Thursday, November 27, 2014

بين محفوظ، سارتر ودوستويفسكي

ثلاثي المعمار والحداثة والبناء المعرفي
إبراهيم فرغلي 


أظن أن قراءاتي المبكرة للأعمال الغربية المترجمة أنارت لي دربًا قادني للتعرف على مناخ الستينات الثقافي في فرنسا، باعتباره مجالا حيويًا للنقاش والتفكير والعصف الذهني، ومحرّضًا على التعلق بصورة نموذجية للكاتب، من طراز جان بول سارتر وألبير كامو؛ باعتبارهما من أبرز الكتاب «النجوم» في ذلك العصر. تتبعت مع عبثية رواية «الغريب» لألبير كامو سيرة سارتر، وقرأت له كتابه عن الوجودية مبكرا، ثم وقعت تحت يدي مجموعته القصصية الشهيرة: «الجدار»، فكانت بمثابة فتح أدبي. كنت آنذاك قد تعرفت وصرت شغوفًا بنجيب محفوظ، ثم بطه حسين صاحب النصوص الفصيحة فصاحة موسيقية مبهرة حتى لو كان ما يكتبه فكرًا وليس نصًّا أدبيا، وطبعا بأعمال توفيق الحكيم ويحيى حقي بتنوعها ولغتها السهلة الممتنعة، وفي مستوى تال ببعض كتابات عبد الحميد جودة السحار وإحسان عبد القدوس والسباعي، وسرعان ما شعرت أن محفوظ هو «العمدة» الكبير بالنسبة لي، والمهندس البارع لمسارات الشخصيات ومصائرها. فقررت أن أقرأ له كل أعماله. وأظن أن لغته وعوالمه لهما تأثير كبير على مفهومي عن الأدب والكتابة، بينما ظل تأثير سارتر ماثلا وكامنا ومتربصا في خلفية وعيي الأدبي، باعتبار كتاباته لطشة الحداثة أسلوبا، ونموذجا لقدرة الكتابة على الغوص عميقًا في داخل الذهنية النفسية والسيكولوجية من حيث المضمون. والأهم أنها كانت مفتاح الوعي بذلك الطابع الفردي للشخصية الأوروبية، وتأثير ذلك على الكتابة والكُتّاب، عبر مضمون نصوص تختبر وترسم صورًا متباينة للقلق الوجودي الفردي، وتتجول في ذهنية مركّبة تطل عليها الكتابة لتتأمل تفاصيلها الدقيقة بما فيها المساحة الرحبة المتحررة الخاصة بالجسد والجنس. حين قرأت رواية «السراب» لمحفوظ، وهي روايته السيكولوجية التي تعد من بين نصوصه المبكرة القليلة التي استخدم فيها ضمير المتكلم بدلا من ضمير الغائب الشائع في أعماله، كنت أتلمس تأثير المنهج الوجودي وتأثيرات الرواية السيكولوجية الأوروبية عموما. بالطبع لم تكن المقارنة في صالح محفوظ. لأن العوالم التي اختارها سارتر، وغيره طبعًا من كُتّاب فرنسا وأوروبا الكبار، للتعبير عنها أدبيًا كانت لافتة من حيث الفكرة ومن حيث المقدرة الأدبية غير التقليدية في صياغتها، من جهة، ولأن نص محفوظ، من جهة أخرى، افتقد تلك الروح الفردية الوجودية التي أصبحت لاحقا ملمحًا لكتابة جيل كامل من الكتّاب في مصر هو جيل التسعينات ولاحقيه. رغم أن نص «السراب» كان يتتبع التأثير السيكولوجي لعُقدة «أوديب» على نفسية شاب عُصابي يصارع مآزق حياته الوجودية وأسئلته عبر علاقته المركبة بأمه.
أما حين سلّمني محفوظ وسارتر إلى يد دوستويفسكي، أدركت فورًا، أنني بلغت القمة، جالسا على كتف عملاق في فن السرد الأدبي، وربما كان ذلك بعد قراءة «المراهق والأبله»، ومع الوصول إلى «الإخوة كرامازوف» تبينت أن هناك ما يمكن أن نصفه بـ«كتابة وحشية». موهبة بلا حدود وإمكانات ذهنية ومعرفية مبهرة. أدركت معها أن الكتابة ينبغي أن يكون خلفها أيضا بناء معرفي وثقافي متين؛ موظف فقط من أجل «فخامة المبنى الروائي».
من المستحيل قطعا أن يكون أيّاً من ثلاثي (محفوظ، سارتر، دوستويفسكي) فقط أصحاب التأثير الأوحد على كتابتي، لكن تجاربهم جسّدت المركز الذي تفرعت منه حلقات عدة. فبينما قادني محفوظ إلى كتابات نوابغ العرب، قادني سارتر إلى نوابغ الأدب الغربي، وبينما اعتلي دوستويفسكي القمة، كانت نصوصه محرضة للبحث عن الأصوات الاستثنائية في الأدب الروسي والعالمي. إنها رحلة طويلة وممتدة ولا تزال، بلغت اليوم ذروتها في نموذجي الكتاب الأكثر تأثيرا علي الآن وهنا، ممثلين في كل من ساراماجو وبول أوستر بامتياز.

Sunday, November 23, 2014

مخطــــــوط : من إثيوبيا باتجاه قلب الظلام .. الحياة بلا زمن!

مخطــــــوط : من إثيوبيا باتجاه قلب الظلام .. الحياة بلا زمن!: سافاري النجمة السوداء (4-5) من اثيوبيا باتجاه قلب الظلام  التحرر من المستعمر اخطا الطريق الى الفقر والمرض عرض - ابراهيم ف...

Saturday, November 22, 2014

مغامرة في مدينة الموتى

فصل من رواية "مغامرة في مدينة الموتى" ..روايتي لليافعين والناشئة





صديقي الغامض


قبل أن ندخل إلى الفصل، قررت أن أذهب إلى حجرة مدام جورجيت وأخبرها بموضوع مرض شادي. كنت متحمسة جدًّا؛ لأنني أخيرًا وجدت الطريقة الصحيحة لمساعدة شادي. أبي يقول لي دائمًا إن الصدق هو السبيل الوحيد لأي إنسان لا يرغب في التورط في مشاكل، وإن الهروب من المسؤولية بالكذب يؤدي إلى مشاكل أكبر وأخطر وليس العكس. تذكرت بابا وهو يغلق عينيه ويقول بثقة وصوت عال: "الصدق منجاة". وحين أبتسم وأسأله عن معنى ذلك يقول: "الصدق هو الذي ينجي صاحبه من المخاطر والمشكلات".
 المهم أنني بعد فترة من الحماس الشديد، والإصرار على أن أخبر مدام جورجيت بما أفكر فيه بخصوص مشكلة شادي، عدت أشعر فجأة بالتردد؛ فماذا لو أنها سألتني عن السبب الذي يجعلني متأكدة أن ما يمر به شادي هو حالة مرضية بالفعل؟
-       أي شخص في المدرسة يعرف أنه ينسى كل شيء يا مدام.. أليس هذا كافيًا؟
هكذا قلت وكأني أقف أمام المعلمة، وعدت أردد بصوت عال كأني أخاطب مدام جورجيت:
-       لا تنسي يا سيدتي أنه من أذكى طلابك في الفصل، وأكثرنا قدرة على حل المسائل الحسابية، وهذا ما يجعلني أشك أنه بالفعل مريض، وربما يحتاج إلى علاج لو وجد من يهتم بالأمر. أنتِ أكثر إنسانة تعاني من نسيانه يا مدام، وهو يحبّك جدًّا ويشعر بالتعاسة عندما تستائين منه، وهو بالتأكيد ليس سعيدًا بذلك.

*******
 في سنوات الدراسة السابقة في المدرسة لم يكن شادي ينسى أي شيء، بل كان واحدًا من أكثر الأولاد ذكاءً وتفوقًا، يحصل على درجات متقدمة في كل المواد الدراسية. والمدهش أنه كان يتمتع بذاكرة جبارة يتباهى بها أمام جميع أقرانه وزملائه في المدرسة، خصوصًا جوزيف وسيف؛ لأنهما كانا أكثر الأولاد حبًّا لمادة الحساب، وأكثرنا تفوقًا فيها.

