Monday, March 30, 2015

هندسة ثقافية

تغريدة
هندسة ثقافية!



من بين السلبيات التي أعتقد أنها تمثل منهجا للعمل الإداري في مجال الصحافة والثقافة في مصر، قيام المسؤوليْن؛ التحريري في الأولى، والثقافي في الثانية بشؤون الإدارة، من دون اعتبار لأن العمل الإداري يحتاج إلى دراسة متخصصة.
ولعل هذا ما يفسر أسباب الكثير من الخسائر التي تمر بها عديد المؤسسات الصحفية من جهة، والمؤسسات الثقافية من جهة أخرى. ورغم أي اجتهادات قد يقوم بها رئيس تحرير مثقف ومبدع ومبتكر فإن النتيجة كثيرا ما لا تصل إلى الأهداف المرجوة. وكذلك الأمر بالنسبة للعمل الثقافي، لأن ما يتم هنا في الواقع هو مجرد اجتهادات تتحرى الابتكار، لكن بلا أسس مدروسة، أو إعادة إنتاج لخبرات السابقين.
 بالتالي ينبغي أن نتجرأ ونعترف بافتقادنا لأبجديات الإدارة العلمية للصحافة والثقافة، وهو ما يؤكده قليل من تأمل أحوال عشرات من المحطات وكبريات الصحف والمجلات الكبيرة والمؤسسات الفنية في مصر، والتي تبدو في حال بائسة.
تداعت هذه الأفكار بينما أنصت إلى المخرجة والباحثة المغربية هاجر الجندي في ندوة بأيام الشارقة وهي تتناول بالتوضيح مجالا علميا جديدا تأسس في المغرب وهو علم "الهندسة الثقافية" الذي يتمحور حول تحديد وضبط النظم والوسائل الضرورية للتخطيط لسياسة واستراتيجيات المؤسسات الثقافية والقطاعات الحكومية والمقاولات الخاصة التي يستدعي تسييرها التعامل مع المعطى الثقافي بكل أبعاده.
ولعل الإخفاقات المتوالية في الاستراتيجيات الثقافية التي تعاقب عليها وزراء الثقافة من دون نجاح كبير يذكر قد يعود بالفعل إلى غياب فلسفة علمية متخصصة في إدارة العمل الثقافي ومؤسساته، وهو ما أتمنى أن تلتفت له الجهات الأكاديمية خصوصا في كليات الإدارة والإعلام.
أتناول هذا المفهوم بينما يخاتلني مشروع العاصمة الإدارية الجديدة التي أتمنى أن يدخل عنصر الهندسة الثقافية في استراتيجية تخطيطها، ليس فقط من أجل وضع حساب الأولويات الثقافية من متاحف ومسارح ومؤسسات النشاط الثقافي ودور السينما التي ستكون لها أولوية أولى في تحرير المجتمع من الأفكار الظلامية، بل وفي إيلاء الدولة أولوية للمنهج الثقافي في التخطيط ووضع اعتبارات مبدئية لمشروعات مستقبلية تحارب الزحام مثل المترو الأرضي والمعلق، والجسور العلوية متعددة الطوابق، والاستفادة من تجارب العواصم شديدة الكثافة مثل جاكرتا في إندونيسيا بعمل مسارات خاصة بالحافلات وبالدراجات البخارية.

وهذا جانب مكمل لمفهوم الهندسة الثقافية التي تهتم أيضا بالمعطيات الاجتماعية والثقافية، وتعتمد آليات مناسبة لمجالات تطبيقها، وهو رهان أي مجتمع يريد التطور، وربما طرح حلول حقيقية لأزمات العاصمة القديمة أيضا. 

Monday, March 16, 2015

حائط المبكى


تغريدة 

حائط المبكى!



إبراهيم فرغلي


أتابع ما يكتبه أنصار ما يسمى المبادئ الثورية، وأحاول أن أتأمل فيما يكتبون خيطا يقود لمستقبل ما، لطاقة أمل، لمبادرة فعل ما. لكني أعجز حقا عن الوصول إلى شئ من هذا. فأغلب تعليقات هذا التيار النقدية تأتي كرد فعل على "أفعال" أو تصريحات الرئاسة، أو بعض مسؤولي الدولة، وعلى ممارسات سلبية من بعض مؤسسات الدولة، وهذا حق طبيعي وأساسي في عمل الرقابة الشعبية على السلطة. لكن هل يمكن حقا اعتبار مثل هذه الانتقادات المستمرة، مع عدم طرح بدائل رقابة شعبية حقا؟

تنطلق دعوة لثورة إصلاح ديني في مؤسسة الأزهر فيسألون عن حقوق الفقراء وحقوق التعليم وحقوق الإنسان. يذهب الرئيس إلى الكاتدرائية لتهنئة المصريين الأقباط بعيد الميلاد المجيد، فيترحم البعض على الشهيد مينا دانيال! ويتندر البعض على كشوف العذرية. كأن الزمن توقف بهم، من دون فطنة للتغييرات التي لحقت بالجميع: السلطة والشعب وكل من يرغب في مصر جديدة قوية، حيث تم تجاوز الكثير من التفاصيل بسبب مستجدات عالمية وإقليمية، بل وظروف داخلية معقدة بسبب إرث الفساد واللاكفاءة.

