Monday, June 2, 2014

قداسة الديمقراطي

 
بداية أود التأكيد أن هذا المقال هو بذرة مقال أوسع يحتاج إلى المزيد من الوقت بغرض تأمل ما حدث خلال فترة الانتخابات الرئاسية في مصر، ودور المثقفين المصريين فيه، وهو دور يحتاج الى التأمل العميق وبعناية، لفرط ما يفيض به من دلالات.
وبالرغم من أنني أرغب في تأمل المشهد، لكنني في الوقت نفسه أود أن أتأمل موقفي الذاتي أيضا من موضوع الانتخابات الرئاسية واختيار أحد المرشحين، بصفتي مواطن عادي من بين جموع الجماهير التي تنشد مستقبلا يليق بمصر، وبوصفي أيضا منتميا إلى دوائر الثقافة الطليعية في الوقت نفسه.
لكني قبل ذلك أجد نفسي مدفوعا لإعادة نشر ما سبق أن كتبته عقب 30 يولية عن الجدال الليبرالي الليبرالي حول الاختلاف حول إقصاء الإخوان سياسيا، وحقهم في الوجود سياسيا، ولا أظن أن هناك اختلاف حول حق أي أحد في الوجود إنسانيا، إخوانيا أو غيره. فهذا لا جدال فيه، لكن الذي لا شك فيه أن من يضمر الرغبة في موت المختلف معه أيا كان بوهم امتلاكه للحقيقة ولمفاتيح الرحمة والدين والمغفرة هو أيضا يستحق إعادة النظر إليه بوصفه "مواطنا" طبيعيا، طالما أنه يرى في اختلافه لونا من التمييز. وعقب ذلك سوف أكتب تدوينة عن "الليبرالي" الطاووس، مانح هبات الوطنية والأخلاق والشرف لمن يتفق معه، ومانعها عمن يختلف معه، واصما إياه إما بالانحياز لليمين (بوصف السيسي يمثل اليمين لأنه محسوب على القوات المسلحة ولأنه محافظ) أو الانحياز للفساد أو لنظام مبارك!!!! دون اي منظور واقعي للتفريق بين الأطياف الواسعة التي منحت صوتها للسيسي باسم الحفاظ على الدولة، أو لإنهاء الوجود السياسي للإخوان بشكل باتر، أو تأكيد علمانية الدولة، وغير ذلك من أسباب وهي فكرة تحتاج لبحث طويل يلي التذكير بالمقال السابق الإشارة إليه هنا:
 
