Tuesday, April 21, 2015

تلامذة الأزهر وأستاذيته



تغريدة


تلامذة الأزهر



إبراهيم فرغلي


أجريت حوارين مع مفتي البوسنة ورئيس علماء مشيخة البوسنة والهرسك الأسبق، د.مصطفى سيرتش في مناسبتين مختلفتين، كان الأول لصالح صحيفة "الأهرام" خلال رحلة إلى سراييفو، عام 2006 واكبت وقوع حوادث الغضب التي سادت العالم الإسلامي عقب نشر صحيفة يلانذر بوستن الدانماركية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد. أما اللقاء الثاني فكان في العام 2009.

في كلتا المقابلتين تحدث الدكتور سيريتش عن دور الأزهر في العالم الإسلامي، وفي معرفة المسلمين في البوسنة والهرسك بالفقه وعلوم الدين الإسلامي باللغة العربية رغم ارتباط البوسنة بتركيا فترة الإمبراطورية العثمانية. وأوضح أنه درس العلوم الأساسية في الأزهر، لكنه تابع دراساته العليا في الولايات المتحدة. وفي الحوار طالب الرجل الأزهر بعقد مؤتمر دولي يتيح للمتخرجين منه ليس تمجيده، بل لكي يشكروه على ما قدمه لهم، في إشارة ضمنية لأهمية أن يقدم تلامذة الأزهر رأيهم في دور المشيخة التاريخي في وقت انتشر فيه التطرف والإرهاب في العالم وأصبحت صورة المسلم مرادفة للقاتل سافك الدماء.

الإشارة الضمنية التي كان يقصدها الدكتور سيرتش تحيل إلى تغير كبير في دور الأزهر، وبأخف العبارات وأكثرها دبلوماسية أراد الإشارة إلى تراجع  هذا الدور بشكل لافت.

ولذلك حرصت في رحلتي الثانية للبوسنة على زيارة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وأدركت الكيفية التي يحاول بها التلميذ التفوق على أستاذه من خلال تبني مناهج علمية حديثة، تؤسس لتخريج علماء يسهمون في ترسيخ دور مشيخة البوسنة في توجيه المسلمين في أوربا لحقوقهم وواجباتهم، بالتمسك بدينهم، ولكن دون تهديد حريات الآخرين.

واستمعت بانتباه لما ذكره لي الدكتور أورهان بيراكتارفيتش، أستاذ الفلسفة الإسلامية في الكلية نفسها، من أن الشيخ محمد عبده عندما زار البوسنة في عام 1905، وتعرف على هذه الكلية التي كانت تُعرف آنذاك بمدرسة القضاة، عاد إلى مصر وطالب الأزهر بأن يستفيد من نظام التعليم المتبع في تلك المؤسسة.

أما الدكتور عصمت بوتشاليتش، عميد الكلية، فأكد لي أن البوسنة تتحمل عبئا كبيرا في إطار الاستعداد للانضمام للاتحاد الأوربي نشر الفكر الإسلامي العقلاني، موضحا حرصهم على تخريج دعاة على درجة كبيرة من المعرفة بالفقه من جهة وبالثقافة الأوربية من جهة أخرى، وأنهم لذلك يقومون بتعديل المناهج ومناقشتها كل ثلاث سنوات وفقا للمتغيرات والمتطلبات العصرية.

يغيرون المناهج ويعدلونها كل ثلاث سنوات فقط، وليس كل ألف سنة! ومن المؤكد أنهم لا يقاضون المختلفين معهم. وللحديث بقية.



أستاذية الأزهر 



أشرت الأسبوع الماضي إلى أن القائمين على كلية الدراسات الإسلامية بجمهورية البوسنة والهرسك يعملون على تنقيح مناهج التعليم كل ثلاث سنوات بهدف إعداد دعاة عصريين مثقفين ومتفقهين في علوم الدين، ليواكبوا المستجدات ويؤكدوا للغرب أن الإسلام دين التسامح لا المغالاة والتطرف. 

هذا المنهج الواعي يأتي عن يقين وقناعة، وليس لإطلاق لشعارات زائفة أو دعاية مجانية، فقد قدم المسلمون في البوسنة للعالم درسا بالغ الأهمية إبان الحرب الأهلية التي تعرضوا فيها لحملة إبادة على يد الصرب، بعدم إطلاقهم رصاصة على كنيسة أو معبد رغم وحشية ما تعرضوا له. وهو ما كان أكده لي عدد ممن التقيت بينهم جافريلو جروهافاش نائب رئيس الحكومة ووزير الثقافة والرياضة آنذاك، ود.عصمت بوتشاليتش، عميد كلية الدراسات الإسلامية، وغيرهم.