كان شادي دائمًا ما يقوم بتحديهما في حساب أي مجموعة أرقام، ومعرفة النتيجة في أسرع وقت ممكن، حتى لو كانت مثلاً 5+14+325، ويترك لهما فترة لا تزيد عن ثوان قليلة، ثم يقول لهما بفخر:
-       أنا مستعجل جدًّا، ومضطر أن أخبركما بالنتيجة، وهي 344.. سجلوها عندكما.
 وعندها يقول له سيف إنه غشَّاش، وإنه أعد هذه العملية الحسابية مسبقًا؛ فيتحداه شادي بأن يسأله عن أي عملية حسابية أخرى ليتأكد من أنه ليس غشاشًا، وبمجرد أن ينتهي سيف من تأليف أي عملية حسابية، يخبره شادي بالنتيجة وهو يبتسم، ويمسح خُصلات شعره الناعم الذي كان يتركه طويلاً ولا يصففه أبدًا.
شادي أيضًا كان معروفًا بين محبي لعبة الشطرنج في المدرسة بأنه الوحيد بين من يلعبون الشطرنج المبرمج على الكمبيوتر الذي هزم البرنامج أكثر من مرة!
كنت أشعر أن شادي وراءه سر ما هو الذي تسبَّب في أن يصبح نسايًا إلى هذه الدرجة.
عندما سألته عن السبب في نسيانه كل شيء تنهّد، ثم أخذ نفسًا عميقًا وجلس يفكر، ولكنه لم يقل شيئًا، وأحسست أنه أصبح شاردًا تمامًا، فقلت له:
-       شادي، أين ذهبت؟ لماذا لا ترد عليَّ؟

نظر لي مبتسمًا، ثم قال:
-       تخيلي يا عالية، لقد نسيت سبب إصابتي بالنسيان.. أعتقد أن ذاكرتي مهووسة بالنسيان!

أخذت أردد لنفسي كلماته في سري ودون أن يسمعني: "ذاكرتي مهووسة بالنسيان"، ولم أفهم المعنى. كنت أريد أن أسأله عن معنى هذه الجملة الغريبة. لكني - كالعادة - ترددت وقررت ألا أفعل؛ أولاً لأنني كنت أعتبر نفسي أفهم كل شيء، وبالتالي لا يمكن أن أسأل أي صديق أو صديقة في عمري عن أي موضوع لا أفهمه، وثانيًا لأنه كان دائمًا يقول لي: "أنت صديقتي الوحيدة في هذا العالم يا عالية، أنت الوحيدة التي تفهمينني".
بصراحة شعرت بالخوف من خسارة ثقته، لو سألته عن معنى كلماته الغامضة فلن أكون "الإنسانة الوحيدة التي تفهمه في هذا العالم".
قلت لنفسي إنني يمكن أن أسأل مدام جميلة مُدرِّسة اللغة العربية عن معنى الجملة في أي وقت.
لكن بسبب هذه الجملة الغامضة، لم أستطع أبدًا أن أدافع عن شادي، الذي اتهمه جميع الأصدقاء في المدرسة بأنه غريب الأطوار، وبعضهم وصفه بأنه شخص غير طبيعي.
كنت أعرف أنني إذا قلت لهم إن السبب الحقيقي لما يحدث لشادي هو أن "الذاكرة مهووسة بالنسيان"؛ فسوف يتهمونني أنا أيضًا بالجنون.
وهكذا كان كل ولد أو بنت في الفصل، يتخيل سببًا يتصور أنه أدى إلى إصابة شادي بالنسيان.
فريدة مثلاً كانت تقول إنه في الأصل ولدٌ شقي، ولا شك أنه وقع على رأسه وهو يركض على الدَرَج، وارتطمت رأسه بالسلالِم وتسببت الصدمة في هذا النسيان.
أما جوزيف فكان يقول إن شادي يقوم بالتمثيل؛ لأنه يريد أن يلفت الانتباه إليه خصوصًا انتباه البنات، ولذلك فهو يمثل دور فاقد الذاكرة. بل كان جوزيف يسأله أسئلة معينة عن أحداث مرت في حياته، ثم يكرر السؤال نفسه بعد ذلك ليحاول أن يوقع به، لكنه لم ينجح أبدًا.
ليلى كانت تقول إن سبب فقدانه الذاكرة يعود لذكائه الشديد، وحبه للقراءة بشكل غير طبيعي؛ مما جعله يحشو عقله بمعلومات كثيرة جدًّا، لدرجة أن عقله امتلأ بالمعلومات ولم تعد به أي مساحة خالية تكفي لاستقبال أي معلومة جديدة.
ولأن شادي لم ينجح في تذكر سبب فقدانه للذاكرة، لم تتوقف محاولات الأولاد والبنات في اختراع أسباب جديدة لما حدث لشادي، وكلها كانت مجرد خيال.
وعندما كان سيف يسمع ما تقولَه ليلى، يضحك ويقول لها إنها لا تعرف الحقيقة. سألَتهُ ليلى وهي تشعر بالغيظ:
-       وما هي الحقيقة يا أستاذ سيف؟
عندها اقترب منّا أنا وليلى، وقال لنا بصوت منخفض أقرب للهمس:
-       شادي مسكون بشبح.
سألته: ماذا تقصد يا سيف؟
فنظر لي وقال بثقة: يعني بداخله عفريت هو الذي يجعله ينسى كل شيء هكذا.
ليلى قالت له بغضب:
-       كيف تقول على زميلك هذا الكلام السخيف؟!
 وانصرفت غاضبة وقررت ألا تتحدث معه مرة أخرى.
أنا باعتباري صديقة شادي المقربة أشعر أحيانًا بالارتباك؛ لأني أشعر بالفعل أن هناك شيئًا غامضًا له علاقة بموضوع النسيان. من المؤكد أن وراءه سرًّا غامضًا يقف وراء نسيانه أغراضه وأدواته بهذا الشكل، ويجعل الجميع يظنونه شخصًا غريب الأطوار.
حاولتُ أن أتذكّر الحوارات التي دارت بيننا، وكانت أغلبها عن الأشياء التي يحبها شادي: لعب الشطرنج على الكمبيوتر، البلاي ستيشن، لاعبي كرة القدم المشهورين وخصوصًا ميسي ورونالدو، لاعبي الفريقين الإسبانيين الشهيرين: برشلونة وريال مدريد، لكن أغلب أحاديثنا التي كنت أستمتع بها أيضًا كانت عن الكتب التي يقرأها.
بصراحة، لم أهتم أبدًا بكلامه عن الشطرنج ولا البلاي ستيشن؛ فأنا لا أحب كرة القدم، لا في الملاعب الحقيقية ولا في المباريات الإلكترونية والألعاب، لكني كنت أحب أن أسمع ما يقوله عن الكتب.
لم يكن مثلنا يقرأ فقط الكتب المصورة وألبومات الشخصيات الكارتونية الشهيرة، بل كان يخبرني أنه يقرأ قصصًا جميلة ويحكي لي عنها: "روبنسن كروزو"، "أوليفر تويست"، "علي الزيبق"، "الفرسان الثلاثة"، "مغامرات علاء الدين" من كتاب "ألف ليلة وليلة"، "رحلات جليفر"، وهذه كنت أعرفها من أمي التي قرأتها لي وأنا صغيرة، ومرات يحكي لي عن رسام إيطالي عاش في القرن السادس عشر اسمه ليوناردو دافنشي. كان يقول لي إنه قرأ له كتابًا جميلاً اسمه "حكايات عجيبة وأساطير غريبة". كما قال لي إنه كان رسامًا مشهورًا ومتعدد المواهب، وأخبرني أنه صاحب أشهر لوحة فنية في العالم، والموجودة في متحف اللوفر في باريس ويعرفها كل الناس إما باسم "لوحة الموناليزا" أو "الجيوكاندا". وقد أراني اللوحة في واحد من كتبه، وتعجبت من أن هذه اللوحة لتلك السيدة صاحبة الابتسامة الغامضة هي أشهر لوحة في العالم.
في مرة أخرى من المرات أخبرني عن كتاب رحلات اسمه "200 يوم حول العالم" كان كثيرًا ما يتكلم عنه، وعن البلاد الكثيرة التي يحكي عنها الكتاب. قال لي إنه يحب السفر، وإنه يتمنى أن يسافر إلى الفضاء الخارجي، وأن يصبح صديقًا لكائنات فضائية ذكية. سألته مرّة أن يعيرني كتاب "200 يوم حول العالم"، فقال لي بطريقة لم تعجبني:
-       هذا الكتاب ليس للأطفال، هو أصلاً للكبار.
وعندما لمح ملامح الغضب، وتحول لون وجهي للون الأحمر، وهو ما أحسست به بسبب سخونة وجنتي، ارتبك وقال:
-       لا يا عالية، لا تفهميني خطأ. هذا الكتاب بالفعل للكبار، لكني بسبب اعتيادي على القراءة بدأت أقرأ كتبًا تناسب عمرًا أكبر من عمري.
لكني لم أصمت.. قلت له بنوع من التحدي إنه إذا كان قادرًا على فهم أي كتاب فسوف أكون أنا أيضًا قادرة على قراءته وفهمه، وقلت له بسخرية:
-       هل تظن فعلاً أن كتابًا يحكي حكايات كتبها رجل سافر بضع بلاد ويروي لنا ما يراه كتابًا صعبًا أو للكبار فقط؟
وهكذا أجبرته على الاعتذار لي.
هل كانت قراءة هذه الكتب هي السبب في ضعف ذاكرة شادي؟

