Saturday, December 27, 2014

"اللغة" المصرية مقبرة العربية؟!

مرايا
   
"اللغة" المصرية مقبرة العربية؟!


إبراهيم فرغلي


إبراهيم عيسى دمر لغة الصحافة. قلت ذلك منذ سنوات، ولا يزال هذا رأيي.

 واليوم طالع أغلب الصحف والمدونات والمواقع الإلكترونية الصحافية، وما يسمى قسم اللغة المصرية في الموسوعة الشعبية (ويكيبيديا)، فماذا ترى؟ هذر وسخف ولغو، هذا تقديري لأي منتج مدوّن يستخدم العامية، لماذا؟
ما بدأه إبراهيم عيسى، وهو بالنسبة لي صديق وأخ وصاحب فضل، في صحيفة الدستور، قبل نحو عقد كامل، باسم الخصوصية والتميز الصحفي والتحدث الى الجمهور بلغته آتى ثماره اليوم، لكنها مع الأسف ثمار معطوبة. فلدينا الآن بحمد الله جيل كامل لا يجيد إلا الكتابة بالعامية المصرية المفصحة، وهذا ما أفضّل وصفه بالـ "تهتهة"، أو التحدث بلغة "مكسرّة". جيل لا يملك لغة يعبر بها لأنها هجين غير أصيل ما بين الشفاهي المنطوق وبين لغة النسخ والكتابة، بالإضافة إلى أن الكتابة بالعامية مؤشر خطير على مدى الإنغلاق الذي وصل إليه المجتمع المصري في عصر الإنترنت والانفتاح على العالم. مجتمع غرقان في ذاته، لا يرى إلا نفسه، ولأنه لا يرى إلاها لا يدرك أنه في الحقيقة أعمى، والنتيجة تضخم مفرط للذات، ونرجسية، وإحساس بالغرور عن جهل.

في الحقيقة لا يمكن لمجتمع محترم أن يدون أفكاره بالعامية إلا إذا كان مجتمعا نصف نصف.مجتمع يرقص على السلم في كل شئ. فلا هو يتقن لغته الأم، ولا يمكن أن يخترع شيئا ذا قيمة من هذه اللغة الهجين "المسخرة". هذه المسخرة هي نتيجة طبيعية لمجتمع يحب الرقص على السلم فلا ينتج إلا نصفا من كل شئ، نصف لغة، نصف ثقافة، نصف أدب، نصف صحافة، نصف ثورة، وبالتالي؛ نصف مجتمع.
لم أفهم أبدا فكرةالكتابة بالعامية ولا أزال، فما المقصود منها؟ أن تجتذب قارئا لا يعرف أصول اللغة الفصحى؟ لماذا؟ لأنه لم يدرس لغته؟ أو لأنه لم يكمل تعليمه؟ أو لكي تتحدث أنت معه ككاتب بطريقة المصاطب وحوارات المقاهي؟!
أدخل بين آن وآخر إلى صفحة اللغة "المصرية" في موسوعة ويكيبديا الإلكترونية، لأتصفحها فلا أرى إلا المساخر، ففي النهاية ليست سوى تحويل للصفحات العربية أو تحويرها إلى اللهجة المصرية. طبعا هي تحوير لصفحات عربية فقيرة أساسا، فتصبح بعد التحوير "مسخرة"، خصوصا مثلا لو كانت حول مصطلح علمي. شيئ مثير للرثاء. وأحاول أن أتخيل ترجمة "مصرية" لكتاب فلسفي لهيجل أو ديفيد هيوم، فتصيبني حالة من الضحك الهيستيري.
ربما يظن البعض أن اللهجة العامية تعبير عن الهوية المصرية. ويرى أنصار هذه الرؤية أن أي مجتمع صاحب خصوصية ينبغي أن تكون له لغته وأن يحافظ عليها ويبدع بها. وأنا أتفق تماما في ذلك. لكن لو أردتم حقا أن أصدقكم فلتبدأوا بتعلم الهيروغليفية، وإتقانها، تحدثا وكتابة، وأعدكم أنني سأكون أول من يتعلمها معكم لأنها، لأسباب تاريخية، تمثل اللغة الحقيقية التي تمثل أصل الحضارة التي تنتمي لها مصر وهي الحضارة المصرية القديمة. عدا ذلك فكله ضحك على الذقون.

 نشرت في موقع إتفرج www.itfarrag.com


صندوق الهوية


صندوق الهوية


ابراهيم فرغلي


كثيرا ما استعيد سؤالا كنت اوجهه لصديقة ثقافتها تقليدية ممن ورثن افكارا مريضة عن الاختلاف المزعوم بين المسلمين والمسيحيين، كنت اسألها طيب تخيلي ان شخصين يتقدمان للزواج منك احدهما باكستاني أو هندي، لن أقول من دولة عربية، مسلم، والآخر مصري مسيحي، فمن تتصورين ان يكون الأكثر قبولا بالنسبة لك؟ وكانت تتأمل السؤال للحظات، ثم تبتسم وتقول: تصدق عندك حق، لكن هذه الابتسامة هي أقصى ما يمكنها ان تمنحه لمثل هذا السؤال، مفضلة العودة لصندوق الهوية الذي نشأت فيه وأسهمت الثقافة التقليدية التي نعيش في اسارها في تغذية المفاهيم الخاصة بمكونات هذا الصندوق الاحادية. 

تقوم الثقافة التقليدية على تغذية إيهام الأشخاص ان صندوق هويتهم له مكون واحد هو الهوية الطائفية او المذهبية، وتقصي كافة المكونات الاخرى والتي تتضمن التراث الثقافي والحضاري بكل تفاصيله الخصبة من فكر وفن وعادات شعبية ومخزون من الارث الحضاري المتراكم.
هذا الوهم في الواقع ليس له سوى نتيجة واحدة وهي ان ينشأ الفرد وهو يكره الاخر وكل من يختلف عنه، وهذه الكراهية للاخر قد تأخذ شكل النبذ او التعالي على الاخر وقد تأخذ أشكالا عنيفة اخرى هي النتاج الطبيعي لتراث طويل من إقصاء الاخر تبرر القتل والاجرام باسم الهوية.
والنتيجة كما شاهدنا في العقود الماضية توترات وحروب أهلية في عدد من دول العالم، وانفجار فتنة ثنائيات : مسيحي- مسلم، شيعي-سني، بكل اطيافها من دون ان ينتبه احد الى المفارقة المفزعة في ان الخلاف بين المسلم والمسيحي (وهو وهم تم اختراعه لأسباب سياسية ليس هنا مجال رصدها)، لا يقل بأي درجة في قوته عن طبيعة الاختلاف التي يتصورها اي من طرفي الخلاف السني الشيعي المتطرفين.