وبهذا السلوك الراقي استحقت العاصمة البوسنية سراييفو لقب مدينة السلام أو مدينة "القدس الأوربية" كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، بوصفها المدينة الأوروبية التي تضرب مثالا نموذجيا في تعايش الأغلبية المسلمة من أهل البوسنة مع صرب البوسنة الأرثوذكس، والكاثوليك من كروات البوسنة معا، وفي تقديم نموذج أوروبي إسلامي متفرد في التسامح والتعايش.

هذا ما فعلته البوسنة على يد شيوخ ودعاة تعلموا في الأزهر، وأطلقوا دعوتهم لشعب البوسنة الذي التزم بها عن قناعة في العاصمة سرايفو وبقية أرجاء البوسنة.
في المقابل فإننا، في مصر، لم نسمع إدانة من مشيخة الأزهر، المؤسسة العريقة التي يمتد عمرها إلى ألف سنة، لأي ممن قاموا بأعمال إرهابية ضد الأقباط أو الشيعة في مصر، كما امتنع الأزهرعن تكفير تنظيم داعش رغم أن سلوكياته المتوحشة ضد الإنسانية مصورة ومثبتة. 

في الوقت الذي امتلك رئيس الدولة جرأة الدعوة لثورة إصلاح ديني من قلب الأزهر، لم نر جرأة مماثلة للمراجعة في الأزهر، بل على العكس، فاجأتنا صحف ووسائل إعلامية بمقتطفات منتزعة مما يدرسه طلبته من أهوال التراث غير المنقح، الذي تبدو به أفعال داعش وفقا لها، طبيعية ومبررة!


إن الأزهر الذي يدعم مناظرة أحد ممثليه مع شاب يجتهد ويلقي حجرا في بحيرة الدوجما الراكدة، ثم يقاضيه في اليوم التالي، يتناسى أنه ليس مؤسسة موظفين بيروقراطيين يخشون الفكر، بل مؤسسة إصلاح ديني، تاريخها له شواهد في أرجاء العالم، وإذا كان القائمون عليه يجهلون ذلك أو يتناسوه فهي مصيبة تجعلنا ندعم المطالبة بمؤتمر دولي يشارك فيه خريجي الأزهر من علماء الدين في العالم لمراجعة أدائه واستعادة دوره. 

