Monday, June 8, 2015

أيها الفحم يا سيدي.. جنون عالمنا كما عكسته دفاتر فان جوخ - قاسم حداد



سيرة كتاب
أيها الفحم يا سيدي..

قاسم حداد يعود لزمن فان جوخ كاشفا جنون عالمنا!

إبراهيم فرغلي

فنسنت فان جوخ




رأيت وجه فنسنت، من خلف زجاج النافذة البعيد. لوّح بيده أو هكذا تهيأ لي، بينما وقف قاسم حداد في فناء قصر العزلة الشاسع، شاخصا بنظره، للوجه الشبحي.

ثم رأيت فنسنت، في الساحة نفسها، يبتسم لقاسم الواقف خلف النافذة. كأنهما يتبادلان موقعيهما، كلاهما يتأمل الآخر بامتنان.

قاسم حداد


وجهان ينتمي كل منهما إلى ثقافة تخصه.
 فنان هولندي، مثقف عصامي، وحشي الموهبة، وشاعر بحريني، مجرب، مثقف عصامي دؤوب، يمتلك طاقة فنية وحشية وعذبة في الآن نفسه. التقيا أخيرا. الأول قادم من زمن يمتد إلى ما يزيد عن قرن من الزمان، والآخر ماض إليه.

"يعرف أن كتابا في انتظاره.هناك، في الأعالي، في مكان الضوء الشاحب في هضبة العزلة، في الكوّة الصغيرة، في الغرفة العلوية في بيت عليل تقود الأشباح خطواته إليه".

كان بإمكاني تخيل اللقطة التي افتتح بها قاسم حداد كتابه "أيها الفحم يا سيدي"، والاسترسال في تقمص حال قاسم حداد وهو يحتشد لكتابه المروع هذا. لكني توقفت.

استسلمت لصوت الفنان وتتبعت الخطى؛إلى مدينة الطواحين، في جروت زندرت، حيث ولد فنسنت، شاهدا على طفولته وعذاباته من سوء فهم العائلة، من اتهامات الأب المتدين، القس المغال في التشدد، وقسوة الأم المنحازة للأب، باستثناء الشقيق المدهش.

 "آه ثيودور العظيم، لقد كان وحده حنان العائلة".

أنصت لفنسنت، في أروقة العقل الفنان، الذي يضج بالخيال،
يرى ألوانا لا يراها سواه، فينقلها على لوحات صمدت أمام اختبار الزمن؛ ترينا ما رآه فنسنت في الحقول، وفي وجوه معاصريه، في المشافي، وفي أعماق المناجم المظلمة، وفي السماء.


يا صديقي يا أخي!


 "يا صديقي، يا أخي، يا أنا، تعرف أننا لا نستطيع أن نفعل شيئا لأنفسنا. ولا ينبغي أن نأخذ الآخرين بالوهم. ما من أحد يمكنه فعل شيئ لنا. وحيدون نحن، وحيدون جدا، كلانا وحيد".

أهو نداء قاسم لفنسنت؟ أم نداء الأخير لشقيقه ثيو: صديقه وخدينه وشقيقه وداعمه الأوحد؟ السؤال مفتوح على كل الإجابات، تماما كما هذا الكتاب. المفتوح على الاحتمالات، العصي على التصنيف. يمتح من الشعر لغته، ومن السرد صفته، ومن الخيال أفقه.


 غلاف كتاب أيها الفحم يا سيدي الصادر عن دار مسعى للنشر 


يشبه السيرة، ويتغول في أزقة التاريخ البعيد. وإذ تتعثر فيها خطاك قد يباغتك أن تجد نفسك في واحد من ميادين الحرية التي استعارت من الثورات البعيدة كلمة الربيع، لكنها لم تنتج سوى أكثر من خريف!

نص له صوتان: صوت لفنسنت وآخر لقاسم.

في  حواري مع قاسم حداد،بدا محتشدا بالفضول ليعرف رأيي في الكتاب. قلت له: الكتاب عصي على التصنيف. كتاب معرفة.

قال: "وهذا تماما ما أود اقتراحه على القارئ: الإصغاء لما يقترحه النص. من متعة أو لغة أو معرفة أو أفكار.  في تجربة من هذا النوع ينبغي تفادي تصنيفها مسبقا، بل نمنحها الفرصة لنرى ما الذي تقترحه".

قاسم حداد وإبراهيم فرغلي بعد الحوار 


مالي وفنسنت؟ ماذا يخصنا منه؟ مالي وطواحين هولندا وزهور خشخاش فان جوخ، والحقول ونجوم السماء؟ ردد لي صديق ما افترضه من تساؤلات محتملة قد يلهج بها هذا أو ذاك. قلت ربما يكون  الحق مع من يظن هذا الظن. لكن الملاحظة خدشت صدري، وضميري، لأن بعض الظن إثم.

