Monday, November 9, 2015

فصل من معبد أنامل الحرير


معبد أنامل الحرير
إبراهيم فرغلي


"منذ بدأتُ حياتي الجديدة في المدينة السرية راودني شعور مختلف، ربما لم أشعر به إطلاقًا في مدينة الظلام. شعرت بالحريّة، أو بالأحرى فهمت المعنى الحقيقي لها. أدركتُ أن ما عشته تقريبًا في مدينة الظلام، التي تستقر راسخة في أعلى مدينتنا السرية، لم يكن سوى مجموعة من المسالك التي تبدو لمن يسير في حياته بلا تدبّر أنها خيارات حرّة، لكني اليوم أعرف تمامًا أنها كذبة كبيرة.
حتى حياتي قبل أن يتمكن المتكتم من بسط نفوذه على المدينة، كانت بلا أمل، ولا رغبة حقيقية في فعل شئ. ولعل هذا الفراغ الكبير الذي كان عنوانًا لحياتي وحياة الكثيرين، جعل المناخ ملائمًا لوصول المتكتم إلى الموقع الذي بلغه، ليفرض نفوذه لاحقًا على القلوب والعقول. لكن كُثراً للأسف لا يعرفون ذلك، وبينهم أولئك الذين غُسلت عقولهم على يدي المتكتم وأنصاره؛ ممّن غُرّر بهم من شبابٍ صغير ومراهقين؛ فارغي العقل والوجدان، وجدوا في الانتماء لجماعة المتكتم ما يوهمهم بانتفاخ ذلك الفراغ.
هذا الإحساس بالفراغ التام الذي كان يسيطر على حياتي الواهية في مدينة الظلام تبين لي فجأة مثل حقيقة ساطعة متوهجة منذ تعرفت الى سديم. في الأمسية الشعرية الأولى التقت عينانا بالصدفة، فحدقنا لبعضنا البعض لوهلة. عينان صغيرتان ناعستان وشاردتان، لكن أهدابهما الطويلة تظهرانهما كأنهما مكحلتين مما يضفي الإحساس بعمقهما خلف عدستي النظارة الطبية الأنيقة المستطيلة ذات الإطار المعدني الرقيق. وجه طفولي، يغطي جانبيه شعر أسود حالك قصير؛ لا هو ثقيل ولا شديد النعومة. فيما أنفها الرقيق ذو النبقة الصغيرة في طرفه يمنحها جاذبية خاصة.
بهاتين العينين اللتين هيؤ لي شرودهما بينما هما تبصران وتلاحظان كل ما يحيط بها اصابتني الفتنة، ولعب فأر المشاعر المدهشة في قلبي. أحببت كل شيء فيها. الشفتين الصغيرتين، الذقن الرقيقة المزدوجة، لون البشرة الحليبي الممتزج بلمسة هينة من لون الخميرة. اليدين الصغيرتين النحيلتين اللتين تكتمل رقتهما بالعلاقة التي تصنعها مع رسغ دقيق أقرب للنحافة.
عقب انتهاء الأمسية تبادلنا النظرات، عندما انتبهتُ إلى أن عينيها السوداوين اللتين تلتمعان، تتأملاني أو ربما تحدقان بي من خلف عدستي نظارتها، ارتجفت روحي، كان لمقلتيها ذلك السواد اللامع الذي يجعل من يقع تحت ناظريها يشعر بأنه بات عاريا. وأنها لو بكت فسوف تكون دموعها بلون المقلتين. ولكني حين امتلكت الشجاعة وحدقت فيهما أمكنني القول أنها تمتلك عينين شعريتين. وهذا لا قِبَل لي بتفسيره.
اهتمام الجميع بالشعراء، وبإدلاء ملاحظاتهم حول القصائد، لم يتح لي اختلاق فرصة لأحادثها. لكن الصُدفة أتاحت لنا الحديث في ليلة لاحقة حينما ضللت طريقي إلى مقطورة الشعر، ووجدت نفسي ارتطم بجسد بشري دافئ ورقيق، سرعان ما تبينت أنه جسدها. ابتسمنا معتذرين، كل منا للآخر. وحين أبلغتني أنها في طريقها لمقطورة الشعر أكدتُ لها أنها صدفة رائعة.
