Friday, April 20, 2018

جنية في قارورة، ثاني روايات ثلاثية جزيرة الورد




جنية في قارورة لإبراهيم فرغلي 

تضع يدها على حدود غير منظورة 

مقال :لبنى الأمين




مع الصديقة الكاتبة والفنانة ميسون صقر خلال حفل توقيع جنية في قارورة قبل سنوات


بعيداً من الطابع السحري او الاكزوتيكي الذي يمكن ان يحيل عليه عنوان مثل "جنية في قارورة"، يلجأ المصري ابراهيم فرغلي في روايته الصادرة اخيراً ، الى كتابة تحاول رصد تفاعل الواقع المجتمعي المصري مع بعض ما يطرحه العالم المعاصر من اشكاليات ترغم الافراد على اعادة بلورة مفاهيمهم ومنظوماتهم الأخلاقية والنفسية والعاطفية. في زمن العولمة وانتفاء الحدود بين البلدان والمجتمعات والأفراد، يضع فرغلي يده على حدود غير منظورة تتحكم بأفكار الأفراد وعاداتهم وسلوكياتهم، متسببةً بشرخ هائل وفصام قاسٍ بين ما يعلنونه من أفكار تحررية وعيش يحاكي الذهنية الغربية، وما هو راسخ ومتجذر فيهم ولا يكشف عن نفسه إلا في لحظات الخيارات المصيرية.هو فصام سنعيش تعقيداته مع البطلة حنين، المصرية التي نشأت في فرنسا وعاشت فيها، إلا أن موت والدها وحياتها الجامحة المفتقدة كل بوصلة توجّهها صوب الاستقرار والأمان، سيجعلانها تقرر العودة الى وطنها الام علّها تجد هناك ما ظلت تبحث عنه عبثاً في فرنسا: ذاتاً واثقة من هويتها وانتمائها.

 يتابع الكاتب تطور نموها العاطفي والجنسي، من قبلاتها الأولى الى أقصى لحظات جموحها، مروراً بالفترة التي ظنّت فيها ان لديها ميولاً سحاقية، مضيئاً على نوع من الإزدواجبة في شخصية هذه الفتاة الخجولة والهادئة والمنكسرة في البيت وفي حضور والدها. اما خارج "الرحم" الأبوية، فتطلق العنان لنزعة استعراضية، كما تسميها، ولجموح في التصرفات. وفي كل مرة يكون سلوكها مدفوعاً ببحث مرتبك عن استقرار عاطفي لا تجده. واذ يرتسم شيئاً فشيئاً تاريخها الشخصي، يكشف السرد عن شخصيات اخرى تدخل حياتها وتخرج منها وتبدو جميعها محكومة بالفصام نفسه، وإن بدرجات واشكال متفاوتة.في الجزء الثاني من الرواية المؤلفة من ثلاثة اجزاء، وفي موازاة قصة حنين، يتسلم السرد صوت قادم من عالم آخر (نفهم من خلال الغلاف الخارجي للرواية انه صوت عماد الذي كان الصوت الاساسي في رواية سابقة للكاتب هي "ابتسامات القديسين")، يقيم مقارنات بين الواقع الارضي الموهوم وحقيقة هذا اللامكان الذي ينتمي هو اليه، ويأتي ليطرح اسئلة الانسان الكبرى حول الوجود والمعرفة والاخلاق متحدثاً عما يسمّيه "جوهر الحقيقة"، هذا الذي لا يسع الأحياء إدراكه.

باستثناء عوالم عماد السحرية، تحمل معظم شخصيات الرواية خطابين ووجهين وسلوكين يأتي تناقضهما الصارخ ليصبّ في رسم بانوراما معولمة عن انسان اليوم الذي تتحكم فيه اصولية مضمرة تظهر من وقت الى آخر لتطيح، بضربة قاضية، كل البناء التسامحي المعلن. وهي اصولية قد تكون دينية او عرقية او جنسية أو وطنية، يغذّيها جهل تام بالآخر الذي مهما تبلغ العلاقة به من مراحل متقدمة تظل علاقة سطحية قائمة على أحكام مسبقة وصور نمطية متطرفة. 

هكذا ستنتهي منذ بداية الرواية قصة الحب التي تجمع حنين بديفيد، الفرنسي اليهودي الذي سيقرر ذات يوم أنه  "يريد أن يكمل دينه بالذهاب الى ارض الميعاد". إلا أن حنين تتميز عن الشخصيات الأخرى بأنها لا تكفّ عن طرح الأسئلة وإعادة النظر في المسلّمات والأفكار. حتى والدها المتوفى لا ينجو من إعادة التقويم هذه. فاستناداً إلى جزء من مذكراته فضّل اخفاءه عنها، ستشكك في أنه رغم تجربة زواجه هو المسلم بوالدتها المسيحية ظل تسامحه سطحياً ومصطنعاً: "هل يمكن ان اكون تعرضت للتضليل وظننت أن أبي مثالي ومتسامح لأنه أحب أمي وتزوجها على ديانتها، بينما هو يحتفظ في أعماقه بنموذج المتعصب المتخلف؟". 

