Monday, June 20, 2016

المسلسل الخليجي الأكثر مشاهدة ساق البامبو

في نقد نقد ساق البامبو
جدل واسع يؤكد أن الرسالة وصلت!

إبراهيم فرغلي

أثار المسلسل الكويتي "ساق البامبو" المأخوذ عن رواية الكاتب سعود السنعوسي بنفس العنوان جدلا واسعا، ربما سبق حتى بداية عرضه في رمضان، واستمر الجدل بشكل كبير خلال عرض الحلقات الأولى منه ولا يزال مستمرا. 
وما يشغلني، خلال تتبعي لردود الفعل على المسلسل، ليس التفاصيل الفنية للعمل ومدى نجاحه في نقل روح العمل الأصلي، بقدر ما يشغلني تأمل طبيعة هذه الردود، ودلالاتهاأولا لأنني من المؤمنين أن نقل أي عمل أدبي من المتن إلى الشاشة تسقطفي المسافة بيتن الوسيطين، الكثير من عناصر قوة النص الأدبي، والاستثناءات نادرة جدا. وتاليا بسبب أهمية دلالات ردود الفعل على العمل: ثقافيا واجتماعيا. 
من المعروف بطبيعة الحال رواية "ساق البامبو"المأخوذ عنها العمل الدرامي، تتناول موضوعا حساسا يتعلق بزواج شاب كويتي من فلبينية تعمل لدى أسرة كويتية تنتمي لإحدى العائلات الكبيرة، ويسفر الزواج عن ابن ترفضه الأسرة، وتضغط على الابن لكي ترحل الأم ومعها طفلها خارج الكويت. 
تتتبع الرواية تفاصيل حياة هذا الطفل "هوزيه الطاروف"، الكويتي الجنسية، فلبيني الأم والذي ورث عنها ملامح الوجه، المسلم بحكم تبعيته لديانة والده، المسيحي لظروف نشأته على تقاليد وبيئة عائلة أمه المسيحية، الذي ينشأ في الفلبين وهو يحاول أن يجد إجابة على أسئلته التي ولّدتها ظروفه: هل هو كويتي أم فلبيني؟ هل هو مسلم أم مسيحي؟ وبالتالي يأخذ السؤال الديني باعتباره جزءا من هويته اهتماما كبيرا، هل سيجد إلهه في المسجد أم في الكنيسة؟ هل ينتمي لأسرته الفلبينية أم لعائلته الكويتية؟
تدور وقائع الرواية بين المجتمعين الفلبيني والكويتي حيث يتناول جزء الرواية الأول حياة ونشأة هوزيه، أو عيسى الطاروف في الفلبين، وتفاصيل علاقاته مع أمه وجده غريب الأطوار، وتعقيدات حياة هذا الجد وتأثيرها على العائلة، وتتوغل الرواية في التراث الثقافي الشعبي لأهل الفلبين، بشكل يعبر عن البحث والمعايشة المبذولة من الكاتب لهذا الغرض. أما الجزء الثاني من الرواية فيدور في الكويت حيثيقرر عيسى العودة لبلاده، تنفيذا لوصية الأب؛ راشد الطاروف، الذي تعرض للاسر في أثناء فترة غزو الكويت، وانقطعت أخباره للأبد. 
وفي الكويت سيواجه رفضا مضاعفا من المجتمع، بداية من ضابط الاستقبال في المطار، ووصولا لجدته غنيمة التي رفضت الاعتراف بوجوده منذ عرفت بحمل أمه جوزفين به، ومرورا ببعض أطراف العائلة الذين تذبذبت مواقفهم حول الاعتراف به وقبوله بينهم أو رفض وجوده بشكل قاطع.
ثم تتداعى التفاصيل الخاصة بعلاقات أطراف العائلة به، وفقا لشخصياتهم وظروف حياتهم، فالعمة هند، الحقوقية التي تهتم بحقوق الإنسان والتي رفضت الزواج بعد رفض أمها زواجها من غسان، لأنه بدون، أي ينتمي لفئة غير محددي الجنسية في الكويت، هي الطرف الذي يستقبل الشاب بأريحية وترحاب، وتتولى مهمة تقديمه للعائلة تباعا. ثم علاقة غسان نفسه بعيسى باعتباره ابن صديق عمره، ولأنه الذي تلقى من راشد الوصية بالعناية بابنه والإصرار لعودته إلى الكويت حين يكبر. وهناك علاقته بعمتيه الأخريين، وهما على مسافات مختلفة من قبوله، إضافة إلى أخته خولة التي انجبها الأب من زواج تلا علاقته بجوزفين. وتتداعى رحلته حتى يقرر في النهاية أنه لا يمكن أن يعيش في مجتمع يرفضه حتى لو كان بلده ويتمتع فيه بجنسيته. 