يا أخي، يا صديقي، أنصت أولا، لتدرك أن هذا النص عولمي، يخص قاسم، وفنسنت معا. وعمال الفحم أو أطيافهم تماما كما يخص سجناء الزنازين الضيقة المعتمة الخانقة،
المماثلة لحفر المناجم في باطن الأرض. يحتفي بالشعر، ويتقصد الجيم والضاد.

قلت السؤال يمكن أن يصاغ في كلمتين "لماذا فان جوخ؟". فأجاب منفعلا بالحميمية 

والحماس: 


"أعجبت كثيرا بفان جوخ منذ الثمانينات، ولكن اهتمامي أو اعجابي به في الحقيقة يعود إلى ما قبل ذلك. كانت مجلة "الهلال" في الستينات والسبعينات تصدر ملفات شديدة التميز عن التشكيليين الأوروبيين، وفي واحد من هذه الملفات شاهدت أعمال فان جوخ فأعجبتني جدا وتعلقت به".


عدت إلى أعمال قاسم حداد ونقبت بينها حتى عثرت على نص بعنوان "ورشة أورسي"، 

في ديوانه "دع الملاك".

يقول قاسم حداد:

لوحة استراحة الفلاح وزوجته


"لوحةاستراحة الفلاح وزوجته، بملابسهما الزرقاء، حيث الروح الفعالة تفيض على الجسد، في حقل القمح الذهبي. أوصاني الصديق صبحي حديدي، بهذه اللوحة بالذات، وهو ينصحني بعدم تفويت زيارة متحف أورسي، سرّني أنه فعل ذلك، فهو قد لامَسَ شغافَ مُولَعٍ بـ فان غوخ. الرسامُ الذي رافقني السنوات الأخيرة، كما لو أنه قرينٌ غير معلن لنص في الحسبان. فليس أقل من أن أشترك مع هذا الفنان في عمل إبداعي.
إذن،
هذا هو (فان غوخ) الرهيب".


زهرة الخشخاش يا أختي!


بعدما تلمست الولع القديم لقاسم حداد بفان جوخ،
عرجت على لوحاته، لكي أعيد تأملها، وفهمها، بعد أن أضاءها لي، تشكيلا وقيما فنية، وأحيانا عبر التحليل الذهني والنفسي لفنسنت نفسه خلال عمله فيها.
استدعيت تأملاتي للعمل الوحيد "الأصلي" لفان جوخ الذي كنت شاهدته مرات عديدة، ممثلا في "زهرة الخشخاش" التي كانت بين مقتنيات متحف محمود خليل.
واستعدت، انخلاع قلبي، حين أعلنت كارثة سرقة عمل فان جوخ الوحيد، من المتحف في آواخر عهد الديكتاتور المخلوع مبارك.
أين أنت يا زهرة الخشخاش لأحتضنك مثل أختي؟!

تأملت "زهرة الخشخاش"، مرة أخرى،
عبر الوسائط الحديثة، مستدعيا عبقرية استخدام الأصفر، بينما كان أزرق السماء يخاتلني من لوحة أخرى يقشعر بدني كلما رأيتها وهي لوحة "سماء مضيئة بالنجوم".


لوحة زهرة الخشخاش التي كانت موجودة في متحف محمود خليل بالقاهرة وسرقت في أواخر عهد مبارك في اغسطس 2010




الأصفر والأزرق، دائما وأبدا. وبسببهما يكاد يدرك المتطلع للوحات ذلك الفنان الاستثنائي، ليس فقط قدراته المدهشة في مزج الألوان، ولا اللعب بالإضاءة، وابتكار تقنية خاصة للضوء، بل أنه شخص يضج بالحيوية.






لم ينتـــــــحر!


استعيد صوت قاسم حداد مؤكدا بنبرة مشحونة بالحماس والعاطفية: "إبراهيم، ما ممكن. ما قبلت فكرة انتحاره، لأني أحسست إن هذه ليست حقيقة، لأنك لما تشوف أعماله، هذه أعمال شخص مقبل على الحياة، لا يمكن أن ينتحر"

يستطرد موضحا: "جمعت الكثير من المعلومات.
من بين ما تورده الوثائق أنه حصل من صديق بندقية صغيرة لكي يطيّر الطيور ليصورها، وكانا يقفان على صخرة وسقطا في الأثناء. في نفس الفترة قرأت كتابا لكاتبين أمريكيين يشككان في انتحاره. شعرت انهما يساندان فكرتي بشكل غير مباشر. وكذلك مسألة قطع الأذن. أيضا صغت القصة كما أقنعتني".