هذا السؤال وسواه سينتج منها صدام حاد بين مثاليات حنين والواقع المحكوم بازدواجية قد تبلغ حد النفاق، مما سيجعلها تتخبط في متاهة لا تعرف كيف السبيل للخروج منها: "يبدو إنني جننت، ولكن ما المانع في الجنون والعالم نفسه يعاني الاختلال؟ فهل سأكون أنا العاقلة الوحيدة في هذه المتاهة؟". من خلال أطروحة الدكتوراه التي تحضّرها حول العلاقات الجنسية وتأثرها بالمستوى الاقتصادي للمجتمع المصري، ستعاين حنين عن قرب بعض مظاهر هذه الازدواجية على غرار سلوكيات، من مثل ترقيع غشاء البكارة أو التحرش الجنسي، أو ازدياد عدد الفتيات المحجبات اللواتي لا تمتنع غالبيتهن عن ارتداء "البناطيل الضيقة التي تغطي الأرداف الكبيرة المدملكة المتمايلة يمنة ويسرة بلا رادع"، وذلك كجزء من ميل عام إلى ذوبان الخيارات الشخصية في سلوكيات جماعية تفقد تدريجاً مسوغاتها الأولى ومعانيها الأصلية. فها هي تفاجأ بابنة عمتها نسرين التي تحجبت فقط لأن كل صديقاتها فعلن ذلك.كما سترصد عدم ارتياح الفتيات في اجسادهن وشعورهن الدائم بأن ثمة من يتلصص عليهن. وإذ نراها تغوص في مدوّنات مصرية لفتيات يكتبن عن حياتهن الجنسية بحرية وتحرر تامين، لكن خصوصاً بنضج ووعي يصعب إيجادهما في الواقع، تكشف عن مجتمع افتراضي نشأ على هامش المجتمع الواقعي ويكاد يتحول بديلاً أكثر صدقية منه. وفي طريق بحث حنين عن ذاتها، مستندة إلى مرجعيات ونقاط استدلال أدبية وفنية وسينمائية، نستعيد كذلك معالم العاصمة الفرنسية من شوارع ومقاه ومعالم مختلفة، تبدو اكثر وضوحاً مما سيكشف عنه السرد حول القاهرة والمنصورة. إلا أن بين صورتي هذين المكانين، تبرز صورة اخرى لمدينة زجاجية طالعة من احلام حنين لتعكس حلم الشفافية المطلقة، فلا يعود هناك فرق بين الداخل والخارج، بين المعلن والمضمر.  مدينة تشكل النقيض لـ"تلك الصناديق الإسمنتية (حيث) نتنفس بالكاد، ننام ونقضي حاجتنا، ونمارس الحب بسرعة لنلحق بدوائر الحياة التي تنتظر خروجنا لتستهلكنا". في النهاية، سيصل سعيها الى طريق مسدود تكشف عنه علاقتها بعلي الذي يحمل كل تناقضات الرجل الشرقي المعاصر ويشكل في رأيها نموذج "انصاف المتفتحين".ولن يكون قرارها بالعودة الى باريس الا نوعاً من الاقرار الضمني بأن مجتمعاتنا لا تزال غير مؤهلة لاستيعاب حاجة الافراد الى مساحتهم الشخصية وحريتهم الجسدية والجنسية كما الفكرية والعاطفية.