لا يدرك طرفي الخلاف في كل هذه الثنائيات المصنوعة داخل صندوق الهوية الاحادي المزيف، ان الانسان في كل مكان لا يختلف عن غيره، وان الدم الذي يجري في عروق البشر واحد، وان كل شعوب العالم لا تختلف على معنى الحق والعدل والخير، فمن اين يأتي الاختلاف؟

انه صنيعة السياسة، والجماعات السياسية التي تتمحك في الأديان وتعمل على تلميع صندوق الهوية المزيف بكل ما هو لامع وبرَّاق لتخفي زيف الصندوق، وبينما تطور صناع الصناديق المزيفة من جماعات مثل الاخوان المسلمين الى التكفير والهجرة ، ومن الجماعة الاسلامية الى القاعدة، ومن النصرة الى داعش فقد تطور مع تاريخهم حتى اصبح اليوم على يد داعش نوعا من الفجر في الخصام والوحشية التي أتأملها فأدرك كيف نجح صندوق الهوية الوحيد في عودة البشرية إلى المربع الأول: مربع البدائية والوحشية، ما قبل الأديان، ما قبل الانسانية.

العلم وقاهر العفاريت!


مرايا


العلم وقاهر العفاريت!


إبراهيم فرغلي


طالعت صفحاتالأصدقاء والمعارف والزملاء على الـ"فيسبوك" خلال فترة إعلان الفائزين بجوائز نوبل، وهالني أنني لم أقرأ حرفا، أو أجد رابطا لخبر يخص جوائز العلوم، ثم تدبرت الأمر قليلا وقلت: هذا بديهي، فمن أين سيجدون الروابط إذا لم تكن هناك أساسًا منابر للعلوم في أغلب وسائل صحافتنا العربية. فلا توجد لدينا مجلات علمية، تخيلوا؟!، وأغلب الزوايا العلمية في الصحف الكبرى، لا تعدو عن كونها صفحات طبية خبرية يمكنك أن تقرأ فيها عناوين مثل "تزايد هبوط القلب بين المصريين"،"الجزر والسبانخ لوقاية العين من المياه البيضاء". أما التلفزيون فمشغول ببرامج المهرجين و"الأراجوزات"، والوصف ليس من عندي بل من محض مسلكهم، الذين يُلهون الشعب بتوافه الأمور فيما يتوهمونه شؤون السياسة والمجتمع.

مواقع قليلة جدااهتمت بنوبل للعلوم مثل موقع "مصراوي" الذي نشر حوارا مع العالم كارل هنريك هلدن؛ رئيس جائزة نوبل، كما أشار الموقع في تقارير مقتضبة إلى الجوائز العلمية لنوبل هذا العام، ونشرت صحيفة "الأهرام"  تقريرا عن جائزة نوبل في الطب، وبعض الصحف نقلت خبر وكالات الأنباء المعمم. وفيما عدا ذلك تقريبا لاشئ.
وبينما أحالنيالبحث عن كلمة علوم إلى خبر احتفال الرئيس السيسي بعيد العلم، فإن الغالبية العظمى من مستخدمي صفحات التواصل الاجتماعي كانوا مشغولين، ذمًّا وقدحا، بواحدة من الباحثات عن الشهرة تحت مظلة الإعلام بينما تروج في برامجها لظواهر العالم السفلي و"قاهر العفاريت".
قلت فلنعد إلى يوم العلم إذن، لعل وعسى، ففوجئت بالرئيس عبدالفتاح السيسي يقول في كلمته "إن دور العلم والعلماء والبحث العلمى له أهمية قصوى فى النهوض بالاقتصاد المصرى فى الفترة المقبلة"، وهي جملة تبدو في ظاهرها إيجابية، بينما  تعكس في الحقيقة تناقضًا كبيرًا في تقدير الواقع الحقيقي لحالة العلم في مصر. فالبحث العلمي هو الذي يحتاج لرعاية الدولة والقطاع الخاص معا، وينبغي ان تتوفر له مصادر تمويل هائلة، حتى يمكن له أن يسهم فعلا في التنمية. ثم قام الرئيس بتكريم عدد من الباحثين من الأكادميين العلميين، وهو أمر محمود، لكنني كنت أنتظر أن تؤكد الدولة رسالتها للشباب الذي يحتاج للتشجيع والدعم لاستكمال مسيرته العلمية، بدلا من تحويل عيد العلم إلى مجرد احتفال شكلي بيروقراطي لا جديد فيه ولا أمل يرجى منه.
إن الأزمةالتي يسببها انحدار مستوى التعليم في مصر لا تنعكس في انحدار مستوى الاهتمام بالعلوم فقط، بل تمتد شواهدها، وأنتم أعلم مني، إلى تعليقات الضحالة وضيق الأفق على صفحات التواصل الاجتماعي، وإجابات الطلبة الجامعيين على أسئلة المعلومات العامة التي تشعر معها أنهم لم يتعلموا شيئا، أو في ممارسات حكومية من مثل تحطيم مقهى بدعوى أنه للملحدين! أو حبس صبي صغير بدعوى سرقته لعدة أرغفة من الخبز، أوفي أداء أغلب مقدمي برامج التلفزيون المصري الذين لا أصدق أنهم قد تلقوا تعليما جامعيا من فرط ما يلوكون من عبارات لا تفيض إلا بالجهل والادعاء، بالإضافة لأساليبهم التي لا تمت لسلوكيات الإعلاميين بقدر ما تبدو أقرب لسلوكيات العوام، حتى يكادوا أن يشعلوا بلدا كاملا بحرائق البلاهة والتخلف.
العلم في مصر لا يحتاج إلى عيد يحتفل به، بل يحتاج لثورة حقيقية، تضع العلم أولوية استراتيجية في خطة نهضة هذا البلد، إذا أريدت له النهضة، بإقامة مراكز علمية يتوفر لها علماء من أرجاء العالم، ودعم التعليم العلمي في الجامعات، وإنشاء قنوات تلفزيونية متخصصة في بث المواد العلمية لجمهورأصابته التخمة من التفاهة والسخافة، وإنشاء مجلات علمية متخصصة مهمتها تبسيط العلوم وتوضيح كيف أن العلوم تدخل في كل جوانب حياتنا اليومية، وغير ذلك.
العقل الغائب في مصر لن يعود سوى بعودة قيمة و"أخلاقيات" العلم مرة أخرى للمجتمع، وعندها ربما يتمكن من إضاءة العتمة التي تنمو بفضلها اليوم عفاريت التخلف والجهل والإرهاب وكل خفافيش الظلام.
ولأجلضيق المساحة أتمنى صادقا أن يختتم من يقرأ المقال البحث عن جوائز نوبل في العلوم لهذا العام، وأظنها ستضيف لمن يرتجي ثواب العلم والمعرفة آفاقا جديدة ومهمة.