 آآآآخ.. تذكرت الآن شيئًا مهمًّا. أعتقد فعلاً أنني يجب أن أجد وسيلة لزيارة شادي في بيته فجأة ودون أن يعرف أنني سأزوره! نعم، يجب أن أزور شادي في بيتهم حتى أتمكن من كشف أسرار هذا الولد، صديقي الغامض كما يحب أن أسميه.

Thursday, November 13, 2014

من إثيوبيا باتجاه قلب الظلام .. الحياة بلا زمن!

سافاري النجمة السوداء (4-5)

من اثيوبيا باتجاه قلب الظلام 

  1. التحرر من المستعمر اخطا الطريق الى الفقر والمرض



عرض - ابراهيم فرغلي



    قلب الظلام.. هذا واحد من التعبيرات التي ارتبطت تاريخيا بوصف أفريقيا، ليس فقط لكونها عنوان رواية الكاتب الذي قضى جزءاً من حياته في أفريقيا «جوزيف كونراد»، ولكن - أيضاً - لأن المصطلح يعبر عن أكثر من معنى في الواقع فهو توصيف لطبيعة الحياة البدائية التي لا تحظى بإضاءة صناعية جيدة، وهذا أحد المعاني المباشرة، كما أنه يعكس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي يعاني منها أغلب الأفارقة بسبب استبداد الحكام الأفارقة الذين تولوا الحكم بعد الاستقلال فلم يزيدوا الأمور إلا سوءاً وتعقيداً، وقد أضافوا إلى مساوئه الكثير من الحروب الأهلية الدامية.

لكن هناك ظاهرة أخرى أيضا يتوقف أمامها الكاتب الروائي الأمريكي والرحالة بول ثيروكس في كتابه الذي نعرض له هنا وهو «سافاري النجمة السوداء» هي ظاهرة التأخير والانتظار الطويل.

ويتذكر كيف أن كتاباً من الكتب الوافرة التي قرأها عن أفريقيا لم تخل من إشارة أو أكثر إلى هذا التأخير. وعلى سبيل المثال، فالكاتب في رحلته من حدود أوغندا إلى تنزانيا كان عليه أن يعبر بحيرة فيكتوريا من شمالها إلى جنوبها أولا ثم يستقل القطار من حدود تنزانيا في مدينة «موانزا» إلى «تابورا» ثم يحاول من هناك أن يجد وسيلة أخرى للانتقال إلى «دار السلام» التي تقع على حدود الساحل الشرقي على بعد مسافة قليلة من إحدى أشهر المستعمرات العربية في أفريقيا: «زانزيبار» أو زنجبار كما تعرف في العربية.

---------------------------------------

شاهد جزيرة، سأل عنها فأخبروه أنها تعرف باسم «جزيرة جوزيبا» .. ويعيش عليها مواطنون من رواندا وأوغندا وكينيا والكونغو، فهي جزيرة بلا سلطات من أي نوع، لا شرطة، ولا ضرائب، ولا حكومة، وهكذا يقرر من يريدون التحرر من كل هذا أن يذهبوا ليعيشوا هناك في هدوء.


------------------------------------------




منطقة الحدود الكينية التنزانية

http://www.horizonsunlimited.com/newsletter/2002-11-01.shtml





لكنه عندما وصل إلى نقطة الحدود البحرية اكتشف أن القارب البخاري الذي سيستقله يحتاج إلى عملية صيانة ولحامات سوف تستغرق وقتا. وهكذا كان يحاول أن يقضي ساعات الانتظار التي بلغت حوالي ست ساعات، بالقراءة والتأمل ومصارعة إحساسه الداخلي بالتلهف على الحركة بسبب طول الفترة التي يحتاجها لاستكمال رحلته.

ولاشك أن هذا الإيقاع يعكس أحد أوجه الاختلاف الأساسية بين الحضارات المدنية الحديثة والحضارات الأكثر تخلفاً، فالحياة في المدينة الحديثة لها إيقاع صاخب، مستمر، ولاهث، يشعر فيه الفرد بأن الوقت لا يسمح له بإنجاز ما يريد إنجازه، أما في المجتمعات البدائية فالوقت له إيقاع معاكس تماما.

وأخيرا وبعد ساعات الانتظار الطويلة ظهر قائد القارب ليعلن استعداده لبدء الرحلة..وهنا يصف لنا ثيروكس الوضع البائس لهذه الرحلة في غرفة خشبية صغيرة داخل إحدى كبائن القارب، مطاردا من آلاف الحشرات الليلية الطائرة، والحرارة، وصوت المحرك الصاخب.

وعندما حاول النوم، ذهبت محاولاته عبثا، وعندما تسلل النعاس أخيرا إليه، كان يستيقظ بين آن وآخر بسبب الأحلام المزعجة.

في الصباح استيقظ وجد المياه تحيط به وبالقارب والركاب المسافرين معه من كل اتجاه، وكأنه في عرض المحيط. وهو يوضح أن ذلك يعود لاتساع مساحة بحيرة فيكتوريا بشكل كبير، إذ تصل مساحتها إلى 70 ألف كيلومتر مربع.

شاهد جزيرة، سأل عنها فأخبروه أنها تعرف باسم «جزيرة جوزيبا» .. ويعيش عليها مواطنون من رواندا وأوغندا وكينيا والكونغو، فهي جزيرة بلا سلطات من أي نوع، لا شرطة، ولا ضرائب، ولا حكومة، وهكذا يقرر من يريدون التحرر من كل هذا أن يذهبوا ليعيشوا هناك في هدوء.

ومن المشاهد التي عاشها ثيروكس، وكان يتوقعها من الأساس، مناظر التماسيح العملاقة في البحيرة. وهي معروفة بخطورتها، وكانت جزيرة سيجولو في شمال البحيرة قد شهدت، على سبيل المثال، وقوع 43 حادث وفاة لأشخاص تعرضوا لهجوم التماسيح خلال ستة أشهر.

ويصف الإفطار الذي تناوله بأنه كان مكوناً من عصيدة ذات قوام خفيف وشاي ذى مذاق حلو. ويقول إنه لم يكن من الأشخاص الذواقة لكن الطعام الذي تناوله في أفريقيا بشكل عام كان مستساغا وكان ومازال، كل بلد أو منطقة أفريقية تشتهر بنوع معين من المنتجات أو الفواكه، ويرتبط هذا المنتج بكثير من وجباتهم، فجنوب أثيوبيا، على سبيل المثال مشهور بأجود أنواع الأناناس، وكينيا بالبرتقال، وأوغندا بالموز وتشتهر الحدود التنزانية من بحيرة فيكتوريا بالمانجو التي يقال إنها الأفضل في العالم.