"كنت في لحظة الهياج،
 فأحدثت تلك الحركة جرحا في شحمة الأذن. هل كنت في اللوحة، في الرسم، أم في المرآة(..)اختلط الأمر علي بين رأسي خارج اللوحة ورأسي هناك".


بورتريه رسمه فان جوخ لنفسه وأذنه مجروحة باستخدام المرايا



يستطرد حداد:"هذه متعة انك تعيد صياغة الحدث بقناعاتك. في النهاية لست مؤرخا بل شاعر. فلا يأتيني شخص يقول لي هذا غلط أو صحيح تاريخيا.  طيب ما كل شيئ غلط بالعالم. حبكت على هذه؟".


صحيح والله! أقول له، ونضحك.

لكني لا أستطيع أن أكبح فضولي عما ذكره لي في بداية حوارنا عن تماس تجربة المناجم التي مر بها فنسنت فان جوخ مع تجربة اعتقاله وتعرضه للسجن. يخبرني أنه اعتقل في السبعينات في البحرين، لأسباب سياسية بطبيعة الحال، مرة في 1973، ثم استغرقت فترة الاعتقال الثانية خمس سنوات.

لمن يود العودة لقصائد السجن لقاسم حداد وفيها يقول:

("أنا قابع في زنزانتي المظلمة ولكن قلبي يخفق مع ابعد نجم في السماء". هكذا تحدث ناظم حكمت، وهكذا تعلمت قلوبنا كيف تخفق مع نجوم السماء، مهما ابتعدت وتعايش العالم كما لو كانت موجودة في كل العالم").

لون الظلام!

خرج حداد من السجن في العام 1980، وحين استدعى فان جوخ في فترة المناجم تداعت لذهنه، تجربة السجن. ولعله لذلك رأى أن:

"للظلام لون أيضا"!


"في زنزانة الأرض بالمناجم، ثمة لون واحد هو الظلام. ما من لون آخر هناك. الشعل الصغيرة المرتعشة تهدي العمال لمواقع خطواتهم، نقاط شاحبة في صقيع سحيق( ..) الظلام هو اللون الوحيد الذي كنت اخرج مكنوزا منه، فـأسرع نحو غرفتي محاولا رسم الظلام ".

يقول قاسم حداد: "أنجزت هذا الجزء بتفاصيل صغيرة، عن عمله مبشرا لصالح الكنيسة في أحد المناجم. لكنه كان فنانا في أول الأمر ومنتهاه. كان يرى العمال يموتون. وبسبب ما شاهده من بؤس ما يتعرض له عمال المناجم كفر، وأخذ يسأل الله عن سر إهمال هؤلاء، من فرط ما رأى من قسوة ما يتعرض له العمال".

"أيها الفحم، يا ذهب النار وذريعة الحياة، من أين لك كل هذا

 الصمت عن صريخ الأرواح المعذبة في غياهبك".

يستطرد موضحا:" كان شديد التعاطف معهم، يتبرع لهم بما يملك وبملابسه.ثم أصيب بنزلة صحية ولما جاء أخوه ثيو فجأة وشاهد تخطيطاته بالفحم، أدرك حجم موهبته، فأنقذه وطلب منه أن يتفرغ للرسم".

-         بالمناسبة هل كان للواقعة دور في اختيار العنوان:"أيها الفحم يا سيدي"؟

** الحقيقة الاسم اقترحه أمين صالح (الكاتبالبحريني صاحب التجارب السردية التجريبية اللافتة وصديق مقرب من حداد)، وهو يقرأ المخطوط وأعجبني. لأنه يضئ دور الفحم في الحياة وفي المنجم وفي الرسم وفي كل شئ.

يحيلني عنوان الكتاب على لغة النص: لغة مكثفة، قاموسها متسع. يقول حداد:
"هذه المقاطع لم أكتبها متواصلة كما هي في الكتاب. بل منفصلة كمقاطع، ثم رتبتها لاحقا. كنت أكتبها كشعر في حالات نفسية وذهنية مختلفة. لكن في الوقت نفسه كل جملة لها أصل معلوماتي. كنت أتدفق في الكتابة في قصر العزلة في شتوتغارت، لأيام، وبسبب الثلوج وغياب الحدود بين الليل والنهار أكتب وأقرأ، دون وعي بالزمن. كنت أشعر بالخوف من أني قد أكون لازلت أعيش في غمار تجربة طرفة بن الوردة، وهذا ما ضاعف قلقي".

حاولت تخيل حال الشاعر الصديق في أثناء الكتابة؛ مستدعيا وصفه لنفسه في سيرته قائلا: "التمرين الأخير على موت في حياة لا تحتمل.