Monday, April 6, 2015

قصة سنغافورة 2

تغريدة

لي كوان يو 2-2

إبراهيم فرغلي

يزعم البعض أن تجربة سنغافورة تجربة دولة صغيرة لا يمكن البناء عليها في دول كبيرة، وهذه الآراء مجرد انطباعات غير دقيقة، لأسباب بينها أن الصين في سعيها لتصبح عملاقا اقتصاديا أرسلت 22 ألف موظف صيني رسمي من جميع التخصصات إلى سنغافورة لكي تستلهم آفاق التجربة السنغافورية. وكان العائق الوحيد أمام استلهام "كل" التجربة وفقا لما نشره تقرير في صحيفة "نيويورك تايمز" أن الصينيين وجدوا أن سنغافورة نجحت في القضاء على الفساد الإداري والبيروقراطي تماما، وهذا ما يصعب تحقيقه في الصين، على الأقل في زمن قياسي.
فالتجربة السنغافورية تعد استثنائية بسبب زمنها القياسي وهو ثلاثة عقود، انتقل فيها متوسط دخل الفرد من 1240 دولار في العام 1959، إلى 43 الف دولار في 1990، وتقلصت نسبة البطالة من 13 في المئة عام 1959 إلى 1.7 في المئة في 1990، وحققت بفضل هذه السياسات نجاحاً ونموا هائلا في اقتصادها ومعالجة مشكلاتها المستعصية وتضاعف الناتج المحلي الاجمالي 40 مرة وقفز من 2.1 مليار دولار العام 1960 إلى 86.8 مليار دولار العام 2002. وهناك قائمة طويلة من الإحصاءات المبهرة تجدر الإشارة أنها جاءت على هذا النحو بسبب الطموح المبهر للتخطيط الاقتصادي الذي أسفر في العام 1969 عن تشييد 52 مصنعا وفر تشغيلها نحو 17 ألف فرصة عمل جديدة. وفي عام 1970, أضافت الاستثمارات الجديدة 20 ألف وظيفة أخرى وازدادت الإيرادات والمداخيل.
حين فكر لي كوان يو في تحويل بلاده من مجرد جزيرة صغيرة تؤوي مجموعة من المهاجرين الفقراء إلى نمر من أبرز نمور آسيا بدأ في تحقيق الأمن القومي عبر استدعاء كل طاقة مجيدة في مجالها، ثم العمل على تأسيس جيش قوي، وركز على الصناعة، وأحدث طفرة في السياحة، ثم أنشأ هيئة التنمية الاقتصادية 1961, كمؤسسة واحدة ليتخلى عن أسلوب البيروقراطية العقيم، ثم تعرف على أفضل مناهج التعليم في العالم ليختار جامعة هارفارد قبل أن يؤسس نظاما تعليميا حديثا لتعليم أبناء سنغافورة جنبا إلى جنب مع مشروع تثقيفي لتطوير ثقافة كل فرد في البلاد.
المبهر هنا ليس تفاصيل "المعجزة" الاقتصادية التي حققتها سنغافورة فقط، بل الكيفية التي نجح بها كوان يو في تأسيس حداثة ذات طابع سنغافوري توائم بين قيم الشرق التي تنتمي لها وبين منهج التحديث والتقدم الغربي. معجزة تستحق التأمل والقراءة لكل من يهتم بفكرة التنمية وتحقيق المستحيل.


Thursday, April 2, 2015

كوميديا دون كيشوت

تغريدة

كوميديا دون كيشوت!


يتخذ البعض من الطبيب التائب، والمهرج المتقاعد، باسم يوسف، نموذجا للتهكم والسخرية، كأداة نقد سياسي شعبي تحاول أن تُضعف أوتهز صورة ممثل السلطة بالتهكم وإثارة الضحك على تناقضاته، والنبش في صوره المتعددة ووضع ما يتناقض منها بجوار بعضها البعض من أجل تفجير الكوميديا، التي يراد بها في النهاية أن تكون ضحكا كالبكاء، لكنها في العمق تنتهي إلى أن يكوّن الجمهور الضاحك صورة هزلية عن رمز السلطة، وبالتالي تفكيك صورته الشائعة كرمز للقوة إلى النقيض.
ولعل باسم يوسف نجح في ذلك خلال عهد الإخوان، ليس فقط بسبب أداءه الساخر في برنامجه الذي حقق شعبية كبيرة، بل ولأن الفشل الذريع لسياسات الرئيس السابق مرسي على المستويين الداخلي والخارجي، جعل في الانتقاد الجماعي وسيلة مهمة، واكبها البرنامج بنجاح.

وعندما سقط مرسي ظن البعض أن "التهريج" أسقط مرسي، متناسين أن الإزاحة حدثت من قوة شعبية عبّرت عن نفسها بشكل فاق كل التصورات وأضاءت خارطة القاهرة على الستالايت، كما شاهدها العالم، فأيقظتها من عتمة "أخونة" الدولة المصرية، ووجد هذ الشعب من يستجيب لتحقيق هذه الرغبة الشعبية.

لكن الكوميديا الحقيقية أن الكثير، ممن يحسبون أنفسهم على التيار الثوري، الرومانسي النقي، كما تعبر أفكارهم، يظنون، ويبدو أن ذلك عن قناعة راسخة، أن بإمكانهم أن يهزوا صورة الرئيس السيسي بنفس الطريقة، بأن "يهرجوا" ويقدموا آراءهم النقدية بشكل ساخر حول سلبيات يُتفق عليها ويُختلف.

لكن ما يفوت البعض هنا أن السيسي لا يعبر، كما يتصور هؤلاء المحسوبين على التيارات اليسارية والليبرالية، عن جماعة أو عشيرة، بل يمثل إرادة شعبية رغبت في النجاة من محاولة أخونة مصر وسلطة البلطجية، ومن تشرذم وفشل القوى الثورية الأناركية التي تبين أنها تريد أن تهدم مجتمعا من دون أن تعرف كيف تعيد بناءه.(ولا حتى تعرف كيف تهدمه). يفوتهم أن ممثل السلطة اليوم يمثل إرادة شعبية تريد الحفاظ على "الدولة"، بعد أن تبين لها الأعاجيب من ألاعيب الداخل والخارج.


