Monday, January 26, 2015

ثقافة التخفي


تغريدة 5
ثقافة التخفي!



قبل ما يناهز ثلاثة عقود تقريبًا قرأت مجموعة "الموت يضحك" للقاص المبدع الكبير محمد المخزنجي. وفي واحد من نصوص الكتاب تناول سيكولوجية السِتْر عبر قصة شخص أراد أن يعتزل العالم، فاختبأ في ثياب منقبة، حتى تحول الأمر لديه إلى رغبة في الهروب المستمر من الحياة.
منذ قرأت تلك القصة وأنا أنظر لكل منقبة باعتبارها مشروعا للهروب من الحياة، لإخفاء الهوية، لاعتزال العالم، للقبول بتصنيف ذكوري يصنفها في مرتبة أدنى، للقبول بالتهميش، للقمع الذاتي، وغير ذلك مما تطرحه ثقافة التخفي.
حين ذكرت الأسبوع الماضي أن الإصلاح الديني يقترن بتحرير الجسد، سألني صديق وكيف نحرر الجسد؟ وهذا سؤال مهم سأعود إليه مرارا، لكني أود التوقف عند جانب رئيس في موضوع النقاب باعتباره يجسد جوهر فكرة قمع الجسد العربي ذاتيا عبر أفكار مغلفة بالدين، ويتعلق، في الوقت نفسه، بجوهر فكرة تحرير الجسد.
وبعيدا عن الجدل النصي والنقلي، وإعمالا للعقل، انطلاقا من أن الشرائع السماوية لا يمكن لها أن تناقض العقل، فلست أظن أنه من العقل، حين نطالب بدساتير تقول بالمساواة التامة بين المواطنين، ألا تفترض هذه المساواة بالضرورة الاتفاق على أن المرأة قادرة على القيام بكافة ما يمكن أن يمارسه الرجل من أعمال. وفي هذا العصر لا يمكن أن نتصور أن طبيبة متخصصة في جراحات القلب مثلا يمكنها أن تقوم بعملها متسربلة بالنقاب، لا ترى جسد مرضاها بشكل واضح، وتتقيد حركتها، مع التأكيد على أن الرداء المخصص للطبيبات لا يمكن أن يتنافى مع المتعارف عليه من مظاهر الاحتشام المتفق عليها. وقس على ذلك مئات الأمثلة.
ولعل ما يزيدني تأكدا من أن الأمر يخضع للاعقلانية أكثر من الذرائع التي تتمسح في الدين، ما نراه من إصرار المدافعين عن النقاب على البحث عن المبررات الدينية، وتأكيد الطابع النقلي، لا العقلي، في تعديد المبررات، بينما تجد نفس هذا الفريق حين ينتقل إلى المجتمعات الغربية، وقد استند إلى مبررات أخرى؛ احتماء وتملقا لقوانين الحرية المفروضة هناك.
يريد أهل النقاب، والمنادون بالدولة الدينية معا فرض دعاواهم على الغرب باسم الحرية، من دون الانتباه إلى أن انتهازيتهم هذه تتعارض مع المفارقة في أن فكرة النقاب، بوصفها وسيلة قمع جسدية للمرأة وقدراتها، ونفي للمساواة، تتنافى مع جوهر مفهوم الحرية عن المرأة وعن الحياة. وهذا مكمن الصراع الذي سيبدأ في الغرب ضد الإسلاميين وصاعدا.  


Sunday, January 18, 2015

عن مسلمي أوربا ودور الأزهر

رئيس العلماء ومفتي البوسنة د‏.‏ مصطفي تسيرتش:
ردود الفعل العنيفة من المسلمين تسيء لسماحة الدين

أجري الحوار في سراييفو‏:‏ إبراهيم فرغلي

د.مصطفى سيرتش ، الرئيس الأسبق للمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك 


هذا الحوار أجري للأهرام ونشر في الأهرام في مارس العام 2006 عقب فترة من موضوع الرسوم المسيئة للرسول، ويتضمن أفكارا مهمة حول الطريقة الواجب مواجهة هذه الإساءات بها من قبل المسلمين في أوربا من خلال حوار مع المفتي الأسبق للبوسنة الدكتور مصطفى سيريتش (في وقت إجراء الحوار كان يتقلد المنصب لا يزال)، بالإضافة إلى إشارات مهمة عن أثر تارجع دور الأزهر على المسلمين في أرجاء العالم، وما أشبه اليوم بالبارحة!