الصورة من أرشيف جريدة الرياض، وفيها تصوير لقاسم حداد في أثناء عمله في كتابه طرفة بن الوردة الذي استخدم فيه خط اليد تأكيدا على أن طرفة بن العبد كان متعلما قادرا على الكتابة على عكس ما أشيع عنه



فهو في كل يوم وأمام أية تجربة جديدة يبدو كأنه يكتب للمرة الأولى والأخيرة في آن واحد. جسد يرتعش مثل طفل مذعور مقبل على الوحش.

 كثيرا ما تركته وحده في الغرفة مريضا يوشك على الموت، وعندما أعود إليه في اليوم التالي، يضع أمامي النص ويجلس مثل شحاذ ينتظر ردة فعلي. ينتحب كأنه الميت يرثي نفسه. وما إن أقول له الكلمة، حتى يستعيد صحته ويقفز مثل العفريت، مستعدا للحياة كأنه يولد توا".

عبر صفحات الكتاب تتسلل إلينا صرخات فنسنت العاتبة للعائلة التي خذلته والقت به في المصحات. للأطباء الذين لم يتفهموا متاعبه، باستثناء طبيبه الفنان بول جاشيه. 


الدكتور بول جوشيه، أحد أطباء فان جوخ، والذي عرف بعلاج الفنانين، وكان محبا للفنون


نسمع صرخاته في عتاب جوجانالذي خذله بمصاحبة النادلة (راشيل) وأفقده أعصابه، وخذل مشروعه أيضا لبيت الفنانين. ولاحقا ننصت لشكواه من أهل آرل (في جنوب فرنسا، والتي أسماها يابان أوربا بسبب سطوع الشمس) حين نكلوا به واستهجنوا وجوده بينهم. ننصت لأفكاره عن الجنون الذي لم يدفعه عن نفسه كتهمة، موضحا أن أي مبدع حقيقي لا بد أن يمسه شيئ منه، مفرقا بينه كمأزق إنساني ووسيلة من المجتمع لتقييد حرية المختلف مع عاداته، وبين الجنون كطاقة هائلة على إنتاج الفن الذي يتقوت من الخيال. نرى فنون العصر كما رآها فان جوخ، وفلسفته الفنية، وعلاقته بالفنانين الآخرين مثل كوربيه، جوجان، كلود مونيه، ديلاكروا، ادوارد مانيه، ديجا، ورامبرنت، الذي يدين له بالكثير من التأثر والإعجاب.

يوضح لي حداد أنه لأجل الاطلاع على أعماله وأعمال هؤلاء تجول جولات واسعة في متاحف فان جوخ خصوصا في هولندا.


كومونة باريس- خريف العرب!

ثم تأتي الثورة، كومونة باريس، فنرى فيها ما نرى اليوم، ربيعنا العربي الذي انقلب خريفا، بسبب رومانسية الثوار؟ ربما. أولأن النار تحرق نارها؟ ممكن. وربما لأن "من يجني الثورات هم اسفل السفلة" بقول رمز الثورة الفرنسية جورج دانتون، ولأسباب بينها أن الاقتصاد وحده الذي يمتلك الكلمة الأخيرة كما يقول ثيودور لشقيقه في أحد حواراتهما.

لوحة الحرية تقود الشعب للفنان الفرنسي ديلاكروا، أثارت اهتمام العالم، لكن فان جوخ انتقد رومانسيتها ودمويتها وواقعيتها المباشرة 


"الحرية تقود الشعب"، لوحة من انبثاقات ديلاكروا الرومانسية، قدم نموذجا فنيا دمويا للعالم. الحرية تتقدم على جثث القتلى". وفي موضع آخر يقول فان جوخ – حداد ما معناه أن الحاكم يقدم الدم دفاعاعن عرشه أما الحكيم فبديله الثوري أخلاقي ينبغي أن يخلو تماما من الدم أو قيادته.

الفن له منطقه، والثورة أيضا، وهما معا لا يتسقان. الثورة بنت الواقع الآني.

بينما ثورة الفن ابنة الخيال، وهي وحدها التي تتحدى الزمن وتنجح.الخيال هو معيار الثورة الوحيد، لا تنجح إلا بقدرتها على تحويل الخيال لقوة على الأرض.

وبإمكان القارئ أن يستفيض من أفكار عديدة أخرى عن الربيع الأوروبي، وعن الفرق بين الثورة ووهم الثورة. وكيف أن الثورة الفرنسية المتغنى بها قادت فرنسا لاستعمار العالم!

هذه رحلة استثنائية بين الشعر والسيرة، على تخوم السرد، وفي قلب المعرفة، وتاريخ الفن. تبدوعائدة للماضي فيما تتوجه للمستقبل.ولا يغني عنها سوى نصها الذي يدعونا لأكثر من قراءة. نص يفتح به قاسم حداد أفقا جديدا للكتابة في الثقافة العربية.

 نشر هذا النص في جريدة القاهرة - في 2 يونية 2015




No comments:

Post a Comment