بداية، تخفف المسلسل من الجزء الخاص بالفلبين، لأسباب فنية وربما إنتاجية، وهذا بالتأكيد أثر على العمل الأصلي أي الرواية، لأن الجزء الفلبيني بالنص تضمن تفاصيل وتداعيات مهمة يفهم منها القارئ التركيبة النفسية لعيسى، والمؤثرات الثقافية التي نشأ عليها. كما أن هذا الحذف أدى بطبيعة الحال إلى تطويل الجزء الخاص بالكويت، وهو ما أثر على الأحداث، واضطر كاتب السيناريو رامي عبدالرازق للاستعاضة عن الجزء الدرامي المحذوف من النص بالحوارات الطويلة نسبيا بين أطراف العمل مما كان له دور كبير في بطء إيقاع المسلسل.وربما يكون كاتب الرواية سعود السنعوسي قد اصر على عدم إضافة أحداث أو شخصيات تختلف عن الرواية، وهي بعض الحلول التي كان يمكن أن تعالج مثل هذا الإشكال.
الأمر الثاني الذي أثر بشكل واضح على المسلسل أيضا تعرضه للمنع من التصوير في الكويت، لأسباب لا يعلمها ربما إلا الرقيب، الذي كان سبق وأجاز الرواية بالمناسبة للتوزيع داخل الكويت. 
أخل هذا المنع بقدرة المخرج البحريني محمد القفاص، وفريق العمل على تصوير مشاهد مهمة في الكويت وبينها مثلا مسيرات أعياد التحرير، أو إظهار الطابع الحقيقي لبعض الأماكن الشعبية مثل سوق المباركية، وبعض المشاهد الخارجية التي كان من الممكن أن تكسر رتابة الإيقاع أحيانا. إضافة على ما يبدو في الاقتصار على موقع منزل بيت الطاروف ليكون المقر الرئيس لتصوير العمل، وهذا أثر بشكل كبير أيضا على حيوية العمل وقدرته على إظهار جوانب مختلفة من الحياة في الكويت. 
بشكل شخصي أعتقد أن هناك تفاوت في فهم العمل من الممثلين لكني أظن أنهم جميعا اجتهدوا لنقل روح النص أو رسالته الرئيسة وخصوصا سعاد العبدالله، التي ربما كانت تحتاج إلى بعض الشخصيات المساعدة لنرى جوانب أخرى من شخصيتها غير الجدة العنيدة الصارمة، وكذلك شخصية غسان التي أداها ببراعة الفنان فيصل العميري، وكذلك اغلب أبطال العمل مثل الفنان عبدالمحسن النمر، راشد الطارووف، الذي تمنيت أن تطول مشاهده أكثر، بالإضافة إلى فريق الفنانين المشاركين: فاطمة الصفي، شجون الهاجري، مرام، أسامة المزيعل إلىجانب ريم أرحمة وفرح الصراف، والممثل الكوري وانهو تشونغ الذي لعب دور عيسى الطارووف.
مع ذلك اكرر أنني لست بصدد تقديم نقد فني بقدر ما أهتم بما وراء المسلسل، بطريقة النقد التي تعرض لها، والتي جاءت إما مديحا مفرطا، أو انتقادا على طول الخط. 
تابعت العديد من النقاشات التي تناولت المسلسل على وسائل التواصل الاجتماعي، ولاحظت أن هناك فئة رفضت المسلسل جملة وتفصيلا بدعوى أن فكرته مكررة ونمطية، أو لأن إيقاعه بطئ، أو لأن الحوارات طويلة، أو لأن قلة عدد أبطال العمل أضفىطابع التجهم والميلودراما المبالغ فيها على العمل. والبعض رفض المسلسل بدعوى أن أهل الكويت يعاملون الخدم معاملة جيدة!، والبعض ركز على إدانة المسلسل لأنه ينتصر لامرأة مثل غيرها ممن يخطفن الأزواج من زوجاتهن. وأسباب أخرى. 