--------------------------------------
 قرأ تعليقاً تحليلياً في إحدى الصحف يؤكد أنه بحلول هذا العام 2005 فإن نحو 75 بالمئة من أفريقيا ستصبح مناطق مدنية .
لكنه يقول إن تحول أفريقيا إلى المدنية أصبح مرعباً لأن المدن تكبر وتتوسع بشكل كبير، لكنها تنقل معها قيم القرية البدائية فتصبح بشعة، أو مخيفة مثلما يبدو الأمر في نيروبي مثلاً.

------------------------------------------


وفي رحلة القطار من «موانزا» إلى «دار السلام»، كان ثيروكس يتأمل الطبيعة في الخارج، فتبدو له التلال والأرض الشاسعة الممتدة في ظلام الليل وبأثر انعكاس اللون الفضي الذي ينعكس عن ضوء القمر وكأنها بحيرة كبيرة.

ولكن في أثناء المرور على القرى الصغيرة في تنزانيا كان يلاحظ أن المباني كلها بسيطة، تضاء بمصابيح الزيت الخافتة. على عكس القرى في أوغندا التي تختلف سماتها من قرية إلى أخرى، وتظهر على مباني بعضها آثار التجديد والتطوير بما يعطي الإحساس بتاريخ المكان وتجدد أحداثه من حروب إلى عمليات الترحيل الجماعي، والتغيرات التي تنشأ بسبب أعمال العنف، وهو ما يضفي الإحساس بتاريخ المكان وقوته. أما في تنزانيا فالبيوت تبدو بسيطة، لا أثر لأي تغيير من أي نوع على ربوعها.


أما أهل تنزانيا فيبدون أكثر ثقافة من الأجيال السابقة لهم، فقد التقى شاباً يقرأ كتاباً عن صناعة المحركات والميكانيكا بالإنجليزية وذلك في القارب الذي استقله عبر بحيرة فيكتوريا، كما التقى شبابا تعرفوا عليه في القطار وأكدوا له أنهم قرأوا الكثير من أعماله الأدبية، وهو ما كان بمثابة مفاجأة مدهشة بالنسبة له.


بحيرة فيكتوريا تقع على حدود ثلاثة دول: أوغندا، كينيا وتنزانيا



لكن على مستوى آخر، فإن تنزانيا كما يرى المؤلف، بالكاد لا تتجاوز الحد الأدنى في أي تطور اجتماعي أو اقتصادي بسبب الفشل الذريع لسياسات حكومتها الاقتصادية وعدم وجود عمليات تصنيع من أي نوع، والاعتماد فقط على اجتذاب السياح لزيارة حدائق الحيوان الطبيعية، خاصة وأنها تعاني أيضا من فشل سياساتها الزراعية، كما خصصت جزءاً من الحدود مع كينيا للأثرياء من هواة صيد الحيوانات الشرسة في تلك المنطقة كمصدر آخر من مصادر الدخل.

وأصبح كل اهتمام الشباب الآن هو البحث عن فرص عمل في الفنادق، أو في السياحة، وإذا لم تكن المدينة قريبة من الأماكن التي تعيش فيها الأفيال والأسود فهي تصبح مدينة سيئة الحظ، مثل العاصمة تابورا .

وفي مثل هذه الحالة تسوء حالة الخدمات مثل المواصلات والطرق، باستثناء خط السكك الحديدية الذي أنشأه الألمان قبل نحو مئة عام من الآن.

إلا أن الحكومة في تابورا تحاول تشجيع إنتاج بعض المحاصيل الزراعية من خلال مشروعات تدعم المزارعين لإنتاج هذه الانواع. ولكن بسبب المجاعة وقلة الدخل، تحول المزارعون من زراعة بعض المحاصيل ذات الطابع التجاري مثل القهوة ليزرعوا ما يحتاجونه هم لغذائهم وطعامهم مثل الحبوب والذرة والبصل.

وبسب هذا الفقر، فإن أغلب الأرفف في محلات البقالة الصغيرة المنتشرة في تابورا تبدو خاوية، بينما تتواجد بعض السيدات الأفريقيات يجلسن أمام هذه المحلات ليعرضن ما بحوزتهن من طماطم وموز وبصل .

ويستعرض ثيروكس بعض الحوارات التي أجراها مع بعض أهل تنزانيا .. صبي صغير يبيع الشاي والحليب في القطار، أو شاب يعمل في حسابات إحدى الشركات الصغيرة وغيرها وكانت الشكوى دائماً هي الفقر الشديد وقلة الدخل، وعدم وجود فرص لتحسينه، وهو ما ينعكس على كل شيء .. المرافق والخدمات وطرق المواصلات التي لم تتطور أو تتحسن أو تمتد لها يد الإضافة بشيء منذ أنشأها الألمان.

لم يستطع أن يحصل سوى على تأشيرة زيارة لمدة أربعة أيام في تنزانيا، قضى نصفها في المواصلات، وهو ما جعله يتحرك بسرعة بين المشاهد، خاصة وأن الأوضاع في تنزانيا حتى في دار السلام وزنزبار لم تكن لتختلف في درجة الفقر. البطالة والبيوت البسيطة، ومحاولات أهل تنزانيا لكي يحصلوا على النقود على سبيل السلفة من الأجانب المقيمين فيها، إما لعمل بعض المشروعات الصغيرة الخاصة، أو للسفر الى الولايات المتحدة أو جنوب أفريقيا .

لكن المدة القصيرة التي قضاها ثيروكس في تنزانيا جعلته يشعر بالرغبة في المغادرة والذهاب إلى جنوب أفريقيا بأي شكل . 

صحيح أن الأوضاع في تنزانيا لا يمكن مقارنتها بالوضع في نيروبي أو كينيا كلها . لكن الفقر المحيط بالمكان وسوء الوضع جعلا الكاتب يبدو مستفزاً من أحوال أفريقيا كلها . فهي لا تبدو مهيأة لسكنى البشر واستقرارهم إما لتكدس السكان أو للفقر والقذارة وسوء حالة الطرق ووسائل المواصلات .

ويقول إنه قرأ تعليقاً تحليلياً في إحدى الصحف يؤكد أنه بحلول هذا العام 2005 فإن نحو 75 بالمئة من أفريقيا ستصبح مناطق مدنية . لكنه يقول إن تحول أفريقيا إلى المدنية أصبح مرعباً لأن المدن تكبر وتتوسع بشكل كبير، لكنها تنقل معها قيم القرية البدائية فتصبح بشعة، أو مخيفة مثلما يبدو الأمر في نيروبي مثلاً.

ويقول إنه حتى الذين لا يشكون من البطالة ..ويعانون من مظاهر التوظيف الرديء ويضرب مثلاً بزيارته لمكتب الهجرة في دار السلام للحصول على تأشيرة لزيارة زيمبابوي لكي يستطيع اللحاق بالقطار الذي ينقله من دار السلام إلى قلب زيمبابوي.

فقد ظل واقفاً في طابور لمدة ساعتين ونصف بينما الموظف يتناول قطع الكيك الرديء ويمارس عمله ببطء شديد، أما الموظفة ذات الشعر المجعد فكانت تقرأ صحيفة باهتمام بدلاً من ممارسة عملها، حيث يقف أمامها طابور من عشرات الأشخاص الذين جاءوا لإجراءات متعلقة بالسفر والهجرة .

ويبدو أن زيارة تنزانيا قد أفقدت بول ثيروكس كل تعاطفه مع أفريقيا الذي بدا جلياً في مقدمة الكتاب، وفي رحلته إلى القاهرة والسودان ثم أثيوبيا، وحتى المتاعب التي صادفها في كينيا جعلته دائماً ينظر بعين المحبة للأفريقيين أما في أوغندا فقد بدا وكأنه يعيش في بقعة من الجنة تربطه بها الكثير من الذكريات الجميلة والمحبة لأهلها.