بخلاف الكثير من دول العالم الإسلامي جاء رد الفعل البوسني علي ما نشرته صحيفة يلانذر بوستن الدانماركية من رسوم كاريكاتورية مختلفا نسبيا عن طبيعة ردود الفعل العنيفة التي عمت أرجاء العالم الإسلامي‏.‏ والسبب في هذا الاختلاف يعود إلي طبيعة وضع البوسنة كبلد تعيش فيه أغلبية من المسلمين في قلب أوروبا وتجمع بين الانتماء إلي أمة الاسلام وإلي الثقافة الأوروبية في نفس الوقت‏,‏ وكان موقف أهل البوسنة من المسلمين في الحرب العرقية التي تعرضوا لها خلال التسعينيات قد حقق انتصارهم في الحرب وتأكيدهم علي أن قيم الإسلام الأساسية هي قيم التسامح ونبذ العنف‏,‏ ولهذا فإن أهل البوسنة في سراييفو لم يطلقوا رصاصة واحدة علي أي كنيسة أو كاتدرائية رغم تعرض المساجد لقصف الصرب‏.‏

وفي حوار خاص لـ الأهرام أوضح سماحة الدكتور مصطفي تسيرتش رئيس العلماء والمفتي العام في البوسنة والهرسك أن المشيخة الاسلامية في البوسنة والهرسك تدين أشد الإدانة ذلك العرض المسيء لشخص النبي محمد صلي الله عليه وسلم وتطالب وسائل الاعلام الاوروبية باسم الحرية أن تتوقف عن إشاعة الخوف من الاسلام‏.‏

لكن المشيخة الاسلامية‏،‏ في الوقت نفسه،‏ في البوسنة والهرسك تناشد المسلمين في العالم‏، وخاصة المسلمين في أوروبا والبوسنة والهرسك أن يحجموا عن ردود الأفعال والاحتجاجات العنيفة التي تسيء إلي مكانة رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

وأضاف سماحة الدكتور تسيرتش‏:‏ أن ما يقلقنا بشكل خاص هو ما أدت اليه بعض الاحتجاجات العنيفة من سقوط ضحايا أبرياء وعوضا عن ذلك ينبغي علي المسلمين في شتي أنحاء العالم‏,‏ وخاصة في أوروبا أن يفتحوا الأبواب أمام الحوار بين الأديان والثقافات‏.‏ ولهذا فإني أقترح أن يعلن هذا العام‏2006‏ عاما للحوار بين الأديان والثقافات في أوروبا‏.‏

وعاد سماحة الشيخ ليوضح أنه من الطبيعي أن اثنتي عشر كلمة خبيثة لن تقلل من مكانة رسول الله صلي الله عليه وسلم عند المسلمين، ولن تزيد هذه الكلمات الخبيثة من حرية التعبير عند الأوروبيين،‏ ولكن من المؤكد أن هذه الرسوم الكاريكاتورية الأوروبية الاثني عشر عن النبي محمد صلي الله عليه وسلم سوف تترك أثرا عميقا من فقدان الثقة لأن جرح السيف يندمل وجرح اللسان الذي يمس مشاعر النفس صعب أن يندمل‏.‏

إن ما يصلنا في هذه الأيام من رسائل في أوروبا بشع حقا وخاصة ما يصل الينا نحن المسلمين في البوسنة والهرسك بعد الإبادة الجماعية في سريبريتشا‏.‏ فالموقف الاعلامي لأوروبا تجاه أسمي القيم عند المسلمين‏، ما كان له أن يحظي بأي اهتمام لولا ما يخفي في طياته من شيء أشد خطورة ألا وهو الكراهية تجاه الاسلام والمسلمين‏.‏ لذلك فالمسلمون الاوروبيون محقون في تساؤلاهم‏، أليس حظر المجاهرة بالعداء للسامية في أوروبا قد وجد ضريبته في عدم حظر المجاهرة بالعداء للإسلام‏.‏ انه أمر خطير علي أوروبا‏.‏ ويجب علي أوروبا أن تداوي نفسها من هذا الداء‏..‏ داء الخوف من الاسلام‏.‏

ولكن من الاجحاف هنا ألا نشير الي الأخطاء التي يرتكبها بعض المسلمين‏.‏ فالدفاع عن نبينا لا يكون بالضوضاء والعنف اللذين لا يمكن التعرف فيهما علي رسائل السلام والثقة بين الناس والشعوب‏.‏ إنما الدفاع الحقيقي عن مكانة رسول الله صلي الله عليه وسلم هو في اتباع سنته الزاخرة برسائل السلام والتفاهم ورسائل المحبة والثقة والعدل بين الناس والشعوب‏.‏