وهناك فئات حاولت أن تقدم نقدا متوازنا للعمل بالإشارة للإيجابيات والسلبيات، بشكل فني، وأزعم أنها الفئة الأقل، وهناك قطاع كبير من المعلقين زعمواأنهم لا يشاهدون المسلسل، كأنهم بذلك يرفضون موضوعه جملة وتفصيلا، وبعضهم قاموا بمهاجمته هو والرواية معا. 
وعلى عكس الشائع لفت المسلسل انتباه العديد من الأطراف من خارج الكويت وأغلبهم من المثقفين أو المهتمين بالأدب من مصر والسعودية وسلطنة عمان والأردن وغيرها، وهذه في تقديري ظاهرة لافتة جدا أحسبها نقطة نجاح مهمة للمسلسل. 
فهل فشل المسلسل كما يردد الكثير من منتقدي المسلسل وبعض المثقفين المنحازين لهذه الرؤية؟ 
في تقديري أن هذا المسلسل، على العكس تماما، قد نجح نجاحا مشهودا، ونجاحه لا يعود لمستواه الفني ومدى تفوقه فنيا من عدمه، بل يعود لقدرته على إثارة جدل واسع جدا، فني وأدبي واجتماعي، داخل الكويت وخارجها، وكشفه لإصرار الكثيرين على التعبير عن إطرائهم على المسلسل أو مهاجمته، بالرغم من أن هناك عدد كبير آخر من المسلسلات الخليجية قد تتضمن مظاهر ما عدده الكثيرين، سلبا وإيجابا لم يهتم أحد بالتعبير عن رأيه فيها. 
وفي تقديري الشخصي أن هذا الجدل الواسع والنقاشات حول العمل والأفكار التي يطرحها وأداء الممثلين قد تكفيه وزيادة. 
لكن، مع ذلك فليست هذه أسباب نجاح المسلسل وفق ما اراه فقط، بل هناك اسباب عديدة أخرى منها: أنهكشف، مرة أخرى، تهافت الرقابة ولا مصداقيتها في منع عمل في الحقيقة ليس به، مقارنة حتى بأعمال درامية أخرى، إسفاف أو إساءة لأي طرف. بل لعل هذا المنع قد اضر بالمستوى الفني لعمل كان من الممكن أن يكون أفضل إنتاجا لو صور في الكويت.
كما نجح المسلسل في تقديم إشكالية البدون على الشاشة ربما لأول مرة، وأثار تساؤلات إنسانية وحقوقية لا يتم التعرض لها عادة على الشاشة. كما نجح في تقديم حوارات بالغة الأهمية حول الهوية الوطنية والهوية الدينية، وهي شجاعة تحسب لفريق العمل كاملا، ونجح المسلسل أيضا لأنه نطق بلسان من لا صوت لهم في المجتمع الكويتي، سواء كانوا من فئة البدون أو من الوافدين وخصوصا فئة العمالة المنزلية. 
والأهم من هذا كله ربما أنه كشف كيف أن الكاتب الذي اراد أن يلقي بحجر صغير في بحيرة العنصرية، تمكن من دق ناقوس ربما يكون رنينه اليوم خافتا لكنه قد يدوي يوما ما. ويظل من المهم هنا التأكيد أن المسلسل أيا كان مستواه الفني يقدم حلقة جديدة من حلقات الوعي المهتمة الآن بالنقد الذاتي في منطقة الخليج، كما نرى في أعمال ناصر القصبي في السعودية، والذي تألق في "سيلفي" خلال الأيام الماضية، وبعض الأعمال الدرامية التي قدمت على مدى السنوات الماضية، ولا أظنها ستكون الأخيرة. 
ليقل من شاء ما شاء في نقد العمل فنيا، وسأتفق مع الكثير منهم فيما ذهبوا إليه، لكني هنا أصر على ألا يظلم أحد رسالة هذا العمل بدعوى نقد الفن، هذه شهادة تقول أنه بالرغم من كل التفاصيل فأنا أعتقد جازما أن رسالة هذا العمل قد وصلت! 