لكن هذه النقمة التي فجرتها زيارة تنزانيا القصيرة كانت في الحقيقة موجهة إلى الحكومات الأفريقية التي تسلمت حكم بلادها وهي متحررة من الاستعمار لكنها سقطت بها الى هاوية من الفساد وسوء الإدارة وقلة الإنتاج وإنهاك المرافق الأساسية التي ربما لو لم يشيدها المستعمرون ما كان قد قدر لها أن تنشأ من الأساس.

أما اللمسة الصينية في أفريقيا فتبدو جلية في خط السكك الحديدية المار بين تنزانيا وزامبيا . فهي تعرف باسم سكك حديد تازارا أهدتها الصين لحكومة البلدين الأفريقيين بفضل دعم من حركات الثقافة البروليتارية في الصين،
طريق السكة الحديد بين في زامبيا، على جسر تازارا
وتم إنشاؤها بالكامل بأيدي الصينيين من العمال والمهندسين وأفراد الحراسة التابعة لفرق الحرس الأحمر. وكان ذلك في إطار دعم حركات التحرر الأفريقي التي بلغت ذروتها في الستينيات والسبعينيات . وكذلك تم بناء مبنى محطة القطار في دار السلام على الطراز الصيني، مع التقشف الشديد، وبالأسلوب الذي يعود الى طراز البناء الماركسي أي بالاعتماد على صالات واسعة مكشوفة يبدو كل من فيها واضحاً لرجال الأمن والشرطة
.

وبالرغم من أن هذا الطراز الصيني في البناء قد يبدو فريداً في مثل هذه البقعة من أفريقيا، إلا أنها في النهاية لا تختلف عن بساطة العمارة التي خلفها الزمن الكولينالي في المنطقة، سواء المكاتب الإدارية الألمانية أو النوادي الإنجليزية في دار السلام أو المنازل ذات الطابع المعماري العربي في زنجبار .

--------------------------------------------

  سألها بول ثيروكس : وهل حاولت أن تتحدثي معهم وتعطيهم نوعاً    أفضل من الوعي أو الدعاية غير المباشرة؟

 نعم .. حاولت كثيراً .

 وماذا كانت النتيجة؟

 أرادوا أن يمارسوا الجنس معي!

-------------------------------------------------



ومن الأيدز في «زامبيا» وانتشاره المروع يناقش ثيروكس قضية الجنس في أفريقيا بشكل عام، وزامبيا على نحو خاص. فقد اكتشف أن الجنس في زامبيا يمارس على نطاق واسع بين الفتيان والفتيات بلا رادع أو منطق، والصبية والفتيات يبدأون في ممارسة الجنس وهم في عمر صغير أحياناً لا يتجاوز عشر سنوات، وبدون وعي بأي تربية ثقافية من أي نوع مما يزيد من فرص انتشار مرض الإيدز بشكل خطير.

وعندما التقى سيدة فنلندية تتبع إحدى الجهات الخاصة بمكافحة الإيدز أخبرته بنفس التفاصيل، وقالت إن كل الجهود التي تقوم بها هي وفريق العمل وتتركز في التوعية بخطورة المرض وطرق الوقاية منه قد ذهبت أدراج الرياح.

فقد وصفوا أفلام التوعية التي عرضت عليهم لمشاهدتها بأنها فاضحة ! ورفضوا مشاهدتها .

وسألها بول ثيروكس : وهل حاولت أن تتحدثي معهم وتعطيهم نوعاً أفضل من الوعي أو الدعاية غير المباشرة؟

نعم .. حاولت كثيراً .

وماذا كانت النتيجة؟

أرادوا أن يمارسوا الجنس معي!

ولم تكن ملاحظات الكاتب عن زامبيا لتخلتف كثيراً عما كان عليه الأمر في تنزانيا، وخاصة في مدينة «ميبيا» التي كان زارها قبل 35 عاماً، لكنه وجد الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ . وهكذا قرر أن يذهب إلى البلد الصغير في شرق زامبيا وهي مالاوي .

وهذا البلد الصغير لا تختلف الأوضاع فيه كثيراً عن جارته زامبيا، باستثناء المناخ الذي يتسم بالأمطار الغزيرة. ومثل هذا المناخ يعرض صالات الرقص في النوادي الخشبية لمآس، تحولها إلى برك صغيرة في لحظات .

حتى على مستوى انتشار مرض الإيدز كانت الملاحظة الأساسية هي ارتفاع نسبة الإصابة به بشكل كبير في مالاوي وقد لاحظ ثيروكس انتشار العاهرات في الفنادق والملاهي الليلية بشكل كبير . وعندما ناقش المسألة مع رجل من أصل مالاوي التقى به في الفندق أوضح له أن فكرة الاستعانة بالواقي الذكرى كوسيلة لمنع انتقال عدوى الإيدز هي فكرة لا وجود لها في مالاوي .. وأجاب ضاحكاً : نحن المالاويين .. لا نفضل مثل هذه الوسائل الصناعية.. نحن لا نثق إلا في الطبيعة ! وكانت المشكلة التي يحكيها هذا الرجل لثيروكس هي أنه يحب امرأة تبادله الغرام بشدة، لكنها رفضت الزواج منه لأنه فقير .

بسبب انتشار الدعارة، والمعونات الدولية التي تذهب إلى مالاوي بشكل خاص، فقد أدى ذلك إلى اشتراط بعض الموظفين المسؤولين عن توزيع المعونة على الناس ألا يقدموها للسيدات إلا بعد أن يمارسوا الجنس معهن، وهو ما يعني وجود فريق من الضحايا من السيدات اللائي يتعرضن للاغتصاب غير المباشر تحت وطأة احتياجهن للأغذية المقدمة إليهن من قبل الجهات الدولية !

ويصف الفنادق أيضاً بأنها تتسم بارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه، لأن من يمتلكونها من جنوب أفريقيا ولديهم خبرة في هذه الأمور. إلا أنه أيضاً التقى خلال فترة إقامته بأحد فنادق مالاوي بأكبر عدد من الفتيات اللائي عرضن عليه أجسادهن، وقد تزين ووضعن المساحيق على وجوههن والزيوت على شعورهن وأجسادهن مع ملاحظة أنهن .. جميعاً قد حصلن على دراسة جامعية ولم يعثرن على أي فرصة عمل أخرى !


إنه الجانب الآخر للظلم في أفريقيا كما يشير بول ثيروكس.. وهو أيضاً ما جعله يشعر بالرغبة في الوصول إلى جنوب أفريقيا بشكل أسرع.

نشرت في "الرياض" بالتعاون مع وكالة "الأهرام" للصحافة، في إبريل 2005. 

Tuesday, November 11, 2014

الحدود الكينية - الأوغندية.. فاصل بين الكابوس والحلم!


سافاري النجمة السوداء (3- 5)
الحدود الكينية - الأوغندية.. فاصل بين الكابوس والحلم!


ابراهيم فرغلي




    عندما قرر الكاتب الأمريكي بول ثيروكس أن يقوم برحلته الطويلة على امتداد دول شرق القارة الأفريقية من القاهرة إلى «كيب تاون» كانت روح المغامرة التي يتحلى بها إحدى دوافعه لهذا القرار. وربما لهذا كان قد توقع الكثير من المخاطر والمشاق التي يمكن ان يتعرض لها خلال رحلة كهذه. ولعل أول ما لاح في الأفق منها بدأ مع أول الرحلة من أثيوبيا إلى كينيا، وهي المشاق والمخاطر التي عرضنا لها في الحلقة السابقة في سياق عرضنا لكتاب «سافاري النجمة السوداء» الذي يتضمن تفاصيل الرحلة المثيرة التي قام بها الكاتب والرحالة الأمريكي بول ثيروكس والذي رشح لجائزة «توماس كوك» لأدب الرحلات في عام 2003، والحقيقة أن التفاصيل التي تناولناها عن هذه الرحلة سواء بصحبة بعض من تطوعوا لنقله عبر المناطق الجنوبية لأثيوبيا أو في الحافلة المختصة بنقل الماشية والركاب عبر الحدود بين أثيوبيا وكينيا، ووعورة الطريق وقطاع الطرق، وجلافة معاملة الجنود على نقاط التفتيش كلها يمكن أن تكون معا صورة عن طبيعة الوضع العام في المحطة التالية «كينيا». فالظروف .. بالغة السوء، من المجاعة إلى القحط ، تبدو جلية على المشاهد الأولى التي شاهدها ثيروكس قرب «نيروبي» للأطفال الذين تقافزوا على السيارة للحصول على أي شيء.. ومنذ بلوغه مدينة «ناني يوكو» قرب «نيروبي» كانت التحذيرات قد بدأت تشنف أذنه عن المخاطر المحتملة.. السرقة والقتل، السيدات يتعرضن للقتل واقتلاع الأعين! .. الخروج ليلا يعرضك للسرقة بلاشك وأما في النهار فليس هذا مستبعدا أيضا.