* فضيلتكم قمتم خلال الأيام الماضية بجولة في عدد من الدول الأوروبية لاجراء مباحثات حول سبل علاج قضايا المسلمين في أوروبا‏..‏ هل يمكن أن نتعرف علي طبيعة هذه الجولة؟

الحقيقة أننا الآن بصدد مناقشة اقتراح إعلان المسلمين الأوروبيين لتوضيح موقف الاسلام من العنف والتأكيد للاتحاد الأوروبي أن المسلمين الأوروبيين ملتزمون بالكامل وبشكل صريح بحكم القانون العادل وبمباديء التسامح وبقيم الديمقراطية وحقوق الانسان والاعتقاد في أن كل انسان له الحق بأن تصان حقوقه الضرورية الخمسة وهي‏:‏ النفس والدين والعقل والمال والعرض‏.‏

وبعد أن قدم المسلمون الأوروبيون تعهداتهم للاتحاد الأوروبي فإن لهم الحق في التعبير عن توقعاتهم في هذا الاعلان مثل الاعتراف الرسمي بالاسلام والمؤسسات الاسلامية في أوروبا‏,‏ والتنمية الاقتصادية للجالية الاسلامية التي توفر لها الحرية والاستقلال الروحي والثقافي التأميني‏,‏ وتطوير المدارس الاسلامية القادرة علي تعليم المسلمين المولودين في أوروبا بشكل يجعلهم مؤهلين للتعامل مع تحديات المجتمع الأوروبي الجديدة‏,‏ والحرية السياسية التي ستمكن المسلمين الأوروبيين من أن يصبح لديهم ممثلوهم الشرعيون في برلمانات الدول الاوروبية‏.‏

ما هي أهمية هذا الاعلان للمسلمين الذين يعيشون في أوروبا علي نحو خاص؟

إن توجيه الخطاب لهم أمر مهم جدا سواء بالنسبة لتحديد هويتهم الاسلامية بشكل واضح وصريح أو لتحديد مواطنتهم الاوروبية‏.‏ وقبل كل شيء يجب علي المسلمين الذين يعيشون في أوروبا أن يدركوا أن الحرية ليست هدية يقدمها الآخرون‏.‏ بل ان الحرية الاسلامية في أوروبا يجب أن تكتسب ويجب أن يتم الاعتراف بالوضع العام للمسلمين رغم معارضة الكارهين للمسلمين‏.‏

وبالطبع فإن الحرية تتطلب المسئولية لذا فإن المستعدين لتحمل المسئولية هم الذين يستحقون الحرية‏.‏

والبيان الأكثر أهمية الذي يجب أن يتضمنه الاعلان الموجه الي المسلمين الذين يعيشون في أوروبا هو التزامهم بتقديم الاسلام الي الجمهور الغربي علي أنه الرؤية الكاملة لحياة الانسان‏,‏ وليس ثقافة قومية أو عرقية أو عشائرية معينة‏.‏ لأنه لا يمكن للمسلمين أن يتوقعوا من الأوروبيين تقديرهم لرسالة الاسلام العالمية اذا كانوا يقدمونه لهم ملونا بلون عرقي أو قومي‏.‏ كما أن المسلمين الأوروبيين يمكنهم أن يستأثروا بإعجاب الجمهور الأوروبي من خلال عرض عالمية الاسلام‏.‏ ويجب علي المسلمين أن يكونوا صادقين ويعترفوا بأن الكثيرين منهم اكتشفوا الاسلام في أوروبا علي نحو مختلف كليا من وطنهم الأصلي‏,‏ لأنهم هنا في أوروبا يقابلون اخوانهم المسلمين من أجزاء أخري من العالم الاسلامي ويبدأون باحترام التنويع في التجربة والثقافة الاسلامية‏.‏

وهذا الاعلان الذي قدمت مقترحاته نوقش علي مستوي واسع من قبل أكاديميين ورجال دين خلال مؤتمر موسع في لندن الشهر الماضي‏,‏ ولاقي قبولا واسعا‏.‏