 إن التعليقات وردود الفعل التي لا يمكن أن يخرج منها الفرد بفائدة لم تعد تصلح إلا لمجالس عواجيز الفرح، أو لتأسيس حركة "الثرثرة الثورية"، لأن غالبية الجماهير، منذ تسليم الثورة للإخوان ووقوف من سلموها لهم مكتوفي الأيدي، أدركوا أن المستقبل في يد من يملك الخيال والقدرة على الفعل، وليس في يد المتشرذمين المترددين المختلفين المتناقضين الحافظين للنظريات من دون أي أرضية لها علاقة بالواقع وفهم الناس. خصوصا أن أحدا منهم لم يقدم فكرة مشروع ثقافي يعمل لصالح دعم حرية التعبير مثلا، أو لتثوير المجتمع معرفيا، لا مشروع أهلي لمحو الأمية، أو مبادرة حزبية ثورية، لا مشروعات كتابة يمكن أن تستفيد من إمكانات اللحظة الثورية. لم نعرف بديلا مؤسسيا واحدا لما ينتقدون، لم يقدموا شيئا لهذا المجتمع غير التباكي عليه!

 هذه الممارسات يمكن أن تؤسس حائط مبكى ثوري، لكنها لا تسهم في تثوير زقاق في حي شعبي، ناهيك عن إعادة بناء دولة.

من دون مبادرات عملية على الأرض للعمل في السياسة أو تكوين لبنات معارضة سياسية ثورية تسهم في نقد السلطة من جهة وإعادة بناء الدولة من جهة أخرى ستظل مثل هذه الأقاويل محصورة في نطاقها "النخبوي" المتماهي مع خطاب تحريضي "معاد" للدولة يمثله تيار الإخوان والدواعش ومن لف لفهم.


أفيروس

تغريدة 

أفيروس!

إبراهيم فرغلي


كانت اللغة العربية لغة العلم، وعنها نقل الغرب بذور نهضته، وظل يتداول اسماء بعض أبرز العلماء العرب كما عرفها آنذاك، بنطقها اللاتيني. فابن رشد هو "أفيروس"، إبن باجه "أفيمبيس"، إبن سينا "أفيسينّا"، إبن طفيل "أبوباكير"، وغيرهم. وخصوصا من تم ترجمة أعمالهم خلال القرنين الحادي والثاني عشر.
واليوم لا تعد اللغة العربية لغة من اللغات التي تنقل عنها العلوم، وإذا أثيرت القضية انتقل النقاش فورا إلى "تعريب العلوم"، وأصبح الجدل حول جدوى تعريب العلم في أوساط عالمية تستخدم مصطلحات علمية عالمية متفق عليها، على الرغم من أن روسيا لها لغتها العلمية، وفرنسا والصين وغيرها.
أما في العالم العربي فالاتجاه الشائع الآن هو تفتيت اللغة العربية إلى اللهجات العامية. إذن في حالة إنتاج العلوم والفكر، إذا شاعت اللهجات العامية على حساب الفصحى، فإلى أين يمكن أن تذهب بنا اللهجة العامية بديلا للفصحى؟
أطرح السؤال كلما تأملت النصوص التي تحتفي بالعامية في الصحافة أو الإنترنت، أو في النصوص المكتوبة. ليس لأنني لا أستسيغ هذه النصوص في الحقيقة بل  بسبب الأفق الضيق الذي تدور فيه. والأفق الضيق هنا لا يعود إلى المخزون الثقافي والدلالي المحدود للهجة المحكية، التي تعتمد على اختيار مفردات يقصد بها معاني ودلالات أخرى فقط ، بل يتجاوز ذلك إلى محدودية قدراتها الدلالية في النقد أو الفكر أو العلوم أو الفلسفة، أو حتى الفقه، على الرغم من نجاح بعض التجارب الشعبية في التفسير مثل تجربة الشيخ الشعرواي.
الشاعر المغربي محمد بنيس يرى أن هجر اللغة العربية من أهل اللغة والأدب، لن تؤدي إلا إلى احتكار التيارات الإسلامية المتطرفة للغة العربية وجعلها وعاء لتلك الأفكار. وبالتالي ارتباط الفصحى بها.
من جهة أخرى لفت انتباهي الفيلسوف الهندي أمارتيا سين في كتابه "الهوية والعنف" إلى أن هذا التلاهي باللغات المحلية، وجعل الفصحى لغة للفقه وعلوم الدين وخطاب الاعتدال أو التطرف الديني، ليس بعيدا عما بدأت به هذا المقال. فهذا ما نجح الغرب أن يلهينا به، حين صور لنا أن أزمتنا الأبدية أننا متخلفين، وأن تخلفنا يعود لخطاباتنا الدينية المتشددة، وبالتالي لا مخرج لنا من مأزقنا إلا بجعل اللغة مجالا للتفيقه والإصلاح الديني، وبهذا جعل من لغتنا محلا للجدل والخلاف الفقهي والديني، ولكنها ليست لغة العلوم البحتة أو الرياضيات أو التقنيات الحديثة، فهذه لغة لا تمتلك إمكاناتها إلا لغات الغرب صانع الحضارة.


مقالي في "القاهرة" 17 مارس 2015