 نشرت في موقع إتفرج http://www.itfarrag.com/





الملفات المحفوظية!

مرايا

الملفات المحفوظية!

إبراهيم فرغلي


قرأت أن طائفة من الشباب يجدون في الملف السنوي الذي تخصصه الكثير من الصحف والدوريات للاحتفاء بميلاد نجيب محفوظ ما يصيبهم بالملل، بدعوى أن التناول لم يعد فيه جديدا، أو أن البعض يثير الملف من قبيل الاسترزاق. ولعل في كثير مما يطرح في الاحتفاءات السنوية بمحفوظ ما يبرر قولهم ويدمغه بخاتم صحيح القول.
لكني في الحقيقة أرى أن السؤال أيضا يمكن أن يكون لماذا يحظى نجيب محفوظ دون غيره من الكتاب الذين عرفوا الشهرة والنجومية من جيله ومن منافسيه بكل هذا الاهتمام السنوي؟ اليست هذه ظاهرة؟ ألا يعني وجود هذه الملفات المحفوظية أن هناك ما يقال عن الرجل وأعماله بالفعل؟
شخصيا أعتقد أن هذه الملفات، وبينها ملفات تجتهد في طرح رؤى مغايرة وجديدة، وتحاول أن تطرق ما لم يطرق قبلا، وبعضها قد يقع تحت طائلة التكرار والطنطنة، هي في الحقيقة تكشف إحساسا باطنيا عما أعتقده شخصيا منذ زمن ويتعلق بأن تناول محفوظ تم في الكثير من أعماله باستخفاف واستسهال، وبأدوات نقدية تقليدية.
وأظن أيضا أن الأفلام العديدة التي نقلت رواياته إلى الشاشة كان لها دور كبير في هذا التناول النقدي الذي اعتمد على قول ما هو مشروح. أو افتراض أن أغلب شخصيات محفوظ شخصيات مفاهيمية، وهذا قد يجانبه الصواب لكن المشكلة أن قراءتها تتم بشكل خاطئ أو باستسهال.
أساءت العديد من الأفلام التي نقلت عن أعمال محفوظ إلى نصوصه الروائية على مستويات عدة، بينها أنها قدمت النصوص في قالب سردي حكائي درامي من دون قدرة على الغوص في البعد النفسي للشخصيات، على العكس تماما من الروايات بطبيعىة الحال. إضافة إلى أن الأفلام أسهمت في كذبة كبيرة روجها الكثيرون مفترضين أنهم بمشاهدة الأفلام قد "قرأوا" الأعمال، وهذه مغالطة كبرى لا يقبلها إلا مجتمع كسول في القراءة مثل المجتمع المصري.
في تقديري مثلا أن كل الأعمال الروائية التي تناولت رواية الحرافيش هي أفلام ينبغي أن تتعرض  إما للإبادة أو أن تنفي أي صلة لها بنص رواية الحرافيش. فالحرافيش في الحقيقة رواية فلسفية وصوفية، تعتمد على مفارقة كبيرة لم ينتبه لها الكثيرون، وهي أنها نص ملحمي يخلو من التفاصيل، ويعتمد على الإشارة والرمز والاقتضاب أكثر من الثرثرة والحشو، وما يمنح الإحساس بأنها رواية ضخمة ممتلئة بالتفاصيل قد تعرض قارئها للتشوش يعود لعدد الشخصيات والأجيال المتعاقبة التي تتبعها محفوظ بدء من عاشور الناجي ثم سلالته من الأبناء والأحفاد. أما الوصف فمقتضب، والزمن يختزل في جمل، والحوارات بين الأبطال قصيرة ولا ينطق أي منهم إلا بخلاصة الكلام وجوهر المعنى بلا فائض. وكل جيل يمثل منظومة من القيم التي تستعرضها الصراعات والعلاقات المعقدة بين السلطة الشعبية الممثلة في الفتوات ومنظومة القيم التي يمثلها رموز آل الناجي وبين أهل الحارة.
هذا عنالرواية فماذا عن الأفلام التي أخذت عن الرواية أو تناولتها؟ يقيني الشخصي أن تلك الأفلام جميعا (على شاكلة شهد الملكة والتوت والنبوت وغيرهما) قدمت نماذجا لشخصيات غرائبية وأنماطا كلاشيهية من الحارة المصرية كما يتخيلها صُنّاع الأفلام، وليس كما تخيلها محفوظ في تلك الحارة الرمزية التي تفيض بصراع الخير والشر، وبالبحث عن جوهر معنى العدل، ومفارقات الحكمة والتهور، وبالترانيم الصوفية التي تتجلى في ليالي الحارة تصدح بها أصوات الدراويش في داخل التكايا.
إنهذه الملفات التي يستهجنها البعض، في تقديري، هي روح محفوظ التي لا تزال تنادينا بأن نُحسن قراءته وأن نقرأ – القراءة كفعل وعي- ما بين السطور في أعماله التي تتكئ فيها الفلسفة على شخصيات من لحم ودم، لكن خلودها يتحقق مما تتضمنه سلوكياتها من دلائل الفلسفة التي نثرها محفوظ في أغلب أعماله. 


نشرت في موقع اتفرج http://www.itfarrag.com/

Wednesday, December 24, 2014

الإرهابي الأنيق!


تغريدة

الإرهابي الأنيق!

إبراهيم فرغلي

نشهد اليوم خارطة إرهابية جديدة، مركزها الجديد تنظيم غريب لا يعلم أحد، على وجه الدقة، من أين ظهر هكذا فجأة، أو من الذي منحه كل تلك القوة وسمح له أن يؤسس ما يسميه دولة الخلافة الإسلامية تحت أعين وبصر الغرب بكل قواه العاتية. وبالرغم من كل الشكوك وعلامات الاستفهام تمكن التنظيم المريب المسمى "داعش" من فرض نفسه على الساحة الدولية، إعلاميا على الأقل، بديلا، أو ربما كلغم إضافي من ألغام الإرهاب الذي جسدته وفجرته منذ نهاية سبعينات القرن الماضي تنظيمات مثل الجهاد، والتكفير والهجرة، والجماعة الإسلامية التي برزت بعد نجاحها في قتل السادات. ثم بدأت بشائر منظمة القاعدة التي تسلمت الراية، ووصلت ذروة شهرتها مع تفجير برجي التجارة العالميين. وها هو تنظيم داعش يتجاوز كل تلك الجماعات والمجموعات بممارسات أعضاءه الوحشية ضد المختلفين معهم، إما بذبحهم وسبي نسائهم أو قتل أطفالهم وتهجير ذويهم، محولة الدماء والقتل إلى ما يشبه نزهة ممتعة وليس جريمة تستباح فيها الدماء والأعراض، ويستخف خلالها بكرامة البشر ومصائرهم.
وما يعنيني هنا هو الجذور والبذور التي تغلغلت في ثقافتنا العربية وفي الذهنية لكي تبرر وتجد في هذه الجرائم مسوغا مقبولا باسم الدين. وأظن أنها كلها تندرج تحت عنوان عريض هو "الرقابة".
حاولت ثقافتنا في عصور الانتقال إلى الحداثة إسباغ صيغة مدنية على الإصلاح الديني، وفي تلك المحاولة المشوهة التي لم تستوعب أن الحداثة ثورة على منظومة نقلية عقيمة، لحساب إحياء قيم العقلانية والتفكير بلا محظور، أرادت الحكومات المتعاقبة منذ أيام الملكية، ومرورا بالحكم العسكري الشمولي في عهود عبد الناصر والسادات ومبارك، بمحاولة إيجاد مسوغات "أحلاقية" و"دينية" لسلطاتها ولشرعيتها التي كانت تقوم على المبادئ الديكتاتورية الشمولية التي تعتبر الحكم حقا مدى الحياة، عبر مغازلة المؤسسات الدينية الرسمية من جهة، ومغازلة تيار الأخلاق العام في مجتمع يشيع عنه الاتصاف بالتدين، من خلال خلق مؤسسات "الرقابة".
بذلك أسست الدولة مؤسسة "تكفير" مدنية نصبّت بها نفسها حكما على الأخلاق والأفكار والفن والأدب، واختلقت طائفة جديدة من أصحاب الوصاية على البشر والإقصاء، اعتمروا طربوشا ليخفوا به العمامة.

وهكذا عبر شرعَنة و"مديَنة" فكرة الرقيب في العالم العربي، تأسست شرعية التكفير، التي راح ضحيتها نماذج عديدة من الضحايا من المثقفين إما قتلا واعتداء أو ازدراء وتكفيرا، وصولا لما نراه اليوم لما يحدث لجموع البشر على يد داعش وأخواتها. لذلك ففي تقديري أن الرقيب، مهما أسبغ على سمته من سمات العصرية هو مثل أعلى ونموذج لكل اصحاب الفكر المتطرف ومدعي الوصاية على الأفكار والأخلاق والعقائد والحريات الشخصية.

زاوية أسبوعية في صحيفة "القاهرة" بعنوان "تغريدة"، وهذه التغريدة الأولى نشرت الثلاثاء 23 ديسمبر 2014

Sunday, December 21, 2014

تاريخ وتحليل الثورات الشعبية فى مصر


تاريخ وتحليل الثورات الشعبية فى مصر
عند لويس عوض





خليل كلفت

 (موجز مؤقت لمحاضرة أطول)



لويس عوض والثورات الشعبية .. تبدو العبارتان متناقضتين، فعلاقة لويس عوض بالأدب الإنجليزى والأوروپى والثقافات اليونانية واللاتينية والأوروپية والفرعونية علاقة موسوعية بديهية يصول ويجول فيها هذا المفكر العظيم أما الثورات الشعبية فهى آخر ما نتوقع أن يدرسها لويس عوض، وإنْ كان هذا فى سياق علاقة رئيسية ببحثه المتواصل فى تطور الفكر المصرى الحديث فى كتابه البالغ الأهمية "تاريخ الفكر المصرى الحديث" وإنْ كان بحثه فى إطار "تأريخى" وليس فى إطار تحليلى وفكرى وفلسفى فى المحل الأول، وهذا جانب يفاجئنا ويُدهشنا فى كتابه البالغ الأهمية.

والحقيقة أننى تناولت فى مؤتمر سابق للمجلس الأعلى للثقافة منذ سنوات مسألة تفاجئنا وتُدهشنا بدورها تتمثل فى اهتمام لويس عوض بالعلم اللغوى العربى فى دراسة تتعلق بالتاريخ المقارن لفقه لغتنا فى كتابه "مقدمة فى فقه اللغة العربية"، أىْ فى مجال لغوى يبدو غريبا على مجالات دراسة لويس عوض، الذى كان فى المحل الأول، تماما مثل سلفه العظيم طه حسين، جسرا بين الثقافتين العربية والأوروپية، كما أنه كان يدرك الحرب الفكرية والإدارية التى سيتعرَّض لها بحثه فى ميدان يحرِّمه العلم اللغوى العربى، هو ميدان فقه اللغة العربية، وسرعان ما تمت مصادرة الكتاب، وكانت تلك المصادرة دعاية هائلة للكتاب لم يحلم بها مؤلفه، مع أنه كان يُدرك دون شك أنه كان يُحدث ببحثه ثورة حقيقية فى تطور فقه اللغة العربية لم يسبقه إليها أحد، وهى ثورة كانت الثورة المضادة، الأصولية الدينية اللغوية، جاهزة لمحاربتها، وما تزال تلك الحرب مشتعلة إلى الآن، دون أن يجرؤ باحث لغوى فى هذا المجال على مجرد الاقتراب منه ردًّا على حرب الافتراء والتشويه على الكتاب وعلى لويس عوض باعتباره عدوا للعروبة والإسلام.

وتأتى قراءتى الجديدة لهذا الكتاب أثناء وفى أعقاب ثورة شعبية كبرى يُوجب فَهْمنا لأبعادها أن نبحث فى كل الاتجاهات فى مسألة تبدو لنا بديهية لأنها ثورات احتجاج على الظلم الاجتماعى عندما يتعاظم ويتفاقم ويستفحل هذا الظلم إلى حد الانفجار. غير أن بحث علاقات ثورتنا بوصفها ثورة ﺑ"ثورات" أخرى مختلفة يجعل فَهْم الثورات الشعبية فى مصر، وثورتنا الشعبية الأخيرة، مسألة مفاجئة لاهتمامات لويس عوض ومناقضة تماما لتصوراتنا لكلٍّ من الثورة الشعبية كمفهوم والثورة المصرية كواقع مثير للجدل.

وكانت معاناتى الفكرية لثورة 25 يناير، استمرارًا مكثفًا لاهتمامى السابق عليها بقضية الثورة الاجتماعية والثورة الشعبية؛ وهو اهتمام يتجلى بوضوح فى مقدمتى لترجمتى لكتاب أليكسى دو توكڤيل "النظام القديم والثورة الفرنسية"؛ الصادر عن المركز القومى للترجمة فى 2010. غير أن ثورة يناير نقلت اهتمامى بهذه القضية إلى مستوى المعاناة الفكرية وخروجى إلى التفكير "خارج القفص"، الأمر الذى انتهى بى إلى مفاهيم جديدة تفصل الثورة الشعبية كثورة شعبية احتجاجية ضد الاستغلال والفساد والظلم والاستبداد فصلا تاما عما يسُمَّى بالثورة الاجتماعية التى انتهيتُ إلى تسميتها بالتحوُّل الاجتماعى-السياسى مُدمجا الثورة الاجتماعية على هذا النحو بالثورة السياسية، بدلا من الفصل بينهما عند ماركس والفكر الماركسى، فى الفكر ولكنْ ليس فى الممارسة، ومستعملا لفظة التحوُّل هنا بدلا من لفظة الثورة فى عبارة الثورة الاجتماعية أو بالأحرى الثورة الاجتماعية-السياسية تفاديا لاستخدام نفس اللفظة الواحدة أىْ لفظة "ثورة" لظاهرتين مختلفتين تماما هما ظاهرة التحوُّل الاجتماعى-السياسى"، "اللا-الانفجارىّ" بحكم طبيعته التدريجية التراكمية، وظاهرة الثورة الشعبية، أىْ ظاهرة الاحتجاج الشعبى الانفجارى ضد الظلم، "الانفجارية" بحكم طبيعتها كعاصفة ثورية انفجارية احتجاجية غاضبة.

ومن المؤسف أن طابع التقرير التاريخى لأحداث ثورات شعبية بدلا من التركيز على تحليلها فكريا يطبع بطابعه بحث لويس عوض. وهو أمر مؤسف لأنه لا يركز على مادة فكرية يمكن بحثها ونقدها وتحليلها، غير أن طريقة عرضه لعناصر هذه المادة الغنية وتعليقاته هنا وهناك، على هذا العنصر أو ذاك، على تفاصيل تطور هذه الثورات وسلوكها ومصائرها توفر أساسا لنقد تصوراته عن الثورة الشعبية.

وكان مفهوم "الثورة الاجتماعية" غائبًا عن رؤية لويس عوض، مع أن المفاهيم الماركسية كانت فى متناول كل باحث اجتماعى أو تاريخى، يتبنَّى مواقفها النظرية لتلك المفاهيم أو يعارضها فى بحث نظرى مكتمل للثورات الشعبية فى مصر. ذلك أن كارل ماركس، الذى هو صاحب النظرية العلمية لتحوُّل المجتمعات من أنماط إنتاجية اجتماعية إلى أخرى، أربكته ثورة 1789 الفرنسية العظمى، أيقونة كل ثورات التاريخ الحديث، بحيث بدا له، أمام هذا المشهد الشعبى الثورى التاريخى الهائل، أنه يقدم اندماجا بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية مع أن الفصل بين هاتين الثورتين نظريا وليس فى الممارسة العملية كان يؤدى إلى انفصالهما وليس اندماجهما، ولم يقدم كارل ماركس نماذج لثورات اجتماعية خالصة ولا لثورات سياسية خالصة، وساعد غياب مفهوم ثورة شعبية منفصلة فى نظرية كارل ماركس على اعتمادٍ تصوُّر عن ثورة واحدة اندمجت فى واقعها الاجتماعى العملى كل هذه المفاهيم النظرية المنفصلة.

ومن المؤسف أن غياب مفهوم نظرى سليم عن الثورة الشعبية وعن ثورات شعبية لاحقة وبالتالى تقليص قدرتها على الاستفادة من فَهْم واضح لطبيعتها وحدودها وانتزاع الحدّ الأقصى من المكاسب المنطقية الممكنة منها بدلا من التركيز على أوهام تحوُّلات تاريخية مستحيلة. وكان هذا هو ما انتهى بثورتنا إلى أن تنغرز نتيجة لتصورات وتهويمات مفاهيم غامضة عن الثورة، فى متاهات أوهام الوصول إلى السلطة، وإسقاط النظام، وتحقيق كل الشعارات المباشرة والضمنية للثورة الشعبية، بدلا من تحقيق الممكن وليس المستحيل، أىْ تحقيق مستويات باقية من الديمقراطية الشعبية من أسفل.

وعندما انتهت الثورة إلى ما انتهت إليه، أخذت قوى الثورة تُنْحِى باللائمة على النظام وكأنه يُفترض أن يحقق أهداف الثورة، وكأنما كان على الثورة المضادة أىْ النظام أن تقوم بوظيفة الثورة، بدلا من أن تُنْحِى باللائمة على نفسها لتقاعسها، بحكم عدم وعيها، عن تحقيق أهداف تحققها الشعوب وليس الثورات المضادة. وبفضل درجة من الإدراك الغامض بهذه الحقيقة أصيبت قوى الثورة بالإحباط واليأس والابتعاد عن السياسة أو الهجوم اللاعقلانى على الدولة التى لا يملكون نظرية عن طبيعتها الطبقية ولا عن وظيفتها الاجتماعية، بكل مؤسساتها التى تبدأ بقوانينها وتنتهى إلى جيوشها، وكأنها تفترض أن تقوم الدولة أىْ الثورة المضادة بإنصاف الثورة.


16 نوڤمبر 2014

Thursday, December 18, 2014

وجه مارلين مونرو

وجه مارلين مونرو

د.شاكر عبد الحميد



Marilyn_Monroe_Warhol_by_Angbrennil

رسم الفنان الأمريكي آندي وارهول (1928 – 1987) سلسلة من اللوحات لوجه مارلين مونرو عقب انتحارها في أغسطس عام 1962..

وقد كان ذلك التكرار الآلي الميكانيكي لصورتها الشخصية يجعلها تبدو ورقية الطابع، مما يسلبها أي إحساس يتعلق بوجودها الخاص خلف هذه الصورة السطحية.

إنها هنا تجسد حالة من الاختلال العدمي للشعور بالشخصية، كما أنها تردد أصداء ذلك القلق الذي قام بتقويض صورة الفنان-الفنانة عن نفسه.

في عام 1975 كتب وارهول يقول "تستحوذ علىَّ حد المرض تلك الفكرة الخاصة بالنظر إلى المرآة، ثم لا أرى أحدًا هناك، لا أرى شيئًا".

لقد كانت مارلين موجودة في التليفزيون وفي السينما وفي الحياة، وبعد موتها، كذلك بعد جنازة جون كيندي قام التليفزيون بالتغطية لهذين الحادثين المأساويين على المستوى القومي، وقد كانت المقاطع نفسها من الفيلم نفسه يتم تكرار عرضها مرة بعد أخرى، ويومًا بعد يوم.