 سرنا متجاورين نثرثر بما يرد على ذهنينا، بينما أتأمل ملامحها بين الفينة والأخرى. قدّرتُ أنها لا تتجاوز الثامنة والعشرين. وأسبغ عمق عينيها السوداوين سمتًا خاصًا لوجهها. كلّما نظرتْ لي بدت كأنها تحتضني بعينيها المبتسمتين، لكن هاتين العينين عكستا، في الوقت نفسه، ملمحاً من النضج يفوق عمرها، لكنه لا يمنحها عمرًا إضافيًا. وربما في هذا ما يشرح إحساسي بشعرية عينيها.
سديم واحدة من المتمردات اللائي هاجمن المتكتم وأتباعه، عبر وسائط افتراضية حديثة بينها وسائل التدوين باعتبارها المساحات المتاحة الوحيدة وغير المراقبة في وقت كان التشدد قد بلغ مداه في الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة. ووجدت النصوص التي دونتها، عبر الوشاة ومخبري المتكتم، طريقها لأتباعه الذين سارعو باتهامها بالحض على الإباحية والشذوذ، وبدأوا يتعقبونها ويتحرشون بها.
قالت لي أن ذلك لم يزدها إلا إلحاحًا أن تكون ذاتها، فتاة طبيعية كما أمها وجدّتها. ترتدي ما تحب، ولا ترى في نفسها ما يروجه المتكتم الذي أفلتت منه الكلمات أكثر من مرة واصفاً المجتمع المثالي، المتحفظ بأنه مجتمع الفحول. طبعا هذا المجتمع المثالي عند المتكتم لم يكن سوى مجتمعا منافقا محافظا ورجعيا كما أوضحت سديم وهي تشدد على كلماتها بطريقة بدت كأنها تمضغ الكلمات وتطحنها بأسنانها طحنا من فرط الانفعال.
كانت ترتدي الجيبات القصيرة أو البنطلونات الضيقة، والتي شيرتات ذات الألوان الصاخبة، والبلوزات مفتوحة الصدر، كاشفة بشرتها العاجية. فتحرشوا بها عبر بلطجية المتكتم الذين  زعموا أنهم أصحاب سلطة تنفيذ وصايا مجتمع الرشد.
كنت أنصت لها غائبا في نبرة صوتها. نبرة ناعمة وهادئة، مهما كانت درجة الإثارة أو الصخب فيما تحكيه. كانت تتمتع بهدوء داخلي رهيب. لكني، من خبرتي كنت أترقب اللحظة التي تغضب فيها وكيف ستكون؟ وكيف ستتحول نبرة صوتها آنذاك.
لاحقا سأنصت لهذه النبرة وهي تحكي لي عن والديها المنفصلين، وجحيم الحياة بينهما، حتى قررت الاستقلال بحياتها بعيدًا عنهما.
أضافت أنها قررت أن تهرب الى المدينة السرية، بعد تعرضها لواقعة تحرش مقصودة من عدد من سيدات يتشحن بالأسود. اقتدنها إلى إحدى الطرق الخالية. أوسعنها ضربًا ومزقن ملابسها.
 ضلّت الطريق حينما دلفت إلى أحد الأنفاق عشوائيا. وجدت نفسها في مساحة كهفية مضاءة بإضاءات صناعية مشحونة ببطاريات شحن عُلّقت على جدرانها مجموعة من اللوحات العارية لفنانين شباب، إلى جوار جداريات ضخمة رسموها على الجدران لفتيات عاريات.
قالت:"أجمل معرض عاري شفته في حياتي".
في وقت لاحق عبّرت عن رغبتها في الانضمام إلى فريق النساخين، وأكدت لي شغفها بمشروع إعادة نسخ الكتب الممنوعة. في اليوم التالي عرضت الأمر على الوسيط المعلن بين النساخين المحتملين وبين سعيد خاطر، الذي كنت قد قضيت عنده الأسبوع الأخير لي في مدينة الظلام هاربًا من أعوان المتكتم، ونشأت بيننا علاقة صداقة، كما أنه كان يزودني خلال تلك الفترة بخبراته في النسخ.
المهم أنني أوصلت له رسالة عن طريق طارق بما ترغب سديم فيه. وعاد لي طارق مساء اليوم التالي برده قائلا: أنه يرحب بالأمر وسيرسل لها اليوم التالي اقتراحًا بما يود أن تقوم بنسخه.