فضيلتكم من خريجي جامعة الأزهر‏،‏ ولكم علاقات وثيقة بالمشيخة الاسلامية في القاهرة‏،‏ كيف تقيمون العلاقات بين الأزهر والمشيخة الاسلامية هنا في البوسنة‏، وطبيعة العلاقات المستقبلية؟
العلاقة بين المشيخة الاسلامية‏، أو بين المسلمين في البلقان‏،‏ وبصفة خاصة المسلمين البوسنيين مع الأزهر علاقة مصيرية‏،‏ وتاريخية‏ وعندما نقول هذا نستطيع أن نقول إنه لولا الأزهر ودوره في الحفاظ علي الهوية الاسلامية في البلقان لتلاشينا أو متنا روحيا‏.‏

فكما نعرف‏ أن الاسلام دخل في البلقان والبوسنة في عام‏1463‏ ومنذ ذلك الوقت وحتي عام‏1878‏ الذي شهد انعقاد مؤتمر برلين الذي سلمت خلاله البوسنة للملكة النمساوية كانت البوسنة والهرسك جزءا من الامبراطورية العثمانية‏.‏ وبالتالي كانت كل العلاقات الدينية والاقتصادية والسياسية مرتبطة مباشرة باسطنبول‏‏ لكن بعد الانفصال انقطعت العلاقات التركية مع البوسنة والهرسك بما فيها العلاقات الدينية حيث كان رجال الدين يذهبون إلي اسطنبول للحصول علي درجاتهم العلمية في العلوم الاسلامية ويتقنون اللغات التركية والعربية والفارسية‏,‏ لكن بعد انقطاع هذه العلاقات كان من الضروري أن نجري عملية جراحية للاتصال روحيا بمؤسسة دينية عريقة هي الأزهر‏.‏ ولذلك نقول إننا لولا الأزهر لمتنا روحيا‏.‏

فبصمات الأزهر في الفقه والفكر وفي فهمنا للإسلام‏,‏ والآن العلماء المسلمون البوسنيون لايتقنون التركية وإنما مصلحون اللغة العربية‏ لذلك فالأزهر قام بمهمة أساسية في استعراب العجم‏ وكان أكثر العلماء الذين عرفوا بأنهم معلمون مثل الشيخ محمد عبده والشيخ شلتوت ورشيد رضا وغيرهم كانوا من العلامات المؤثرة في جيل من العلماء البوسنيين مثل محمد حنجيج والذي كتب حصل علي رسالة دكتوراه من الأزهر عن شعراء البوسنة وهناك حسين بوزو رحمه الله‏ الذي كان فقيها وتأثر جدا بالاسلام الاصلاحي علي يد الشيخ محمد عبده‏.‏ وكان أحد المفكرين ذوي التأثير القوي خلال المرحلة الشيوعية في يوجوسلافيا السابقة‏,‏ حتي أن الرئيس عبدالناصر خلال زياراته ليوغسلافيا كان يسأل عنه باستمرار‏.‏ وكذلك الدكتور أحمد اسمايلوفيتش رحمه الله وهو من الجيل الجديد نسبيا فقد عاصرته أثناء وجودي في الأزهر وكان هو علي وشك الانتهاء من رسالة الدكتوراه في السبعينيات وكان موضوعها أدب الاستشراق وأثره علي الأدب العربي الحديث وكان رئيس المشيخة الاسلامية في يوغسلافيا السابقة علي مستوي البوسنة والهرسك آنذاك‏.‏

والأزهر صنع مني رجلا مسئولا واثقا في نفسه في العلوم الاسلامية وله فضل كبير في الحفاظ علي الهوية الاسلامية في البوسنة والهرسك‏.‏

لكن مهمته أن يعرف المصريون القدر الكبير الذي ساهموا فيه في الحفاظ علي الهوية الاسلامية والتراث الاسلامي خلال القرنين الآخرين ليس فقط في البوسنة والهرسك وإنما في العالم العربي وأفريقيا‏.‏

وأنا أتمني أن يعقد مؤتمر دولي كبير في الأزهر الشريف لكي نراجع دور الأزهر خلال القرنين الأخيرين في الدعوة الاسلامية في العالم كله ليس من أجل تمجيد الأزهر وإنما لتكون هناك فرصة لكل المدينين للأزهر أن يقولوا له شكرا علي ما فعلت لنا‏.‏