ولكنه حاول أن يتمتع بوقته قبل الوصول إلى نيروبي في أجواء «ناني يوكو» التي تتمتع بوفرة الخضرة، وبرودة الجو نسبيا ، بينما يتأمل ظلال جبال كينيا التي يصل ارتفاعها إلى 17 ألف قدم في الجوار، ولكنه سمع من أحد الأشخاص أن هذه الجبال تسكنها الأرواح ولهذا يخشى الناس منها ويذهبون إليها للصلاة.

وكانت آخر مرحلة للوصول إلى نيروبي قد قطعها ثيروكس مستقلا سيارة أجرة فرنسية الصنع «بيجو» تتسع لخمسة أشخاص، لكنه وجد نفسه محشورا بين ثمانية آخرين على طول الطريق إلى نيروبي ولمدة ساعتين. غير أن ما خفف من وطأة الرحلة أنه استمتع بصحبة شخص يدعى كمالي كان يحمل في حقيبته كتابا عن الأسود أهداه له مؤلفه.

يقول ثيروكس إن كينيا وضعت على الخريطة بفضل الصيادين وبفضل الناس الذين كتبوا عن الصيد بشكل من الأشكال. وبينهم الكاتب الأمريكي الشهير «هيمنجواي» الذي كتب واحدا من كتبه حول رحلة سافاري لصيد الأسود في كينيا.

في نيروبي كانت مشاهد الأطفال العراة الملوثين بقذاراتهم أول ما لاحظه ثيروكس، تلاها مشهد آخر لرجل أسود عار تماما يركض دون أن يعبأ بإخفاء سوأتيه، بينما يطارده مجموعة من الرجال وهم يضحكون، ويمسكون بالعصيان يهددونه بها. وعرف ثيروكس أنهم لن يتركوه إلا قتيلا .. أما السبب فلم يعرفه أحد!

ويصف الكاتب نيروبي - كما احتفظ بها خياله وقرأ عنها- بكونها مدينة أشبه بسوق مكون من محلات من طابق واحد لها شرفات ملحوظة وبالمدينة كلها شارعان رئيسيان يصل إليهما المزارعون ليبيعوا ما حصدوه من القهوة والشاي.

وبسبب تلوث المياه وامتلائها بالبلهارسيا فإن «مومباسا» المدينة الواقعة على ساحل البحر كانت المكان الوحيد الذي يمكن السباحة فيه.


وفي الاتجاه المعاكس كانت القطارات تتوجه إلى «كمبالا». وكانت الأراضي مقسمة بين الأفارقة والهنود. كان الهنود هم ملاك المحلات والمتاجر أثناء الاستعمار الإنجليزي، وكان الأفارقة هم المزارعون ولم يكن هناك سوى قلة من السياح الذين يزورون المكان في وجل.

بعد الاستقلال تغير الوضع قليلا فقد احتلت صورة جومو كينياتا - الرئيس الجديد - مكان صورة الملكة اليزابيث التي كانت معلقة في كل مكان وخاصة المحال التجارية. بنيت بعض المدارس ، وأعيد تسمية بعض الشوارع لكن الأثرياء من أهل البلد كانوا ديكتاتورات لم يمولوا إلا بعض المدارس القليلة التي قدر لها النجاح. وحصلت الدولة على أموال طائلة كمساعدات أجنبية انتهت أغلبها في جيوب الساسة.. وبعضهم ممن تعرضوا للاغتيال في مراحل لاحقة.

وكان انطباعه عندما زارها مرة في الستينات هي أنها أخذت طابعا إنجليزيا - ولو بدا فقيرا - في المباني وغيره.

Nairobi..
the copy rights are for
http://hottrip.net/
http://hottrip.net/nairobi-city-of-cold-water-which-was-founded-by-construction-workers

لكن الاستقلال لم يحدث ثورة حقيقية في كينيا كما يقول ثيروكس . فلم تتغير عن السابق على أي نحو .. لكنها فقط أخذت طابع تحديث ظاهري أو مزيف.. ولم يعد فيها سوى الشحاذين والفقراء والعاطلين والكسالى، وحتى زيادة المدارس كانت بلا جدوى لأنها مدارس من الدرجة الأدنى.. فقد كانت الثروة تتركز في أيدي قلة قليلة من رجال المال والسياسة.



-----------------------------------------------------------------------------------------------
كينيا وضعت على الخريطة بفضل الصيادين وبفضل الناس الذين كتبوا عن الصيد بشكل من الأشكال. وبينهم الكاتب الأمريكي الشهير «هيمنجواي» الذي كتب واحدا من كتبه حول رحلة سافاري لصيد الأسود في كينيا.





-----------------------------------------------------------------------------------------------



وعندما توفي جوموكينياتا عام 1978 تولى بعده دانيل موا، وكانت الكلمة «موا» بالفرنسية تعني ملكي - لهذا كانت هناك نكتة شائعة يرددها أهل كينيا آنذاك ترجمتها أن «الدولة ملكي» !

عندما وصل التاكسي إلى نيروبي كان ثيروكس يقارن المدينة كما شاهدها منذ 40 عاما، وما أصبحت عليه، واكتشف أن الناس مازالوا كما هم بينما المدينة أصبحت أكثر اتساعا وقبحا.

ويصف الحي الذي وصل إليه بأنه أكثر الأحياء خطورة وفقا لما سمعه من تحذيرات، ويصفه بأنه يبدو - مثل الكثير من مدن أفريقية أخرى - كأحد ضواحي لندن كما صورها تشارلز ديكنز في نهاية القرن التاسع عشر.

كان ثيروكس قد قرر أن يجلس طوال المساء والليل في الفندق، بسبب خطورة الوضع. فقد التقى أحد الرجال الذي أوضح له أن ابنه وعمره 16 عاما لا يخرج من المنزل أبدا ولذلك فهو لا يعرف كيف يتعامل، أو يشتري شيئا من أحد.. وأنه يشعر كأنه معتقل..

وهو نفس ما أكده له شخص هندي آخر يعيش في نيروبي ويدير أحد المطاعم ، فهو يشعر بالوحدة والعزلة، وأهله يعيشون في الهند، ولا يريدون أن يحضروا إلى نيروبي لأنهم سيعيشون داخل البيت وكأنهم في سجن.


this image for Kinya related to this blog:
http://nuningtravelblog.blogspot.com/



وتحظى كينيا بسمعة سيئة لدى الأجانب، إذ لا يفضل أي منهم الحضور إليها حتى لو اضطروا، ولو فعلوا ، فإنهم يقضون مهامهم بسرعة ويرحلون.

وبالرغم من أن كينيا تشهد كل أنواع الصيد غير القانونية للحيوانات.. كسلخ الأسود والنمور والحصول على العاج من الأفيال، مازالت بعض حدائقها العامة تضم عددا لا بأس به من الحيوانات.