سمع قاسم صوتا لا مجال للشك فيه، يبدو حفيفا لشخص بالباب، فقفز هذه المرة وفتح الباب بسرعة، لكنه لم يجد سوى قطة تتغطى بشعر أبيض يبدو كطبقة من الفراء، وهي تتمسح في باب الغرفة المجاور. التفتت له، ثم انصرفت بسرعة حين راح يرمقها بغضب. عاد إلى الغرفة متوترا، وإن شعر بالراحة أن الأمر لم يتعد وجود قطة أحد النزلاء ضائعة، أو لعلها تتولى حراسة السفينة من الفئران. هكذا تفكر في الأمر قبل العودة إلى الفراش، وإشعال سيجارة واستكمال ما بين سطوري.



"كانت المرحلة الأولى في الأنفاق لها متعتها الخاصة، أمسيات شعرية، نسخ نصوص، مناقشات بين النساخين والشعراء. قراءات، وجولات في الأنفاق لاكتشافها، وسهرات في عربات المترو المهجورة.
 وكثيرًا ما كنّا نبيت في تلك العربات التي يفيض فيها الشعر، خصوصًا وأن الحياة في الأنفاق لم تكن أكثر من حياة المشردين الذين لا مأوى لهم. كنا نحضر معنا أباريق القهوة الحافظة للحرارة، نتجرّع القهوة وندخن، نضحك، ونتبارى في التباهي بدقة النسخ، معوّلين على الأحكام التي يطلقها المسؤولون عن مراجعة النصوص المنسوخة، ممن كان مسموحًا لهم بمخالطتنا.
وأحيانا كنا نسهر في أماكننا حتى الصباح! وعندما يصرخ أحدنا: "النهار طلع يا بشر!". ننفجر جميعا ضاحكين، ففي المدينة السريّة لا يعرف أحد معنى النهار، فنحن نعيش في عتمة مستمرة، أو بالأحرى في زمن يبدو كأنه ليال مستمرة لا تنتهي، إذ تتوزع في الأنفاق الكشافات والبطاريات، والإضاءات الصناعية التي تم توصيلها من الكهرباء الخاصة بمولدات مترو الأنفاق.
كانت الأيام الأولى بالغة السوء. فليس من السهل أن يعيش الفرد في هذه العتمة والإحساس الليلي المستمر. أصابني الاكتئاب، ولم تُجدِ نصائح الشعراء ممّن مرّوا بخبرة الاعتقال أو السجن في زمن المتكتم ومن سبقه. حتى محاولتي إقناع نفسي أنني كمن يعيش في السويد أو فنلندا، حيث يطول الليل أحيانا لأكثر من ثلاثة أرباع اليوم الذي نعرفه في بلادنا المشمسة، لم تستطع أن تغير من مزاجي الكئيب.
الاكتئاب، بكل آفاته من تغير المزاج، والإحساس بالاختناق والضيق والخوف مثلّت اسوأ خبراتي في مدينة الأنفاق. الحساسية المفرطة، وتأويل سلوكيات البشر وفقا لتوهمات ذاتي المكتئبة جعلتني أنتحي بنفسي منعزلا، فاقدًا الهمّة لبذل أي جهد. وحتى محاولات سديم لإخراجي من الاكتئاب لم تنجح.
فكرتُ جديًّا أن الحل الوحيد يتمثل في الهروب من الأنفاق والعودة الى مدينة الظلام، من أجل التمتع بالإضاءة الطبيعية، واستنشاق هواء طبيعي. عندما قلت ذلك لسديم ابتسمت كمن يكبح ضحكة. نظرتُ إليها مندهشًا، متصورًا أنها تسخر من فكرة أنني أريد الهرب من الاكتئاب لألقي بنفسي في يد جماعات الزومبي التي تعيش في مدينة الظلام. لكنها لاحقت فسرت لي وهي تتساءل مستنكرة:
-         هَوَا إيه يا كيان؟ هيّا البلد دي بقى فيها هوَا؟ البلد متنيلة، غرقانة في العوادم والتراب والمجاري، ده غير تلوث العقول. غباء في غباء خلّى البلد كلّها ضلمة.