نشرت في النهار اللبنانية 

القراءة الغربية الخطرة للأدب العربي

القراءة الغربية الخطرة للأدب العربي 

إبراهيم فرغلي 

قرأت باهتمام تعليق جوناثان رايت حول ما كتبته في موضوع ترجمة الأدب العربي في الغرب، كما قرأت تعليقات من تدخلوا للنقاش، وخصوصا روبن موجر، مترجم مقالي للإنجليزية، والذي أبدى عددا من التعليقات المهمة حول وضع ترجمة الأدب العربي، أو بالأحرى سوق ترجمة الأدب العربي في الغرب. 
وقبل العودة للتعليق على بعض ما جاء في تعليقات رايت، أود أن أشير أنني قرأت مؤخرا كتابا بعنوان "سنة القراءة الخطرة" للكاتب البريطاني آندي ميللر، وفيه يقدم تجربته حول قراره بقراءة خمسين عملا أدبيا من تلك التي يمكن أن توصف بأنها كتب عظيمة، أو أساسية.
ميللر في هذا الكتاب يقدم خلاصة خبرته في تجربته لقراءة 50 كتابا من كلاسيكيات الأدب المعاصر، التي توصف بأنها كلاسيكيات، أو بأنها كتبا مهمة، أو عظيمة. الكتب التي ينبغي أن يقرأها الإنسان في حياته، ليس ليتعلم أو ليعرف بل ربما لينقذ حياته. 
عناوين من نوع موبي ديك لملفل، الحرب والسلام لتولستوي، المعلم ومارجريتا لبولغالكوف، ميدل مارش لجورج إليوت، الجريمة والعقاب لديستويفسكي، الفردوس المفقود لجون ميلتون، محبوبة لتوني موريسون، ملحمة جلجامش، ومكتب البريد لوبوكوفسكي، والبيان الشيوعي لأنجلز وماركس، البحر.. البحر لآيريس مردوخ، وسواها من بقية عناوين قائمة الخمسين كتابا التي أسماها "قائمة الإصلاح"؛ إصلاح حياته هو البريطاني الذي اكتشف فجأة أنه أهدر حياته بعيدا عن القراءة رغم علاقته الوثيقة بها طفلا، وأنه أهدر مناخ الحرية الذي نشأ فيه وهو يتهرب من قراءة الكتب العظيمة تكاسلا، أو هربا من صعوبتها، أو ادعاء بأنه قرأها.
طبعا انتبهت إلى غياب أي كتاب عربي من قائمة آندي ميللر، مع العلم أنه باستثناء بعض كتب كبار الكتاب الروس، ورواية لماركيز، وملحمة جلجامش، فإن أغلب القائمة تدور في فضاء الكتب التي أنتجها المؤلفون البريطانيون والأمريكيون، أي أن أغلبها تنتمي للثقافة الأنجلوفونية، فليس هناك ذكر أيضا لكاتب من الصين أو اليابان أو إفريقيا. 
وهذا ما يجعل المرء يفكر، مرة أخرى، في أسباب الظاهرة، وموضوعنا هنا ليس بعيدا عنها، فصحيح أن القارئ الغربي مهتم بثقافته ومنجزه الأدبي الخاص بهذه الثقافة، ولا يبدو أن الثقافة العالمية تعني له الكثير، خصوصا بعد عقود طويلة من تأكيد ظاهرة المركزية الأوربية. وصحيح أيضا أن البيست سيللر أصبح ظاهرة عالمية، وهذا ما يجعل القارئ العام في العالم متشوقا لقراءة هذا الأدب الخفيف المسلي الشيق غير المجهد، وهذا لا علاقة له بكتاب ميللر، لأن الكتب المختارة لديه بالفعل مهمة جدا وبعيدة في أغلبها عن المنطق التجاري، لكن يبدو أنه من الصحيح أيضا أن المنطق التجاري هو الذي يتسيد حركة النشر في العالم، وبالتالي يضاعف ذلك من التأثير على الثقافات غير المركزية، وبينها الثقافة العربية. 
سأتغاضى تماما هنا عن السخرية في تعليق جوناثان رايت، والنبرة المتعالية أيضا في تناوله مقالي بالنقد والتعليق، كما سأتجاوز الإشارات التي تبادلها مع روبن موجر حول أوضاع الكتاب العرب، الذين يعانون من قلة المقروئية فيرون في الترجمة وسيلة لكي تكون الكتابة وسيلة للحصول على الأموال، وإن كان من المهم الانتباه لدلالاتها في رؤية المترجم الغربي للكاتب العربي الذي ينقل عنه!. 
كما سأتجاوز ما يصفه بهجومي على الكتاب الذين تمت ترجمتهم، علما أنني لم أهاجم، بل نقلت ما قاله مستعرب ألماني عن كتاب تاكسي لخالد الخميسي، وهو يروج لقراءته مؤكدا أنه قد لا يكون كتابا فنيا، لكنه مهم. ويبدو أن ترجمة جوناثان للكتاب قد جعله يتصور أن الأمر شخصي، فدافع عن اختياره للكتاب بالقول أنه قطعة من الأدب الخالص. ثم زعم أن نص "بنات الرياض" أكثر ثراء في لغته العربية عن النص الأصلي! 
سأتجاوز هذا لأنها تفاصيل بعيدة تماما عن الواقع لأي قارئ مبتدئ في الأدب العربي، وهذه كتب موجهة للمراهقين، وقد تجاوزها حتى المراهقون اليوم. 
لكني سأتوقف أمام دفاع جوناثان رايت المستميت، تقريبا في كل النقاط التفصيلية التي توقف عندها، عن المنطق التجاري الذي يخضع له، لأنه يجب أن يوفر للناشر ما يرغب في نشره! 
ويبدو أيضا أن علي التوضيح أنني حين عنونت مقالي بالقول "هل من ضرورة لترجمة الأدب العربي؟" لم أقصد بطبيعة الحال الدعوة لوقف ترجمة الأدب العربي، لكن المعنى البديهي للسؤال هو: متى يتوقف الغرب، بمترجميه، وناشريه وقراءه، وإعلامه بالنظر للأدب العربي بوصفه وسيلة للتلصص على مجتمع مكبوت؟ ومتى يتوقف الغرب عن اعتبار الكاتب العربي، كاتبا من الدرجة الثانية الذي لا يمكن أن ينتج أفكارا، أو يضيف لمسار السرد في العالم؟ وسؤالي في المقال يعني بالتالي، أنه إذا استمر هذا المناخ في تأكيد هذه الكلاشيهات التي يبدو الاستشراق الجديد راغبا في ترسيخها، فإن هذه الترجمات ستكون بلا قيمة لأنها لا تقدم للعالم الصورة الحقيقية للأدب العربي، كمنجز فني سردي في المقام الأول. 
والحقيقة أن عديدا مما ذكره جوناثان في تعقيبه، بادعاء أن جابر عصفور ينتقد الاستشراق الجديد لأنه يرغب في ترجمة نصوصه، أو اتهامي بأنني ديكتاتور يقرر للمترجمين ما ينبغي ان يترجموه وما لا ينبغي، وغير ذلك من العجائب قد أعفاني من الرد عليها تعقيبين مهمين للمترجم السوري يزن الحاج، والباحث المصري أمير الغندور. 
فما يهمني في الحقيقة هنا التأكيد أنه من غير الجائز أن يعرف الغرب كاتبة مثل رجاء الصانع، لا يضعها النقد الأدبي العربي في حسبانه، مقارنة بكاتب ثقيل، من الطراز الرفيع، مثل عبدالرحمن منيف مثلا. كما أنه ليس من الطبيعي أن يعرف القارئ الغربي نصا مثل تاكسي، ولا يعرف أعمالا مهمة لجيل الستينات المصري مثلا، أو أسماء كثيرة جدا أخرى ولا أريد أن أعود لضرب أمثلة، لأن أي متابع للأدب العربي يعرف العديد من الروايات المهمة اليوم، وكلها بالتأكيد يتفق على أنها لا يمكن أن تدرج مع بنات الرياض أو تاكسي في أي سياق، تماما كما يمكن لأي قارئ غربي أن يفهم أنه لا يمكن أن يقارن بين رواية لدان براون ورواية موبي ديك لهرمان ميلفل، مهما بلغ النجاح التجاري لدان براون. 
النقطة الثانية التي استوقفتني هي الامتثال المدهش من قبل جوناثان رايت لمنطق السوق التجاري، ولمزاج القارئ العام المدلل الذي يرغب في قراءة كتب سهلة لطيفة للتسلية، واعتباره أن أي كتب لا تخضع لهذا المعيار التجاري مكانها أقسام دراسة الأدب العربي في الجامعات الغربية. 
ودوري ككاتب هو مواجهة هذه الظواهر التجارية في الأدب العربي وكذلك في الغرب، لأن تحويل سوق النشر إلى مجرد مجال للاستهلاك الخفيف، في مثل هذا التوقيت الذي نرى فيه العالم، شرقا وغربا، وهو يموج بالعبث والفساد بسبب سيادة القيم الاستهلاكية، ونفوذ القيم النيوليبرالية التي لم تغذ شيئا كما فعلت في تغذية رأس المال الفاسد، وتمكينهعلى حساب كل القيم، هو بمثابة جريمة لا ينبغي أن نتركها تمر لأن المترجمين يرغبون في البحث عن نصوص تدر عليهم المال، ويرضى عنها الناشرون الرأسماليون المنتفعون من سيادة النيوليبرالية التي تضاعف أرباحهم على حساب أي شئ. وهذا بالتأكيد لا يعني التوقف عن إنتاج الأشكال المختلفة من الكتب الخفيفة والمسلية والمعرفية وغيرها، ولكن المقصود ألا تكون هذه هي الخيار الوحيد. 
وعلينا ألا نتناسى أن هناك في المقابل ترجمات لا بأس بها لعدد من الكتاب العرب الذين لديهم منتجا أدبيا متميزا، لكن الغرب لا يمتلك وسائل دعاية وإعلام جيد لهذه الكتب. فلا يوجد محررون متخصصون في نقد الأدب العربي ممن يقدمون مثلا الكتب المترجمة من أمريكا اللاتينية، بسبب ضعف اللغة العربية، من جهة في الانتشار غربيا، وانتشار كلاشيهات إعلامية وثقافية وجماهيرية تربط العرب بالتخلف وتصدير الإرهاب، رغم أن ظاهرة الإرهاب وحركات الإسلام السياسي حتى عربيا، تصنف في المجال الثقافي العربي كعدو حقيقي لحركة النهضة والتنوير التي ينبغي أن تحظى بالإضاءة والإعلام من الغرب، والحركة الثقافية والمدنية والجماهيرية العربية المناهضة للإسلام السياسي بالمناسبة ليست بالضرورة تابعة لمنظمات حقوق الإنسان ونشطاء حقوق الإنسان، لأن هذه الدائرة دائرة سياسية وليست ثقافية، وأحيانا تكون موجهة أيضا
وفي أغلب الأمسيات التي تقام ويكون بين أطرافها جمهور عرب نجد أن الموضوع يقدم باعتبار الكتاب مواطنين يأتون من بلادهم ليقدموا للجمهور تقارير عن أوضاع المرأة في بلدانهم، وحقوق الأقليات، وأوضاع الحكم، وليسوا فنانين، أو مفكرين، أو أصحاب أقلام متميزة وإضافات فنية تضاف لمنجز السرد العربي والعالمي التي تنتمي ل"ألف ليلة وليلة" الذي يعد أحد النصوص الملهمة لكل كتاب العالم في الشرق والغرب على السواء، وهذه هي القضية التي تشغلني وستظل تشغلني، حتى تجد حلا.