Thursday, June 9, 2016

قوة الرواية 5

تغريدة

قوة الرواية 5

إبراهيم فرغلي



يكذبُ، كاذبٌ فهو كذّاب. وكم في حياتنا العجيبة هذه من كذب وكذابين. ومع الأسف أنه من بين ما يوصف بفن الكذب هو فن الرواية.  ولهذا ربما كثيرا ما يُتهم الروائي بجميل الكذب.
وبقصد أو عن غير قصد، ولأسباب كهذه، قد يستخف البعض بما يكتبه الروائي بوصفه مختلقا لحكايات لا أصل لها.
 وإذا كان القارئ ممن يؤمنون أن المعرفة لا تتوفر إلا في كتب المعرفة البحتة، سواء كانت علوما طبيعية أو علوما إنسانية وبينها الفكر والفلسفة، فغالبا سيكون ميالا للاستخفاف بأكاذيب الروائيين وحكاياتهم، ولو قرأها فربما لكي يريح عقله قليلا من عصف الأفكار أو فهمها في كتب المعارف المختلفة.
فهل الروايات كذب حقا؟

تتأسسالرواية على الحكاية، والحكاية صحيح قد تكون مختلقة بالكامل، تماما كما يفعل الكذابون. لكن هل حقا هناك اي شبه بين الكذب أي اختلاق وقائع بغرض الايحاء بأنها حقيقة وبين القول الروائي؟ 
أنصت لشخص يحكي لك مثلا مشكلة مع مديره في العمل، زوجته، صديق من أصدقائه. ولنفترض أنه بالفعل يقول الحقيقة، من وجهة نظره طبعا، فهل قصته هذه حقيقة؟ الحقيقة لا. قصته هنا هي جانب من الواقع. وهناك جانب آخر لهذا الواقع سيظل خفيا ومستترا بصمت الطرف الآخر. فإذا استمعت إلى الطرف الآخر سيصبح لديك وجهتي نظر لواقعة أو وقائع، لكنك أيضا لن تكون قد وصلت إلى "الحقيقة".
إذا أراد الروائي أن يتناول هذه القصة فقد يختلق أشخاصا آخرين تماما، ولكنه سيعالج بهم نفس الواقعة، لكنه لن يهتم هنا بأن يقدم الواقع للقارئ، بل سيقدم له "الحقيقة"، محمولة على فهم الدوافع الشخصية، والعقد النفسية، وطبيعة البشر في عدم الفهم لبعض المواقف، ومتأملا لسلوكيات بشرية مقيتة مثل الأنانية والنرجسية وحب الذات كعوامل يتورط فيها البشر بالضرورة،  لكي يحاولوا فهم الواقع الذي يتعاملون معه.
ولهذا فإن ما يسمى"كذبا" روائيا هو في الحقيقة محاولة فنية لصوغ الحقيقة. رسم الواقع من أجل الحقيقة كما يمكن أن نقول. صياغة ما قد يبدو "حقائق" من أجل الصدق. الصدق الفني والإنساني. أي لتحقيق نقيض الكذب جوهرا ومعنى، على طول الخط. وهذا حتى ما قد يتفوق أحيانا على بعض ما يقترحه المفكر الذي قد تتلون أفكاره بالإيديولوجيا، ولكن الرواية ستأخذ أفكاره الملونة وتنزع عنها ألوانها لتضع للقارئ صورة الايديولوجيا.
تأخذ الرواية الأفكار الفلسفية المجردة وتضع لها هيكلا. كأنها تضع القماش على مجسم بشري، لكي يمكن للقارئ رؤية الفكرة الفلسفية بشكل واضح. تجسدها له. تماما كما تتناول ذاته، أي القارئ، الإنسان، الفرد، وتعريها له لكي يرى حقيقته المختفية خلف أقنعة الواقع المزيف. تضعه أمام المرآه التي قد لا توفرها له آلاف من تفاصيل الواقع وخبرات الحياة اليومية المضللة.
فإذا كان الروائي كاذبا فلماذا تعيش كذباته؟بل لماذا تصبح حقائق؟ وإلا فكيف يحيا راسلينكوف، بطل الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، بيننا حتى اليوم بكل أفكاره وأفعاله؟ هل يمكن لأي مصري ألا يصدق في أن سي السيد الذي اخترع شخصيته نجيب محفوظ في الثلاثية لا يعيش بيننا؛ نموذجا  سلوكيا أخلاقيا على الذكورية والتناقض في حياتنا؟ سنرى، فللحديث بقية.