-         ضلمة؟
-         إنت ما سمعتش إن حكيم الزمان، سخام البرك، زعيم الندامة بتاعك بقى بيضلّم البلد من الساعة 10 بالليل علشان ما حدش يمشي في الشارع بالليل؟
-         أهو كلام بنسمعه. هوّا حد فينا هنا بقى عارف إيه اللي بيحصل فوق؟
اقتربتْ مني، ووضعت كفها الرقيق على جبيني وهي تصطنع أنها تجس حرارتي. ابتسمت لها. لكنها أشاحت بوجهها وانصرفتْ.
 بقيت أسابيع أخرى حبيس زنزانة الاكتئاب وجدرانها الموحشة. لم ينقذني سوى الكاتب الشبح في النهاية، ومن دون أن يدري، أو لعله كان يعلم ذلك، فقد كلفني بنسخ الترجمة العربية لرواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي. استغرقني النص بحيث أنني كنت أتمنى ألا ينتهي. وكنت أردد لنفسي كلّما تقدمتُ في قراءة النص أن كاتبه ليس طبيعيا. أظنه شيطان كتابة وعقل موهوب بشكل بالغ. لم أكن قرأت دوستويفسكي من قبل. ولكني أصبحت موسوسا منذ قرأته. لم أعرف كاتبًا له مثل هذه القدرة في معرفة الطبيعة المعقدة للنفس البشرية ونوازعها. كما أن هذه الرواية، التي أصابتني بمسٍ من الجنون، دفعتني لأشرع في كتابة كتابي السري".


****
توقف قاسم عن القراءة، ووضعني بجواره إثر طرقات على الباب، الذي فتحه ليجد بحّاراً شابا يحييه بأدب. قال له الشاب أن سُحُباً كثيفة ظهرت في الأفق، وأن احتمال اقتراب العاصفة بالسفينة وارد في أي لحظة، وأنه يطلب من كل فريق السفينة ونزلائها ارتداء "الجاكيتات" المطّاطية من الآن، من قبيل الاحتياط.
هزّ قاسم رأسه للشاب وأغلق الباب، ودار في الغرفة الضيّقة محتارًا، ثم فتح الباب وخرج.
لم يكن من الصعب التكهن بأنه سيقصد الكابتن، ربما ليعرف منه تفاصيل أكثر عن العاصفة ومدى قوتها، وإمكانات السفينة لاحتمالها. لكنه في نفس الوقت كان ثابتاً، رابط الجأش. ففي النهاية كان يؤكد لنفسه أن عواصفا في البحر المتوسط لا يمكن أن تماثل العواصف المجنونة المهلكة كالتي تهب على المحيطات والمناطق الاستوائية.




11


أما أنا فعدت بذاكرتي إلى رشيد. فيما بات السؤال  أكثر إلحاحًا: ما علاقة قاسم بما حدث له، وكيف تسبب في تورطه في هذه القضية الغامضة؟
كانت حياة رشيد في غالبيتها حياة رحّالة تنقّل بين دول عديدة، لكنه لم يسلك أية مسالك مريبة أو ملتوية. كان كل ما يبتغيه هو الحب ورؤية أكبر جزء ممكن من أرجاء العالم.
عندما رأرأت عينا "يوديت"، الفتاة الألمانية ذات الملامح الرقيقة، وهي تنصت لرشيد في قلب معبد الكرنك، أمام جدارية فرعونية كانا يقفان أمامها، بينما يسرد لها جزءً من التاريخ الذي عاشه الملك رمسيس الثاني، كانت ترنو إليه حين لحظ تعلقه بعينيها.  ثمة بريق مدهش أطل من مقلتيها الزرقاوين، وبسبب الإجهاد والشمس، شاب بياض العينين درجة هينة من اللون الأحمر.
في مساء ذلك اليوم في الفندق الذي كان الوفد الألماني يقطن به، وجدها تجلس في مطعم الفندق بمفردها تقرأ كتابًا. ترتدي قميصًا قطنيًا أزرق بحمالتين رفيعيتن وشورت أبيض.
وبحماس من أغنية فريق Scorpions التي دارت فجأة، وحالما سمع كلمات:
“Try. Baby try. To trust in my love again”
 نهض من مكانه واتجه إليها وحيّاها فالتفتت اليه لكنها ابتسمت مرحبة به فسألها:
-         هل تنتظرين أحدًا؟
-         لا..لا أنتظر أي أحد. تفضّل، بإمكانك أن تجلس معي.