على هامش ثورة 30 يونية

عن الليبرالي الميديوكر والليبرالي الأصلي
ها نحن الآن نعيش الموجة الثالثة من الثورة المصرية التي تؤرخ بـ 30 يونية مرة أخرى. وها نحن نرى كابوسا ثقيلا ينزاح عن قلوبنا المغتمة من مهانة العام وما جره علينا من أعباء اقتصادية وسياسية وفشل ذريع، وها نحن ايضا نستعد هذه المرة للتعلم من كل اخطاء الماضي التي أدت إلى سرقة الثورة من بين أيدي صانعيها.
لكن لم يستمر هذا الإحساس أكثر من عدة دقائق أو ربما ساعات قليلة من إعلان الفريق السيسي انحياز الجيش لمطالب الشعب. ففور أن تحقق المطلب الجماهيري الواسع الذي احتشدت لأجله جماهير مصر في الشوارع، حتى قدّرت بنحو 30 مليون شخص يرفضون الإخوان، ويطالبون بإسقاط الرئيس المنتخب، سرعان ما دب الشقاق بين الليبراليين، مرة أخرى (الاختلافات كادت تضيع الثورة في مرحلتها الأولى)، حول الوسيلة التي يتم بها إسقاط النظام الإخواني، واتهم طرف من الليبراليين المؤمنين بعلمانية الدولة ومدنيتها الطرف الآخر بأنهم فاشيين لأنهم يتواطؤون مع العسكر ضد الإخوان، بينما اتهم الفصيل الآخر هذا الأول بأنهم يسعون لتقديم السلطة مرة أخرى للإخوان باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان دون مراجعة لجوهر فكرة الديمقراطية، وجوهر أسباب وضع مواثيق حقوق الإنسان.
أسباب اليأس
بداية لعله من المهم هنا الإشارة أن الموجة الثانية للثورة التي خرجت في 30 يونية، خرجت بعد أن شعرت باليأس من مرسي، ومن أي إمكانية لكي يكون رئيسا معبرا عن روح ثورة 25 يناير التي خرج من قاموا بها من جموع الشعب المصري، وهم يرفعون شعارا أساسيا هو (عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية).
فقد حنث الرئيس المعزول محمد مرسي باليمين الذي أقسم عليه، ولم يحقق شيئا مما أقسم عليه؛ بداية من الحفاظ على أمن البلاد، والقصاص للشهداء، والحفاظ على المؤسسات الدستورية والقانونية، والنهوض بالاقتصاد. وهو ما لم يتحقق منه شئ، بل وعلى العكس تماما فقد كان مرسي أول من انقلب على الشرعية الشعبية من خلال إعلانه إعلانا دستوريا سلب بمقتضاه كافة اختصاصات السلطة التشريعية والتنفيذية، وأصدر بناء عليه عددا من القرارات التي أظهرت أنه ينحاز لفصيل واحد من الشعب ضد الفصائل الأخرى، وأصر على عناده حتى بعد أن انفض من حوله كافة مستشاريه من الكفاءات الوطنية من كل التوجهات.
وبعد العديد من الظواهر المدهشة من بينها إيهام أنصار الإخوان المسلمين أن وصول رئيس إخواني للحكم هو لتحقيق ما أسموه تطبيق شرع الله، بينما يعرف الجميع أن الثورة لم تقم بسبب أزمة هوية دينية، ودعك من الإخوان في النهاية لم يطبقوا شرعا ولا غيره، أقول أن الثورة أيضا لم تقم لأن الشارع المصري يفتقر للتدين، ولم يكن بين الألف شخص من الشهداء والمصابين في الثورة من رفع هذا الشعار، بل وعلى العكس لم يكن الإخوان في المشهد خلال الأيام الأولى للثورة، إلا بعد أن شعروا، بحسِّهم الانتهازي، أن الشعب مُصّر على إسقاط الحاكم (مبارك الذين أفتى قادتهم بحرمة الخروج عليه يوم 25 يناير).
أقول أن الخروج للمطالبة بإسقاط مرسي جاء بسبب العديد من المظاهر الغريبة مما سبق الإشارة إليه، بالإضافة إلى مظاهر البلطجة الإعلامية باسم الدين في عدد من القنوات المعروفة بتوجهها الديني، والتي ظهرت فيها العديد من وقائع التحريض على القتل وتكفير المعارضين للإخوان المسلمين، وما كان يتوازى مع هذه الدعاوي الرخيصة من أعمال عنف فعلية (تراوحت بين القتل والتهجير والاعتداء على دور العبادة) ضد الطوائف الأخرى سواء الأقباط أو الشيعة أو البهائيين، والتي لم تتدخل الدولة (نظام مرسي برعاية المرشد العام للإخوان) إطلاقا لإيقافها أو حتى التنديد بها، إضافة إلى محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي، وتعذيب المعارضين وقتلهم أمام قصر الاتحادية من قِبل أنصار الرئيس المعزول؛ بل وبتحريض شخصي منه. ناهيك عن الإدارة الفاشلة والهزلية لكل ما له علاقة بإدارة الدولة اقتصاديا من خلال الإصرار على تعيين رئيس حكومة ذو ميول إخوانية دون أي كفاءة من أي نوع، ثم مسخرة إدارة ملف موضوع سد المياه في إثيوبيا، الذي أدير بطريقة مروعة وبدائية وتعبر عن الفشل التام وانعدام الخبرة، ثم إعلانه الحرب على سوريا.
وهكذا أحسَّ الشعب أنه في مواجهة حاكم لا يشعر لا بحجم مسؤلية الدور الذي يقوم به ولا طبيعة الدولة التي تولى إدراتها، بالإضافة لتزايد الأعباء على المواطنين بشكل غير مسبوق اقتصاديا، وعلى مستوى انعدام الأمن، مما جعل الخروج للشوارع هو الحل الوحيد لتصحيح مسار الثورة.
نخبة ضعيفة
وبدا جليا في هذه اللحظة أن النخبة التي كانت سببا في وصول الإخوان للحكم بسبب ضعفها، وعدم مصداقيتها وغياب كفاءتها وحرصها على تصدر المشهد كنجوم للثورة، قد أطاح بها مع الإخوان، جماهير الشعب الذين قرروا ان يعبّروا عن رفضهم التام للإخوان، ولكل مظاهر الطائفية؛ "شعبيا"، وبلا وصاية من النخب أيا كانت.