Wednesday, January 14, 2015

في ذكرى غياب محمود العالم



محمود أمين العالم..غياب المثقف النموذج


بالرغم من إحساسي بالغبن للطريقة التي تحدث بها الرائد الراحل طه حسين مع نجيب محفوظ في الحلقة الحوارية الشهيرة التي جمعت طه حسين بعدد من الكتاب والأدباء وأدارتها المذيعة ليلى رستم وبثها التلفاز المصري مطلع الستينات، تعبيرا عن رفضه لكتابات الادباء الشباب وبينهم محفوظ، فإنني امتلأت بالفضول للتعرف على الشاب النبيه الذي بدا واضحا إعجاب طه حسين به وتشجيعه له، والذي عرفت ان اسمه هو محمود امين العالم.
قرأت له "في الثقافة المصرية"، و"معارك فكرية"، وتابعت مقالاته النقدية في "إبداع" بعد صدورها في عهد حجازي مطلع التسعينات، ثم شاهدته لأول مرة في إحدى ندوات المجلس الأعلى للثقافة في مقره القديم بحي الزمالك. تأملته بشغف، وذهلت بحيويته، وتدفق أفكاره، وبالطريقة التي يتحدث بها، التي تعبر عن دماثة لافتة، تعلو وجهه ابتسامة آسرة، لا تغيب عن وجهه، لا في ذلك اليوم، ولا في المرات العديدة اللاحقة التي شاهدته خلالها في ندوات مثيلة، مهما ووجه بأفكار تختلف مع رؤاه أو ما يتبناه، أو خلال حوارين صحفيين أجريتهما معه في مقر المجلة التي أصدر منها عشرين عددا لافتة "قضايا فكرية"، وفي غيرها من مناسبات اقتضاها العمل الصحفي، أغلبها في مناقشة قضايا تخص الواقع الثقافي الراهن، كما كان كعادته حريصا على التشجيع كلما اتصلت به هاتفيا، والثناء، وأظنه جزءا من شخصيته الدمثة، المتفائلة، المتعلقة بالمستقبل، وبالشباب، وما ينجزون، ومحاولة فهم ذلك ما أمكن.
وكلما تقدم في العمر فاجأني ببنطاله الجينز، وحيويته، وابتسامته الدمثة، وأكد لي قناعتي باعتباره نموذجا فريدا للمثقف المصري النبيل، العلمي، المتابع للشباب، المؤمن بحق الاختلاف حد اليقين الكامل، المؤمن بضرورة تحقق الشيوعية كنظام يحقق للإنسان تحرره من كل صور الاستغلال والقهر.
عندما علمت بخبر وفاته أصابني الحزن لهذا السبب، وهو افتقاد الثقافة العربية لوجه مضيء من أبرز وجوهها الفكرية والفلسفية والنقدية، لكنني لم أستطع أن أتخيل وجهه ميتا إلا وقد علته تلك الابتسامة التي ميزته في جل حياته، وهو الرجل الذي واجه السجن مبكرا في عهدي عبد الناصر والسادات، كما واجه المنفى، وتلقى من صنوف التعذيب ما وصفه أنه لا يليق سوى بالإبل، ومنع عن عمله، وتعرضت عائلته للمضايقات، وبالرغم من ذلك فقد مضى في طريقه، دون أن يستسلم لمرارات وعذابات وقع كثير من مجايليه في حبائلها واختنقوا بها كمدا وقهرا ويأسا واكتئابا وموتا.
بالرغم من أن اغلب كتبه التي أعقبت كتبه الأولى كانت تجميعا لمقالات أو اطروحات نقدية موزعة على العديد من القضايا، لكن اللافت أنها في مجملها عبرت عن قناعاته، وكأنها في النهاية تجسد مشروعا فكريا، نقديا، فلسفيا، واحدا، شواهده فيما كان يفضل ان يكتب عنه، إن فكرا ونقدا، أو تأريخا، أو إثارة لقضايا جدلية في الراهن المعاصر سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
في كتابه "الوعي والوعي الزائف" تناول بالنقد والعرض مشروع المفكر المغربي عابد الجابري حول نقد العقل العربي، كما تناول مشروع أدونيس المشابه في الثابت والمتحول، وبدا لافتا أنه قبل ان ينطلق في عرضه النقدي يهتم أولا بعرض أفكار من يتناول أفكارهم بشكل واضح يعطي للقاريء فكرة جيدة عما يتحدث عنه قبل أن يتناول نقده هو، وابرزه إشارته إلى تجريد الجابري للعقل العربي عن تاريخيته، وكأن العقل العربي تكون خارج التاريخ.