جلس وهو يقول:
-         أغنية جميلة
I'm still loving you
أنصتت للحظات وأيدته بهزات من رأسها أظهرت بها مدى اندماجها مع الأغنية. أدرك أنها تريد أن تنصت فانتظر، وأخذ يطرق بكفه على فخذه مع الإيقاع دون أن يقول شيئا حتى انتهت الأغنية.
قالت:
-         آسفة، لكني أحب هذه الأغنية كثيراً.
-         أنا أيضاً.
سأَلَته إذا ما كان يرغب في تناول شئ معها. قال لها أنه انتهى من تناول طعامه بالفعل، لكنه لا يمانع أن يشرب شيئاً، فطلبا معا زجاجتي بيرة.
أخبرته أنها عادة لا تحب الأغنيات العاطفية ولا موسيقى البوب. وأنها تفضل فقط الروك آند رول. فأجابها أن هناك دائما استثناءات.
سألها عن انطباعاتها حول ما شاهدته في مصر. مرقت سحابة من ذكريات غائمة في ذهنها منذ زارت متحف برلين وشاهدت رأس نفرتيتي، وتعلقت بالحضارة المصرية، وقرأت كتبا عنها وقررت أن تسافر يوما لتعاينها على الحقيقة. قالت له أنها كثيرًا ما تفكر أن مثل هذه الحضارة الخيالية كانت تخص بشرًا خارقين، لعلهم انقرضوا فجأة مثل الديناصورات.
 لمس نبرة الإدانة في صوتها. تأمل عينيها ونبرة الصدق التي قالت بها الكلمات. قال: "أنا أيضًا أفكر في ذلك كثيرًا". ثم أضاف "أظن أننا لن نتواصل مع تلك الحضارة كأبناء شرعيين لها، إلا عندما نتخصص في دراستها وبحثها واكتشافها بدلا من خبراء الآثار الأجانب الذين تخصّصوا في علوم المصريات بينما نكتفي نحن بقراءة ما يكتبون كأنها حضارة غريبة عنّا".
ابتسمتْ بحماس وأيّدته بهزاتٍ من رأسِها.
ثم قالت "ربما أنتم تفضلون الحالة السحرية لهذه الحضارة. هذا الصمت المحيط بآثار عمرها آلاف السنوات، ومومياوات من نفس العمر، ففي هذا الصمت ثمة دائما أسرار تقال، وعجائب وأسرار لا يمكن أن تكشف بسهولة".
تأكل ما تقوله، بينما راودته فكرة يقينية بأن التواطؤ على الصمت تجاه الحضارة المصرية القديمة يبدو نوعا من انتظار المعجزات التي يمكن لحضارة مثلها أن تفعل. لكنه عقّب قائلا: "ربما يكون معك حق، ولا أخفيك أنني شخصيا، ولك أن تصدقي ذلك أو لا تصدقيه، أمر بحالات غريبة خلال جولاتي المتخصصة داخل المقابر الفرعونية، إذ أشعر في أثناء وقوفي صامتا لتأمل النقوش على الجدران أن روحا طافت بجواري. أظنهم يرعون ماضيهم بشكل ما، وأرواحهم هي التي تحمي هذا التراث على مر الزمن".
اتسعت حدقتا عينيها وهي تقول له كأنها تؤّمن على كلماته بطريقتها:
"هل تصدقني إذا قلت لك أنني شعرت اليوم بمثل هذا الإحساس في أثناء جولتنا في الكرنك؟".
اقترح أن يصطحبها لزيارة "وادي الملوك"، مضيفا بابتسامة :"حتى تعرفي أن السحر الذي تملّكك في صباك عن الحضارة المصرية لا يساوي شيئا أمام الفتنة التي تنتظرك في ذلك المكان".


مساء اليوم التالي، في غرفتها الصغيرة في الفندق الفخم، كانا يجلسان على كرسيين متجاورين يواجهان نافذة تطل على نيل الأقصر. وينصتان معا لأغنية I'm sailing، وعندما سمع مقطع
Im dying
Forever crying
To be with you
ارتجفت روحه، لكنها بحساسية ورهافة، التقطت التماعة العينين وحزنهما، وتفكرت قليلا. ولم تقل شيئا.
لكن بمجرد مرور طائر غرام خفي شعرت بأنه توقف على كتفها ارتجفت وقالت له: "هل سبق لك أن سافرت خارج مصر؟".