وثبت للمرة الثانية أن الشعب يسبق النخبة في التعبير عما يرغب وعن أمانيه لبلده، ويفجر مفاجأة كبيرة، وقد كان من الممكن أن تستمر موجة الغضب طويلا، وربما ينتج عنها الكثير من المواجهات وهو ما تجلى في الأيام الأولى لخروج المتظاهرين الرافضين لمرسي إلى الشوارع حيث وقعت مواجهات عنيفة بين الإخوان والمتظاهرين في بين السرايات وفي الصعيد، وهو ما أكد أن أنصار الإخوان لا لغة يمتلكونها سوى لغة العنف والسلاح، وتدخل الجيش معلنا تبنيه لمطالب الشعب عبر خارطة طريق تعيد بناء مطالب ثورة 25 يناير التي ضرب بها الإخوان بقيادة المرشد عرض الحائط.
بيان الحقوقيين
وبالرغم من هذا كله فوجئ الجميع ببيان وقّع عليه عدد من الحقوقيين والنشطاء السياسيين يحذر من عودة العسكر للحكم، ويطالب بسرعة تسليم السلطة إلى مؤسسات منتخبة ديمقراطيًا، وعدم إقصاء أي فصيل سياسي، وإخراج القوات المسلحة من العملية السياسية. وهذا كله مقبول في حد ذاته بالتأكيد، لكن البيان الذي يبدو في ظاهره ديموقراطيا وطنيا وثوريا نص على فقرتين متعاقبتين هما كالتالي:
3. الإعلان عن إجراء الانتخابات الرئاسية خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من الآن، تليها الانتخابات البرلمانية خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر من الآن.
4. تأجيل عملية وضع دستور دائم للبلاد إلى ما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، نظرًا لأوضاع الاحتقان والاستقطاب السائدة التي لا تسمح بصياغة دستور ديمقراطي توافقي. والتأكيد على ضرورة وضع دستور البلاد الدائم عبر عملية شعبية ديمقراطية تشاركية لا تستبعد أو تقصي أي طرف أو توجه سياسي أو فكري أو عرقي أو ديني أيًا كان. والتأكيد كذلك على عدم التعجل في طرح مسودة هذا الدستور للاستفتاء قبل إنهاء حالة الاستقطاب والاحتقان المخيمة على البلاد.
وهذا النص في تقديري هو أخطر ما ورد في هذا البيان الملتبس، والذي يجعلنا نشك في ما يقصده.
إن ما بدا جليا للجميع خلال الثورة في مرحلتها الأولى بعد 25 يناير، أن القوى الإسلامية حاولت تأجيل صياغة الدستور لما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، وثبت لاحقا أن الهدف من ذلك هو "طبخ دستور" على هوى هذه الجماعات، وبما يتوافق مع تحقيق مصالحها، وضمان بقاءها في السلطة للأبد وفقا لذلك الدستور. وهي عملية تحايل انكشف زيفها تماما بعد الدستور الذي تمت دباجته بشكل عبثي في ليلة واحدة من قبل لجنة لا تليق بوضع دستور لدولة عريقة مثل مصر يعود أول دساتيرها لما يناهز قرن كامل.
كان الارتباك الذي حدث من إدارة المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي يتأكد في طرحه لفكرة تأجيل الدستور وعمل إعلان دستوري اتاح الفرصة لقوى الإسلام السياسي من ترتيب أوراقها. خصوصا وأن المجلس العسكري سمح للأحزاب الدينية أن تنشأ رغم تعارض ذلك مع الإعلان الدستوري، كما تغاضى عن العديد من مظاهر الانتهاك في حقوق الأقليات دون ردع، وغير ذلك من مآسي شهدتها مصر حتى انتقال السلطة للمدنيين.
وأدرك الجميع، خلال المراحل الانتقالية، مع تعدد الأخطاء، وانكشاف عدم الشفافية من قبل العسكر، أن المسار الطبيعي والبديهي بعد أي ثورة وكما حدث في ليبيا على سبيل المثال هو حكومة انتقالية ورئيس مؤقت مدني، يعهد لها صياغة الدستور والاستفتاء عليه ثم عمل انتخابات تشريعية وأخيرا انتخابات رئاسية.
وبالتالي فإن عودة الموقعين على البيان لنفس المربع يجعلنا بالفعل نرى أن هناك إما إصرار على تكرار أخطاء النخبة الذين كانوا كالريشة في مهب رياح العسكر والإخوان والولايات المتحدة. أو أنهم على أسوأ تقدير يتمتعون بقدر من النقاء الثوري والإنساني الذي يجعلنا نتشكك كذلك في مدى أمانة مهمتهم إذا كنا نعرف جيدا أن هذا المسار قد أدى إلى تسليم البلاد إلى الإخوان، الذين سرقوا الثورة جهارا نهارا، وركبوا صهوتها ثم حادوا بها عن سبيلها إلى سبيل آخر تماما تبين من خلال ما أثير وثبت لاحقا.
بينما الأحرى بهؤلاء الحقوقيين والنشطاء أن يجاهروا بالقول أنه لا يمكن لدولة مدنية أن تحقق طموحها كدولة مساواة وهي تؤكد في دستورها انحيازها لدين من الأديان، فالدولة كيان اعتباري لا ينبغي أن يكون له دين، وهو ما نجده في العديد من دساتير العالم ليس في الغرب فقط، بل وفي كثير من دول الشرق في آسيا خصوصا سنغافورة مثلا وإندونيسيا، التي ترفع شعارا وطنيا يمثل شعار الدولة هو "الوحدة في التنوع" رغم أن المفارقة المدهشة هي أن هذه الدولة تضم على أرضها أكبر تجمع للمسلمين في العالم والذي يناهز 220 مليون مواطن إندونيسي، لكنها، أي الدولة ترفع قيمة المواطنة على ما سواها.