Thursday, April 19, 2018

حواديت




حواديت!





انتهيت مؤخرا من قراءة روايتين للكاتب الأمريكي فيليب روث، ومثلهما للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو. روايتا فيليب روث هما "الوصمة البشرية" من ترجمة فاطمة ناعوت، و"الحيوان المحتضر" من ترجمة مصطفى محمود. أما روايتا كالفينو فهما "البارون ساكن الأشجار" و"فارس بلا وجود"، وهما يشكلان بقية أجزاء الثلاثية المعروفة باسم "اسلافنا"، من ترجمة د.أماني فوزي حبشي. وكلها صادرة عن سلسلة الجوائز من الهيئة المصرية العامة للكتاب.

راودتني مشاعر متباينة في أثناء وعقب الانتهاء من قراءة هذه الروايات، ما بين الافتتان، والانبهار بطبيعة البناء الروائي في كل منها، واللغة والدقة الشديدة المتجلية في اختيار كل من الكاتبين البارعين لمفرداتهما، وكذلك من اللعب الروائي، الذي يجعل من السرد بطلا رئيسا، وليس من "القصة"، أو "الحدوتة".


يبدو فيليب روث مشغولا بالمجتمع الأمريكي المعاصر، وخصوصا بكذبات المجتمع الذي يرفع شعار الديمقراطية، بينما تتغلغل في جذوره أزمة العنصرية بشكل فادح. وهو موضوع رواية الوصمة البشرية، الرواية اللعوب بوصف مترجمتها الدقيق. بينما نجد أن كالفينو مشغول بكذبات المجتمع الأوروبي على ذاته، من خلال تحويل شعارات العدل والمساواة إلى كلاشيهات تتنافى تماما مع مضمونهما. ويقدم تصورا مختلفا لفكرة الفردية والاستقلالية من خلال نموذج البارون، المتخلي عن كل تراثه البورجوازي لكي يعيش بقية حياته أعلى الأشجار؛ مخلصا لهذه الفكرة، بإصرار، على مدى عمره الذي بلغ الخامسة والسبعين، ثم يعود كالفينو لاختبار الفكرة نفسها من خلال نموذج الفارس، بهيئته المعدنية الشائعة في أوربا القديمة، من دون أن يكون دخل تلك الدروع والمعادن الثقيلة الخاصة بحماية الفارس من الطعن، شخصا حقيقيا له ملامح.
وسوف أعود لكل رواية منها لاحقا، لأن المساحة لا تساعد على التوقف المفصل أمام هذه الروايات العبقرية.
ما أود قوله أن الروايات رغم ما يلوح من اختلاف كاتبيها وموضوعاتها للوهلة الأولى، لكنها، في القراءة المتأنية، تكشف كيف أن التراكم السردي لدى أوربا والغرب يؤدي إلى زيادة الوعي بمفهوم الرواية، مهما تباينت الأساليب. الوعي بمفهوم الرواية كنص سردي يقدم تحليلا عميقا جدا للتطورات الاجتماعية مبنية على فهم السياسي والاقتصادي من دون مباشرة ومن خلال الدخول عميقا تحت الجلد البشري، وعبر الذهن الإنساني الفردي المعاصر. يضع اعتبارات التطور الفكري والاقتصادي لمفاهيم الحداثة كجزء من متن السرد مغزولا في التقنية المستخدمة.
انتبهت أيضا أن سر انبهاري بهذه النصوص يعود لكونها متخلصة تماما من شوائب التشوش الذي يعاني منه السرد العربي الذي لا يزال يخلط بين "الحدوتة" باعتبارها رواية، وبين الرواية بوصفها نصا تقنيا، بمعنى أنه يبحث عن وسائل تقنية غير تقليدية ليحكي بها.
وتقديري أن المشكلة لدينا ليست في وجود نصوص عربية عديدة يكتبها كتّاب كُثُر لا تخرج من إطار فكرة "الحدوتة"، فهذا موجود حتى في الثقافة الغربية، حيث تتواجد آلاف العناوين لروايات شعبية، لطيفة، وخفيفة، أو حتى ذات موضوعات مهمة، لكنها روايات من أجل السوق الضخم المعروف بالبيست سيللر. لا تنشغل سوى بقارئ يريد بعض التسلية.
أما نحن، فلدينا روايات عديدة من "نصوص الحواديت"، يتناولها نقاد باعتبارها روايات عظيمة، أو جميلة، ثم نراها مرشحة لجوائز مرموقة تضفي عليها المزيد من المصداقية. وبين حواديت النصوص وحواديت الجوائز تغيب الرواية. 