فر طائر الغرام من أعلى كتفها، ليحلَّ على الفضاء الذي يجمعهما بدلا منه طائر رُخ أسطوري راح يرفرف بجناحين عملاقين أعلى رأسيهما. فارتعدت من لفحة الهواء التي باغتتها.
حكى لها عن أحلامه الموؤدة في الترحال عبر العالم، وعمّا عاناه من أجل تحقيق الحلم.
لو أحببت صوغ أفكاره لقوّلته الآتي: 

"بل أنا مسافر أبدي، تقطعت السبل بيني وبين أحلامي. أنا رحّالة الرحلة المؤجلة، المسافر على صفحات الكتب، وبين سطورها. قرصان البحر الخيالي الذي امتشق بواخر لا يراها أحد سواه. أو يمكنك القول أنني روبنسون كروزو المُقعد؛ الذي حالت الظروف بينه وبين أحلامه للوصول إلى جزيرة الأحلام. أنا المسافر الأبدي العائش في الحقيقة. طائر الرُّخ الذي قارب على الانقراض ولا يستطيع الطيران لأن جناحه العملاق انكسر ولم يعد قابلاً للإصلاح".

رفرف طائر الرُخ مغادرا الغرفة، تاركا إياهما يرتعدان من ضربة الهواء الخفية الغامضة، ولو قُدّر لها أن ترى سحابات خياله في تلك اللحظة لشاهدت بعين الخيال من أعلى بساط سحري عوالم من السحر تتحرك من تحتها.
ثم حلّ الصمت، كُتلةً مصمتة حالت بينهما للحظات، لكن صوتها الناعم ذي النبرة الحزينة الهامسة وصل إلى أذنه باقتراحها الذي اعتبره أول بشائر تحقيق حلمه القديم:"عليك أن تأتي معي إلى ألمانيا، ومن هناك يمكننا معًا أن نسافر إلى أرجاء أوربا".

أما الآن وهنا، وخلافاً لتوقعاتي، لم يعد قاسم كما تمنيت. بقيت وحدي في هذه الغرفة، أحاول توقع نتائج مثل هذه العاصفة. نقّبتُ في ذاكرتي عمّا يمكن لي أن أزجي به الوقت. الانشغال المستمر في البحث عن جذوري، إلى أي سلف أنتمي؟ أسلاف غربيون، أوربيون على نحو خاص؟ رشيد لم يكن يقبل هذا الأمر. يرى أن أوربا هي التي تُدين لإسبانيا في الرواية، وإسبانيا تدين للأندلس. كان يقول أن سرفانتس نفسه وهب قصته المبهرة "دون كيشوتي دي لا مانشا" الى اسم كاتب عربي أسماه "سيدي حامد". وفي نقاشات أخرى كان يرى أن النصوص الأدبية الأولى التي عرفها العالم جاءت من مصر القديمة. كُنت كمن يستجدي عودة رشيد باستدعائه ذهنيًا، أو حتى بأن أتذكر جزءًا مما أضمه على صفحاتي من قريحته:


" في إحدى المرات التي كنا نتمشى فيها معًا في محاولة لاستكشاف مدينة الأنفاق السرية، أنا وسديم سمعت منها مصطلح "كتاب سري" لأول مرة، ثم وجدتها تضع يدها في حقيبتها وتخرج كتابًا من القطع الكبير، مجلّدًا بجلد بني اللون. سألتها عن الكتاب فمدّت يدها به إلي. اكتشفت أنه كتاب ثقيل نسبيا وأبديت دهشتي؟ على الغلاف الجلدي البُنّي وجدت العنوان بلونٍ ذهبي مكتوب بخط جميل: "كتاب الأرق"، فأثار فضولي. حاولت فتحه فاستعصى عليَّ، نظرت إليها طالبا المعونة، فوجدتها ترمقني بفضول. وتبتسم.
اكتشفت أن الكتاب المزعوم ليس سوى خزينة متنقلة، مصممة على هيئة كتاب تحتفظ فيها سديم بأغراض شخصية تعتز بها، وبعضها تخشى عليه من السرقة.
ومضت في ذهني لحظتها فكرة أن يكون للشخص كتابًا سرياً. ما الذي يمكن أن يدونه في كتاب كهذا؟ مرت على ذهني فورًا  تجربتي مع جماعة المتكتم، فهي ما يستحق أن يكون موضوعاً لكتاب كهذا، لكني قررت حينها تأجيل التفكير في الموضوع.
قلت أنه سيكون موضوعًا مؤجلاً، ولأجل غير مسمى. فلم يكن هناك وقت لكتاب كهذا، بسبب الوقت الطائل الذي تستغرقه عملية نسخ الكتب.. لم تكن مصادر الكهرباء المتاحة في الأنفاق تسمح لنا باستخدام أجهزة الكمبيوتر، وبالتالي كان علينا النسخ باليد، وعدد الكتب يحتاج إلى أكثر من ألف ضعف عدد النسّاخين الموجودين.
كما أن المرحلة الأولى؛ قبل الانتقال الى المدينة السريّة كانت صعبة للغاية، فلم تكن هناك أماكن مناسبة للنسخ. كنّا نفترش الأرض في إحدى عربات المترو، أو في بعض الأنفاق التي أضيئت بوسائل إضاءة بدائية، أو بمصابيح صناعية مشحونة ببطاريات.
لكن ما كان يردنا من أخبار مدينة الظلام يجعلنا نحمد الله على أحوالنا، فمع كل وافد جديد إلى مدينة الأنفاق السرية تواردت أخبار عن العتمة التي تعيشها المدينة ليلاً في محاولة من المتكتم للسيطرة على أي حركة تمرد ضده، وبالتالي لم تعد هناك استخدامات للتلفزيونات أو دور السينما والمسارح، والتي أغلقت تقريبًا كلّها كما أعلن لنا الوافدون الجدد، أو بعض من يتنقلون بين الأنفاق ومدينة الظلام مثل طارق وغيره.
كلما سمعت خبراً من هذه الأخبار المقبضة كنت أقول أنني أفلت منهم في الوقت المناسب، ولو أني أشعر بالحزن الشديد تجاه الكثير من أهلي وأصدقائي الذين يعيشون في تلك العتمة، حيث لا يمكن لهم احتمال الهروب الى المدينة السريّة هنا، وتحديدا من كان يرى في تلك النفاية رُشداً وصلاحًا أوحلا أخلاقيًا لما كانت تعيشه المدينة من فجور، وبتعطيش الجيم كما يفضل أتباع المتكتم أن ينطقونها.
-         إنت إزاي كنت واحد منهم؟
سألتني سديم. نظرت إليها مباغتًا. تقاذفت على ذهني شهبٌ من ذكريات بعيدة رأيت نفسي فيها جميعا، منكبّاً على قراءة نصوص وكتب، بعين الوصيّ على البشر الذي يعرف ما يصلُح لهم وما لا يليق بهم، أو ممسكا بقلمٍ أسود أغطي به عورات نساء لم تكن أي منهن تشعر بغضاضة أن يرى جسدها العاري أحد، مع ذلك فكنت أراهن مارقات، أمنح نفسي صكّاً ربّانيًا وأخلاقيًا في ألا يتشارك الآخرون في إثمٍ كهذا.
قلت لها أن هذه قصة طويلة على أي حال، واليوم عندما أتذكر بداية تعرفي إليهم، أشعر أن دهراً مرّ على عمر تلك العلاقة. كيف بدأت تلك القصة؟ لا أعرف، في لحظات من حياتنا نسير كأننا مدفوعين من قبل آخرين، ولا نقف لنفكر، وهكذا تمر حياتنا مسروقة لأنها مجرد تنفيذ لرغبات الآخرين.
قالت :"زومبي" يعني؟
انتفضت وقلت لها: أرجوك.
استفسرت بدهشة فقلت لها ببراءة أنني أخاف من سيرة تلك الكائنات.
قهقهت وقالت: بتتكلم جد؟
-         طبعا.
عادت لتقرقر للحظات ثم قالت:
-         بس دول خيال مش موجودين أساسا.
-         مش موجودين؟! إحنا عايشين هنا، في مدينة الأنفاق في عالمٍ سفلي، يعني ممكن يكونوا أقرب لينا مما نتصور.
-         ما اعتقدش. الزومبي الحقيقيين عايشين هناك. فوق على أرض مدينتنا اللي خربوها. وبقت زيهم. مدينة أكل عقلها المتخلفين، لغاية ما بقت زيهم . أهلها ماشيين زي دببة سكرانة. بيتطوحوا كأنهم جذوع شجر ضخمة ماشية على الأرض بدون عقول. أو أموات كالأحياء.