جدل ليبرالي ليبرالي
وهكذا بدأ جدل كبير بين الليبراليين أنفسهم حول الكيفية التي يمكن أن يتم بها التعامل مع الإخوان، ففريق رأى أن إقصاء الإخوان عن العمل السياسي هو الحل الواجب بعدما أثبتوه من فشل في الإدارة والخواء الفكري وعمل دؤوب لأخونة الدولة وفتح الحدود مع التيارات الدينية الخارجية خصوصا مع حماس. مع التأكيد على ضرورة حل الجماعة أو دعوتها لتقنين أوضاعها.
بينما يرى الفريق الآخر أن إسقاط مرسي لا يعني إقصاء الإخوان أو ملاحقتهم أمنيا، بل وضرورة استيعابهم في العمل السياسي، على اعتبار انهم فصيل كبير له عدد كبير من الأنصار وله قدرة على الحشد وانه اعتبر أكبر فصيل سياسي بعد الثورة.
والحقيقة أن هذا الجدل يدعوني لإعادة تأمل مجموعة من المفاهيم التي يبدو أن الجميع اليوم يتعامل معها بلون من الخفة، أو على الأقل بلا تدقيق، خصوصا في مفهوم الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان.
بل إن المغالطة في تقديري تبدأ حتى من قبل ذلك ومن حيث إطلاق اسم انقلاب عسكري على عزل مرسي، بالرغم من أن إطلاق هذا اللقب يعطي انطباعا بأن جنرالات الجيش قرروا أنهم يريدون الحكم، وأنهم أمسكوا بكل قادة النظام وألقوا بهم في السجون، وحاكموهم محاكمات عسكرية ثم نشروا المدرعات وأعلنوا الأحكام العرفية في البلاد، وحضروا التجوال وأعلنوا بيانات عسكرية متوالية توضح استلائهم على سلطات البلاد. فهل حقا كان الأمر على هذا النحو؟ بالتأكيد لا وقطعا.
ألم يخرج إلى الشارع 30 مليون مصري يهتفون ضد مرسي والمرشد العام للإخوان المسلمين الذي كان يحكم في الخلفية؟ ألم يوقع أكثر من 22 مليون مواطن مصري على نفس العدد من وثائق ترفض حكم مرسي بسبب فشله الذريع في إدارة الدولة؟
الم يعلن اعضاء حملة "تمرد" بالاتفاق التام مع التيارات المدنية وأحزاب المعارضة والقوى الوطنية أن مطالبهم تبدأ بعزل مرسي وتعيين رئيس المحكمة الدستورية رئيسا مؤقتا للبلاد، وتعيين حكومة مؤقتة تكون مهمتها إدارة شؤون البلاد والخروج بها من الأزمة الاقتصادية والسياسية، وانتخاب أو تعيين لجنة للدستور مهمتها صياغة دستور توافقي يليق بدولة وضعت أول دستور في المنطقة قبل ما يناهز القرن؟
ألم يعلن أعضاء الحملة أيضا عن خارطة طريق ترى أن تكون مهمة الحكومة عمل الانتخابات التشريعية والرئاسية في مدة لا تزيد عن ستة شهور؟
فماذا فعل الجيش؟ الم يوجه طلبا للرئاسة بضرورة سرعة حل الأزمة؟ أو الاستجابة للمطلب الشعبي بعمل انتخابات مبكرة؟ ألم يمهل الرئاسة لتحقيق هذا الطلب؟ فماذا فعل الرئيس؟ رفض كل ذلك، ورفض الرفض الشعبي وأعلن أن الدم مقابل الشرعية. أي أنه حرّض، مرة أخرى، على الفتنة والدم وقتل المصريين بعضهم لبعض مقابل أن يستمر في الحكم.
في الأثناء وغير بعيد تماما، في البرازيل، خرج نحو مليون متظاهر احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والفساد في البرازيل فماذا فعلت رئيسة البرازيل ديلما روسيف؟ هل خرجت لتتحدث للشعب البرازيلي عن مؤامرات الخصوم؟ أو تبرر لمؤيديها أن يخرجوا لتأييدها والاقتتال مع المتظاهرين؟ أو تهديدهم بأنها تجسد الشرعية؟ أو تلوح لهم بأصابعها؟ أو تحكي لهم عن البلطجية وتعدد أسماءهم بدلا من أن تقوم باعتقالهم وفورا؟
إطلاقا.. فهي مثل أي رئيس منتخب تعرف انها رئيسة كل البرازيليين، المعارضين قبل المؤيدين، اعترفت بالأخطاء، ووعدت بعمل استفتاء على خطط إصلاحية، فهي في أول الأمر وآخره مجرد خادمة لشعبها. موظفة تحصل على راتبها من قوت الشعب الفقير، لكي تحسن إدارة حياتهم، وتوفر لهم الرفاهية، وهذا هو العقد الاساسي لأي حاكم ديمقراطي، وليس مجرد التشبث بالكرسي، والعناد، وفرض الأمر الواقع رغم إرادة الشعب، وتصور أن صناديق الانتخابات هي مفتاح مقدس لغرفة الحكم تضمن بها السلطة والتحكم في مقادير الشعب حتى لو أدت سوء إدارة الحاكم لانهيار الدولة اقتصاديا واجتماعيا.
مراجعات مطلوبة
وفي الجدل الذي صاحب موضوع ثورة 30 يونية التي أكدت أن الشرعية كانت ولا تزال في الشارع الثوري، وسوف تظل حتى تصبح مصر دولة قانون ومؤسسات ومساواة، أصبح واضحا أن هناك الكثير من المفاهيم التي تم ترديدها من قبل الكثير من الليبراليين بلا كثير من التدقيق، مما جعل الأمر يبدو مماثلا لنظرة الجماعات الدينية لمسائل الشريعة باعتبارها نصوصا مقدسة لا يجوز الاقتراب منها أو إعادة تأملها وقراءتها في ظل ظروف مختلفة.
بيروقراطية الديمقراطية
لم يراع الليبراليون المتحمسون لمفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية الغربية، أن هناك الكثير من الأمور الواجب إعادة النظر فيها، وإلا أصبح الأمر مماثلا لفكرة الدولة البيروقراطية التي تبتدع قوانين بيروقراطية مهمتها تشغيل شؤون الدولة الاقتصادية والاستثمارية لصالح رفاهية المواطنين، فتقرر دورات ورقية ومستندية تضمن بها عملية الإدارة والرقابة، ولكن حين تتضخم هذه الأوراق، وتصبح عبئا إداريا يفوق طاقة الموظفين والدولة، وتصبح هذه الدورة المستندية مجرد عملية روتينية معطلة لمصالح الماس التي ابتدعت من أجلها ومعطلة للتنمية التي كانت الهدف الأساس من ابتداعها، فإن الدولة البيروقراطية لا تعيد النظر في الدورة المستندية، بل تبحث عن مبررات أخرى خارجها لتبرر بها سوء الإدارة وعدم قدرتها على الالتزام بمشروعات التنمية.
وهذا هو بالضبط ما فعله الكثير من الليبراليون الذين وصفوا الفريق المناوئ لأفكارهم "النقية" بـ "ليبراليون ميديوكر"، فهم لم يتفهموا فكرة أن المخاوف من الجيش مسألة بديهية لدى الغالبية العظمى ممن تضامنوا مع ثورة 30 يونية، وأن الشارع أثبت أكثر من مرة أن وعيه يسبق وعي النخبة، أو على الأقل أنه يتحرك بلا تقدير لأي مصالح خارج إطار المصلحة العامة. وإذا كان هناك فريق من فلول النظام المخلوع حسني مبارك قد تضامنوا مع ثوار 30 يونية ضد الإخوان، فهذا لا يعني أن الثوار غير قادرين على الفرز.
لكن هل حقا ان المناداة بإقصاء الإخوان عن العملية السياسية يتنافى مع العملية الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أليس العرف أن العمل السياسي في النهاية ينبغي ان يكون جوهره الوطنية، وقيمها؟ بل أليست هذه هي القيمة التي تنادي بها ثورة يناير والتي بموجبها قبلت دخول الإخوان في البداية في اللعبة السياسية، عن حسن نية ونقاء ثوري رأى أن بين الإخوان قطاع من الشباب يمثل فصيلا وطنيا لا يمكن أن يستبعد من العملية السياسية؟
فهل أثبت الإخوان حرصهم على قيم الوطنية خلال العام الذي وصلوا فيه إلى الحكم؟ أم أنهم سرعان ما كشفوا عن غياب مفاهيم الوطنية مقابل مفاهيم شعوبية ترى في خطة الإخوان للوصول للسلطة جزءًا من خطة أكبر من التنظيم الدولي للإخوان لتولي السلطة في المنطقة بأسرها؟
ألم يثبت فصيل الإخوان أن قيم الوطنية لا تعني له شيئا، وأنه حتى لا يهتم بدماء من يقتلون ويستشهدون طالما أنهم من خارج الجماعة "قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار"؟ ألم يكشف المرشد عن هذا التوجه حين أصر أن يذهب ليعزي مواطنا واحدا
لقد تبين جليا في المرحلة الماضية من الثورة أن سبب نجاح الإخوان في الوصول للسلطة رغم أنهم لا يمثلون سوى أقلية بين أعداد الناخبين (مرسي حصل على مليون صوت في الجولة الأولى، ولم يزد حجم ما وصل أمام شفيق أكثر من 13 مليون بينها أصوات العلمانيين الرافضين لشفيق واصوات مؤيدي ابو الفتوح)، يعود إلى أن الإخوان رغم ضعفهم الفكري وقلة مؤهلاتهم، لكنهم كانوا يعلمون جيدا أن العمل السياسي شئ والعمل الثوري، والأفكار الثورية الرومانسية، بل وحتى الأخلاقية، شئ آخر. وبالتالي فقد استخدموا كل الوسائل والحيل والألاعيب لكي يصلوا إلى ما يبتغون، على عكس التيار المدني الذي انقسم إلى أنصار للتيار الثوري النقي، وآخر مناصر للكاريزما السياسية، وثالث للخبرة السياسية، ورابع مناصر لرموز عصر مبارك، والنتيجة فشل ذريع شهدناه جميعا في العملية الانتخابية حيث تفتتت أصوات ما يربو على 15 مليون صوت بين اربعة مرشحين رئيسيين.
ولا يعني هذا أنني أطالب أحدا بأن يصبح ألعبانا مثل الإخوان بالعكس، لكن ما أقصد أم يتم دعم المسار الثوري بالالتزام خلف قيادة يتفق عليها، أو حتى خلف مسار واحد لإنجاح الثورة.
ومن الطريف حقا أن يتهم بعض الليبراليين والحقوقيين الفصيل الواسع من المثقفين والليبراليين بأنهم فاشيين لأنهم يرفضون إدماج الإخوان في العمل السياسي، ولأنهم يؤكدون على مطلب استبعاد ومنع إقامة أحزاب على أسس دينية تأكيدا لمبدأ المساواة الذي لا أظن أن هناك من يشكك في انه مطلب أساسي من مطالب هذه الثورة التي رفضت استعباد أي فصيل من فصائل المواطنين لأي فصيل آخر.
كأن التعلم من دروس الثورة يجعل الفرد فاشيا، أو كأن الليبرالي الذي يطالب بالمساواة من أجل مستقبل يجتمع فيه الجميع على قيم المواطنة فقط، فاشي لأنه يطالب بقواعد سياسية واضحة لا مجال فيها لتيارات تقوم أساسا على التمييز بين أعضائها وبين من لا يتبعونها، وليسوا مجرد حزب سياسي لديه خطط تنموية واقتصادية وسياسية واضحة. فصيل يكره الآخر لمجرد الاختلاف، من أجل مستقبل لا يمكن أن يكون فيه فاشية، لأن الثابت أن وجود التيارات الدينية لن يحدث سوى إطالة فترة التغيير باستمرار وربما للأبد لأنه تيار لا يملك تيارا للنهضة بل يمتلك فقط خطة للسلطة والنفوذ.
أيضا من المدهش أن فصيلا يكفر الآخرين، وشارك في قتلهم، وراوغ حين اجتمع الجميع على رفض حكم العسكر في المرحلة الأولى للثورة ورفض الانضمام للمتظاهرين، وتبين تورطه في وقائع تخريب ضد الدولة في سينا وسواها، وترددت عن قياداته أقاويل حول صفقات مع اليهود والأمريكيين حول غزة وسيناء، ودعم أطرافا ممن تم الإفراج عنهم من قتلة المصريين مثل طارق الزمر وأمثاله، بل ودعوته للاحتفال بنصر أكتوبر الذي صنعه من قام الزمر بقتله.