وقد قام وارهول بالانتباه إلى ذلك العامل الخاص بالتكرار الموجود في ثقافة الميديا والثقافة الشعبية، هكذا كرر صورة شفاه مارلين في أحد أعماله، كما كرر صورتها هي نفسها حوالي ثلاثين مرة في عمل آخر، وأيضًا قام برسم زجاجات الكوكاكولا والحساء أكثر من ثلاثين مرة بتنويعات بسيطة في كل مرة.

والتكرار مرتبط بثقافة تركز على البيع للأشياء، وتهمل الحيوية والتنوع، لكن الفنان الذي يكون واعيًا بهذا الأمر يضع بعض لمساته البسيطة، لكنها المتقنة، المرهفة كي يحاول إبعاد الإنسان المعاصر ولو قليلاً عن حسن الاستهلاك وهواية التكرار.




http://commons.wikimedia.org/wiki/File:In_the_style_of_Andy_Warhol.jpg


هكذا قام وارهول في لوحته الخاصة عن مارلين مونرو، وهي أشبه بتجسيد واضح لفكرة أو تكنيك التسلسل والصور المتسلسلة المتتابعة الذي تقوم عليها فنون السينما والتليفزيون، بالاستكشاف لفكرة التعدد في علاقته بالتماثل أو التشابه، فكيف يمكننا أن نعرف من هو الشخص الحقيقي إذا كانت كل صورة خاصة به مختلفة؟

هنا تتجسد فكرة الغرابة أيضًا، التي تجمع بين المألوف وغير المألوف، المتماثل والمختلف للشخص نفسه في ثقافة الاستهلاك والميديا.

واللوحة كلها مربع كبير يضم عددًا (ثمانية وعشرين) مربعًا صغيرًا، وعندما ننظر إلى كل مربع منها نرى تباينًا صغيرًا بالغ الدقة أو اختلافًا في كل واحد منها، وقد يحدث التغيير في ظل العين (الأي- شادو) الأخضر، أو في أحمر الشفاه، أو الشعر أو في هذه الأشياء الثلاثة معًا، وقد يحدث الاختلاف في النظرة أو البسمة أو خلفية الصورة أو في النوعية المتعلقة بكثافة اللون، لكن في كل مرة تظل الصورة الفوتوغرافية بخصائصها الأصلية موجودة كما هي بشكل عام.

إن وارهول لا يستكشف هنا تلك الفروق البصرية فقط، لكنه يستكشف أيضًا الطريقة التي يستطيع التعدد من خلالها تغيير إحساسنا بما هو حقيقي أو واقعي. فكل صورة من هذه الصور تمثل مارلين مونرو، لكن أين هي مارلين مونرو من هذه الصور كلها؟ ما الصورة التي توجد بها مارلين أكثر من غيرها؟

إن وجودها هنا يتجلى في أنحاء شتى، وهي ليست موجودة على نحو خاص في واحد بعينه من هذه التجليات، إنها واحدة ومتعددة، متماثلة ومختلفة، غير مألوفة لوجه مألوف، غريبة وأليفة تثير الرغبة في التواصل معها، كذلك الوحشة التي ترتبط بالقلق الملازم لها ولحياتها وموتها.

وهي في النهاية، هنا، مجرد صورة، سطح، أثَر بقايا من بقايا حياة كانت صاحبة ضجة بالأحداث والعلاقات والصور، ولم يبق من ذلك كله سوى الصور والموت، سوى الذكريات.

لقد اختلط اسم مارلين بصورتها، صورتها بوصفها نجمة سينمائية وصورتها صورةً فوتوغرافية، إنها هنا أشبه بظل أو شبح ونوع من التجسيد لذلك الخوف القديم من الصور التي تعيد الموتى، وتجسد حالات فقدان للروح والحياة.

لقد كان وارهول واحدًا من أعضاء حركة فن البوب التي انتشرت منذ ستينيات القرن العشرين، التي تبنت العودة إلى الموضوعات التشخيصية المستمدة من الواقع المعاصر في نوع من رد الفعل المضاد لحالة الغموض البصري التي هيمنت على التصوير التجريدي، هكذا طالبنا وارهول أن نواجه عالم الإعلانات والسينما والسوق ونتفاعل معه، إن اللوحة الموجودة فوق حائط في قاعة عرض تتطلب من المشاهد أن يشارك وينظر ويفكر في دلالات ما ينظر إليه.

أما المواجهة مع الميديا، حيث كل شيء مغلف ومجهز بالنسبة إلينا، فإننا نكون مدفوعين لأن نتقبل على نحو سلبي ما هو مقدم إلينا أو أمامنا. في البداية قد نتعجب مما قد تحتويه هذه اللوحات، ذلك لأن كل ما هو موجود بداخلها موجود حولنا في الحياة وفي وسائل الإعلام: المشروبات الغازية والأحذية وصور الفنانين... إلخ.

لكن عند التأمل سوف ندرك أن وارهول من خلال استكشافه الفروق الدقيقة بين الصور ربما كان يطلب منا أن نتساءل ونفكر في مدى هذه الصور والأشخاص والأحداث. فما قد يبدو أمامنا على أنه نسخة أو صورة تامة مكتملة ظاهريًّا من التماثل والتنظيم المتقن قد يخفى وراء تعقيدات وحالات غموض خاصة بالمعاني التي يمكنه أن ينقلها إلينا ربما بشكل يفوق ما يفعله الأصل.

وقد اهتم وارهول بعالم المال والميديا والإعلان والسوق والدور الكبير الذي لعبته النقود في الجوانب السطحية للحياة في الثقافة الأمريكية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، إذ جعلت مادية الحياة الناس في هذين العقدين يشعرون بالاغتراب الزائد على بعضهم البعض وعن المجتمع نفسه، كذلك بالاغتراب بالنسبة لأنفسهم.

وتفككت الهوية فتحولت إلى حالة خاصة بإنسان يفتقر للوجود والكينونة، إنه مراقب يختلس النظر إلى الحياة عبر الشاشات التليفزيونية وومضات الإعلانات وأغلفة المجلات، هنا الحياة الموجودة على السطح، هنا السطح هو الحياة والعرض هو الحقيقي، بينما القلب والوجدان والفن الأصلي أو الأصل حفريات تنتمي إلى الماضي، هكذا قال وارهول أيضًا: "عندما تحدث الأشياء بالنسبة إليك هكذا، سوف يشبه الأمر مشاهدة التليفزيون، لا تشعر خلال ذلك بأي شيء" وسيبدو كل شيء صناعيًّا أو مصطنعًا، وأنا لا أعرف أين ينتهي الاصطناعي ومتى يبدأ الحقيقي.


في عام 1978 قال أيضًا:"إن كل شيء أقوم به يرتبط على نحو وثيق بالموت". وهكذا فإنه وكما يقول فاينبرج: فإن الخواء المادي وتفكك الذات، ووقوع الإنسان المعاصر في براثن اختلال الشعور بالشخصية والواقع، هو ما حاول وارهول في رأينا أن يجسده.

نشرت في بوابة الأهرام الالكترونية في ١٦ ديسمبر ٢٠١٤ ، والصور هنا من اختيار مدونة مخطوط

لماذا أكتب؟ – إدواردو غاليانو

لماذا أكتب؟ – إدواردو غاليانو


ألقى غاليانو هذا الخطاب بتاريخ 9 مايو 2013  أثناء تسلمه جائزة مركز هيفن للعلوم الاجتماعية في ويسكونسن، الولايات المتحدة. وكانت الجائزة نظير نتاجه الأدبي.

ولأن غاليانو لايحتاج إلى تعريف، فسأترككم مع الخطاب مباشرة. قراءة ممتعة.

 لماذا أكتب – إدواردو غاليانو

ترجمة: راضي الشمري


أريد أن أتحدث قليلًا عن لماذا وكيف أصبحت كاتبًا.

في البدء، إعتراف: منذ كنت صغيرًا، حاولت أن أكون لاعب كرة قدم. لازلت اللاعب رقم واحد، أفضل الأفضل، ولكن فقط خلال أحلامي. بمجرد أن أستيقظ، أقر بأن لدي ساقين متخشبتين، وأن لاخيار آخر لي سوى محاولة أن أكون كاتبًا.

حاولت، ومازلت أحاول، أن أقول الكثير بكلمات أقل. أن أبحث عن الكلمات المجردة على حساب البلاغة. كانت الكتابة ولاتزال صعبة، لكنها في غالب الأحيان تعطيني شعورًا عميقُا ومتعة كبيرة، بعيدًا عن العزلة والنسيان.

حاولت، وأحاول أن أكون ماهرًا بما يكفي لأتعلم الطيران في الظلام. حاولت، وأحاول أن أتقيأ كل ذلك الكذب الذي نتجرعه كل يوم ونحن مجبرون. وحاولت، وأحاول أن أكون عصيًا، تجاه الأوامر التي يصدرها سادة العالم، والتي هي ضد ضمائرنا، وضد المنطق السليم.

حاولت، وأنا أحاول أن أفترض أنني لايمكن أن أكون محايدًا، وألا أكون هدفًا لأنني لاأريد ذلك، فذلك ضد الرغبة البشرية.

حاولت، وأنا أحاول أن أشجب المثل القديم “الإنسان ذئب أخيه.”. هذا كذب. الذئاب لاتقتل بعضها، نحن المخلوقات الوحيدة الذين تتخصص في قتل بعضها البعض.

حاولت، وأنا أحاول من خلال الكتابة أن أجد أولئك الرجال والنساء الذين يرغبون بالعدالة والجمال. هؤلاء هم أبناء عالمي، وممن يعيشون فيه، بغض النظر عن مكان مولدهم أو كيف عاشوا، وبغض النظر عن حدود الزمان.

حاولت، ومازلت أحاول أن أعاند بما يكفي، لأعتقد بأنه على الرغم من أن الإنسان جُبل سيئًا، إلا أننا ناقصون.

حاولت، وآمل، وسأظل أحاول أن أختار الجانب الأيمن، والذي يكون دائمًا في الجانب الأيسر، لأجل قتالي الساخط الأبدي ضد الإهانة.

حاولت، وأحاول. وصدقوني، الأمر يستحق.  لربما نستطيع أن نغير الجملة الشهيرة، التي كتبها صديقي ويليام شكسبير:

نعم، الحياة حكاية رواها غبي

مملوءة صخبًا وعنفًا، وتبين.. كل شيء!


ترجمة راضي الشمري

المقال منقول عن مدونة راضي الشمري وهنا الرابط :

http://radhiblog.wordpress.com/2014/06/20/why-i-write-galeano/

رضوى عاشور .. المثقفة التي تحدت المحن


رحيل رضوى عاشور 


المثقفة التي تحدت المحن وأصبحت ملهمة للأجيال


إبراهيم فرغلي



رحلت رضوى عاشور،وفوجئنا جميعا بالخبر، بل وفوجئت لاحقا أنها خضعت لجراحة صعبة في خلال الثمانية عشر يوما السابقة لتنحي مبارك، غائبة عن الوعي عما يحدث من ثورة كانت تتمناها طويلا، وحين عادت من رحلة العلاج ذهبت على الفور إلى الميدان. وربما لهذا كان الأمل في شفائها من محنتها المرضية الأخيرة، وقدرتها على تجاوز محنتها كبيرا. وربما لأن رضوى من الشخصيات التي منحت الأمل للكثيرين ولم يكن لهم ولنا أن يصدقوا أنها غابت. ولكن الأقدار دوما لها تصاريفها.

عرفتها ككاتبة في مطلع الدراسة في الجامعة، عبركتاب


مذكراتها عن سنوات دراستها في أمريكا "أيام طالبة مصرية 

في أمريكا"، لم أكن أعرفها بعد، وكان العنوان جاذبا، خصوصا

 لمن هو متيم بالآخر مثلي، فقرأته بشغف.

وكان الكتاب بصدقه ولغته داعما لتتبعها لاحقا في "رأيت النخل" وسراج وخديجة وسوسن. ولاحقا في ثلاثية غرناطة.

كانت من القليلات اللائي تمكن من المزج بين البحث الأكاديمي النقدي والعمل الإبداعي أو الكتابة الأدبية معا. لكن نصوصها أو كثيرا منها كانت تمنحنى الإحساس بأنها "مهندسة"، بصوغ آخر يمكنني القول أيضا أنني أشعر أن المقاييس النقدية لديها تكبح حرية المبدع. الانحياز للواقعية والتسجيل التاريخي، وربما هندسة النص في البناء على حساب شطحات الإبداع والتجريب. في غرناطة أبهرني المشهد الافتتاحي للنص الذي نرى فيه امرأة عارية تركض في إتجاه إبي جعفر، أحد أبطال الرواية، من صانعي المخطوطات، وهو الجد في سلسلة تاريخ تلك العائلة الغرناطية. حيث تبدأ أحداث الثلاثية في العام الذي سقطت فيه غرناطة بإعلان المعاهدة التي تنازل بمقتضاها أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك غرناطة عن ملكه لملكي قشتالة وأراجون.

ويستوقف أبو جعفر الفتاة منبهرا بجمالها الفتي، ويتركها لحال سبيلها، ولاحقا حين يعلم بسقوط غرناطة يتذكرها كنذير شؤم لسقوط المدينة. في تقديري واحد من الافتتاحيات القوية لأي نص روائي. ومع ذلك ففي النص

كثيرا ما رأيتها تستجيب للمنطق الكلاسيكي في السرد التاريخي، وأحيانا يسيطر وعي الناقدة على وعي المبدعة في هندسة المشاهد، خصوصا في التقطيع بين الحركة والحوار في مشاهد حوارات رواد الحمام ليلة سقوط غرناطة. مع ذلك فإن حساسيتها العالية للغة كانت تعوض هذا الإحساس لدي.

وبالرغم من أن غرناطة كانت تولد سؤالا رئيسا عن الهوية، وعن اقتلاع شعب وثقافة، تذكر بالمأساة الفلسطينية، وعن تبدل أوضاعه بين ليلة وضحاها، من الحياة في وطن، إلى التشرد أو الالتجاء لتغيير الديانة أو حتى القابلية لأن يجد نفسه عبدا يباع في الأسواق إذا وقع في يد الملاك الجدد للأرض. لكني أعترف أن هذه الرواية جعلتني بالعكس، ولعلها ربما النص الأول الذي يدعوني لكي، أعيد تأمل تجربة الأندلس بوصفها تجربة استعادة أصحاب الأرض لحقهم التاريخي من الحضارة الإسلامية الغازية والمحتلة، رغم كل ما بذله المسلمون من آثار ومنجزات علمية وأدبية وفكرية وموسيقية لا تزال إلى الآن مرجعا أساسيا للغرب في نهضته. كما لا زلت أذكر الأسئلة التي تطرحها عن السلطة وقوتها، عن مقارنة الشعب للمستبد الذي رفضوه ليأتوا بمن يرون فيه الحكمة وفهم معنى الحرية فإذا به، أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك غرناطة، أضعف من وصل إلى الحكم، بل والرجل الذي تضيع على يديه آثار السابقين والتنازل عن السلطة بإعلان المعاهدة التي تنازل بمقتضاها عن ملكه لملكي قشتالة وأراجون.

لكني للأسف لم أعد أذكر إذاما كانت هذه القضية محورا للحوار 

معها في يوم زيارتي لها في بيتها الأنيق الدافئ في وسط البلد، في

 صحبة زوجها الشاعر

 الجميل مريد البرغوثي. الذي لا أتحيز له كسياسي بالمناسبة، 

قدر تحيزي له كشاعر. كان لقاء ودودا دافئا وجميلا،

أظنني بادرت إليه حين وجدت أنها محور مستمر لتعليقات من

 عرفت من مجايليها وصديقاتها خصوصا أهداف سويف وأمينة 

رشيد وكذلك سامية محرز.



 كما لاحظت من صديقات وأصدقاء حرصهم على تدعيم علاقتهم

 بها. خصوصا وقد عرفت منهم شذرات عن حياتها في الغربة 

طويلا بسبب قصة حبها لرفيق حياتها مريد البرغوثي 

واضطرارهما للعيش خارج مصر طويلا قبل العودة والاستقرار 

فيها.

لكن انطباعي الراسخ عنها هو هذا التوازن والموضوعية الشديدة 

فيما تتناوله من أفكار، وكنت أتتبع ما تكتبه لهذا السبب، إضافة إلى 

أنني أيضا كصحفي كثيرا ما كنت ألجأ إليها لمعرفة رأيها في

 شؤون ثقافية عدة والتعرف باستمرار على مايشغلها من 

مشروعات إبداعية أو نقدية، خصوصا خلال فترة عملي في

 الأهرام.

ويأتي ذلك ليكمل صورتها كمبدعة وناقدة ومثقفة وإنسانة تميز مشروعها الإبداعى بارتباطه الوثيق بقضايا التحرر الوطنى من الظلم والقهر. واهتمامها الكبير بقضية التبعية للغرب المستعمر. وقد تجلى هذا منذ أطروحة الدكتوراه التى كانت حول "الأدب الأفريقى الأمريكى". والذي أتبعته بكتابها حول الرواية في غرب إفريقيا بعنوان: التابع ينهض.
كانت عاشور شاركت الدكتورة لطيفة الزيات فى تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، التى لعبت دورا مهما فى صد الهجوم على الثقافة الوطنية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كما كانت عضوا فاعلا فى مجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعات التى دافعت عن استقلال الجامعات فى ظل الحكم الاستبدادى لنظام مبارك.
رحم الله رضوى عاشور الإنسانة والمناضلة والمثقفة التي يمثل رحيلها خسارة كبيرة لمحبيها، وقد كانت بمثابة الأم والصديقة الفضلى للكثيرين، لكنها مثل كل أصحاب البصمات المميزة في الثقافة والفكر العربي ستظل حية بأفكارها وكتاباتها وبما ألهمته لطلبتها ومحبيها من الأجيال المتعاقبة.



سيــــرة


ولدت رضوى عاشور في القاهرة، سنة 1946. درست اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وبعد حصولها على شهادة الماجستير في الأدب المقارن، من نفس الجامعة، انتقلت إلى الولايات المتحدة حيث نالت شهادة الدكتوراه من جامعة ماساتشوستس، بأطروحة حول الأدب الإفريقي الأمريكي.
في 1977، نشرت رضوى عاشور أول أعمالها النقدية، الطريق إلى الخيمة الأخرى، حول التجربة الأدبية لغسان كنفاني. وفي 1978، صدر لها بالإنجليزية كتاب جبران وبليك، وهي الدراسة نقدية، التي شكلت أطروحتها لنيل شهادة الماجستير سنة 1972.
في 1979، وتحت حكم الرئيس أنور السادات، تم منع زوجها الفلسطيني مريد البرغوثي من الإقامة في مصر، مما أدى لتشتيت أسرتها.
اشتغلت، بين 1990 و1993 كرئيسة لقسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب بجامعة عين شمس.
أصدرت مجموعة من الأعمال تتناول مجال النقد التطبيقي، وساهمت في موسوعة الكاتبة العربية (2004)، وأشرفت على ترجمة الجزء التاسع من موسوعة كامبريدج في النقد الأدبي (2005).
نشرت بين 1999 و2012 أربع روايات ومجموعة قصصية واحدة، من أهمها رواية الطنطورية (2011) ومجموعة تقارير السيدة راء القصصية.
في 2007، توجت بجائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب في اليونان، وأصدرت سنة 2008، ترجمة إلى الإنجليزية لمختارات شعرية لمريد البرغوتي بعنوان "منتصف الليل وقصائد أخرى".


 نشرت في صحيفة النهار - بيروت- في ١٠ كانون الأول - ديسمبر٢٠١٤