المفارقة أن أفراد النخبة الثورية يبدون مثل "دون كيشوت" الذي كانت خيالاته تصور له ما لا يراه غيره؛ ليس لامتلاكه البصيرة، بل لأنه صاحب خيال واهم، أولا في تهيؤاته عما يراه، ثم في أوهامه عن نفسه. فصورة "الفارس المشّاء" لم تنشأ عن إرادته الأصيلة، بل استعارها من كتب الفروسية القديمة، وبالتالي ظلت بعيدة عن منطق الواقع. وهكذا صارت بطولاته مصدرا للخيبات والتندر! 

Wednesday, April 1, 2015

لي كوان يو

 تغريدة

لـي كـوان يـو 



مر خبر وفاة لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة الأسبق، وأحد أصحاب سيناريو تحريرها من الاستعمار ثم النهوض بها  بعد تحررها، في الإعلام المصري بلا اهتمام يذكر، رغم أهمية تجربة هذا الرجل كنموذج لمحرر دولة ثم النهوض بها من الفقر والتبعية والخلافات العرقية لتصبح واحدة من أبرز دول العالم حداثة وتقدما.
بشكل شخصي انتبهت إلى تجربة الرجل عبر إشارة للفيلسوف والاقتصادي البريطاني البنجالي الأصل أمارتيا سن؛ في كتابه المهم "الهوية والعنف"؛ حيث اشار إلى أهمية تجربة كوان لي في التنمية، رغم تحفظه على بعض أفكاره على اعتبار أن كوان لي كان يقدم التنمية على الديمقراطية، مؤكدا أنه "من الخطأ كتم المديح حين يكون مستحقا، وخاصة أن هناك حاجة للاعتراف أن سنغافورة في عهد لي كوان يو لم تكن فقط ناجحة جدًا اقتصاديا، ولكن كانت ايضا قادرة على منح جماعات الأقليات فيها شعورا قويا بالانتماء والأمان وبهوية قومية مشتركة بطريقة لم تستطع معظم البلدان الاوروبية ذات الأقليات الكبيرة أن توفرها لجماعات الأقليات فيها. وما كنا نملك الا التفكير في المقابلة بين الحالين عندما اشتعلت حوادث الشغب المدنية المتصلة بالعرق والعنصر في فرنسا في خريف 2005".


ووقعت لاحقا على مذكراته "قصة سنغافورة"، وقرأتها بشغف، لأنه لم يقدم نموذج لرجل مثالي متطلع لتنمية بلاده بعد تحريرها من الاستعمار ثم استقلالها عن ماليزيا فقط، بل قدم نموذج لرجل واقعي النجاح لديه يتحقق على الأرض بالعمل المضنى والخيال مهما كانت الإمكانيات فقيرة، وبلا شعارات مثالية.
 تعلم تعليما جيدا في بريطانيا، ثم عاد للساحة السياسية وخاض السياسة على أرض الواقع وتعلم من التجربة واستفاد واستثمر ذلك بتكوين  شعبية قوامها قدرته على تعلم لغة الصينيين وخبرة من التفاوض مع البريطانيين والمالاويين ودراسة ممارسات الشيوعيين واساليبهم في التجييش والدعاية (مفارقات تذكرك بممارسات الإخوان الدعائية)، وفهم رجل الشارع، والاستفادة من هذا كله، حتى تمكن من تحقيق شعبية جارفه لحزبه قبل الاستقلال. ثم في الدعم الشعبي لمشروعه التنموي بعد ذلك.
امتلك الوعي بشعبه ونهض به في مجتمع كان يعاني من الأمية والمشكلات الأمنية والاقتصادية، حتى أصبحت سنغافورة نموذجا للإرادة الصلبة في النهضة والتنمية والرخاء وتعايش الطوائف وحماية الأقليات. وعلى الرغم من أن النظام السياسي بها لا يعد نظاما ديمقراطيا كاملا لكنها واحدة من بين أول 30 دولة أقل فسادا في العالم. ولأهمية التجربة سأعود إليها لاحقا مرة أخرى

نشرت في جريدة القاهرة 31 مارس 2015