اقول من المدهش أن يجد هذا الفصيل الذي يعد الكثير من رموز قياداته محرضون ومتورطون في العديد من القضايا وبينها قضية هروب من السجن، من ينادي بمشاركته في العملية السياسية، بدلا من تقديمه للقضاء أولا حتى تثبت براءته أو إدانته وفقا لأحكام القضاء المدني، ولا يعتبرون أن ذلك تماهيا مع الفاشيين باسم مواثيق حقوق الإنسان وأصول الديمقراطية.
إن الفاشية الحقيقية في ظني هي تجاهل مطالب اصحاب الرغبة في الحياة كبشر طبيعيين في بلد يحترم الجميع ويعطي لكل ذي حق حقه ولا يميز بين أبنائه على أساس الجنس أو الدين أو العرق، لصالح جماعة فاشية انتهازية ثبت أنها قادرة على أغراق البلد بما ومن فيه إذا أتيحت لهم الفرصة، باسم الديمقراطية.
يريد هؤلاء القول أن حقوق الإنسان هي حقوق كل إنسان، وأنها تسري على الجميع، وأن اتساقهم مع ذاتهم يجعلهم يقولون أن المبادئ لا تجزأ، ومعهم حق بالتأكيد، لكنهم في الحقيقة هنا ينساقون، عن وعي أو بدونه إلى الوقوع في فخ لعبة الفاشيين، بل ويتماهون معهم في تقديس الـ "نصوص" والمواثيق والأوراق حتى لو كان استغلالها في لحظة يحقق عكس المراد منها تماما.
ينسى كل هؤلاء أن المواثيق والنظريات والكتب والوثائق أحيانا أمام دماء الناس ووجودهم الثوري والشعبي في الشارع تحتاج لكي تدقق ويعاد النظر فيها بما يؤكد أن الإجراءات السليمة لن تؤدي إلى موت المريض.
وأختم بمقتطف من مقال للدكتورة نوال السعداوي، أظنها تشرح الفكرة فيه بشكل حي وحقيقي تماما ويوضح بإيجاز فكرتي عن تناقضات الديمقراطية الإجرائية وجوهر الديمقراطية:
جئت إلى لاهاى بدعوة من منظمة العدل الدولية، للتحدث فى مؤتمرهم العالمى الذى يناقش القضايا المتنوعة فى مختلف المجالات: السياسة، القانون، الاجتماع، التعليم، الثقافة، الفن، الطب، الاقتصاد، الفلسفة والتاريخ.
أغلب كبار المشاركين من رجال القانون يعتقدون أننا نعيش فى عالم يحكمه القانون والعدل، أحدهم قاض كبير من باكستان، اسمه تصدق حسين جيلانى.
يبدو عليه الراحة والثراء والاسترخاء، قال لى إن فى عروقه تجرى دماء عربية تمتد إلى نبى المسلمين محمد، وابتسمت قليلا، فأنا أتشكك فى كل من ينسب نفسه إلى الأنبياء، ولم يدهشنى، حين قال إنه شديد الإعجاب بالرئيس الأمريكى باراك أوباما، وقلت له إن الثورة الشعبية المصرية هتفت بالأمس فى ميدان التحرير بالقاهرة بسقوط باراك أوباما، مع سقوط مرسى وحكم الإخوان المسلمين فى مصر؟
لم تبد عليه السعادة ، وقال إن الغوغاء فى تمردهم يفقدون العقل، كلمة الغوغاء كشفت لى عن احتقاره للشعوب، واعتبار ثورتهم انقلابا على الشرعية والديموقرطية وصندوق الانتخابات، بالضبط كما كان أوباما، يذيع
هذا القاضى الباكستانى، مثل أغلب كبار رجال القانون التقليديين فى العالم، يحفظ بنود القانون، مثل القرآن أو الإنجيل عن ظهر قلب، ولا يرى الملايين الحية فى الشوارع التى تهتف بسقوط النظام بقوانينه القديمة ودستوره وبرلمانه وكل مؤسساته، ويقول لى إن العدالة عمياء لا ترى الناس، بل تنظر الى أوراق القضية فقط، مثل أغلب كبار الأطباء الجراحين الذين يعلنون نجاح العملية رغم موت المريض.
شاركت سيدة تونسية فى المؤتمر، اسمها محرزية العبيدى، نائبة رئيس المجلس المنتخب، قالت لى إن الرئيس التونسى والبرلمان التونسى، رئيس الحزب الديمقراطى التقدمى اليسارى، جميعهم أعلنوا أن فى مصر انقلابا عسكريا على شرعية الصناديق، واندهشت كيف يرددون فى تونس ما كان يقوله باراك أوباما وقوى الاستعمار فى العالم؟
وقلت لها كيف يحدث ذلك يا محرزية ؟ قالت نحن فى تونس تربينا على يد بورقيبة، وعندنا حساسية ضد الجيش، قلت لها كلنا ضد الحكم العسكرى، لكن ما يحدث فى مصر ثورة شعبية، 34 مليونا خرجوا إلى الشوارع ضد حكم الإخوان المسلمين، وحين أطلقت ميليشيات الإخوان عليهم الرصاص طلبوا من الجيش حمايتهم، ولبى الجيش نداء الشعب حقنا للدماء، إلا أنها لم تستمع مثل القاضى من باكستان.
أغلب المشاركين والمنظمين للمؤتمر كانوا يستمعون إلى الشائعات التى يروجها الإعلام الأمريكى والأوروبى وبعض الأبواق العربية التى تؤيد حكم الإخوان المسلمين.
هذا المؤتمر الدولى للعدل لم أشهد فيه عدلا، بل رأيت عيونا معصوبة لا ترى الأجساد البشرية الحية الثائرة بالملايين، وتصر على أن العدالة عمياء لا ترى إلا الحبر على الأوراق، إلا أن عددا غير قليل من المشاركين والمشاركات من مختلف الجنسيات وقفوا مع الثورة المصرية والثورات الشعبية المناضلة ضد النظم الرأسمالية الأبوية التى تتاجر بالأديان والعدالة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة فى بورصة السياسة والانتخابات.رغلي
 

