Saturday, April 22, 2017

إنجاز منيف شهادة إدانة للقمع وليس توثيقا لعذابات شخصية



من أسبوعين تقريبا أو اقل نشرت الحياة مقالا غريبا عجيبا
للدكتور فالح عبدالجبار زعم فيه إن الكاتب الروائي الراحل عبد الرحمن منيف سطا على مذكرات معتقل عربي مرموق في الاوساط الثقافية ليكتب رواية شرق المتوسط. والمقال ده غايظني 
أكثر من تردد أو تأخر أو امتناع الحياة عن نشره، ولذا أنشره هن
ا

فالح عبد الجبار يتذكر الآن فقط بطل شرق المتوسط!
 إنجاز منيف شهادة إدانة للقمع وليس توثيقا لعذابات شخصية

بداية أنوه أنني لا أعرف حيدر الشيخ علي، إلا بعد أن قرأت ما كتبه الكاتب العراقي فالح عبدالجبار باعتباره بطل رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف. وأعرف الدكتور فالح عبدالجبار معرفة عابرة من خلال لقاء صحفي أجريته معه مطلع التسعينات لصحيفة عربية، وقرأت له كتابين إن لم تخني ذاكرتي هما "معالم العقلانية والخرافة في الفكر العربي"، "المادية والفكر الديني المعاصر". وأزعم أنني لا أعرف الكاتب الراحل عبدالرحمن منيف، بشكل شخصي، سوى أنني كنت بين من وقفوا ليصفقوا مطولا وبحماس وصدق وتقدير لحظة إعلانه الفائز بأول دورة من دورات جائزة الرواية العربية في القاهرة، وبإجماع أغلب الحضور الذين كانوا يرون في منجزه ما يستحق الافتخار في مسيرة السرد العربي الحديث.
 لكني، وهذا هو موضوعي هنا، أعرف منيف روائيا قديرا عبر أعماله التي أتيح لي قراءتها وبينها الجزئين الأولين من مدن الملح، وشرق المتوسط، والآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى، والأشجار واغتيال مرزوق وقصة حب مجوسية، وربما أعمال أخرى تخونني ذاكرتي الآن في تذكرها.
 لهذا روعني مقال فالح عبدالجبار الذي تهم فيه منيف بسرقة مذكرات حيدر الشيخ علي، ليكتب منها رواية شرق المتوسط، وأنه فقير الخيال! وأنه أي عبدالجبار هو الذي منح تسجيلات السجن لمنيف.
 وبالرغم من إعلان اعتزازه بنشر تجربة حيدر في شكل روائي، فإنه يعود ليقول : "لكن الرواية خلت من أي إشارة الى صاحبها، صحيح ان مكان وزمان الحوادث ألغيا تماماً، في إطار ترميز فني او تهرب من الواقع، الا أن حيدر، شأني انا، أصيب بما يشبه الصدمة بسبب اغفال ذكر مصدر القصة الذي اخذ في شكل نصيّ. ما السبب في إلباس هوية البطل طاقية إخفاء او اغفال المصدر؟ هل هو الاعتقاد بأن من حق الروائي أخذ كل ما يصادفه، نوع من الاعتقاد بامتلاك الأشياء بمجرد ان يقع بصر المرء عليها؟ ام الاعتقاد بأن تحرير المادة فنياً يلغي حق انتسابها إلى لآخر؟ أم هو إغفال غير مقصود؟ ام هو إقصاء لهوية الشيوعي بدافع تحزّب أيديولوجي؟ لقد رحل منيف ولن نعرف جليّة الأمر. لعله اودع مكنونه لشخص ما، سنظل بانتظاره حتى لو كان غودو بيكيت! لكن الثابت ان حق الملكية الفكرية غائب".
ما يدهشني حقا هنا، أن منيف أرسل في العام 19911 ثلاث نسخ من الرواية النشورة لملهم العمل، ومع ذلك فلم ينطق الرجل بحرف منذ 27 عاما، إلا اليوم! ولم يقل عبدالجبار أيضا شيئا إلا بعد مضي كل هذا التاريخ، رغم أن منيف لم ينشر هذه التجربة فقط، بل وأعاد توسيعها وتأكيدها في روايته "الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى".
 وما يعنيني هنا أنني أرى أن منيف قد أدى واجبه الفني كروائي قدير، أي أنه سجل عملا فنيا بالدرجة الأولى، وتوثيقيا تاليا، قدم به وثيقة إدانة فنية لتجربة الاعتقال المهينة واللاإنسانية للمعارضين السياسيين العرب خلال الستينات وحتى الثمانينات، وألقى الضوء على بشاعة ما يتعرض له المعتقلين السياسيين العرب من الجلادين في السجون العربية، مؤكدا شمولية فكرته حين أصر على تجريد مكان الحدث والسجن، لأن السجن فكرة أكبر من دولة بعينها والمعتقلون أيضا.
 قدم منيف شهادة فنية صادقة، وأوصل لأسماعنا جميعا صرخات الألم التي كانت مسجونة داخل الزنازين المغلقة، وبتفاصيل مدهشة ومرعبة، ليفضح عالما من القمع المرعب الذي عرفه عدد كبير جدا من مثقفينا ومناضلينا.
 بالتالي في تقديري لو ذكر منيف اسم الشخص، وليس هذا مقصده بالتأكيد لأضعف النص فنيا، ولأصبح مجرد شهادة توثق حالة وحيدة من حالات التعذيب والقمع، بينما اقترح البديل الأكثر رمزية ودلالة وفنية وهو منح التجربة سمة عربية وربما إنسانية وعالمية، وجعل بطل العمل رمزا لكل معتقل في سجون الظالمين.
 أما هذه المرارة التي يتحدث بها فالح عبدالجبار عن غبن حق صديقه المناضل، فكان احرى به أن يوثقها بنفسه، أو أن يقنع صاحبها بأن يكتب مذكراته الشخصية طالما أنه مهتم بإعلان مدى الظلم والتعسف الذي تعرض له في المعتقل، بدلا من إدانة العمل النبيل الذي أنجزه منيف على أفضل وجه ممكن فنيا وتوثيقيا ودلاليا.