ويلتقي ثيروكس بأحد الصحفيين الذي يعمل في صحيفة «الأمة» ويعرف منه أنه تعرض للاعتقال لمدة عام ونصف بتهمة الاشتراك في تنظيم سري مناهض للحكم . وأنه أجبر على الاعتراف، رغم أنه لا ينتمي لأي حزب سياسي أو يمارس نشاطا من أي نوع تحت ضغط التعذيب، والضرب، وتركه في زنزانة ممتلئة بالمياه لأكثر من أسبوع.. واضطر لأن يعترف بما لم يفعله لينقذ نفسه من التعذيب.. وحكمت المحكمة عليه بالسجن لعام ونصف.. وكان سعيدا بالحكم لأنه تخلص من التعذيب!! وهي واحدة من إشارات عديدة لصور الفساد والاستبداد الذي تعاني منه كينيا.. بينما يعاني أهلها أيضا من الفقر والجوع الذي حولهم إلى مجموعة من المتشردين واللصوص المحترفين وقطاع الطرق.. وهي واحدة من الصور القاسية لبلد أفريقي.. لكن هذا البؤس - على ما يبدو - تسبب في انعاش صناعة الأخشاب وخاصة الأكفان التي لاحظها ثيروكس على امتداد الطريق من كينيا إلى محطته التالية: أوغندا!

لكن المشهد، ومنذ حدود أوغندا يختلف تماما، ويحمل جمالياته الخاصة التي تبدأ من أوراق البردى التى تتكاثف على امتداد الطريق بموازاة شاطئ بحيرة تبدأ مع بدء حدود أوغندا.

ويوضح أنه لم يشاهد أوراق - أو بالأحرى - نباتات البردى هذه في أي بقعة أخرى في كينيا أو غيرها. ولا حتى قريبا من بحيرة «فيكتوريا»، وهي بالنسبة إليه بدت وكأنها دليل دامغ على أن أوغندا هي المنبع الأساسي لنهر النيل، ويقول إنه في مصر، حيث لم تعد أوراق البردى موجودة ، شاهد الكثير منها مرسوما على جدران المعابد الفرعونية وخاصة في معبد الكرنك.

وكان ما يثير المتعة بالنسبة له اكتشاف أو رؤية أي شيء يربط مصر بقلب أفريقيا: أوراق البردى، زهور اللوتس، الأسود والأفيال، بعض صور العبيد، بل وحتى مشهد صفحة مياه النيل نفسها.

كان قد وصل إلى أوغندا بحافلة تعرف باسم «حافلة الدجاج»! وهو الاسم الذي يطلقه أهل المنطقة على حافلة تتحرك من كينيا إلى أوغندا .. وهي تمتلئ بكل أصناف البشر وهم يحملون كل ما يمتلكونه من أمتعة وبينها أعداد الدجاج التي يمتلكونها .

ولم تختلف مشاهد نقطة التفتيش على الحدود وحشود الشحاذين الذين طاردوه لدى وصوله إلى أوغندا عن غيرها من المشاهد في ربوع أفريقيا.

------------------------------------------------
وصل إلى أوغندا بحافلة تعرف باسم «حافلة الدجاج»! وهو الاسم الذي يطلقه أهل المنطقة على حافلة تتحرك من كينيا إلى أوغندا .. وهي تمتلئ بكل أصناف البشر وهم يحملون كل ما يمتلكونه من أمتعة وبينها أعداد الدجاج التي يمتلكونها.
http://www.weirdafrica.com/2014_03_01_archive.html








-----------------------------------------

لكنه من الوهلة الأولى يلاحظ أن أوغندا بلد تسيطر عليه حكومة أفضل من الموجودة في كينيا، كما أن البلد تبدو خضراء ، خصبة، ثرية بالغابات والأشجار، وحقول الأرز وأشجار الموز بكل أنواعها - يقال ان أنواع الموز في أوغندا تصل إلى 60 نوعا مختلفا ـ وحتى الطرق بدت أكثر نظاما وجودة، وكذلك مباني البيوت القديمة والجديدة على السواء.

ولأن ثيروكس كان قد قضى فترة من حياته في أوغندا، فقد يتضمن وصفه للمكان نوعا للمقارنة مما كان عليه في الماضي وما أصبح عليه في الوقت الراهن، بالإضافة إلى نوع من الحنين الذي سيطر حتى على أسلوب كتابته في هذا الفصل الخاص برحلته إلى أوغندا. فهو يلاحظ على سبيل المثال أن زراعة قصب السكر مازالت منتعشة ، كما كان الأمر في الماضي، خاصة في الولايات التي كان الهنود يمتلكون أراضي فيها. وهو ما ساهم في توفير السكر بأسعار مدهشة في أرجاء كثيرة من العالم. ويوضح أن الفلاحين في أفريقيا، رغم انتاجهم الوفير في محصولات زراعية كثيرة مثل القهوة والسكر والشاي والقطن والتبغ ، لا يدخرون منها الكثير.

لكن الإحساس الحقيقي بالحنين لدى ثيروكس سيبدأ بعد الظهر عندما مرت الحافلة التي يستقلها عبر مدينة جينيا حيث تفيض «شلالات أوين» القادمة من بحيرة فيكتوريا لتصل إلى «بحيرة كيوجا» ثم تتقدم لتكون شلالات أخرى هي «شلالات مورشيسون» ثم بحيرة ألبرت.

وقد تتبع مسار المياه الكثيرون من المستكشفين والرحالة ومنهم ريتشارد برتون، ليتحققوا من المنابع الأولى لنهر النيل، والتي ثبت لاحقا أنها تبدأ من أوغندا بالفعل.

«هذه الطبيعة الأليفة أعطتني إحساسا قويا كأنني عدت إلى بيتي، أمدتني بنوع من الحنين. مازلت أقوم بالترحال في الولاية راضيا، حذرا، كالعادة، ولكن مع الإحساس بالأمان الذي يثيره وجود الأهل».

«كنت مغتبطا أيضا لوجودي هنا لأنه كان بمثابة العودة إلى أيام الشباب الأولى. كنت هنا في أوغندا للمرة الأخيرة، منذ ثلاثة وثلاثين عاما، وكنت سعيدا تماما آنذاك».

ويتذكر ثيروكس تلك الأوقات حينما كان يحب امرأة بادلته الحب، ثم قررا الزواج، وفي تلك الأثناء نشر أول كتبه. وكان يشعر بتقدير من حوله له وكان أكثر ما يسعده أنه عاش حياة اختارها بملء إرادته. كما يتذكر كيف أنه كان دائما يبدو اصغر من عمره الحقيقي، وفي أفريقيا كان ذلك الانطباع يبدو أقوى، ويقول موضحا إن متوسط العمر في أفريقيا قصير بدرجة ملحوظة، لهذا يبدو الرجل في الخمسين وكأنه كهل عجوز، ويضيف إنه لذلك لم يحظ سكان أفريقيا بحياة تؤهلهم من التأكد من تحقق إنجاز ما أو تغير كبير. ويشير إلى أن حياة جيلين في أوروبا تماثل أو تساوي حياة ثلاثة أجيال في أفريقيا. ولهذا سيطر عليه الإحساس بأن أفريقيا التي عرفها - الأشخاص والمكان - قد اختفت وأصبحت ماضيا لا وجود له. وأول ما اختبره في هذا الصدد في مدينة «جينجا» انها كانت في الماضي ممتلئة بالهنود في كل مكان، وكانت أغلب المحال التجارية مملوكة لهم ومكدسة بالثياب وأدوات المطبخ والمأكولات والحلوى الهندية بأنواعها. أما الآن فلم يعد لهم وجود من أي نوع ولا محلات حلوى.

ويلاحظ ثيروكس شابا وفتاة أمريكيين بدا عليهما التوتر يرتدي كل منهما «شورت» قصير و«تي شيرت» ويضع كل منهما قبعة واسعة على رأسه وقد وضعا كريما ضد الشمس على وجهيهما.. تقدم الشاب باتجاهه وسأله:

ألا ترى أنه من الأفضل لنا أن نظل هنا حتى تهدأ الأمور في كمبالا قليلا؟

«إذن سوف تظل هنا في جينجا لسنوات، فالأمور لم تهدأ في كمبالا منذ عام 1962 ، اصعد إلى الحافلة وستكون بخير». لكنهما رفضا الصعود إلى الحافلة وقررا البقاء في «جينجا» ويعلق ثيروكس قائلا .. «ولعلهما مازالا هناك حتى هذه اللحظة»!