Monday, April 16, 2018

اصطياد أشباح ذاكرة قهر السجان


إصطياد أشباح 
كيف تبني معتقلا شهيرا من الذاكرة؟ وتستدعهي أشباحه للواقع؟ 


اخترت تناول الفيلم (اصطياد اشباح) بداية لأنه بالفعل فيلم استثنائي من حيث التقنيات الفنية والفكرة والإخراج، ولأنه يدور حول فكرة الأسر في السجون الإسرائيلية، في وقت تشهد فيه فلسطين إضرابا عاما من قبل آلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية، من أجل تلبية مطالب الأسرى بزيادة عدد مرات الزيارات المسموحة وزيادة عدد ساعات الزيارة، إضافة إلى مطالب تحسين ظروف السجن نفسه.
يطلب المخرج في إعلان موسع مجموعة من الحرفيين: نجارين، حدادين، محترفي صباغة، مصممي ديكور، وغيرهم، ويفضل أن يكون المتقدم ممن تعرضوا للسجن في سجن مسكوبيه التابع للاحتلال.  (لاحظ أن صناعة الفيلم نفسه تأتي كجزء من الفيلم). والفيلم بالمناسبة حصل على جائزة الدب الفضي كأفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين السينمائي هذا العام.
المتقدمون يتعرضون لاختبار التمثيل، ويختار المخرج من بينهم من سيؤدون أدوار الأسرى، ومن سيقوم بدور المحقق. لكن قبل ذلك تبدأ محاولات إعادة بناء زنازين سجن مسكوبيه من ذاكرة الاسرى، وبينهم المخرج نفسه بالمناسبة. ويقوم المصممون بتصميم الديكور والحرفيون بتنفيذه على أرض الواقع.
تكتب مشاهد الاعتقال والتحقيق ويبدأ تصويرها، تأخذ الدراما مجراها، وتنقبض الأنفاس، مع لحظات التعذيب أو المضايقات أو العزلة، أو حتى إعادة تذكر الأسرى لتفاصيل ما مروا به حتى يصل الانفعال ذروته، بكاء، أو ألما، او حتى تماهيا مع شخص السجان! وهنا يتوقف التصوير، بالأحرى يتم القطع. ورائد انضوني بمونتاج الفيلم يقدم لنا درسا بديعا في فنون إيقاع السينما.
ينتقل المخرج فورا إلى تخفيف الدراما بالابتسامة التي تصنعها اختلافات وجهات نظر الحرفيين العاملين في الفيلم في تنفيذ باب أو جدار، أو استدعاء لقطة كوميدية طرافتها تتحقق من كونها تنخلق في وسط أقسى لحظات الأسر. أو استدعاء ذكريات الحب والعواطف. أو استهجان أحد الممثلين لتعرضه لتحرش من السجان، بأن ذلك قد يهز صورته أمام خطيبته، لكنه يعود ليطمئن نفسه قائلا إن الفيلم لن يعرض قبل أن يتم الزواج، فتنفلت الضحكات الصاخبة من صناع الفيلم والجمهور على السواء.
وهنا، هنا تحديدا سر من أسرار عبقرية الفيلم، ومكمن رسالته. فالقوة الحقيقية هي تلك التي يمتلكها الأسير لا السجان، رغم كل ما يمتلكه من سلاح وجدران عازلة وقدرة على الكذب، فهذا هو الموضوع العقلي الذي ينبغي أن يسيطر به الأسير على جسده. أن يحاول أن يغني فور أن ينتهي السجان من تعذيبه، أو ان يضحك بقوة أو حتى يفتعل الضحك بمجرد ان يغلق السجان باب الزنزانة. قوة المقاومة وشفرتها وسر استمرارها هنا بالضبط: في عقل الأسير الذي لا بد ان يظل يقظا، وان يميت جسده تماما في المقابل، أما اللاوعي فيحتال بالخيال والصور التي تستدعي له كل ما يحب أن يراه ليقاوم: صورة وجه الأم، ابتسامة محب، أو تربيتة يد متخيلة حد التماهي معها في الواقع من قلب حنون.
هنا مكمن دلالات فكرة المقاومة التي يحتفظ بها عموم الشعب الفلسطيني، لا يمكن أن يؤسر عقله مهما تعرض بدنه للإذلال أو المهانة. 

Tuesday, April 3, 2018

فصلان من رواية "مفتاح الحياة" الجزء المتمم لثلاثية جزيرة الورد




جزيرة الورد








عَدَدْتُ غيابها عن حياتي الضربة الثانية لي بعد موت عماد المبكّر، والصادم، الذي كان حَدَثًا مفصليًّا في حياتي وحياة كلّ شلّتنا (الأصدقاء المُقرّبون) تقريبًا. وبالرغم من أنني تمنّيتُ لها السعادة من أعماق قلبي، لكنّي، لن أسامحها أبدًا على زواجها المبكّر، ورحيلها إلى أمريكا مع زوجها. وسوف يلاحقني الشعور بالتعاسة لغيابها دائمًا. بينما سيظلّ عزائي أنها كانت سعيدة بقرارها بالزواج والهجرة.
جاكلين صديقة بالمعنى الذي أفهمه لفكرة الصداقة، ومعها أتحدّث عن أيّ شيء يخطر ببالي، فتبتسم وتهزّ رأسها بتفهّم وهدوء كعادتها.
 بين أسباب ارتباطي الروحي بها؛ إحساسي بأنها أكبر من عمرها، فقد كانت أكثر نُضجًا منّي بكثير. عاقلة، وهادئة، قارئة نهمة، وتحلم بالحياة في أوربا أو أمريكا. لم تشاركْني تعلُّقي بالشارع، والخروج مع عماد ورامي وشلّة الجيران في توريل. لكنها، لا تخفي شَغَفَهَا بحكاياتي عنهم. ووصفتْني بأنني أصبحتُ أُشبِهُ الأولادَ، بسبب شدّة ارتباطي بهم!

تاريخ مغادرتها للمنصورة أصبح تاريخًا مركزيًا، أُؤرّخ به الحكايات والأحداث. أحكي الحكاية، وأقول حَدَثَ ذلك بعد سَفَر جاكلين. وأحيانًا أبدأ قائلة: "لمّا جاكلين كانت هِنا، أو لمّا سافِرنا "رأس البرّ" مع جاكلين حصل كذا".
"بقَدْر جمال المنصورة بقَدْر ما أضاعتْ شباب الكثير من أبنائها". هكذا قالتْ يومًا، ومعها الحقّ طبعًا، فلا يمكن مقارنة المنصورة، بكلّ ما فيها، بليلة في الإسكندرية، أو القاهرة.
 اعتادتْ جاكي، كما نُدلّلها، في رحلاتها للقاهرة مع أمّها وأختها الأصغر، زيارة المسارح، والسينمات، والتّردّد على مطاعم أنيقة، ونوادٍ عديدة. أمّا هنا، فليس لدينا إلا ناديَيْن أو ثلاثة، وبعض المطاعم. السينما لا تليق بالعائلات. والحياة اليومية فيها مَبنية على الروابط الاجتماعية والزيارات العائلية في البيوت.
 لكننا، مع ذلك، مثل كائنات البحر؛ لا يمكن أن نبتعد عن المنصورة إلا ونشعر لها بالحنين الجارف. وهو مرضٌ شائعٌ عند أهلِها جميعًا تقريبًا. فمَن الذي لا يحبُّ المنصورة؟ ولعلّ تعلُّقنا بالمنصورة له علاقة بمعرفتنا بتاريخ المدينة الجميل.
كان عمّي وديع، مثلًا، حين يأتي لزيارتنا قادمًا من بورسعيد، يحكي لنا عن منصورة ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، فتبدو لنا كأنّها بلدة أوربية بسبب الأبنية العتيقة، مخروطية الأسقف، التي تخصّ الرعايا الأجانب. يُخرِج لنا ألبوم الصور الجِلْدي العتيق، الذي يحتفظ به معه في حقيبة صغيرة، أينما ذهب. نتأمّل الصور التي تبدو لنا كأنها رحلة في زمنٍ آخر. صُورٌ بالأبيض والأسود، مصقولة، وفي حالة جيّدة كأنها كروت بوستال. صور من زمن آخر، لا علاقة له بزمن بالمدينة التي نعرفها.

 لم نكن نملّ من تكرار الفُرجة على الصور، وبينها صورته وهو يقف بجوار مبنى القنصلية الإسبانية بتصميمه الأوروبي الجميل، أو أمام مدرسة "الفورير" التي درس فيها في صغره، وصور أخرى لشارع السِّكَّة الجديدة في الأربعينيات، مع صور جدّي فلتس وجدّتي اليونانية "تيته فيودورا". أخبرنا مرّة عن "حارة الخواجات"، التي عاش بها الكثير من الإيطاليّيْن واليونانيّيْن.
 من بين الصور التي كنتُ أتمنّى أن أحتفظ بها، صورة لعمّي وديع أمام المدرسة اليوناني، التي عملتْ فيها جدّتي "تيته فيودورا" أو "فوفا" كما يُدلّلها أفراد العائلة.
وكنّا منبهرين من مساحة الحدائق والأشجار حول مبنى المدرسة الذي يُشبه قصرًا فخمًا بسلالم عديدة. وكان واضحًا عُلو أسقف القصر الذي تحوّل للمدرسة اليونانية. وكان جدّو فلتس يقول إن المنطقة كلّها كانت تابعة للجالية اليونانية، حتّى الخمسينيات.
ولم نرَ صورًا لأبي في تلك المرحلة، إلا في صورة وحيدة، بدا فيها طفلًا، تحمله جدّتي بين يَدَيْها، وبجوارهما يقف عمّي وديع الذي كان يكبر بابا بأكثر من عشر سنوات.
وحتّى أمّي حَكَتْ لي أنها وزميلاتها خلال فترة الدراسة، كنّ يذهبنَ إلى السينما في الحفلات الصباحية. وبضحكةٍ خجولة؛ تُلَمِّح لي أن تلك السينما ملتقى المواعيد الغرامية بين البنات والشباب، حتّى لو اقتصر الأمر على تبادُل الابتسامات من بعيد، والغزل العفيف. ولمّا سألتُها إذا ما حدث مرّة والتقتْ بابا في موعد غرامي في السينما، فابتسَمَتْ في خجل، وطلبتْ منّي السكوت. وفهمتُ طبعًا أنها ربّما كانت تلتقي شخصا آخر قبل أن تتعرّف إلى أبي، الذي تزوّجتْه زواجًا تقليديًّا.
حكى لي بابا أيضًا عن "مدرسة الليسيه"، التي تقع في أوّل شارع طلعت حرب في توريل، قبل أن تتحوّل لمدرسة حكومية. وعن جمال أيّام المنصورة زمان. وعن الطبقات الأرستقراطية التي وجدت متنزّهًا لها في "نادي التجديف" و"كازينو النيل"، بالإضافة للحفلات الموسيقية التي كانوا يُقيمونها لأمّ كُلْثُوم وعبد الوهاب وكبار الفنّانين في قصورهم، خصوصًا قصور عائلة الشّنّاوي.
وحين نسأله عن تفاصيل بعض ما أخبرنا به "عمّي وديع" يقول لنا مبتسمًا إن وديع لا يعرف شيئًا عن المنصورة منذ الخمسينيات، بسبب انتقاله إلى بورسعيد للعمل هناك، وبقي بها، وتزوّج، وصارت معرفته بها أكبر من المنصورة.

كلّنا نعشق المنصورة بجنون، ولكننا أيضًا نعرف أنها أصغر من طموحاتنا، ولذلك كان من الطبيعي، بين آن وآخر، أن نسمع عن هجرة أو سَفَر أصدقاء لمَنْ هم أكبر منّا عُمرًا.
 ولكننا كنّا نستقبل الأمر بشكلٍ طبيعيّ، بسبب سُمعة المشاهير الذين انطلقوا من المنصورة، وأصبحوا نجومًا في المجالات كافّة. وهو ما يجعلنا نشعر بالزهو، ولا نبالي بسخافات الذين يسخرون من انتشار زُرقة عيون الفتيات، بالإشارة السخيفة إلى تزاوُج الفرنسيّيْن بأهل المدينة إبّان حملة لويس التاسع وهزيمته وأَسْره في المدينة.
 في النهاية، ارتبط قَدَرُ المنصورة بطريقة بنائها كمدينة عسكرية محدودة المساحة، ولم تكن له أيّ حلول. وأسهم الريف والقرى القريبة منها في تضييق الخناق حولها بما لا يتيح أيّ مجال لتوسّعها.
مع ذلك، كانت المنصورة، وستظلّ، بالنسبة لنا، العالم كلّه.


*******




الرســــــــــالة 4



كريستين .. يا حبيبتي ..

هل تُصدِّقين أني توقّفتُ عن قراءة القانون؟ قرأتُ ما يكفيني لمائة سنة بصراحة، في القوانين الجنائية والدولية والدستورية، وحفظتُ عشرات النصوص القانونية، وطبعًا قرأتُ عشرات القضايا والملفّات، والآن أشعر أنني أصبحتُ متمرّسًا بما يكفي، لكي أتفرّغ لقراءات أخرى. أقرأ الآن في الأدب والفكر والفلسفة. وأستدعي أيّامنا الجميلة، حين كنّا نتبادل القراءة.
اكتشفتُ قصيدة لأمل دنقل، يقال إنه كَتَبَهَا لحبيبة طفولته، وهي من المنصورة، واسمعي ماذا يقول فيها:

"في صمت "الكاتدرائيات" الوسنان
صور «للعذراء» المسبّلة الأجفان

يا مَنْ أرضعت الحبّ صلاة الغفران

وتمطّى في عينَيْكِ المسبّلتَيْن
شباب الحرمان
ردّي جفنَيْكِ

لأُبصر في عينَيْكِ الألوان

أهما خضراوان

كعيون حبيبي؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن

يسأل عن حبّ

عن ذكرى

عن نسيان!

والعينان الخضراوان

مروّحتان!".

الآن أقرأ وحدي تمامًا. وإن كنتُ أرفع صوتي متخيِّلًا أنكِ تسمعيني، لكنْ، على أيّ حال، لا أظنّ أنه كان بإمكاني تجاوُز هذه المحنة من دون القراءة فعلًا. لم يعد يعنيني شيء في هذا العالم. ولولا محاولات نادية للضغط عليّ لزيارة بيت العائلة في المنصورة بين آن وآخر، وترتيبها لجلسات عائلية مع أمّي وأبي، لاعتزلتُ العالم تمامًا. مع ذلك، أظنّ القراءة سوف تُنقذني من هذه المحنة بشكل ما، ولا أعرف الآن الكيفية.
سأُضطرّ أن أذكر لكِ ما رفضتِ أن تستمعي له طَوَال الفترة التي عشناها معًا منذ عودتنا أحياء من نضالنا المقدّس:

سأذكر لكِ الآن أوّلًا أنني لولا تمسّكي بالقراءة حتّى في أعتى فترات اقتناعي بالخُرافات التي غسل بها عقولنا جماعة الإخوان، لرُبّما كان مصيري اليوم زنزانة مُعتمة، أرى فيها الثمن البخس الذي يمكن أن يبذله الإنسان راضيًا لوجه الله، كما يزعمون، أو مُجاهدًا بلحيةٍ في قندهار، أرتدي جلبابًا قصيرًا، وأضع على رأسي المُلتحي عمامة، وأُمسك ببندقية أو رشّاشًا آليًّا، ينتظر العدوّ المُختَلَق في البشر كلّهم؛ الكُفّار، لكي أقتلَهم، وأُخلّص البشرية منهم، ولكي أزيدَ من حسناتي التي سُتوفّر لي مكانًا في جنّة ممتلئة بالحور العين. أيّ بؤسٍ كان سيؤول إليه مصيري، يا كريستين، لولا القراءة؟
وبينما كان المفترض أن أقرأ "سيّد قُطب"، وكُتُب الغزالي وفقه السُّنّة للسّيّد سابق، والأوراد، وقد قرأتُها بالفعل بالمناسبة، لكني لم أكن لأتنازل عن قراءة رواية لنجيب محفوظ مثلًا، أو رواية من روايات العظيم دوستويفسكي. وليسا وحدهما طبعًا، كما تعرفين، فقد قرأتُ بالإضافة لهما "توفيق الحكيم" و"يوسف إدريس" و"إحسان عبد القدّوس" حبيبكِ! وبعض الروايات المترجمة الجميلة. كان التماهي مع "أوليفر تويست" جزءًا من تدريبي على حيوات أخرى، لم أعشها.
بصراحة أنا لا أعرف ولا أتخيّل كيف تكون الحياة مقبولة لو لم يكن "دوستويفسكي" موجودًا؟
 هذه القراءات، بلا شكّ، وقفتْ حائطًا منيعًا بيني وبين تحوُّلي لمُجرّد مُتلقّن ساذج لأفكارهم، هؤلاء البؤساء، ليُردّد ما يقولون مثل ببغاء أحمق.

طبعًا آنذاك لم يكونوا بالنسبة لي بؤساء، بل كانوا رفاقًا وإخوة في الله، كما كنّا نتنادى. وكان للأمير مهابة خاصّة بيننا. وبشكل شخصيّ، لن أنكر أنني كنتُ أحبّه. كان أكثر تسامحًا وبشاشة من غيره من المتجهّمين، وأقلّ تكلّفًا وادّعاء. وأظنّه مُنح "إمارة الجماعة"، لأنه كان أكثر تفقّهًا من غيره. وبصراحة أكثر سأقول لكِ لأنه، وهذا كان مُجرّد إحساس لم أكن قد فكّرتُ في تفسيره في ذلك الوقت، كان من طبقة وسطى مُتيسّرة، وبالتالي كانت قناعاته في الأساس دينية، وليستْ طبقية أو وليدة عقد نَقْص، كما كنتُ ألاحظها عند غيره.
 ربّما كان يمتلك لونًا من الصدق، لم يتيسّر لغيره. كان أكثر مَنْ ينفّرني بينهم الريفيون الذين وصلوا لدراسة الهندسة أو الطّبّ، وكانوا يجدون في الانتماء للجماعة قوّة معنوية، ووجاهةً ما. كنتُ أشعر بذلك في نكاتهم الطبقية أو محاولة الاستخفاف بالطبقات البورجوازية.

 فكرة الانتماء للجماعة بمثابة الصفعة التي يُوجّهونها للطبقة التي لا ينتمون لها، من منظور متعالٍ، لأنهم يُمثّلون المرجعية الأعلى، وهي الدِّين.
لعلّ هذه الأفكار هي ما جعلتْني لا شعوريًا أنفر منهم، وربُّما جعلتْني أكثر إصرارًا على القراءة في العوالم التي أعرف أنهم لن يقتربوا منها لا جهرًا ولا سرًّا. ومنها كنتُ أستمدّ شجاعة الرّدّ على ابتساماتهم المُستخِفّة أمام أسئلتي الفقهية التي كنتُ أحاول بها التّأكّد من مدى سماحتهم.
في رمضان مثلًا، وبعد العصر، أقترب من المسؤول الأكبر عن مجموعتنا، كانت له ملامح آسيوية غريبة، ولعَرَقِهِ رائحة نفّاذة، وحتّى "السِّوَاك" الذي يستخدمه لم يكن قادرًا على إزالة صفار أسنانه العجيب.
أقول له إني احتلمتُ خلال نومي، ولا أعرف هل سيُقبَل صيامي؟ أم لا؟ فينظر لي مُستفِزَّا، لكنه يحوِّل استفزازه إلى ابتسامة صفراء مذهلة، ويردّ بما يعني أن أستريح وأُكمل صيامي. أبتسم له ابتسامة ناعمة، وأهزّ له رأسي بجدّيّة دلالة على استفادتي من علمه الغزير.
في الحقيقة كنتُ أقرأ "فقه السُّنَّة"، وأعرف أن إجابات الأسئلة كلّهم موجودة في الكُتُب، لكني انتبهتُ لفكرة أُبوّتهم لنا. شكَّلَ لي نوعًا من الاستفزاز، لأني أيضًا لي مشاكلي مع إحساسي بسلطة أبي. واكتشفتُ أنهم مبرمجون للتعامل مع شخصيات لا تقرأ، أو تقرأ القشور. لم أكن مستعدًا حتّى لمناقشتهم في أمور أكثر تعقيدًا، مثل "خَلْق القرآن" أو "العلاقة بالقَدَر" وهل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؟ السؤال الذي قادني للتفكير في هذه الأمور كلّها، وشغلني بعد موت عماد بالبحث عن إجابات دقيقة عنها.

كانوا أصحاب ثقافة شفاهية، تناسب بسطاء الناس: الخطبة هي موضع التأثير الرئيس، هكذا انتشرتْ أفكار "الشيخ كشك"، الذي كفّر المجتمع، وكل ما له علاقة بالفنّ أو الحياة المَدَنية، وهكذا انتشرت فكرة الاعتماد دائمًا على مُفتٍ، يُفتي للجميع بما يحلّ، ويحرّم ما يراه حرامًا.
ولا أزعم أنني امتلكتُ مثل ذلك الوعي الطبقي آنذاك، لكن شعورًا باطنيًا ما، في أعماق قلبي، انتبه لتفاصيل صغيرة كهذه، لم تجد جاذبية كبيرة في نفسي. ومن المؤكّد أن أمرًا مرّ عليه اليوم أكثر من 15 عامًا لا بدّ أن يراه الفرد بشكل مختلف.

بيني وبينكِ، اكتشفتُ الآن أن وعينا الطبقي لم يكن مُستفَزًّا. أقصد، لم نكن مهتمّين بوعينا بالطبقة. ربّما هذه حال الطبقة الوسطى عمومًا، أكثر تصالحًا مع ذاتها. لكنني أستعيد تلك الأيّام، فأسترجع ما أعدّه خُبثًا في هذا الشخص. الطريقة التي كان يتعمّد بها إيغال صدر صديق ممّنْ انضمّ إلينا آنذاك ضدّ عائلته، وكان أهله من عائلة إقطاعية شديدة الثراء. كان يتعمّد أن يتحدّث بابتسامته السخيفة الصفراء اللاإنسانية، التي يخفي بها ارتعاشة صوته من فرط الحقد والغلّ، عن مطامع الإقطاعيّيْن، وظُلمهم، وعرفتُ من ذلك الصديق أنه دخل في نقاش حادّ مع جدتّه، لأنه أخذ يسبّ جدّه الميت أمامها، ويصفه باللصوصية وامتصاص دم الفقراء.
كان الفتى آسيوي الملامح، يُخلّص حسابه الشخصي مع تاريخه، سواء بوعي أو من دون وعي. أظنّه وأمثاله كانوا يجدون في تنظيم مثل الإخوان ما يجعلهم يحاولون تعويض الكثير من النقص بسلطة النفوذ الدِّيني التي تمنحهم إيّاه الجماعة.
مع ذلك، لم ننتبه أبدًا لموقعنا الطبقي، وشخصيًّا كنتُ أميل للبساطة، وأؤمن أنني في وسط الوسط. أصادق البسطاء أو أبناء الطبقة العليا بالحماس نفسه. طبعًا وأنا معك، وأحيانًا أنا وأنت وعماد، كُنّا نقارن بين عائلاتنا التي تتماثل في كونها طبقة أبناء الموظّفين وبين شخص من أصدقائنا ممّنْ يملك أبوه بُرجًا من تلك الأبراج الجديدة التي عرفت طريقها للمنصورة منذ نهاية السبعينيات، أو أراض زراعية وسيّارات، وأشياء من هذا القبيل. ولكنها لم تمثِّل لنا حُلمًا حقيقيًّا. لم نكن مادّيّيْن بشكل ما.
لكن هذه التفاصيل كلّها كوم، وما سمعتُهُ من الأصدقاء الأكبر عُمرًا الذين انخرطوا في جماعة أخرى منظّمة أكبر عمرًا منّا، كانوا قد تجاوزوا المراحل اللّيّنة التي كنّا نمرّ بها، وبدؤوا في اختبارات في تقديري ليستْ إلا عسكرية، خطط لأعمال عنف ضدّ الحكومة، وتدريب على الرماية، ومسائل حين استمعتُ لها أصابني الفزع، كانت كومًا ثانيًا. بعد يومَيْن فقط شاهدتُ كما شاهد العالم حادث المنصّة واغتيال السادات.
 ربّما راودني إحساس بالارتياح للحَدَث الضخم، أو ربّما مثل كثيرين أصابتْني الدهشة التي جعلتْ عقلي يسعد بأن حاكمًا بأمر الغطرسة قد قُتل في يوم، لا يمكن للمرء أن يتصوّر فيه ما حدث، أو الإحساس بأن ثقلًا هائلًا أطبق على قلب البلد، وأخيرًا أُزيح بغير رجعة. هل غذّى تلك المشاعر ما غسل به هؤلاء البشر عقلي حتّى أصبحتُ أجد فيه الأمل مثلهم؟
 خلال يومَيْن من التفكير، اكتشفتُ أن الأمر لم يعد مُجرّد تقرّب من الله وعبادة، بل خطّة كبيرة، ربّما أكبر من خيالي بكثير. هل كانوا يرغبون أو يطمعون حقًّا في السيطرة على الحكم؟ لم يدرْ ببالي هذا الخاطر من قبلها.
كان عليّ إعادة تأمّل كلّ شيء، فقرّرتُ التّوقّف عن الذهاب إلى المسجد، وكثّفتُ من قراءاتي العلمانية. وبالتدريج، كنتُ أرى زيف تلك التجربة بكلّ ما فيها. والأهمّ الكذب الصارخ فيها للتّعلّق بالدِّين من أجل أسبابٍ دنيوية محضة هي السلطة.

أتساءل خلال الفراغ الكبير الذي أعيشه بعد غيابكِ عن أشياء كثيرة، أسأل نفسي بينما أسأل عمّا جذبني إليكِ، غير جمالكِ، وضحكة عينَيْكِ الخضراوَيْن ـ رغم إصرار الجميع على أنهما زرقاوان ـ اللَّتَيْن يمكن لهما أن تُضحِكَا العالم كلّه. الإجابة تمثّلتْ في هذا الإحساس الغامض بأن مصيرنا واحد، وباشتراكنا في البساطة. لم تكوني بالغة التّأنّق مثل جاكلين مثلًا. ولا أُقيّم هذا الآن. فقط أصفه وأراه كان مثاليًا بالنسبة لي. أعتقد أن قراركِ بالرهبنة له علاقة بتكوينتكِ المستغنية أيضًا. ولهذا أعتقد أننا أحببْنا بعضنا البعض. كنّا نبحث عن أشياء أخرى مختلفة عمّا يمتلكه الآخرون.
في هذا الفراغ، وفي مواجهة الزمن، هنا في غرفة المعيشة الصغيرة التي تعرفين. أجلس لأكتب هذه السطور، بينما ينازعني الأمل أن أسمع طَرَقات الباب، وأفتح لأراكِ، فنجلس لنستكملَ هذا الحوار، وكأن شيئًا لم يكن. ولكنْ، حتّى الآن، لا طَرقات. كالأحلام كلّها التي أحلمها ولا تتحقّق. لا أسمع إلا صوت نبضات قلبي المتوتّرة.
سوف أُنصت الآن لأُغنيّة من أُغنيّات ماجدة الرومي التي كنّا نسمعها في الوكر معًا، "خِدْني حَبيبي" أظنّها كانت المُفضّلة بالنسبة لكِ.

"تصبحين على خير أينما كنتِ، يا عمري الضائع".

الجمعة 2 فبراير 1996