وهي قراءة ماركسية بامتياز، لكنها رؤية تخصه أيضا، وهو القائل:" نرى ان الماركسية بمصادرها المادية الجدلية بالنسبة للطبيعة والتاريخ، ترفض التجريدات المطلقة، كما ترفض القول بالجزئيات المنعزلة، وتقول بالوقائع المادية في علاقتها المتشابكة المتفاعلة المتحركة المتغيرة المتصارعة. ولهذا فمنهجها يتسلح بهذه الرؤية نفسها".
في تناوله النقدي لأعمال الكاتب الروائي صنع الله إبراهيم في كتابه"ثلاثية الرفض والهزيمة" قد أفسح مساحة لنفسه للتخلي عن أدوات النقد الماركسي، واشتبك بالبنيوية، بغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا على المنهج، كأنه بذلك يؤكد يقينه بحتمية التطور وضرورة الجدلية، من جهة أخرى، وهي الرؤية التي تبناها في تأكيده لأن المشروع الماركسي رغم فشل تطبيقه يتضمن في جوهره عوامل استمراريته التي لم يتمكن المنفذون لها من استيعابها، إذ يرى أن الفكر الماركسي هو حيوي وضد البيروقراطية بامتياز، وهذا بالضبط كان معقل مواتها في النموذج السوفييتي.
كان يرى أن ذلك أيضا يعود إلى"ان معرفتنا الحقيقية بالماركسية معرفة محدودة مسطحة هشة" على اعتبار ان ذلك امتداد "امتداد لمعرفتنا النظرية العامة التي تتسم بالمحدودية والتسطيح والهشاشة".
ولعل أحد أبرز وجوه محمود العالم هو ليبراليته المتجردة، ويقينه بالحرية، وفي حرية التعبير كجزء أساسي من أسس تكوين الإنسان، وأحد حقوقه الأساسية، وخاض معارك عديدة في هذا الاتجاه، وشارك برأيه، وجهده، تقريبا في أغلب قضايا المصادرات وحرية التعبير التي مرت على الثقافة المصرية، خاصة بعد عودته من المنفى للقاهرة منذ العام 1984.
ومن بين ما يوثق ذلك مشاركته في التضامن مع الفنان الراحل يوسف شاهين خلال القضية التي واجهها بسبب فيلم "المصير"، حيث توجه العالم، بين جموع من الفنانين والمثقفين المصريين آنذاك، ليحضر المحاكمة، وأدلى برأيه في لقطة توثيقية في فيلم تناول القضية، وبدا شجاعا في إعلانه عن حق الفن في التعبير وتناول أي قضية من القضايا.
فقد أعلن أيضا في مقالة نقدية لتناول الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل للحركة الشيوعية في مصر أن "إن الماركسية كمذهب اجتماعي فكري ليست ضد الدين وإنما ضد استخدام الدين استخداما سلطويا مصلحيا ضيقا، ولعل الحروب الصليبية في المسيحية، وسياسات بعض الدول الإسلامية قديما وحديثا، وخاصة أثناء الحكم الأموي، وضرب الكعبة بالمنجنيق وغير ذلك أن تكون من أبرز معالم استخدام الدين استخداما متناقضا مع قيمه الروحية وما أكثر الأمثلة وفي تقديري أن موقف السلطة السوفيتية من الكنيسة الروسية كان خطأ، وإن كان يفسر بالعلاقة الحميمة التي كانت قائمة بين هذه الكنيسة والسلطة القيصرية".
وهذا وجه آخر من وجوه محمود العالم الذي لم ينف ماركسيته، ولا إيمانه بالعلمانية، كما لم يعتبر استخدام كلمة شيوعية من المسميات التي يتعامل معها المثقفون بحذر بوصفها كلمة ذات سمعة سيئة لدى قطاع واسع من الجماهير العربية التي ترى فيها مكافئا للكفر والإلحاد، وتختزلها في هذا الإطار الضيق المحدود.
رحل محمود امين العالم عن عالمنا في وقت نحتاج إليه فيه بشكل قد يفوق اي وقت آخر، في ظل ساحة ثقافية هشة، تسودها صراعات المصالح، وغياب الجدية، وشوائب القيم التقليدية الريفية والقبلية، كما تشيع فيها الضحالة، وغياب النقد بمعناه الشامل الذي يتطلب نقادا موسوعيين من أمثال العالم، وانحدار مستوى تعليم العلوم الإنسانية، لكن الأمل، سيظل قائما فيما أورثه لأجيال جديدة، بما أنتجه، من جهة، وبنموذج الإنسان المثقف النبيل، الذي ستفتقده الثقافة العربية بحق الآن وهنا.

إبراهيم فرغلي
عن (النهار) 18 يناير 2008