Monday, October 19, 2015

درس الغيطاني.. الكتابة وسوق الكتابة




بين الكتابة والتسويق





هذا المقال كتبته عقب حصول الغيطاني على جائزة الدولة التقديرية ونشر في صفحة "المدونة" في الأهرام اليومي في أغسطس 2007


زرت المكتبة الخاصة بالكاتب جمال الغيطاني، في منزله، الأسبوع الماضي، ولست الآن في حل لذكر محتوياتها التي لا تقل بحال عن كونها كنزا حقيقيا . لكن ما أود أن أتوقف عنده هنا هو الصورة المهيبة التي يحتفظ بها الغيطاني إلى يسار المكتب الذي يجلس إليه، وهي صورة "الكبير" كما 
يسميه الغيطاني، وكما يعرفه أغلب الكتاب:

 "ديستويفسكي". هذا الكاتب الكبير الذي لم يخرج كاتب في العالم –كما أظن- إلا من معطفه. هكذا يجلس الغيطاني للكتابة تحت رقابة، وعناية، هذا الكبير، وهو في ظني ما يجعل من الكتاب مسؤولية إضافية تضاف إلى ما تتضمنه من مسؤولية تجاه الجماليات التي أسسها المبدعون الكبار على مدى تاريخ الكتابة.

تحيط بالغيطاني قواميس اللغة وكتب البلاغة الكبرى التي غرف منها لينحت لغته الخاصة، ومراجع قديمة، ونسخ عديدة من تفاسير القرآن، وغيره.
وهي في النهاية مؤشر كبير على الجهد الذي يبذله . والذي تجلى في العديد من أعماله البديعة التي قرأت بعضها في مرحلة مبكرة مثل الزيني بركات و رائعته الكبيرة:التجليات، ورسالة في الصبابة والوجد، ويوميات شاب عاش منذ ألف عام . ووقائع حارة الزعفراني. ومنها ما قرأته في مراحل عمرية متقدمة مثل شطح المدينة ونوافذ النوافذ، ونثار المحو. وغيرها وصولا للزويل . وفي هذه الأعمال جميعا يتبدى الجهد الكبير الذي بذله الغيطاني في اللغة البديعة التي يستخدمها. ولعل هذا ما وصل القراء الأجانب منقولا إلى لغاتهم وساهم في نشر كتبه في كبريات دور النشر البريطانية التي تطبع بمئات الآلاف مثل بنجوين البريطانية، التي طبعت الزيني بركات قبل سنوات عدة، وفي ترجمات أعماله للفرنسية منذ مطلع الثمامينات في كبريات الدور الفرنسية، وذيوع أسمه كواحد من أهم الكتاب العرب المترجمين في فرنسا.

الغيطاني،ككاتب كبير؛ لم يذكر شيئا من هذا يوما، ولم يهادن، في نفس الوقت، في معركته الكبرى في انتقاد سياسات وزارة الثقافة، لكن ، ها هو أخيرا، يحصل على الجائزة التي تأخرت كثيرا: وهي جائزة الدولة التقديرية.

هذه الجائزة المستحقة تأخرت لأن الغرب التفت لأعمال الغيطاني منذ سنوات طويلة، بالتقدير والعناية، وأنا أعرف ذلك من علاقاتي بأصدقاء من خارج الوسط الثقافي من الفرنسيين يعرفون الغيطاني جيدا ويقرأون أعماله باهتمام.

هذا الجهد الكبير حققه الغيطاني بدأب، وهو يستمر في مشروعه، دون أن يلتفت إلى معايير التسويق التي يمارسها البعض، وبدون أن يسعى للترجمة التي سعت إليه، ولهذا فإن الغيطاني اليوم أحد الاسماء اللامعة التي يقرأها الغرب لفنياتها، ولخصائص جمالية، وليس بحثا – من القاريء الغربي- عن نمائم، أو تلصصا اجتماعيا، كما هو شأن بعض الروايات السعودية الجديدة التي يكتبها بعض الكتاب الشباب اللآن، 

وأستثني منها رواية الآخرون لصبا حرز، أو بعض روايات الأكثر مبيعا التي لا يمل كتابها ممن يعتمدون على التسويق من ذكر أرقام مبيعاتهم، يرهبون بها قارئا يعيش في مجتمعات متهمة بالجهل والأمية انعدام الرغبة والقدرة على الثقافة، وهؤلاء القراء الذين يتهافتون على مثل هذه الأعمال مثلما يتهافتون على كل السلع التي تخضع لبند "الموضة" يبتلون بالتسويق والترويج لما يحتاجونه ولا يحتاجونه .

وهؤلاء انضم لقائمة مستهدفيهم الآن مروجو سلع الأدب الشعبي بقوة أرقام التوزيع، التي لا تعني شيئا لجودة الأدب، وبدخول مجال الدعاية كتاب مختصون في الاقتصاد والتاريخ يقرأون الأدب أخلاقيا.

دان براون يوزع أكثر من 50 مليون نسخة، وكذلك كويليو، لكن دوستويفسكي هو الذي تقاوم كتابته الزمن، ومثله كل الكتاب الكبار، مهما راجت الكتب الشعبية، وتم التسويق لها. صحيح أن في التسويق فائدة لاكتساب قاريء جديد، لكنها لا يمكن أن 

تغير القاعدة الأساسية بأن الكبير كبير، وأن الزبد يذهب هباء مهما كانت ثخانته!

نشرت في الأهرام اليومي، الطبعة العربية، صفحة المدونة في 4 أغسطس 2007