قوة الرواية 4

تغريدة

قوة الراوية 4

 إبراهيم فرغلي


تظهر قضية الكتابة بالعامية اليوم كأنها اتجاه حداثي يسم بعض النصوص المعاصرة، وهي ظاهرة تأخذ حيزا في كثير من السرديات المصرية، وبينها حتى أعمال الترجمة حيث يحرص المترجم المصري على ترجمة حوارات الثقافات المنقول عنها إلى العامية المصرية. وهي ظاهرة جديدة لها إرهاصات في أعمال تتسم بقلة المستوى الفني في مصر والكويت وربما في المغرب ولبنان كما نقل لي بعض المهتمين.
وبعيدا عن أسباب هذه الظاهرةالتي لا أظنها أسباب فنية في المقام الأول، يهمني بشكل شخصي تأملها من منطلق أنها ردة وليست تحديثا ولا تقدما، وأنها تسهم بشكل أو آخر في خفة النص الأدبي، أي في تخليصه من قوته اللغوية والأدبية.
وهي ردة ايضا من حيث كون أن التجارب الروائية الكلاسيكية التي كانت شديدة التأثر بفن المسرح، الشائع تماما آنذاك، فن الكاتبين الذين مثلا علامة فارقة في بلادهما، وهما شكسبير ومولييير.
 كان المسرح هو النموذج الذي تستلهم منه الرواية الجديدة لغتها، وتركز بالتالي على لغة الحوار وتستفيض فيه، حتى انتبه الروائيون إلى أن قوة النص الروائي واستقلاله ينبغي أن تتحقق من خلال التخلص من هذه التأثيرات، والوعي بأن المسرح قد يكون، في جوهره، فنا يقوم على نقل الواقع، أو المحاكاة، بغية إما التطهير كما يقول أرسطو، والترفيه عن المشاهدين أحيانا، أما الرواية فهي تخلق واقعا فنيا موازيا، وكان عليها أن تبتعد عن مفهوم "الفرجة" المسرحي لكي تمتلك خصوصيتها وتفردها.
كانت الانتقالة المهمة في فن الرواية تتمثل في انتباهها أنها نص فني يزيح لغة الكلام لصالح لغة الأدب، وهو ما نجده ماثلا مثلا في أعمال فلوبير الأولى التي كانت تمتلئ بالحوارات، ثم ثورته على نفسه لاحقا وتأكيده، بعد أن أصبح روائيا كبيرا، أن النص الأدبي ينبغي أن ينحاز للغة السرد والوصف أكثر من استسهال نقل حوارات البشر أو اختراعها من موقعها الاجتماعي المباشر.
واستمرت الرواية في تأكيد قوتها منذ القرن التاسع عشر وصاعدا، بالتأمل الداخلي للنفس البشرية، والبحث عن الدوافع النفسية خلف الكلام، وتفنينه روائيا، وإزاحته لصالح السرد. كان الصمت نفسه قد أصبح مفهوما تجريبيا في المسرح، والصمت هنا لا يعني توقف الممثل عن الكلام بل  حالة من تجميع الرموز يتولى العقل ترتيبها وتجميعها ليتسنى تفسير العالم  المحيط بالإنسان والتعبير عنه من خلال اخراج المعاني الداخلية الدفينة او المختبئة الى حيز الوجود. 

وبالتالي كان على الرواية أن تبحث فيما وراء الصمت، وبهذا ظهرت رواية تيار الوعي، التي حولت الصمت إلى قوة وعي بالتفاعل الداخلي للشخصية الإنسانية.
وهذه الانتقالات في تاريخ السرد الروائي جاءت تأكيدا لإحساس الروائيين بأن الرواية ليست وسيلة تسلية على أي نحو، بل وسيلة وعي بالأساس، وكان عليها أن تحتشد بالمعرفة لتأكيد هذا الدور، وهو ما جعلها تحاول أن تجد دائما لغة ترتفع عن لغة اليومي والعادي، وتخلق لغة أدبية قادرة على استيعاب دورها الجديد، وهذا ما خلق فقه اللغة الروائية التي اتسمت بها أعمال كبار الأدباء والتي تجعلنا نعود إليها باستمرار، مثل أعمال دوستويفسكي، توماس مان، هرمان ميلفل، كاواباتا، جوزيف كونراد،  وسواهم. وللحديث بقية.