن المنهج الذي يتبناه على ما يبدو كل من إبراهيم فرغلي وجابر عصفور هو منهج متكبر، ونخبوي، وشعاراتي ومضلل. إنهم يعيقون نشر الأدب العربي في جميع أنحاء العالم عن طريق التقليل من شأن الكتاب الذين يجب أن يكونوا متضامنين معهم.

"اظن أن جانبا مهما مفقودا في عملية الترجمة من العربية للغات الأجنبية وهو الجانب الأدبي نفسه، أي وضع القيمة الأدبية كمعيار أولي ووحيد، لأن العملية القائمة الآن تقوم على عامل السياسة".

هذا الموقف مثير للضحك بصراحة. من سيفرض مثل هذا المعيار؟ من سيخبر الناشرين أنهم لا يمكنهم نشر مثل هذا الكتاب أو كتابه لأنه ليس "أدبيًا" بما فيه الكفاية؟ أي نوع من الديكتاتورية الأفلاطونية يريد فرغلي فرضها علينا؟ لا، لن نتلقى الأوامر من الآخرين. سننشر ما نحب، ولأي أسباب نراها مناسبة.

بالنسبة لحديث فرغلي عن المؤلفين الذين تنعدم ترجمة أعمالهم وعن المؤلفين الذين تتضخم ترجمة أعمالهم، فلا أريد الخوض في التفاصيل هنا لأنني متردد في مناقشة الأفضلية النسبية للكتاب الأحياء، بشكل علني. لكن هناك بعض سوء الفهم الغريب في حديثه - يوسف رخا، على سبيل المثال، تمت ترجمة أعماله بسرعة كبيرة وحصل كتابه على جائزة بانيبال في العام الماضي. كذلك تمت ترجمة نائل الطوخي. وقد قمت بترجمة "السائرون نياما" لسعد مكاوي، لكن دار الشروق مترددة في نشره، ربما لأنهم لا يعتقدون أنه سيبيع بشكل جيد. وقد أعترض على اعتبارها تحفة فنية، فهي تمتلئ بالصور النمطية الفظيعة والمفككة عن المجتمع المملوكي، كما أن مكاوي يستخدم فيها لغة متضخمة بعض الشيء لمجرد التباهي، على ما يبدو. لكن من العجيب، أنك إن أردت أن تحدد كتابًا يستوفي معايير الدعاية "الاستشراقية الجديدة"، فستجد أن "السائرون نياما" هو مثال جيد على ذلك.

إذن ما الحلول التي يقترحها إبراهيم فرغلي؟ إنه يلمح في البداية إلى أنه ربما ينبغي علينا التخلي عن المشروع تمامًا. وهذا اقتراح عبثي وضار للغاية بعملية الحوار بين الثقافات التي أفترض أنه يؤيدها. أو ربما هو يقصد أنه من الجيد أن تتم ترجمة المؤلفين الذين يفضلهم هو، لكن ليس من الجيد ترجمة المؤلفين الذين لا يوافق عليهم. لكن من هو ليمنح نفسه هذه القوى الحاكمية؟ لكنني أعتقد أن مفتاح حديثه يكمن حقيقة في هذه العبارة: "خصوصا وأن المشكلة الكبرى التي تواجه ترجمة الأدب العربي هي غياب مؤسسات عربية تدعم وتروج وتخطط لعملية ترجمة منظمة". هذه نزعة نخبوية-دولتية عربية عفا عليها الزمن تعاود رفع رأسها القبيح. ذلك إن ما يقترحه فرغلي حقا هو أن عملية الاختيار يجب أن توضع في أيدي البيروقراطيين العرب العاملين في مجال الثقافة، الذين من المؤكد أن لديهم آراء رجعية في اللغة والابتكار. ونحمد لله أن هذا لن يحدث أبدا.

الجزء الثاني من التعليقات قريبا 


No comments:

Post a Comment