عندما كان يقوم بإخبار الأفارقة عن الطريقة التي وصل بها إلى أوغندا ببطء، دون أن يعير اهتماما للوقت كانوا يردون معقبين بأنه لابد أنه تقاعد ، لكنه كان ينفي ذلك نفيا قاطعا، «أنا أسافر كرحالة، أنا أعمل».



لكن بينه وبين نفسه، لم يكن يستطع أن يصف الأمر بشكل دقيق، فلم يكن ما يقوم به نوعا من أنواع البيزنس ولا حتى العمل ، ولا يمكن أن يكون هو المتعة فقط، بسبب المخاطر العديدة التي واجهها، لكنه يصف ذلك بأنه طريقة للحياة، الكيفية التي اختارها ليقضي بها جزءا من حياته.

قريبا من كمبالا كانت الأحراش أكثر كثافة، والمدن محددة بشكل أكثر وضوحا، وما يحيط بها من زراعات يميز كل منها عن الأخرى وليس كما كان الأمر في كينيا حيث تبدو الضواحي وكأنها معسكرات تتجاور بلا أي سياق. كما أن أهل أوغندا، يفتخرون بأماكن سكنهم، ولذلك يهتمون بتجميلها بطلاء زاه، ويهتمون بالحدائق المحيطة بها وبكثافة الأشجار والأزهار فيها.


http://thecrossandblood.wordpress.com/2012/04/30/campaign-team-joins-drive-to-clean-kampala-city/

على تخوم كمبالا كان هناك «استاد رياضي» .. «استاد مانديلا الوطني» وبدا ذلك غريبا لثيروكس ، فالشائع هو تسمية الاستاد باسم رئيس الدولة، فقد كان اسمه «استاد أوبوت» في فترة وجوده بأوغندا قبل ثلاثين عاما، ثم «استاد أمين»، وفي كينيا لابد أن يكون اسمه «استاد موا»، فالحكام من الأفارقة يضعون اسماءهم على المنشأت ويسمون الشوارع بها ويضعون صورهم على العملة وغيرها.

كانت هناك انتخابات في أوغندا قبل اسبوع واحد من وصول ثيروكس إليها، وكانت واجهات المحال والمباني مازالت تحمل ملصقات المرشحين من الأحزاب المختلفة وكان قد تعرف على اثنين من المرشحين اللذين عرفا بطموحهما حتى منذ وجوده في أوغندا، وكان الحاكم الأصلي «يويري موسيفيني» قد نجح في الانتخابات. لكن أحد المرشحين ويدعى «كيزا بيسيجي» شكك في نزاهتها، على الرغم من الشعور العام الذي ساد بنزاهة النتائج وهكذا حرض مؤيديه فأشاعوا الذعر في المدينة بإلقاء وتفجير القنابل اليدوية في المحال التجارية في أرجاء العاصمة، وأحرقوا الكثير من السيارات.

وعندما وصل ثيروكس إلى كمبالا عرف أن «كيزا بيسيجي» كان في طريقه إلى جنوب أفريقيا لإلقاء محاضرة، لكن السلطات الأوغندية منعته من الصعود إلى الطائرة، وأوضحت له أنه ممنوع من السفر خلال التحقيقات مع مثيري الشغب والعنف.

لكنه التقى بعض من رفضوا نتائج الانتخابات ووصفوها بأنها تعرضت لتدخلات من السلطة وأنها مارست نوعا من الخداع.

وكان ثيروكس يشعر ساعة بعد أخرى بأنه مرة أخرى في مكانه الأليف، وقد ثبت شعوره لهجة أهل أوغندا التي يعرفها جيدا، ولأنه كان يعيش في مكان يعرف باسم «وادي بات» - وربما يعني «وادي الخفاش» فقد اختار الفندق القريب منه هذا المكان ليقيم فيه وهو «فندق سبيك» - وسبيك هذا أحد المستكشفين الذين عاصروا بيرتون والذي رحل إلى منابع النيل حين تعرض ريتشارد بيرتون للمرض وبقي في تنزانيا حتى يتماثل للشفاء.

الاختلاف الذي لاحظه المؤلف في كمبالا هذه المرة أيضا يتعلق بتقلص وجود الهنود في المدينة، والذين كانوا يمتلكون في الماضي الكثير من المحال التجارية كما كان الأمر في «جينجا» ومازالت المحلات موجودة لكن عدد المحلات التي مازالت تدار بواسطة الهنود قد قل كثيرا. كما لاحظ أن المدينة أصبحت أكثر اتساعا، والمباني أصبحت عالية، لكنه لاحظ أن المباني القديمة لم تمتد إليها يد الصيانة أو الرعاية. وحتى المباني الأساسية مثل مبنى «بنك جريندلاي» أو «المسرح الوطني»، وحتى مبنى محطة القطار أصبحت مزرية. وما تعرض منها للتجديد أصبح بشعا بلا أدنى معايير للذوق أو الجمال.

عندما تجول ثيروكس في الشوارع، واقترب من وادي الخفاش، لاحظ أول ما لاحظه اختفاء الأشجار الكثيفة التي كانت تغطي المكان، وتؤوي الخفافيش وسمي الحي باسمها لذلك.. لكن الآن، لم يعد هناك أشجار.. أو خفافيش اختفى وادي الخفاش!
-------------------------------------------------------
يتذكر ثيروكس الأيام التي قضاها في الجامعة موظفا ومدرسا، وهي الفترة التي تزوج خلالها وأصبح أبا، حيث ولد ابنه الأكبر في «مستشفي مولاجو» كما أنه ألتقى هناك بالشخص الذي شجعه على الاستمرار في الكتابة وبدأ معه صداقة استمرت على مدى ثلاثة وثلاثين عاما، وهو ف.س نايبول - الكاتب التريندادي الحاصل على نوبل قبل ثلاثة أعوام.

ولعل هذا ما يفسر لي - بشكل شخصي - سبب اهتمام نايبول بأفريقيا في الكثير من أعماله الأدبية وخاصة رواية نصف حياة التي يسرد فيها جزءا من حياة بطلها الذي عاش نحو 18 عاما في أفريقيا.

___________________________________________________________________




ولاحظ أن السيدات هن اللائي يدرن المحال الصغيرة بأنفسهن. ووصل إلى «جامعة ماكيرير» التي عمل بها بين عامي 1965، 1968، ولاحظ وجود مأذنة لمسجد لم تكن موجودة في فترة وجوده داخل أسوار الجامعة.. وعرف أنها أنشئت بإعانة من أحد الحكام العرب.

ويتذكر ثيروكس الأيام التي قضاها في الجامعة موظفا ومدرسا، وهي الفترة التي تزوج خلالها وأصبح أبا، حيث ولد ابنه الأكبر في «مستشفي مولاجو» كما أنه ألتقى هناك بالشخص الذي شجعه على الاستمرار في الكتابة وبدأ معه صداقة استمرت على مدى ثلاثة وثلاثين عاما، وهو ف.س نايبول - الكاتب التريندادي الحاصل على نوبل قبل ثلاثة أعوام.

ولعل هذا ما يفسر لي - بشكل شخصي - سبب اهتمام نايبول بأفريقيا في الكثير من أعماله الأدبية وخاصة رواية نصف حياة التي يسرد فيها جزءا من حياة بطلها الذي عاش نحو 18 عاما في أفريقيا.

ألتقى ثيروكس ببعض أصدقائه القدامى، وتعرض لمفارقات منها أن صديقا من أصدقائه تزوج من ابنة عمه، يكشف له كيف أنها كانت مولعة به وثيروكس أثناء وجوده في أوغندا . كما تابع تطور أوغندا اقتصاديا والذي تجلى في طبيعة الحياة المدنية، وأنواع المباني الجديدة والمدارس الحديثة ذات الهويات الأجنبية وتذكر حياته القديمة في المكان الذي أكد أنه عاش فيه فترة من أجمل أيام حياته.

نشرت في جريدة "|الرياض" في إبريل 2005 
بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة