Sunday, March 27, 2016

وداعا للعقل



تغريدة

وداعا للعقل!

إبراهيم فرغلي

أشعر بخسارة مضاعفة مع كل خبر لوفاة عقلاني عربي، في زمن أصبح التفكير فيه خطيئة. زمن يُغتال فيه العقل في عصرنا العربي المكبّل بالغيبيات، والنقل عن ناقلي التراث، وبانتقال جينات الديكتاتورية من السلطة للفرد، ومكبل أيضا، بصلافة المراهقة الفكرية، وشللية القبائل الثقافية!
نعم أشعر بخسارة فادحة لغياب المفكر والمثقف والعقلاني الموسوعي جورج طرابيشي، وإن كنت أعرف أن وفاته، كما الشائع في ثقافتنا، سوف تكون تكأة لإنعاش أفكاره ومشروعه الرائد في نقد مشروع "نقد العقل العربي" للمفكر المغربي الراحل عابد الجابري، مقدما نموذجا فريدا في كيفية وضرورة تخلي حارس المعرفة، أيا كان، عن تقديس آباء المعرفة، المفترضين، وكشف ثغرات مشروعاتهم التي قد تبنى على اقتباسات، أو نقل عن فرع، من دون تمحيص.
نقد "نقد العقل العربي" اقتضى من طرابيشي ربع قرن بالتمام، عاد خلالها لمصادر التراث التي استعان بها الجابري، ليتأمل ويقارن، ويتعرف على مواطن التراث التي جاءت بما يتناقض مع معارفه الشخصية، أو مع ثوابت ووقائع ومقولات تاريخية، كأن يعود لقراءة رسائل إخوان الصفا للتحقق من مقولة عابرة للجابري؛ زعم فيها أنهم أنكروا الفلسفة، وهو ما يتناقض مع الكثير من منجزهم مثلا، وبهذا كان مشروعه الأساس كشف المنطلقات المزيفة في نقد العقل العربي لأجل عقلانية غير مزيفة.

كم مقولة ومشروع فكري نحتاج اليوم لإعادة تأملها وفحصها ونقدها، وخصوصا تلك المقولات التي يتناقلها بعض المثقفين عن الديمقراطية المستلبة من النموذج الغربي، والتي يستخدمونها لمغازلة الغرب، لكي يصفهم بالمستنيرين على حساب فهم الواقع الذهني والثقافي للمجتمع المصري، وبناء الطريقة التي يمكن بها تجذير مفاهيم الثقافة الديمقراطية بعدل كامل بين فئات متنافرة ومتباينة طبقيا وثقافيا واجتماعيا. كيف يمكن تثوير المعرفة في مجتمع تسوده الأمية الأبجدية، ويرفل متعلميه في أمية ثقافية مروعة؟ وكيف يمكن تحقيق مساواة الفلاح الأمي الذي يأتي "أكل العيش" في أعلى سلم أولوياته، مع الثوري النقي المتحذلق المتعالي بقشور المعرفة بلا إدراك حقيقي لجوهرها على تراب هذه الأرض وثقافة أهلها؟ والذي ينادي بالحرية بينما يخلط بينها وبين التحرر؟
كم مقولة نحتاج لإعادة تأملها لتفضح كيف أصبحت الديمقراطية مجرد مقولات مزيفة يستخدمها شارع ثوري مزيف لأجل أن يظل محسوبا على "شلّة الثورة"، ويحقق شعبية عابرة للأجيال، أوخوفا من أن يتعرض للتجاهل والإقصاء عن جنة الديمقراطية الثورية الشابة؟ وجنة المنح والدعوات والمؤتمرات "الديمقراطية" الغربية؟
كم مقولة نحتاج لتمحيصها لندرك أن نقد السلطة وإن كانت واجبا، فإن نقد المعارضة من داخلها فريضة، ومسؤولية من يريد حقا أن يقوّم السلطة أو يقاومها؟ فلا أمل لبناء مدني من دون معارضة قوية.
في كتابه الاستثنائي "من النهضة إلى الردة"، حذر طرابيشي من الغلو في تحويل الديموقراطية إلى معجزة، موضحا أنه بقدر تحولها لمذهب من مذاهب العصر الذهبي، فإنها قد تكون قاتلة لنفسها. فالديموقراطية منطق لا لاهوت، معادلة جبرية لا صيغة سحرية. ومؤكدا أنه من دون "ثقافة الديموقراطية" فإن الإجرائية، أو الشكلانية الديموقراطية، قد تنقلب وبالاً على الديموقراطية نفسها. وبالمناسبة، لم يكن يقصد الدعوة للديكتاتورية طبعا، بل داعيا لتأمل المفاهيم، بل محذرا من ديمقراطية مزيفة قد تهوي بالجميع إلى هاوية.

نشرت في القاهرة في 22 إبريل 2016



Tuesday, March 22, 2016

عن الجنس والكتابة


عن الجنس والكتابة





بين ظواهر المصادرة العديدة التي شهدتها خلال العقدين الأخيرين، كثيرا ما استوقفتني المصادرات أو منع الكتب التي استندت على مبررات تتكيء على الجنس.
 طبعا كل وأي مصادرة بالنسبة لي: صادمة ومذهلة، وتحمل قدرا كبيرا من العنف المعنوي الذي يمارسه الرقيب والتواطؤ معه جريمة لا تقل عن جريمته في رأيي أيا كان التابو.
لكن بالفعل يبدو تابو الجنس بالنسبة لي محيرا. في رواية "أبناء الجبلاوي" يقول كاتب الكاشف، أحد ابطال الرواية، أن الجنس دليل على ديموقراطية النص، وأن النص الخالي من الجنس نص مقموع ومكبوت، وأظنني متفق معه تماما فيما يذهب إليه.
بشكل شخصي لا أعتقد ان هناك قاريء ما في أي مكان وأيا كانت ثقافته، بما فيهم دعاة المصادرة أنفسهم يأنف من القراءة عن الجنس، إلا إذا كان معقدا أو مكبوتا، أو ضحية للنفاق الاجتماعي، لأن الجنس هو في الحقيقة غريزة طبيعية في الإنسان، وليس فيها ما يشين.
 أرغب، منذ فترة طويلة، في كتابة نص إيروتيكي لمجرد التجريب، والتأكد من قدرتي على كتابة نص حر تماما، أخلاقيا، وهي مغامرة لم تكتمل في ذهني بعد لخوفي من ان يكون الجنس بمفرده مملا، ولكن من يعرف فربما أجد يوما الصيغة التي ابحث عنها، كما فعلت في اشباح الحواس بشكل ما.
لكني لا أتوقف عند الجنس، إطلاقا. تلقيت تربية متحررة ومتخففة من الكبت، وقرأت مبكرا عن الجنس، بلا رقيب، وشاهدت المجلات الجنسية والأفلام في سن صغيرة، وعندما قررت الكتابة كنت قرأت "الجدار" لسارتر، وهو أحد الأعمال القصصية التي تاثرت بها كثيرا، خصوصا في الجانب الأوديبي لتشريح الوعي بالجنس بناء على خبرات المراهقة، وكذلك في مستوى الاختلاف في معنى الحميمية والإحساس بالجنس من وجهتي النظر الذكورية والأنثوية، وكذلك في منطقة العقد النفسية وعلاقتها بالجنس، فهذه المجموعة القصصية (نشرت منها طبعة أخرى مختصرة بعنوان الغرفة) تتداخل مع البعد النفسي بشكل عميق، وتأكدت أن الجنس عنصر اساسي في التفكير والوعي والحياة وفي القرارات المصيرية في حياة البشر، بلا تعقيد ولا ادعاء.
في حوار مع الصديق يوسف رخا حول الموضوع، وعن دلالة استخدامي للجنس في أعمالي قلت له: لذلك أنا أعتبر الجنس عندي مثل اللغة أساسي جدا، والسؤال عنه مزعج كأنك تسالني لماذا تستخدم لغة جميلة؟! ومع ذلك فانا أعرف أن اللغة الجميلة وحدها تصنع حالة كتابة من أجل الكتابة، وهذا ليس طموحي، فانا اقدر أن البعد الاجتماعي أوالفكري والسياسي قد يمكن تسريبها جميعا بفنية وبراعة داخل النص على طريقة ساراماجو، وبالتالي النص الجنسي ايضا قد يكون مملا مثل النص اللغوي.
لهذا اظن ان الجنس عندي يدخل في متن النصوص ويتوزع فيها كأي عنصر آخر، وعلى أي حال فيما يلي مقال او بالأحرى تحقيق  صحفي اجريته منذ فترة طويلة ونشر في مجلة "الأهرام العربي" نهاية التسعينات إثر ازمة ما عرف آنذاك باسم "أزمة الروايات الثلاث"، ولا أزال أرى الموضوع صالحا للقراءة اليوم كأنه كتب بالأمس، وليس قبل نحو عشر سنوات:


الجنس في الأدب ازمة مجتمع أم أزمة كتابة؟

أغلب الذين رددوا المقاطع المحظورة من الروايات الثلاث التي صادرها وزير الثقافة ـ فاروق حسني أخيرا بدعوى أنها كتابات بورنو ـ بدهشة كشفوا عن بعد من أبعاد أزمة كبيرة يعانيها المجتمع المصري‏..‏ وهي الازدواجية‏..‏ التي تقبل بالإباحية في الخفاء بينما الإعلان عنها يكون خطيئة ‏..‏ كما كشفوا في نفس الوقت عن أزمة أكبر في تلقي الأعمال الأدبية‏..‏ إذ أن الأدب العالمي في غالبيته العظمي تناول الجنس بدرجات متفاوتة تصل إلي حد الإباحية كما في كتابات هنري ميللر كما أن الأدب العربي المعاصر بدءا من نجيب محفوظ مرورا بإدوار الخراط ويوسف إدريس ثم جيل الستينيات لا يخلو من مشاهد جنسية صريحة‏..‏ فأين هي المشكلة؟ وهل هناك أزمة جنس في الأدب العربي أم أن هناك أزمة جنس في المجتمع؟
الناقد والشاعر د‏.‏ محمد بدوي في مقال كتبه عن الموضوع في صحيفة أخبار الأدب يري أن البعد الأساسي للأزمة يتمثل في انعدام تقاليد القراءة مما يجعل القاريء غير مدرب علي نحو معقول علي التفريق بين أدب وأدب‏,‏ كما أن هذا القاريء المثقل بالكبت سوف يرفض علنا هذه الكتب لكنه سيجهد نفسه لاقتنائها والاطلاع عليها‏.‏
والذين اتهموا هذه الكتابات بأنها بورنو قد لا يعرف التعريف الدقيق له وهو ما فعلته د‏.‏ فريال غزول أستاذ الأدب في الجامعة الأمريكية في ندوة عن حرية التعبير حيث أوضحت‏,‏ أن بورنو منتزعة من كلمة بورنوغرافي وهي مصطلح أجنبي متشكل من جذرين هما ‏graphy‏ وتعني كتابة و‏porno‏ وتعني البغي‏.‏ والكتابة البورنوغرافية لا تقتصر علي ما هو جنسي بل تتاجر بالجنس وتجعل منه سلعة للبيع كما يفعل العاهر أو العاهرة‏,‏ وبالتالي فالبعد التجاري والتكسب أساسيان وهو ما يميز البورنو عن غيره من المجالات ‏(..)‏ ولأن الغاية تجارية في البورنو فالكتابة فيها تبتعد عن التعقيد والتركيب ليسهل استهلاكها‏,‏ وكتابات البورنو لا تكتفي بتقديم مشهد جنسي تقتضيه ضرورة الحبكة بل يكون العمل كله من الغلاف إلي الغلاف مشغولا بالجنس انشغالا كليا‏(..)‏ وأما الروايات الثلاث التي نحن بصددها فوقوعنا علي مشهد جنس لا يزيد علي أماكن قليلة ومتفرقة ولا يقع القاريء علي هذه الفقرات إلا بعد أن يكون قد قرأ عشرات وعشرات من الصفحات مما لا يرتبط بالجنس علي الإطلاق‏.‏
الدكتورة سامية محرز أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأمريكية تؤكد أنها تختار الكثير من النصوص لطلبتها لقرائها وقد يكون بها نصوصا جنسية لكنها ليست بورنو لأن البورونو يتعامل مع الجنس بمنطلق تجاري ولا علاقة له بالأدب‏..‏ أو أنه يستدعي إثارة المشاعر الجنسية للقاريء‏.‏
مع ذلك فحتي البورنو يمكن أن يدرس كنوع قائم بذاته مثل الخيال العلمي والروايات البوليسية وأدب الجريمة وغيرها‏..‏ لأن البورنو في النهاية نوع أدبي له سمات وظرائق معينة في البني ويمكن أن يكشف عن مواصفات اجتماعية وسلوكية خاصة بالمجتمع‏.‏
وفيما يتعلق بالروايات الممنوعة ليس بالضرورة أنها جيدة  من حيث المستوى الفني، وهذا ما سيحسمه النقاد في النهاية، لكنها سلكت طرائق تجريبية لابد من تشجيعها حتي لو أنها ناضجة بما يكفي‏..‏ لأنها تمثل قطاعا من الأصوات الجديدة في خريطة الكتابة‏.‏
في كتابه المهم أزمة الجنس في القصة العربية يتتبع د‏.‏ غالي شكري تاريخ كتابة الجنس في الأدب ومدي الكشف أو التستر والترميز الذي يستخدم به الجنس وفقا لظروف العصر ووضع المرأة فيه ‏..‏ فكلما قل وضع المرأة قل التعبير عن الجنس مثلما حدث في القرن الثامن عشر فبهذه النظرة الرومانسية رأي الإنسان الجديد حاجته الملحة تتحول رويدا رويدا إلي حاجة ثانوية‏,‏ بعد أن أحاط المرأة بهالة نورانية من ضوء سماوي خالد وانزوي الجنس من صفحات الأدب الرومانسي إلي الهوامش لأنه لم يصدق أن المرأة ـ هذه القديسة الملائكية ـ يمكن لجسدها أن يحتوي هذه الحاجة الملحة‏.‏ حتي ظهر بلزاك وموباسات وفلوبير وما أسهموا فيه من إعادة الربط بين الحب والرغبة والجنس‏.‏
ثم اختلف الأمر بظهور رواية عشيق الليدي تشاترلي لـ د‏.‏هـ‏.‏ لورانس والتي أثارت ضجة كبيرة لأن لورانس كانت لديه نظرية محورها أن الجنس ليس مظهرا لنشاط الإنسان بل هو أصل هذا النشاط‏.‏

وعندما يتناول د‏.‏ شكري رواية نابكوف الأشهر لوليتا التي تحكي علاقة بين رجل في الأربعين وحبيبة في الثانية عشرة يرصد إحدي فقراتها وفيها يقول الرواي‏:‏إن شبقي الشديد إلي تلك الطفلة كان أول شاهد علي فرديتي الانعزالية المنطوية ويصف د‏.‏ جون راي أستاذ الفلسفة أوصاف الراوي وخيالاته بأنها قد تثير الخجل والذعر عند المنافقين الاجتماعيين لكنها في الحقيقة ليست إلا رواية واقعية تبسط الواقع بصراحة وصدق‏.‏
وفي هذا الكتاب نالت كتابات نجيب محفوظ القسم الأكبر من الاهتمام بدراسة الجنس فيها ثم يحيي حقي وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وكوليت خوري وليلي بعلبكي‏..‏ ويتراوح بالتأكيد تناوله لدي كل منهم بشكل كبير لكنه كان مقبولا لدي القاريء بشكل عام‏.‏
ومع ذلك فهناك آراء تري أن الكتابة الإباحية استفزازية وسنجد مثلا أن الشاعر الفلسطيني محمود درويش في حواره مع أخبار الأدب يقول في هذا الموضوع‏:‏ مبدئيا لا أعترض علي حرية المبدع في كسر أي تابو لكن ضمن مشروع إبداعي حقيقي أما إذا كان هذا الكسر للاستفزاز فقط ولا يفيد العملية الإبداعية وليس جزءا عضويا من النص يصبح أمرا مجانيا صحيح أنا لا أكتب في هذه الموضوعات أنا شاعر محتشم لكن أحبّ الشعر الإيروسي ‏(..)‏ ولكن لا أحب البورنو أو الأدب الإباحي ليس لأن لي موقفا مضادا للجنس ولكن دفاعا عن الإثارة الجنسية ‏..‏ أفضل الإيروسية علي الإباحية حتي من الناحية الشهوانية‏..‏ العمل الإيروسي يخدم أكثر من العمل الإباحي‏.‏

لعل أفضل ما كتب في التفريق بين الإيروتيكي أو الإيروسي والإباحي ما كتبه الشاعر أوكتافيو باث في كتابه اللهيب المزدوج حيث يقول‏:‏علاقة الشعر باللغة هي علاقة مماثلة لتلك القائمة بين الإيروسية والجنس‏(..)‏ الكلمات لا تقول الشيء نفسه كما في النثر‏,‏ فالشعر لم يعد يتطلع إلي أن يقول بل إلي أن يكون واضعا وظيفة التواصل بين قوسين كما تفعل الإيروسية مع التناسل‏.‏ وكأنه يقول أن الإيروسية هي الجنس الشعري‏.‏
علي النقيض من هذه الآراء يقف د‏.‏ فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة والذي كتب في الأهرام‏:‏ إنني لا أتردد بوصفي أستاذا ظل يقوم بتدريس مادة فلسفة الجمال والفن في جامعات مصرية وعربية لمدة لا تقل عن أربعين عاما ـ بالإجابة عن السؤال بالنفي‏.‏
أما السؤال فهو‏:‏ هل يعد التمادي في الحديث عن الجنس والوصف المفصل للتجارب الجنسية نوعا من أنواع الإبداع؟
أما الأسباب التي يبرر بها د‏.‏ زكريا نفيه فيوضحها بقوله‏:‏ إن الإبداع بطبيعته وحسب تعريفه يتعلق بتجربة متفردة لا تتكرر والجنس تجربة عادية ذات أصول بيولوجية يشترك فيها الناس جميعا بل يشتركون فيها مع الحيوانات أيضا فأين الإبداع في هذا؟‏(!!)‏

إن الكاتب الذي يلجأ في عمله الأدبي إلي الوصف التفصيلي المكشوف للجنس يستطيع أن يجد وصفا قد يكون أفضل من وصفه لدي العامل الذي يقدم إليه القهوة والشاي كل صباح ‏(..)‏ وهكذا فإن التوسع في الأوصاف الجنسية ليس تعبيرا عن قدرات الكاتب الإبداعية مادام الجنس تجربة عادية يشترك فيها القادر علي الإبداع الأدبي مع أولئك الذين لا صلة لهم علي الإطلاق بالإبداع‏!!‏ ولا نمتلك سوي علامات التعجب تعليقا علي رأي د‏.‏ زكريا الذي ترجم أهم كتب النقد وعلم الجمال في أوروبا وهو ما تعلق عليه د‏.‏ سامية محرز بقولها لا يوجد أدب إباحي وآخر غير إباحي وإنما أدب جيد وأدب غير جيد والأدب الجيد قد يتضمن مشاهد جنسية أو إباحية لكنها ليست سوي جزء من عمل كبير‏.‏
الدكتورة مني طلبة أستاذ الأدب العربي في جامعة عين شمس تري أن تناول الجنس من أجل الجنس مرفوض بالنسبة لها وتضيف‏:‏ أنا ضد أدب التنفيس والذي يركز علي تصوير قبح الواقع لكن علي أي حال فهذه القضية معقدة لأنها ترتبط بمجموعة كبيرة من العوامل‏:‏ فهناك عوامل متعلقة بالعمل الأدبي الذي يتداخل مع ثقافة الكاتب وقراءاته ومدي إلمامه بالأدب العالمي ومدي الجهد الذي يبذله في الكتابة وتوظيفه للجنس ومدي نجاحه في هذا ومن جهة فالجيل الجديد من الكتاب لا يحظون بالرعاية التي توفرت لجيل الستينيات سواء من مواكبة النقد لأعمالهم وعملية التثقيف‏..‏ إلخ بالإضافة إلي أنهم يكتبون في مناخ لا يهتم بالكتابة‏..‏ لذلك لا يتجهون للقاريء بقدر ما يكتبون من أجل الكتابة‏.‏

 القاريء نفسه الآن لا يجد نوعية تجعله يقرأ عن فهم أو يشاهد فيلما‏..‏ ناهيك عن الهجمة الدينية التي لا تهتم سوي بمن خلعت ثيابها والإباحية بينما تتجاهل المشاكل الأساسية في المجتمع‏.‏
د‏.‏ فتحي أبو العينين أستاذ علم الاجتماع الأدبي في جامعة عين شمس رؤيته لقضية الجنس في الكتابة الأدبية بقوله‏:‏ الأدب في كل مكان في العالم وفي تاريخ الثقافات علي اختلافها اقتحم مجالات من حياة الإنسان وعالجها أدبيا لأنه في النهاية تعبير عن رؤية للعالم يضطلع بها فنان كاتب أقدر من غيره في التعبير عنها‏.‏
وقضايا الثالوث المحرم الجنس والدين والسياسة جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان‏، وبالتالي لا ينبغي أن تكون هناك أي محددات أو عوائق تحول دون الاتخاذ من هذه القضايا خامة أو مادة تعالج أدبيا‏ً،‏ لأن الجنس موجود في حياتنا‏، ونمارسه بأشكال وصيغ تخضع للسياق الثقافي فلا ينبغي حرمان الأدب من التعامل مع أي من هذه القضايا‏.‏
 الأمر يخضع في النهاية للمعالجة الفنية واستخدام الجماليات للتعبير‏,‏ ولكل فنان حريته في الانتقاء بين العناصر الجمالية وبناء عمله الفني سواء كان رواية أم لوحة أم قطعة موسيقية‏.‏
فالسؤال عن إمكانية معالجة الأدب للجنس سؤال غير وارد لأنه يعيدنا إلي الخلف ـ لأنه مسألة مشروعة وطبيعية لأن الأدب يعالج قضايا الإنسان وإحباطاته ووعيه وأفكاره وأحلامه المكبوتة التي يمكن أن تتضمن حتي الحلم أو الرغبة في اختراق المحرمات وهو ما كشفه التحليل النفسي للأحلام بالإضافة للعقد النفسية والجنسية ـ والجنس في النهاية رغبة عادية ومشروعه لدي كل الناس وتتم ممارستها من قبل الجميع وفقا للثقافة السائدة‏..‏ فلماذا يتم تحريمها "فقط" في الكتابة؟‏!‏

وأضيف أن هناك بعض التجارب اللافتة التي تناولت الجنس مؤخرا وأظنها تحتاج لنوع من الرصد مثل تجارب رؤوف مسعد عموما وهي من افضل ما قرأت في هذا الصدد، وأعمال علوية صبح، ثم رواية برهان العسل لسلوى النعيمي، لتأمل الظاهرة بشكل مختلف في ظل غياب الكتابة النقدية عن هذا الموضوع تقريبا منذ تجربة د.غالي شكري المميزة.

التنوير والعقلانية على الفيس بوك



التنوير والعقلانية على الفيس بوك

إبراهيم فرغلي



قبل أن يتحول استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا الموقعين الأشهر فيس بوك وتويتر،إلى ظاهرة، تستغرق اليوم زمنا كبيرا من وقت البشر، خصوصا في عالمنا العربي، كان الاهتمام منصبا بشكل كبير على المدونات، بكل ما تضمنته من ألوان الكتابة، سواء كانت خواطر ويوميات، أو تأملات وأفكار خاصة وذاتية، أو ملاحظات اجتماعية وسياسية، أو فرصة للتعبير عن المحظور أو المسكوت عنه في وسائط النشر الورقية والنمطية، وصولا للأدب والفن.
وكان من السهل ملاحظة مدى الشعبية التي تتمتع بها المدونات، من خلال العدد الكبير من التعليقات التي تتذيل بها تدوينات المدونين في المواقع المختلفة، أو من خلال رصد ارقام المتصفحين للمدونات، عبر خدمة توفرها شركات الإنترنت ويبثها المدونون في صفحاتهم لتأكيد مدى شعبية مدوناتهم أو مقروئيتها، وصولا إلى مسابقات المدونات العالمية، واشهرها جائزة "بوبس" التي كانت تقام بالتعاون منظمة مراسلون بلا حدود، واذاعة دويتش فيلا.
لكن بعد اتساع رقعة الثورات،أو الانتفاضات الشعبية ضد أنظمة الحكم في كل من تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن، وانتقال الحراك الاجتماعي والسياسي إلى مستوى غير مسبوق في أغلب الدول العربية، تحول الجميع تقريبا من التدوين إلى ساحات التواصل الاجتماعي، باعتبارها الوسائل الافتراضية الأكثر تأثيرا والأوسع انتشارا، مع تردد المستخدمين عليها بشكل يكاد يكون مستمرا طوال اليوم، حيث يتم لفت الانتباه فيها إلى مواعيد التظاهرات، أو تأييد فكرة، أو مرشح، أو إعلان وقفة احتجاجية، وغير ذلك من الأنشطة الاحتجاجية المرتبطة بأجواء التمرد والعصيان الجماهيري على الحكومات الانتقالية التي أعقبت سقوط النظم الديكتاتورية التي سقطت في كل من تونس ومصر وليبيا، واحتجاجا على أنظمة أخرى في بقع مختلفة من العالم العربي.

بريق المدونات يخبو

في ذروة الحراك السياسي، تمتعت المدونات ببعض البريق من خلال استغلال الكثير من أصحابها التدوين فيها عما يودون التعبير عنه سياسيا، واغتنام فرصة الاهتمام بالفيس وتويتر لبث روابط المدونات عليها، لتوسيع مجال الاهتمام بالأفكار. وقد اخذت في بدايات الحركات الثورية جانبا تنظيريا مهما، ركز على أفكار لها علاقة بضرورة توسيع الطابع المدني، وكيفية تأسيس أنظمة ديمقراطية، أو توسيع دائرة الاهتمام الشعبي بالانتخابات، وغير ذلك.

لكن بالتدريج، ومع المسارات المختلفة التي اتخذتها حركات الاحتجاج السياسي في كل من مصر وتونس حيث وصلت السلطة الدينية للحكم باسم الثورة، وحتى إسقاط نظام الإخوان في مصر، وارتفاع مواجهة التيار المدني للحكومة الإسلامية في تونس، مع ما صاحب ذلك من صراعات أو توافقات بين الأطراف المختلفة من خارج الدولتين، بدأ الاهتمام بالمدونات يقل كثيرا، وظلت التعليقات المبتسرة على ما يحدث من خلال الوسائط الاجتماعية تأخذ في الاتساع، ولكن حتى على حساب الأفكار الموسعة للأفكار.

هناك عدد من النقاط التي يمكن تأملها  بخصوص ظاهرة الانسحاب من المدونات إلى الوسائط الاجتماعية، من بينها أولا أن تراجع الاهتمام بالمدونات هو في الحقيقة تراجع أيضًا في عملية "القراءة"، إذ أن تصفح المدونات في جوهره عملية قراءة لأفكار أو معرفة أو أدب، إلخ. وهذا التراجع غالبا ما يكون في صالح مساحة جديدة، تبتغي التصفح اللاهث السريع لما يقوم الآخرون في قائمة الأصدقاء في الفيس بوك أو تويتر ببثه، وجلها تعليقات مبتسرة سريعة، بعضها ساخر، وبعضها شخصي وعائلي، وأحيانا قد يكون محتوى البث صور، أو ربما إشارة إلى مقال أو فكرة في صحيفة او لقطة فيديو. بل إن الأمر أخذ بعدا آخر أيضا بعد تحول الساحة السياسية من إرادة جماعية مع التغيير ضد نظم حكم فاسدة إلى استقطابات بين مشروعين إسلامي وعلماني، في مرحلة من المراحل، ثم استقطاب بين مشروع مدني وآخر عسكري كما هو الأمر في مصر الآن مثلا. وفي هذا الاستقطاب ظهر لون من الردود المتبادلة التي تأخذ كثيرا أشكالا من النكاية المتبادلة وليس "الحوار".
ثانيا: لا يتعلق الأمر هنا،كما قد يبدو، بطبيعة الوسيط أي صفحات التواصل الاجتماعي التي قد يعتبر البعض أنها لا تعد وسيلة للتثقف أو القراءة، لأن الفترة التي أعقبت بدء الحراك السياسي وسقوط الأنظمة العربية التي سقطت، شهدت لونا من الحوارات العميقة عن العديد من القضايا السياسية مثل الدستور، وفكرة مدنية الدولة، ومدى أهمية فكرة وجود وزارة ثقافة، أو وزارة للإعلام في مصر، وكان العديد من مستخدمي الفيس بوك يكتبون تدوينات مطولة يبحثون فيها هذه القضايا بالتفصيل، وعبر نماذج تاريخية وأفكار فلسفية وسياسية. وكان التعليق عليها يتخذ مساحات هائلة، مما يعني أن الوسائط الاجتماعية في ذلك الوقت لعبت دورا بديلا للمدونات كمساحة للقراءة الواعية، والنقاش الفاعل، والحوار العقلاني.


الفيس بوك .. مرايا الفشل!

يعني ذلك في تقديري أن ظواهر الخفة الشديدة الطافية الآن على سطح مساحات التواصل الاجتماعي، وسيادة منطق السخرية نكاية في السلطة أو وسيلة لنقد السياسي، وغياب الأفكار يعكس فشل الانتفاضات الشعبية في تعميق أفكارها، وتحويلها إلى خطط عمل، كما يعكس فشل استيعاب الحركات المدنية لأن الثورة ليست مجرد الاعتصام في الميادين، بل هي خطة طويلة الأجل تبنى وتتطور بإنشاء مؤسسات مدنية سياسية واجتماعية تمتلك خطط عمل شاملة لرفع الوعي السياسي للمجتمع، والتأثير في الجمهور لاكتساب أرضية وشعبية تمكنها من تحقيق وسائل ضغط على فلول النظم القديمة ومؤسساته التي يضرب فيها الفساد. ثم تقديم البديل المؤسسي المتخلص من آفات الفساد وسوء التنظيم واللاكفاءة.
بقول آخر، إن ما أثبته هذا الفشل للكيانات الثورية التي تشرذمت، يقول في المحصلة أن سبب الفشل، والإحباط بالتالي الذي أوصلهم لحالة السخرية والنكاية المتبادلة مع الأطراف المتعارضة مع رؤاهم يعود إلى سبب جوهري كان أحد أسباب اندلاع الانتفاضات الشعبية، وهو سيادة ظاهرة انعدام الكفاءة، إما بسبب سوء مستوى التعليم أو بسبب الواسطة والمحسوبية. بمعنى أن القوى التي أطلق عليها القوى الثورية الشابة، لم تتعامل مع الموضوع بشكل يعبر عن نضج سياسي، أو حتى وفقا لخبرات تاريخ الثورات المختلفة، أولاً  بالإصرار على ألا تمثلهم قيادة، وهو ما ثبت فشله في التعامل على توحيد المواقف في أي مرحلة من مراحل الحراك السياسي، والإصرار على تحويل فكرة الثورة من موقفها الثوري إلى منطق المقاومة التي تعتمد على رد الفعل وليس المبادرة وفرض منطقها السياسي. 

التنوير الافتراضي!

أقول هذا حتى أصل إلى النقطة الثالثة الخاصة بظاهرة تراجع تصفح المدونات، والتي كان لها بديلا إيجابيا مهما على صفحات الفيس بوك يتمثل في الدور الذي لعبه عدد من الأفراد، الذين يحسبون على النخبة المثقفة بشكل أو آخر، سواء كانوا أكادميين، أو إعلاميين وكتاب، أو نشطاء سياسيين، والذين رأوا في هذا الوسيط الذي يلقى شعبية كبيرة في التصفح، فرصة لنشر أفكارا يمكن اعتبارها في تقديري افكارا تنويرية، وأظن أن هذا هو الدور البديهي والطبيعي للتنظير في فكرة الثورة والتغيير، من خلال توضيح مواقفهم من الأحداث المختلفة وذلك منذ وصول الإخوان للحكم، وصولا بخروجهم من السلطة وحتى اليوم.

وتتنوع أفكارهؤلاء الأفراد بين التعريف بالفكر المدني العلماني، والبعض يعتمد على نقد الفكر الرأسمالي من خلال تعليقه على الأحداث المختلفة، بينما يتبنى البعض النقد الاجتماعي وربطه بظواهر التاريخ السياسي والاقتصادي في المجتمع.
وهناك من يحاول تأمل العديد منالأحداث والظواهر الإعلامية والتعليق عليها بتحليلها من أكثر من جانب، بما يجعل من فحص وتفنيد وجمع هذه الآراء، لو تم بشكل تراكمي، يقدم ما يشبه سجلا افتراضيا لنوع من العقلانية وأفكار التنوير.
ومن بعض نماذج هذه الأسماءالتي تقدم هذه الأفكار على صفحاتها على سبيل المثال لا الحصر، وذلك في حدود متابعتي الشخصية للحالة المصرية يمكن أن نرى صفحات كل من الدكتور خالد فهمي رئيس قسم التاريخ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والدكتور شريف يونس أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، د.جليلة القاضي  وحامد عبد الصمد أستاذ الدراسات الإسلامية في برلين، وسيف نصراوي، والكتّاب مثل رؤوف مسعد، مهاب نصر، ناصر فرغلي، خالد البري، وأشرف الصباغ، وبعض النشطاء الساسيين ممن يعملون في حقول الفن أو المجال الحقوقي مثل باسل رمسيس أو خالد منصوروغيرهم. بالإضافة قطعا الى إسهامات بعض رموز التنوير من الكاتبات والتي قد تتخذ تعليقات نقدية مكثفة لكنها تصب في خانة الانحياز إلى وتراكم الأفكار الخاصة بالعقلانية والحرية وتأكيد ذلك فيما يعتقد بوضع المرأة خصوصا من مثل بعض الكاتبات والناشطات مثل سمر علي، ومنى برنس ومي التلمساني وغيرهن. والأسماء هنا أمثلة فقط، ونماذج وليست حصرا دقيقا أو نفيا لغيرهم، لأن هناك إسهامات أخرى عديدة من العديد من المثقفين والنشطاء وخصوصا الشباب.
كتابات هؤلاء الكتاب تمثل لونا من العقلانية والتنوير، لأنها تقدم أو تحاول أن تقدم شكلا من أشكال النقد المشفوع بالتحليل. تقدم رؤى مختلفة كإضاءات لمن يهتم، سواء من الجمهور العادي أو للقوى المدنية والمثقفين. كأنهم يحاولون تقديم الحد الأدنى من المساهمة في إضاءة طريق طويل قد ينتهي يوما بالحرية والديمقراطية والعدالة.
ويختلف هذا الدور عن دور آخر يمارسه الكثير من الكتاب في الصحف، في شكل مقالات ثابتة أو دورية وبعضها له أهمية تنويرية حقا، ولكنها قليلة. وموضع الاختلاف أولا في أن الأفكار التي تكتب على صفحات الفيس بوك قد لا تلتزم بقواعد الكتابة باللغة العربية الفصحى، على اعتبار أن العديد من مستخدمي الفيس بوك يتحاورون إما بالفصحى أو بالعامية أو بلغة وسيطة، مايمنحها صبغة شعبية من حيث القدرات التعبيرية، وبها أيضا قدر من فك تعقيد الأفكار المركبة لكي تتلاءم مع هذه اللغة.
أما موضع الاختلافالثاني بين هذه الأفكار والمقالات الصحفية وبين "تدوينات التنوير" على الفيس بوك، هو حالة النقاش والجدل التي تثيرها الثانية، والتي يصبح كاتبها طرفا أساسيا فيها مع أطراف أخرى من قوائم أصدقائه ممن قد يتفقون أو يختلفون مع الطرح، مما يوسع من أطر وزوايا النظر لهذا الموضوع أو ذاك.
وأهمية هذه الطروحات في تقديري أنها تؤسس للتغيير، أو تفتح الطريق لأسس الحوار العقلاني ومناقشة كافة الثوابت السياسية والاجتماعية التي سادت بفضل الفراغ السياسي والفكري الذي استمر أو امتد على مدى عقود طويلة.
وأعتقد أن مثل هذه الأفكار رغم اهميتها اليوم باعتبارها وسيلة لمناوشة أفكار واهتمامات جمهور مختلف المشارب على الفيس بوك، لكنها ربما ستختمر أكثر وربما تتطور أو تلهم آخرين لتكوين أفكار مهمة في ترسيخ وتجذير مفاهيم العقلانية والتفكير في المستقبل.

عصر الأنوار

وهذا تقريبا الدورالذي لعبه رموز التفكير والتنوير في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، أنه لم يؤجج الثورات في اوربا بقدر ما أسس لأفكار مختلفة خلقت موجات من الإصلاح السياسي والفكري والديني والاجتماعي من جهة، وساهمت، من جهة اخى طبعا في انتقال الثورات من بلد لآخر أيضا تأسيسا على دعائم فكرية وعقلانية.
ومن المناسب هنا تعريف القارئ أو تذكيره بأن عصر التنوير هو حركة ثقافية  فكرية بدأت في أوربا أواخر القرن السابع عشر، استهدفت إعلاء شأن العقلانية والفردية على حساب المفاهيم التقليدية وكان الغرض منها إصلاح المجتمع باستخدام الأسباب العقلية، لتحدي الأفكار ترتكز على التقاليد والأفكار المرتكزة على النقل، وعلى دفع عجلة المعرفة من خلال المنهج العلمي.  لتعزيز الفكر العلمي والشك، والتبادل الفكري. وكان التنوير ثورة في الفكر الإنساني. إذ انه جسد وسيلة جديدة للتفكير العقلاني الذي يستخدم المنطق الصحيح للوصول إلى استنتاجات ، واختبار الاستنتاجات ضد الأدلة، ومن ثم تنقيح المبادئ في ضوء الأدلة.

وبالرغم من مرور ما يقرب من نحو ثلاثة قرون على بدء عصر التنوير أو عصرالأنوار فإن تلك الحقبة المهمة لا تزال تشغل بال المؤرخين والمفكرين في الغرب لأهميتها الشديدة في ترسيخ أفكار  تمجد العقل والحرية وتبشر بقيم الانعتاق من نير الاضطهاد باسم المطلق اللاهوتي أو باسم الحقيقة القديمة أو باسم الحاكم بأمره الفردي المدعوم بعصمة الكنيسة. وارتبطت بأسماء عدد من المفكرين الكبار مثل إيمانويل كانت الذي يعد أول من قدم صياغة تعريفية لفكرة التنوير، وجان جاك روسو وفولتير وديفيد هيوم ومونتسيكو وغيرهم حتى ذهب المفكر الفرنسي تودوروف  للقول بأن الأنوار هي في آخر التحليل فكرة الاستقلالية والتحرر من أشكال الوصاية التي تفرض على الجميع نفس أسلوب التفكير والممارسة. ويؤكد "تودوروف" أن الوصاية قد اتخذت حينها شكل هيمنة دينية باسم الكنيسة مما يجعل الاستقلالية تحمل بعدين يتمثل الأول في استقلال الفرد في إدارة حياته الشخصية ويحيل الثاني إلى استقلالية المجموعة وحقها في إدارة شؤونها باشتراع القوانين المنظمة لحياتها وتعيين من يدير سياسة البلاد بكل حرية.
وقد عمل  فكر الأنوار، عبر إسهامات العديد من المفكرين الكبار في كل من فرنسا وانجلترا ثم ألمانيا وباقي أوربا على تحديد العلاقة بين حرية الفرد واستقلاليته وحرية المجموعة واستقلاليتها بصياغة شروط التوافق بين المصلحة العمومية التي تحد من النزعات الفردية المنفلتة وبين مصالح الذات. ولعل ذلك فعلا ما سيترجم في بروز نظريات التعاقد الاجتماعي وعلاقات السيادة بالمواطنة.
كان عصر التنوير وما أنتجه من أفكار وضعية وعقلانية ملهماً لعدد من الثورات الاجتماعية والسياسية شهدتها أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أسفرت عن قيام الدولة الحديثة بالصورة التي نعرفها اليوم في الغرب. وقد ارتكز قيام هذه الدولة على وجود بيروقراطية، وقيام جيش كمؤسسة قوية ومتمتعة باستقلال نسبي، وسيادة جو من العقلنة في التنظيم. وقد سادت في هذه الدولة أنظمة سياسية بديلة من أنظمة القرون الوسطى، بحيث قامت هذه الأنظمة بانتزاع الصفة الإلهية عن سلطة الملوك فاصلة الدين عن الدولة.
شكلت هذه الحركةأساسا وإطارا للثورة الفرنسية ومن ثم للثورة الأمريكية وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية. كما مهدت هذه الحركة بالتالي لنشأة الرأسمالية ومن ثم ظهور الإشتراكية لاحقا. كما أنها مهدت للعديد من ثورات الفكر التي أدت لحركة علمية وفلسفية قوية وتسببت في نشأة العديد من النظريات السياسية الجديدة والأفكار الاقتصادية والكشوف العلمية والجغرافية وهو ما أثر على تقدم البشرية بشكل عام وبالرغم من أن المنطقة العربية قد عرفت العديد من حركات الإصلاح في بدايات القرن الماضي أسهمت في تحرير المنطقة العربية من نير الاستعمار، لكن أغلب الحكومات المحلية التي تسلمت السلطة من المستعمر الغربي تحولت إلى نظم شمولية عادت بالمجتمعات العربية الى الفترات التي تذكرنا بمجتمعات ما قبل الثورات في الغرب، وهو ما يجعل من تلك الفترة اليوم محلا للتحليل والتنقيب وإعادة القراءة، لفهم وقراءة، ما يدور على الساحة العربية اليوم، ومن هنا تأتي الأهمية الشديدة لأفكار التنوير والعقلانية على ساحات الوسائط الاجتماعية الافتراضية.

 نشرت في مجلة العربي - زاوية (ثقافة الكترونية) – يونية 2014


Monday, March 21, 2016

مصاصو الحبر


مصاصو الحبر 

جزء من روايتي للفتيان بهذا العنوان 







قبل أن تطرق جودي الباب الخشبي الأنيق المفضي إلى مكتب السيد إريك سان فوازان، وجدن الباب ينفتح  ليطل منه رجل طويل ممشوق القامة، أشبه بالرياضيين، يضع نظارة طبية على وجهه، يميزه شعر رأسه الكثيف القاتم الذي يبدو مثل هالة أعلى رأسه، لكنه مصفف بعناية، ويغطي أذنيه ، وكانت ملامح وجهه تشي بأنه في الأربعينات من عمره، يرتدي قميصًا أصفر بكاروهات مربعة سوداء، وبنطلون أسود.
ابتسم لهن قائلاً :

-         مرحبًا.
فحيينه ثم سألته جودي:

-         كم عمرك يا سيدي؟
ضحك الرجل ثم قال:

-         تفضلن أولا.

سبقهن إلى المكتب الخشبي الأنيق الحديث الذي يتعارض مع شكل البناء الخارجي شديد القدم، وأشار إليهن بالجلوس، فجلست كل من ليلى وجودي على كرسيين متقابلين أمام مكتبه، بينما اختارت بسمة أريكة صغيرة في الواجهة، وهي تتأمل رفوف الكتب التي تحيط به في كل مكان.

نظر السيد سان فوازان إلى جودي وسألها:

-         هلاّ تعرفت بأسمائكن أولاً؟
ابتسمت جودي معتذرة وأخبرته عن اسمها واسم كل من ليلى وبسمة. فابتسم لهن مرة أخرى قائلا: فرصة سعيدة، ثم التفت إلى جودي قائلاً:
-         آه، أنت إذن الآنسة جودي التي كتبت لي على الإيميل؟ رائع! لكن هذه أول مرة ألتقي أحدا يسألني عن عمري قبل حتى ان يتأكد من اسمي.

فضحكت جودي وقالت:
-         أنا آسفة، لكني بصراحة كنت أعتقد أنك أكبر عمرًا بكثير مما تبدو عليه.

وأمّنت ليلى على كلماتها فوزع نظرته عليهما ثم ابتسم قائلا:
-         أنا أعتبر أن من يكتب للشباب هو كاتب شاب أيا كان عمره. ولهذا ربما يبدو شكلي شابًا.

فابتسمت جودي وقالت له:

-         ربما كنت أعتقد ذلك لأني أعرف أنك كتبت الكثير من الكتب.
-         هذا صحيح، ولكن هل قرأتِ لي شيئًا غير كتاب مصّاص الحبر؟
-         للأسف لا.
فابتسم ونظر للفتيات الثلاث قائلا:
-         هل قرأتن لي باللغة العربية؟

فأجابت ليلى: لا، نحن قرأناها بالفرنسية.

ابتسم قائلا:
-         عموما أنا حقًا سعيد بهذا اللقاء. أن أرى قارئات لكتبي يأتين من آخر العالم لكي يلتقين بي. فعادة أنا لا التق غالبا إلا قرائي وقارئاتي الشباب من فرنسا.

ابتسمن ثلاثتهن لجملة آخرالعالم، لكنهن لم يعلقن، وقالت ليلى:
-         نحن أيضا سعيدات جدا للقائك، وخصوصا أنها المرة الأولى التي نقابل فيها كاتبًا في الحقيقة.

ابتسم لها، ثم بدأ يسألنهن أسئلة عما أعجبهن في كتبه، فأجمعن على أن فكرة الكتاب غير مسبوقة، وأن فكرة مصّاص حبر لم يسبقه أحد إليها، وأن هذا كان مصدر الدهشة والإعجاب. ثم أضافت ليلى:
-         أعتقد أيضا أن فكرة تداخل أحد نصوص الكتاب بين الواقع والخيال حين وقع بعض أبطال واحدة من قصصك داخل القصة وأصبحوا جزء من الكتاب كانت فكرة مدهشة أخرى.
ابتسم لها وقال:
-         جميل أنك أعجبت بهذا الفكرة، ولكني في الحقيقة بدأت كاتبًا للكبار، قبل أن أتجه للكتابة للناشئين والشباب. وربما استفدت من تقنيات الكتابة للكبار.
فقالت ليلى:
-         ولماذا اتجهت للكتابة للصغار؟
-         لا أعرف بالضبط، لكني أعتقد ان هذا بدأ بعد أن أصبحت أبًا، وبدأت الاهتمام بما يقرأه أبنائي فكتبت قصة أعجبت القراء وتوالت القصص. وجدت أن الكتابة للصغار تقتضي بعض الوضوح والتبسيط، وهذا أثّر أيضًا في كتابتي للكبار، وهكذا. لكن في النهاية أعتبر نفسي هاويًا، فأنا أعمل هنا كما ترين، وبالتالي أكتب لأنني شغوف بالكتابة، أشعر أنها مسألة حيوية وضرورية، يمكنك القول أنني أتنفس حين أكتب او شئ من هذا القبيل. في النهاية أنا بدأ ت الكتابة وعمري تسع سنوات.
-         فهتفت ليلى: وااااااااو. في التاسعة؟
هز لها رأسه مبتسما. فقالت:
-         إذن بالفعل يمكنني أن أكتب أنا أيضا؟
-         بالتأكيد إذا كنت شغوفة باختلاق القصص؟
فقالت بسمة:
-         ليلى بالفعل لها محاولات في الكتابة، وأنا اعتقد انها يوما ستكون كاتبة مميزة.

فقال السيد سان فوازان وهو يتأمل ليلى التي ابتسمت لبسمة 

بامتنان وخجل:

-         رائع، وهل تكتبين بالعربية أم الفرنسية؟
-         لا أفضل الكتابة الأدبية بالعربية.
-         هذا جيد جدا. عليك ألا تتوقفي عن ذلك، لقد بدأت شخصيا الكتابة في عمر أصغر من عمرك بكثير.
فعادت ليلى تسأل:

-         فعلا؟ هذا مدهش حقًا. لكن بصراحة أريد أن أعرف كيف جاءت لذهنك فكرة كتابة مصّاص الحبر؟

-         لا أعرف أيضًا، كنت أرغب في كتابة فكرة أصيلة غير مسبوقة، وأنا لا أكتب بناء على فكرة مسبقة، أنا أبدأ بكلمة أو جملة، وكل كلمة تقودني للكلمة التي تليها. لكن من المؤكد أنني أحب قصص مصاصي الدماء، وربما كنت افكر فيها كثيرا حتى استوحيت هذه الفكرة.
-         وهل تحب مصّاصي الدماء؟
ضحك قائلا:
-         أحبهم؟ لا طبعا، لكن تستهويني القراءة عنهم، وعمومًا لو كان بإمكاني أن أحب أحدًا منهم فسوف أحب منهم  مصاصي الدماء النهاريين، هؤلاء الذين يمكن أن يظهروا  في النهار فقط.

فضحكت الفتيات الثلاث معا لملاحظته. لأن مصاصي الدماء كائنات ليلية يقضي الضوء عليها.
ثم سألته بسمة:
-         وهل حقًا أنك تحمل معك مصاصة الحبر باستمرار؟ يقول البعض أنك مصّاص حبر؟
ضحك بقوة وفتح الدُرج الخشبي في مكتبه، ثم أخرج منه شفاطة بلاستيكية من تلك التي تساعد على تناول المشروبات وقال لها:
-         هذا صحيح، كيف عرفت هذه المعلومة؟

ابتسمت ليلى وقالت:
-         من الإنترنت، وبعض الصور في موقعك الشخصي.

لكن جودي تدخلت قائلة:
-         إذن كان معي كل الحق.

نظر إليها الكاتب نظرة فضولية يحرضها على المزيد من التوضيح.

فقالت:
-         بصراحة نحن نواجه مشكلة، وهي تخص كتاب كانت ليلى قد بدأت كتابته منذ فترة، لكننا فوجئنا بأن كل ما كتبته قد اختفى فجأة، وعادت الأوراق بيضاء تمامًا كما كانت. وبعد تفكير طويل، وتدخل بعض أصدقائنا المهتمين بالعلوم وإجراء اختبارات كيميائية على الحبر الذي استخدمته ليلى وعلى أوراق الدفتر الذي كانت تكتب فيه توصلنا إلى..
فقاطعتها ليلى قائلة:
-         توصلتِ.. أنتِ توصلتِ..
رمقتها جودي وعادت لتقول بإصرار:

-         أوكي! توصلت أنا إلى أن الحل الوحيد الممكن قبوله لتفسير ما حدث هو تعرض الكتاب لأحد مصاصي الحبر.

كان إريك سان فوازان ينظر بجدية وانتباه شديدين لما تقوله جودي. وعندما انتهتاعتدل في مقعده ونظر إلى السقف، ومسح شعر رأسه كأنه لا يجد ما يقوله، لكنه في النهاية قال:

-          لحظة من فضلك..  تريدون أن تقولوا لي أن ليلى مشروع كاتبة؟ وهذا قد عرفته، وأحييها عليه. ولكن الآن تريدون القول أن الكتابة التي كتبتها ليلى تعرضت لهجوم مصاصي الحبر؟
فهزت جودي رأسها بيقين، بينما ابدت كل من بسمة وليلى ابتسامة حيادية.

فألقى الشفاطة التي في يده، ثم نظر إليهن قائلا:

-         أولا أرجو منكن أن تقبلن اعتذاري أنني لم أقدم لكم شيئا حتى الآن، ماذا تودون أن تشربن؟
فهزت الفتياترؤوسهن تعبيرًا عن عدم رغبتهن في تناول شئ، وتحت إصراره اكتفين ببعض الماء، فنهض خارجًا من الغرفة ثم عاد بعد قليل وهو يحمل صينية عليها ثلاثة أكواب زجاجية ممتلئة بالماء. ثم كرر دعوتهن لشرب قهوة سوف يعدها بنفسه على ماكينة قهوة موجودة على منضدة في أحد زوايا الغرفة فأكدن له أنهن لا يشربن القهوة.
وضع المياه أمام كل منهن، ثم اتجه صوب الماكينة وبدت عليه ملامح التفكير والاستغراق ثم قال:
-         هل تعرفن.. من خلال خبرتي الطويلة في الكتابة وقراءتي للكثير من سير حياة الكتاب، ولقاءاتي بأصدقاء من الكُتّاب أعرف أن الكثير منهم التقوا بعض القراء الذين وجدوا تشابها بين سيرة حياتهم في بعض الكتب التي قرأوها من دون أن يكون الكاتب قد التقى بهم أو عرفهم من قبل. وهذا طبعًا يعود إلى أن الكاتب مهما استخدم من خيال فسوف تكون هناك تجارب من الحياة، من اشخاص التقى بهم أو عرفهم إلى آخره.  

ثم صمت قليلاًوهو يعدل من وضع القدح الذي وضعه في المكان المخصص لكي تنسكب منه القهوة، التي فاح عبقها في الغرفة. فأضاف قائلا:
-         لكن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها قراء يفترضون ويصدقون في بعض الكائنات الخيالية التي قرأوا عنها في كتب، ويعتبرونها واقعًا حتى من دون أن يروها أو يتأكدوا من وجودها.

أنهى كلماته واتجه بقدح القهوة عائدًا إلى مكتبه، فقالت جودي:

-         ربما يكون معك حق يا سيد سان فوازان، ولكني سأستعير جملة يستخدمها أحد أصدقائنا الذين للأسف لم تتح له فرصة لقائك هنا، وهو شغوف بالعلوم وبالكيمياء، وكان عادة ما يقول أن هناك أشياء كثيرة في الحياة لا نراها مثل الذرات التي تتكون منها كل الأشياء، ومع ذلك فيمكننا أن نستدل عليها بسلوك المواد. بمعنى آخر كان يقول أننا لا يمكن أن نرى الرجل الخفي ولكن يمكننا ان ندرك وجوده من حركة الناس من حوله.

ابتسم سان فوازانوهو يرتشف من القهوة، وهز رأسه إعجابا بالفكرة التي تقولها:
-         هذه فكرة رائعة طبعا، واسمحوا لي أن أبدي إعجابي بكم، وبصديقكم العالم الذي لم يحضر معكم، ولكن هذه الفكرة يمكن أن تكون فكرة علمية لا مجال لأن نطبقها هنا على فكرة خيالية تصورها أحد الكتاب ووضعها في كتاب.

ابتسمت جودي ثم فكرت قليلا وقالت له:
-         سيد سان فوازان، انت بحكم اقترابك من الكتابة للأطفال والفتيان لا بد أن تكون قد قرأت الكثير من كتب الخيال العلمي.
-         ليس كثيرًا.
-         أوكي، حتى لو كنت قرأت مجموعة محدودة من كتب الخيال العلمي لا شك أنك تعرف أن الكثير من كُتّاب الخيال العلمي كتبوا أفكارًا خيالية مثل السفر الى الفضاء مثلا، ولكن العلماء حققوا هذا الخيال.
-         صحيح تماما آنسة جودي، ولكن لا يمكن مثلا أن يفترض كاتب أن هناك مجموعة من المخلوقات الخيالية التي تمتلك ثلاثة عيون فنبدأ في تأكيد أنها موجودة ولا بد أن نبحث عنها.
كانت بسمة قد بدأت تشعرمن الضجر من شدة عناد جودي وإصرارها على فكرة يقول الرجل أنها ليس لها اصل في الواقع فقالت:
-         سيد سان فوازان أرجو أن تعذر جودي فهي عنيدة جدا، وتتشبث بآرائها.

ابتسم الكاتب لبسمة ثم قال لجودي التي كانت على وشك الرد 

قائلا:
-         عفوا آنسة جودي، أنا حقا مقدر لإلحاحك على الفكرة والتأكد من مدى واقعيتها، وبالفعل سوف أعود لأفكر وأتذكر ما إذا كانت هناك أي إشارة ما قرأت عنها لكائنات من هذا النوع، قد جعلتني أستلهمها، وإن كنت أشك، وفي هذه الحالة سوف أكاتبك على إيميلك الشخصي.

أطرقت جودي ونظرت إلى أرض الغرفة وبدا عليها التوتر، فحاولت ليلى تخفيف حدة التوتر بأن عادت لتسأل السيد سان فوازان عن الجديد في كتاباته، واستمروا في الحديث معه لوهلة قبل أن ينصرفوا.








16

الدير السري!

بعد انتهاء اللقاء مع السيد سان فوازان،التقت الفتيات الثلاث مع كل من مازن وويليام، اللذين كانا يترقبان نتيجة اللقاء بفضول، وقد لمح ويليام شرود جودي وملامح الإحباط على وجهها فأدرك النتيجة، ولكن ليلى بدأت تحكي لهما عن إعجابها بالسيد سان فوازان، وكيف أنه يبدو اصغر من عمره، وعن ترحيبه بهن، في محاولة لعدم إثارة ضيق جودي. واقترحت بسمة أن يبدأوا رحلة بالدراجات إلى البحيرة، ثم قضاء بقية اليوم على الشاطئ، حتى لا يضيع اليوم عليهم، قبل عودتهم إلى باريس صباح اليوم التالي.
في المساء بعد أن قضوا يومًا طويلاً استمتعوا فيه بالسباحة ومشاهدة بحر الشمال، عادوا إلى المطعم الذي قضوا فيه اليوم السابق، ووجدت بسمة فرصة لتعزف قليلاً على الكمان، الذي تحمله معها أينما ذهبت، ولم تكن قد وجدت فرصة للعزف عليه خلال الرحلة. وهو ما جعل المجموعة تطلب منها أداء بعض الموسيقى لبعض الأغنيات. وساد وقت مرح لبعض الوقت.
ثم عادوا لمناقشة موضوع الكتابة المختفية، واحتدم النقاش بينهم جميعًا، دون أن يصلوا إلى فكرة محددة واضحة. وفي النهاية اقترحت جودي انها تريد أن تؤخر عودتها لباريس يوم آخر لزيارة مكتبة المدينة، لكي تطلع على الكتب الموجودة والتي تتناول موضوع الستيغانوجرافي، فقد اكتشفت من بعض مواقع الإنترنت أنه ليس علمًا يختص فقط بفكرة الكتابة المختفية بل بالتشفير عمومًا، بينما في قرارة نفسها كانت تقول أنها ربما تجد كتابًا له علاقة ما بموضوع مصاصي الحبر.
ورغم استياء الجميعمن الفكرة لأنهم وجدوا في البقاء في سان بريوك مضيعة للوقت على حساب الكثير مما يمكن لهم أن يشاهدوه أو يفعلوه في باريس، إلا أنهم رضخوا في النهاية، حتى لا يخرّبوا الرحلة، ولكي يعودوا معا في مساء اليوم التالي.
******
استيقظت بسمة في صباح اليوم التالي مبكرًا، قبل كل من ليلى وجودي، فنهضت متثاقلة إلى الحمام، ولاحظت قبل أن تصل إلى باب الحمام ورقة صغيرة مطوية على الأرض قريبًا من مدخل باب الغرفة، فرفعتها من الأرض ووضعتها على المنضدة الصغيرة بجوار الباب، وهي تفكر بأنها قد تخص ليلى أو جودي، ثم ذهبت للحمام، وأخذت حمامًا باردًا، أحست بعده بالانتعاش، فقررت أن تسبق صديقتيها إلى المطعم وتناول الإفطار والتمشية حول الأوتيل حتى يستيقظوا.

تناولت عصيرا ثم خرجت لتتمشى أولا، وكان الجو لطيفا به لسعة برودة خفيفة، جعلتها تقرر أن تتمشى قليلا حول الفندق قبل أن تعود للإفطار. وبعد وهلة وجدت هاتفها يرن. ردت على الهاتف فسمعت صوت جودي تسألها أين ذهبت؟
أخبرتها أنها تتمشى، فطلبت منها أن تعود للغرفة بسرعة وأغلقت الهاتف.
انزعجت بسمة، وخشيت أن تكون ليلى مريضة، فأخذت تركض،

 حتى وصلت أخيرا إلى الغرفةلاهثة ومتقطعة الأنفاس، فتحت الباب فوجدت ليلى وجودي لا تزالان بملابس النوم، وهما جالستان على الفراش ويتأملان ورقة.

سألتهما إذا كانتا بخير فأجابت ليلى:

-         نعم ولكن وجدنا هذه الورقة الغريبة على المنضدة ولم نفهم من الذي أحضرها.

تأملت بسمة الورقة وتذكرتها فقالت لهما أنها وجدتها على الأرض بجوارالباب وظنت أنها تخص أي منهما، فنفيا معا ومدت جودي لها بالورقة فتناولتها وأخذت تقرأ ما بها على الفور.
لم يكن في الورقة سوى كلمات قليلة مكتوبة باللغة الفرنسية وبخط لاتيني جميل بقلم حبر:

"البحث عن مصاص الحبر؟

دير الكاتدرائية العتيق"

نظرت بسمة إلى الورقة للحظات ثم التفتت إلى صديقتيها 

وسألتهما:
-         ما هذا؟

لم ترد اي منهما، لأنهما مثلها لم يكونا قادرتين على استيعاب اي شئ.
فقالت بسمة:
-         هل يعني ذلك ان أحدا ما قد دس الورقة من تحت باب الغرفة؟ هذا قد لا يكون سوى ملعوب من مازن أو ويليام.
ابتسمت ليلى وقالت:
-         هذا ما فكرنا فيه ولكننا اتصلنا بهما في غرفتيهما وقد وجدناهما نائمين، وأقسما أنهما لا يعرفان ما هو موضوع هذه الورقة، ولا من أحضرها إلى غرفتنا.
أخفقت محاولاتجودي في معرفة طبيعة من يكون قد ارسل الورقة إلى الغرفة بعد ان سألت الفتيات اللائي ينظفن الغرف، وموظفة الاستقبال الصباحية التي أكدت أنه لا يمكن لغير نزلاء الفندق الدخول إلى منطقة الغرف بدون اصطحاب أصحاب الغرفة. بينما في قرارة نفسها كان لديها ما يشبه اليقين أن هناك يد للسيد سان فوازان في هذه المسألة.
وعندما اجتمعوا على الإفطار ، لم يكن أمامهم مفرمن البحث عن الدير المذكور في الورقة وعن كيفية البحث عنه لزيارته. لكن المفاجأة أن الدير المذكور لم يكن له أي أثر في خريطة المدينة، كما أن أغلب من سألوهم في الأوتيل وخارجه كانوا أيضًا لا يعرفون عنه شيئًا. حتى شكّوا أنهم قد تعرضوا لمزحة سخيفة، وأنهم يبحثون عن وهمٍ لا وجود له.

وبعد فترة من الصمت، اقترح مازن أن يذهبوا لزيارة الكاتدرائية، وهناك يمكن لهم أن يستفسروا عن هذا الدير الغامض من أيّ من الكهنة أو القساوسة الموجودين في الكاتدرائية، فغالبًا سيكونوا على دراية بمكانه.
استحسن الجميع اقتراحه،وبلا مزيد من إضاعة الوقت أخذوا دراجاتهم المؤجّرة، وانطلقوا إلى الكاتدرائية. وفور أن وصلوا إلى هناك دخلت كل من بسمة وويليام للبحث عن أحد الكهنة. وبمساعدة إحدى السيدات اللائي كن قد ذهبن للصلاة وإضاءة شمعة للسيّد المسيح عرفوا مكان إحدى الغرف التي تخص أحد الكهنة.
طرقوا الباب، وحينسمح لهما بالدخول وجدوا الكاهن جالسا إلى منضدة خشبية صغيرة وأمامه بضعة كتب. كان يرتدي زي الكهنة الأسود، ولكن من دون أن يضع شيئًا على رأسه. خلع الرجل نظارته الطبية، وهو يتأملهما بعينيه الزقاوين، ويحك شعر رأسه الأبيض. ثم نهض محييًا إياهما وداعيا لهما للدخول.
حين سألهما عن الكيفية التي يمكن له بها أن يساعدهما قال له ويليام أنهما يبحثان عن أحد الأديرة، وأنهما لم يجدا له أثرا في خرائط المدينة، فعاد وسألهما عن اسم الدير فأخبراه بالإسم. أبدى الرجل دهشته بشكل لافت، لكنهم لم يفهموا سر دهشته. سألهما عن الطريقة التي عرفوا بها بأمر الدير. فأجاب ويليام قائلا أن صديقًا لهم كان قد زار المدينة وسبق له زيارة المكان.
ترددالرجل في قول أي شئ لفترة من الوقت شعر ويليام وبسمة خلالها بالارتباك. وعاد ليسألهما بضعة اسئلة أخرى عن ذلك الرجل وكيف عرف بأمر الدير. وشعر كل من بسمة وويليام أن هناك بالفعل شيئًا غامضًا يخص هذا الدير. وفهم ويليام على الفور أن الدير في هذه الحالة قد يكون موجودًا بالفعل، لكنه ليس مكانًا مسموحًا بزيارته من عامة الناس. وبالرغم من أن ويليام كان يفكر أنه حتى لو كان الدير مقتصرًا على الكهنة والدارسين لعلوم الدين المسيحي واللاهوت، فلماذا لا يوجد له أثر في الخرائط وآثار المدينة؟

صمت ويليام قليلاً ثم قال للكاهن أن الأمر يتعلق بدراسة مدرسية يجرونها على مخطوطات الأديرة القديمة في فرنسا.

طلب الرجل منهما الانتظار خارج الغرفة، وخرج معهما، ثم اختفى من أمامهما وعاد بعد دقائق بصحبة كاهن آخر، كان أكبر في العمر ويرتدي زي الرهبان، ويضع على رأسه غطاء الرأس. كان وجهه سمحًا والابتسامة لا تفارق وجهه، وهو ما شجع بسمة على أن تتحدث معه وتشرح له أهمية زيارة الدير بالنسبة لهم، خصوصًا وأنهم حضرو للكاتدرائية قادمين من مكان بعيد، ولن يكون بإمكانهم زيارة المدينة مرة أخرى بسهولة. أما ويليام فقد استجمع كل ما قرأه عن المخطوطات القديمة وحاول أن يضعه في جمل متلاحقة لكي يوحي للراهب اهتمامه بأمر المخطوطات القديمة. فابتسم لهم الرجل وسألهم إذا كان هناك أحد آخر في صحبتهم فأخبراه بوجود أصدقائهم الثلاثة فقال لهم:
-         اخشى أنه سيكون من الصعب عليكم  أن تدخلوا معا إلى الدير، ولكن يمكنكما أنتما الإثنان فقط زيارة الدير والاطلاع على ما ترغبان فيه في مكتبة الدير فقط.

ووافقا على الفور ومن دون  الرجوع إلى المنتظرين في الخارج. لكن عندما أخبرهما الراهب أن الدير موجود قريبا من الكاتدرائية، في موقع أسفل الأرض، ويمكن الوصول إليه عبر ممرات داخلية قريبة، كان على بسمة أن تعلن الأمر للمنتظرين في الخارج، والذين أبدوا احتجاجهم وخصوصًا جودي التي كانت ترى أنها الأولى بهذه الزيارة، وهكذا قررت بسمة أن تسمح لجودي أن تذهب مع ويليام بدلا منها.


وحين ذهبت جودي إلى حيث وقف ويليام والكاهن سألها 

الرجل عن بسمة فأوضحت أنها الأكثر تخصصًا في الموضوع، وأنها المكلفة بعمل هذا البحث مع ويليام وبعد أن استمع الكاهن إلى جودي هز رأسه متمتمًا أن اختيار من يزور المكان شأن داخلي بينهم، ودعاهم للسير خلفه في الطريق إلى الدير الخفي!












17

ضوء في نهاية النفق

بقدر ما كانت جودي تشعر بالإثارة بقدر ما شعرتبالوجل والخوف، كلما تقدموا في السير، خصوصًا مع اقترابهم من ممر ضيق في نهاية الكاتدرائية كان يهبط تدريجيًا إلى الأسفل، ولم تكن توجد به إلا بضعة مصابيح، معلّقة على الجدار المجاور للدَرَج الحجري العتيق، لم تكن ذات وهج كافي لإضاءة المكان. كان الكاهن يسبقهما، وكانت جودي تسير خلف ويليام وهي تخفض رأسها، وتهبط بحذر شديد، بينما كانت تشعر برطوبة المكان.
أخيرا وصلوا إلى باحة كبيرة تتراص فيها وحدات من الخشب والمعدن تشبه الخزائن، تبينوا بعد قليل أنها الأماكن التي تخزن فيها الكتب والمخطوطات القديمة.
وقف الكاهن في وسط الباحة تقريبًا وأشار بشكل دائري إلى محتويات المكان قائلا:
-         أنظروا، هنا توجد مجموعة من أهم الكتب والمخطوطات في العالم. بل لعل هذا المكان يحتوي كنزًا من المعرفة، في العلوم والأديان والفلسفة والفكر والأدب، بعضها لا يعرف أحد في العالم شيئًا عنه.
انتبهت جودي لهذه الكلمات وقالت لنفسها، طالما أن أحداً لا يعرف شيئًا عن هذا الكنز فلا بد أن هناك بالفعل مخطوطات قديمة قد تحتوي أية معلومات مدونة عن مصاصي الحبر. وبينما بدأ الرجل يشرح لهما أقسام المكتبة السرية أخذت تتجول بعينيها في المكان، كانت الباحة واسعة مبلطة بالحجارة، وكانت الجدران مبنية من حجارة عتيقة طوبية اللون، أما السقف فكان منخفضًا بشكل ملحوظ ويبدو مقوسًا، كأن المكتبة بنيت داخل نفق اسطواني. لكن الإضاءة اختلفت بحيث تدلت من السقف كشافات مربعة الشكل، مزودة بمصابيح قوية الإضاءة، كل منها مسلط على أحد خزائن الكتب. وبينما بدأ الكاهن يفتح بعض الأدراج ليطلعهما على بعض نماذج المخطوطات، قررت جودي أن تبتعد عنهما قليلاً لتتأمل المكان.

أخذت تتجول بعينيها على الملصقات الموضوعة على أدراج الخزائن، وهي التي كتب على كل منها إما تقسيم محتويات الأدراج، أو التاريخ الذي يعود إليه زمن نسخ أو كتابة المخطوطات. وبعض الملصقات كانت الكتابة المكتوبة عليها باللغة اللاتينية القديمة التي لم تفهم جودي منها شيئًا.
سمعت صوت ويلياموهو يسأل الكاهن عما إذا كانت هناك مخطوطات قديمة خاصة بعلوم الكيمياء، وبعد لحظات جاءها صوت الرجل متحمسًا:
-         آآآآآه الكيمياء، طبعا طبعا.. الكيمياء لها اهتمام كبير بين محتويات المكان،تعال لكي اطلعك على بعض منها.
اغتنمت جودي فرصة انهماك الرجل مع ويليام في موضوع الكيمياء وبدأت تسرع في خطاها  باتجاه الزوايا البعيدة من المكان، كانت الخزائن متراصة بجوار الجدران، بالإضافة إلى صفين من الخزائن في منتصف البهو، ولكنها كانت تركض وتقرأ المكتوب على الملصقات، حتى وقعت عينيها أخيراً على ملصق مكتوب عليه مصّاصي الدماء، ولم تصدق عينيها، بحثت في الملصقات الأخرى، عن أي شئ له علاقة بمصّاصي الحبر لكنها لم تجد شيئًا فعادت إلى الدُرج الخاص بمخطوطات مصاصي الدماء، وفتحته بحرص شديد، وهي تتمنى ألا يُصدر صوتًا، وبالفعل نجحت في ذلك ووجدت أمامها عددًا كبيرًا من الكتب المجلّدة في جلود عتيقة وعلى حوافها الخارجية راحت تقرأ العناوين.
كانت أغلبها كتب لم تسمع عنها من قبل، "مصَّاصو الدماء واللاهوت"، "الخيال والحقيقة في كائنات الظلام"، "الدماء وشاربوها"، "مقالة في خرافات شرب الدماء"، كما وجدت نسخة من كتاب "دراكيولا" الشهير، وغيرها، لكنها انتبهت إلى كلمة "مصاصو الحبر" على أحد الأغلفة، فأمسكت الكتاب، وخلصته من الكتب الأخرى التي كانت تشعر أنها تمسك به، ولا تريد لأحد أن ينتزعه من مكانه، وأخيرا نجحت في تخليص الكتاب، ووجدت على الغلاف الجلدي عنوان "نماذج من الكتب منزوعة الدماء"، فخفق قلبها بعنف، وأحست أن أنفاسها بدأت تتسارع، فها هو ذا كل ما كانت تفكر فيه يتحقق أخيرا، ويتأكد أنه حقيقة وليس وهمًا.
تصفحت الكتاب، لكنهافوجئت أن الورق العتيق المصفر خال تمام من أي حبر أو آثار لكتابة، قلبت الصفحات وهي تسند الكتاب على إحدى ذراعيها وتقلب الصفحات بالأخرى، دون جدوى. وسمعت فجأة صوت الكاهن يقترب منها، فزادت خفقات قلبها، وبدأت تحاول أن تغلق الكتاب لتضعه في مكانه قبل أن يحضر الرجل، ولمحت في الجلدة الاخيرة من الغلاف هذه الجملة:
 "نموذج من كتب منزوعة الحبر . الموضع: صندوق مصاصي الحبر، الغرفة 7".

أغلقت الدرج وراحت تسرع من خطواتها لتقترب من الكاهن وويليام، الذين توقفوا بجوار خزينة كتب مجاورة لها بالفعل، وكان الرجل يريه بعض المخطوطات التي تعود لعالم عربي اسماه الرجل آفيسينا، Avicenna، ولم يدرك ويليام معنى الاسم في البداية، لكن جودي ذكرته أنه الاسم اللاتيني المستخدم لابن سينا. كان المخطوط باسم "رسالة في الأغذية والأدوية"، لكن الكاهن أوضح لهما أن ابن سينا له مؤلفات أخرى أغلبها في الطب، وأوضح أن الكثير من كتاباته ترجمت للاتينية وبعضها للفرنسية. ثم ابتسم قائلا:
-         كتابه المسمى "القانون في الطب" ظل مرجعا لدراسة الطب في أوربا حتى القرن التاسع عشر.

فأبدى ويليام دهشته صائحًا:

-         رائع! هذه معلومة جديدة بالنسبة لي.
فقال له الكاهن:
-         لماذا تندهش هكذا؟ ابن سينا لم يكن المرجع العربي الوحيد للعلم في أوربا، كانت هناك أيضا مؤلفات مهمة لـ" افيروس" و"مايمونيدس" (سيفهم ويليام لاحقا ان الأول هو ابن رشد، الفيلسوف العربي الشهير من عصر الأندلس أما الثاني فهو الميموني أو موسى ابن الميمون وهو عالم عربي يهودي من العصر الأندلسي أيضًا) والفارابي وابن خلدون والكندي وغيرهم.
كان ويليام يشعر بالانبهار، وتدخلت جودي فجأة قائلة:
-         سيدي القس، هل كان هناك وجود لكائنات تسمى "شاربو الحبر"، أو "مصاصو دماء الكتب"؟

خفض الرجل نظره بحيث يحدق في عينيها وابتسم ابتسامة 

غامضة ثم قال:

-         هذه الأشياء لا تأتي في صميم اهتمامنا هنا يا صغيرتي. نحن لا نهتم بالخرافات.

-         ولكن ربما يا سيدي القس تهتمون بتوضيح أن الخرافات لا أصل لها مثلا، مثل مصَّاصي الدماء.

-         ولكن يا صغيرتي هذه أشياء لا نهتم بها حقا.

-         اسمح لي سيدي القس، أن نخبرك بحقيقة ما جئنا من أجله. لقد عرفنا أن هناك كتبا قديمة تناولت موضوعا غريبا لكائنات كانت تعرف باسم شاربو الحبر، وجئنا لأجل التحقق من هذا الأمر.
بدا الارتباك على ويليام الذي شعر أن جودي أفسدت كل شئ بتعجلها في الكلام عن موضوع لا يبدو الكاهن راضيا عنه أو راغبا في الكلام حوله. أما الكاهن فقد صمت قليلا، ثم نظر إليهما، وقال بصوت منخفض بصوت له نبرات خشنة قليلا بسبب كبر عمره:
-         وهل هذا هو السبب الحقيقي لوجودكما هنا؟
صمت ويليام ونظرإلى جودي على الفور حتى لا يتورط في كلام قد يؤدي إلى نتائج لا يعرفها، لكن جودي هزت رأسها بإصرار، وقالت له:
-         نعم يا سيدي القس، نحن هنا من أجل هذا الأمر. والحقيقة أننا نواجه مشكلة تخص إحدى صديقاتنا واسمها ليلى، والموجودة الآن خارج الكاتدرائية، فبعد أن كتبت جزءً كبيرًا من كتاب كانت ترغب ان تعبر فيه عن موهبتها في كتابة القصة، اكتشفت اختفاء الحبر الذي كتبت به كتابها. وبالتالي اصبح ما كتبته كأنه لم يكن. ولكنها حاولت مرة أخرى، وأعادت كتابة جزء كبير من القصة من ذاكرتها فتكرر الأمر.
نظر الكاهن إليها وكأنه يتأملها، وظل صامتًا لوهلة، ثم قال:
-         وهل لديكم نسخة من كتاب صديقتكم منزوع الحبر هذا؟
فهتفت جودي قائلة:
-         نعم بالتأكيد، ليلى لا تتحرك من دونه، معها في حقيبة يدها التي تحملها معها.
فقال الكاهن:
-         إذن هل يمكن أن تحضري لي نسخة من هذا الكتاب؟
-         بالتأكيد يا سيدي.

-         عظيم، إذن تعالوا معي.