Sunday, June 1, 2014

عن المثقف ودوره بعد الثورة


 عن المثقف ودوره بعد الثورة

قبل أن أعود لتأمل الطريقة التي تعامل بها المثقفون مع تطورات الأحداث من بعد 30 يونية وحتى اليوم، وفي ظني أنها في غالبها لم تتعد حدود ما تم اختباره سابقا في كافة المراحل التي مرت بها الثورة من رومانسية وشعارات أخلاقية وخلط مفزع بين فكرة الثقافة والوطنية، أي اعتبار أن امثقف يجب أن يكون وطنيا بعيدا عن مدى تمتعه بالأدوات المعرفية اللازمة لتطوير أفكاره أم لا، وهو تراث قديم على اي حال يعود لجيل الستينات ورثه الجيل الجديد بلا تدقيق وبشكل ربما أكثر شعرية، رغم أن الموضوع كله هو موضوع سياسي أي يقع في دوائر المصلحة العامة وكيفية تحقيقها وكيفية تطوير الأولويات من أجل الوصول إلى وتحقيق الأهداف. وبالرغم من أن أغلب المثقفين عادة ما يقولون أنهم مع فكرة النقد الذاتي إلا أنني لا ارى أي محاولة لهذا النقد الذاتي، وبما أنني في النهاية محسوب على هذه الجماعة فإن أي محاولة للنقد الذاتي هنا ستكون بمثابة نقد ذاتي، وفيما يلي فكرة صغيرة عن دور المثقف بعد الثورة أففتح بها الفكرة وربما النقاش، مع التأكيد ان هذه الفكرة كتبت قبل فترة تزيد عن العام، وينقصها النقد الذي أراه واجبا اليوم إلى كتلة شباب الثورة الذين نجحوا في إسقاط رمز نظام سابق ثم تخبطوا بعد ذلك، وهنا تأتي مسؤولية المثقفين كما أرى جانبا منها فيما يلي :

الموضوع مركب في الحقيقة، لأن الموضوع لا يخص المثقف بشكل مباشر، او بالأدق هناك نوع من التعميم في استخدام كلمة مثقف.. فأي مثقف نقصد هنا؟ وهل حقا يمكن لهذا المثقف  أن يلهم شعبا ليقوم بثورة؟ هذا هو، أي التحريض على الثورة، في الحقيقة عمل رجال سياسة، في الأساس، والأحزاب والنقابات، خصوصا إذا كانت ثورة شعبية، أي أن القطاع الكبير فيها لا يكون بالضرورة مثقفا.

من الأمثلة القليلة والساطعة على المثقف الذي يمكن له إشعال ثورة نموذج البطل القومي الفلبيني خوزيه ريزال الذي اعتقل على يد الإسبان واعدم وبقيت روايته "لا تمسني" وقودا للشعب الفلبيني الذي قام بالثورة بعد اعدامه مباشرة واستطاع أن يحصل على استقلاله بعد 300 عام من الاحتلال. لكن أي رجل كان ريزال؟.إنه استثناء نادر هذا المثقف الكاتب الروائي المؤرخ النبيل.

لكن في المنطقة العربية لا يمكن القياس على ذلك..لأن المثقف في النهاية ليس دوره التحريض، بل خلق الوعي، وإذا تابعنا أغلب من يتكلمون من شباب ثورة 25 يناير في مصر من الشباب سيتكشف لنا بوضوح أنهم مثقفون، بمعنى أن لديهم وعيا تكون من قراءات واسعة واطلاع، لكن ما يتميزوا به عن الاجيال الأخرى هو قدرتهم على الخيال، واليقين في قدرتهم على تحقق ذلك الخيال، وهذا ما يفسر حجم المنجز الذي انجزوه في نحو 18 يوما والذي كانت أجيال أخرى تظن أن أمامهم على الأقل خمسة عقود ليتحقق نصف ما تم إنجازه.

لبعض المثقفين دور كبير بالتأكيد في الكتابة ضد الفساد وضد النظام السابق بكل رموزه رغم التهديد والقمع وهذا يحسب لهم، لكنه ليس كافيا لأن التحريض شيء والوعي شيء آخر.

أعتقد أن الدور الحقيقي للمثقف يبتغي تجنب المستويات السطحية لتناول فكرة الديمقراطية او كيفية التطلع أو تحقيق نهضة مجتمعاتهم. فالإشارة للفساد وللقمع هو مجرد معلومات يتناقلها الناس في المقاهي.. وقد يوصف المثقف في هذه الحالة بالجريء..مثل الشباب الذين واجهوا جحافل الأمن والمدرعات بصدورهم في المظاهرات. أما دور المثقف الحقيقي في رأيي فيجب أن يشير للناس عما تعنيه الثورة والقفز بالخيال لما يتعدى الراهن لتخيل المستقبل، والتبشير بكل ما تعنيه افق الدولة المستقبلية وهذا مثلا كان سببا لبلبلة كبيرة لدى اصحاب الوعي المحدود عن معنى الثورة وما تريده، وقد كان ذلك الطموح والوعي هو ما تطلع له شباب الثوار من البداية أي كيفية تكوين دولة مساواة وعدل وحرية على أسس نظرية سليمة ووفقا لمنهج عقلاني وعلمي، وليس بمجرد ترديد شعارات بسيطة ذات بعد واحد ومباشرة.

إن وضع المثقف الراهن يشبه في نظري وضع أحد الهتِّيفة الذين حازوا شهرة في الهتاف في المظاهرات خلال السنوات الخمس الماضية، والذي ظل يبحث عن أي تظاهرة ويجري ليرفع على الأكتاف، اتكاء على ماض في الكفاح الطلابي ضد الديكتاتورية وضد نظام السادات.

لقد ظل الرجل يهتف بنفس الهتافات التي كانت تتردد في السبعينات بلا أي إضافة أو إبداع أو خيال. وربما لذلك ظلت تلك التظاهرات محدودة في قوتها وتأثيرها، لم تلهم أحدا، ولم تثوّر احدا، بينما الشباب – شباب 25 يناير، الأحياء منهم والشهداء- في ثورتهم النبيلة ابتكروا شعارات جديدة قوية ومبتكرة وملهمة "الشعب يريد إسقاط النظام"، وقد كان.

أظن أن المثقفين يحتاجون لأن يتعلموا الكثير من شباب الثورة، ومن بين ما ينبغي لهم أن يتعلموه أن الثقافة تحتاج للخيال، وللمبادرات، ووضوح الرؤية والثقة بالنفس، والأهم من هذا كله : النبل بالمعنى الأخلاقي والجمالي معا. النبل بمعنى القدرة على الإيثار، والتضحية بالنفس من أجل الآخرين، أظن أنه على المثقفين أن يتخلوا قليلا، وربما كثيرا، عن نرجسيتهم وتضخم ذواتهم المريض، وأن يعالجوا ذواتهم من أدران الانتهازية التي كانت سمة مرحلة كاملة خلقها نظام قمعي فاسد وامتثل لقيمها بعض أو الكثير من المثقفين مع الأسف، لأن المرحلة المقبلة هي مرحلة التوعية ونشر مفاهيم الحرية والعدل والدولة المدنية، وهذا يحتاج لأفكار عميقة وجدية في الطرح وليس مجرد خطابات يظن من يكتبونها أنهم يقفون على المنبر. ويستعيدون أزمانا قديمة لا تخص الراهن الذي نعيش.. ولكي لا أبدو واعظا أو ملاكا بشريا أو نبيا، فأنا لا أستثني نفسي من هذا النقد، بل وأشير إلى نفسي بأصابع اربعة لو اقتضى الأمر.