لكني بالتأكيد أذكر جيداً كيف انتهت علاقتي بهم. استدعيت اللحظة التي بدأت فيها شرارة الأحداث. بدأ ذلك عقب قراءتي لنص بعنوان "أبناء الجبلاوي" لكاتب اسمه إبراهيم فرغلي، لم أكن سمعت عنه، تخيل في روايته تلك اختفاء كتب نجيب محفوظ من الوجود فجأة بلا سبب معروف. وربط بين هذا الاختفاء الغامض وبين وقوع المدينة القاهرة في ظلام مريب نتيجة مرور أسراب من طيور لا يعرف لها أحد جنسًا، ظلّت تحلّق أعلى المدينة حتى منعت عنها ضوء النهار، وتسببت في إظلام المدينة بشكل تام.
أعجبتني فكرة الكتاب، ورغم ما وجدته فيه من وصف للحظات جنسية عديدة، وحتى المشاهد التي بدت انتقادًا لاذعًا لجهاز إعلام فاشل وفاسد، لكني أحسست أن به ما يستحق أن يمر من أجله وأن يجد طريقه للقراء.
أجزتُ الكتاب، ووضعت ملاحظاتي الخاصة ببعض العناصر السلبية في النص، وأغلبها مقاطع جنسية، وقدمت في تقريري الفقرات التي رأيت ضرورة حذفها، مع التوصية بنشر النص، ودفعت بالتقرير إلى مدير جهاز المتكتمين.
في اليوم التالي مباشرة فوجئت برسالة على مكتبي مؤشر عليها بخط المتكتم شخصيًا، يخطرني فيها بإيقافي عن العمل وإحالتي إلى التحقيق. توجهت بالرسالة الى مدير عموم إدارة المتكتمين والنائب الأول للمتكتم، رفض مقابلتي بزعم انشغاله. ثم فوجئت بتجاهل محاولاتي للقاء أي مسؤول آخر.
لم يكن أمامي سوى الانتظار حتى يحل موعد التحقيق.
في الأيام التي قضيتها في البيت معتكفًا، مكتئبًا، وجدتُ ذاكرتي تستعيد علاقتي بالمتكتم وإدارته. كما استدعيت نصوصًا عديدة، وأفلامًا سينمائية، ومقالات وموضوعات صحفية ساهمتُ في حجبها عن الجمهور، ووقيتهم شرور ما فيها، مقصيا سموم الفكر الضال عن عقولهم حتى لا تتسمم بما كان كثير من الكُتّاب المارقين، العلمانيين، والملحدين المنحلين يحاولون أن يمرروها الى الجمهور، ومارست كل صلاحياتي وخبراتي في وقاية المجتمع من شرور ما جاء فيها.
كنت أشعر بالغبن، وبالغضب، لكني لم أعبر عن ذلك إلا بالصراخ متجولا في البيت، مثل المجاذيب، لاعنًا المتكتم وسوء تقديره لمن يجتهد في العمل. نعم، لعنته لأنه جسد بالنسبة لي نموذجا لرجل الفضيلة وإشاعة الأخلاق الفاضلة ومكافحة الرذيلة، رجل مقدس بفضل صرامته في حرصه على منع كل ما يصفه بأنه إباحي ولا أخلاقي عن الناس، حريصًا على مكارم الأخلاق. أديت عملي على أفضل وجه. نعم، كنت بين قلّة قليلة من المتكتمين الذين يفضلون قضاء وقت طويل عقب ساعات العمل الرسمية لأواصل قراءة نص لرواية أو كتاب سياسي أو غيرهما مما كان يرد إلينا بانتظام. وأحيانًا كنت أقضي يومين متعاقبين بلا نوم، لأنتهي من تقرير، فيما ألاحظ حولي كثيرًا من الموظفين الذين لم أستطع أن أطلق على أي منهم لقب متكتم يوما، ممن كانوا يتصفحون النصوص التي ترد إليهم ثم يكتبون تقريرهم بسرعة.
كنت أحسدهم على طريقة عملهم، فبعضهم كان يتوقف أمام عنوان يجد به كلمة مريبة فيجعل منها مسوغا لتقرير بحظر الكتاب، وأحيانا يفتح الكتاب عشوائيا، فتقع عيناه على فقرة لا يفهمها فيسارع فورا ليكتب تقريرا مشابها، أو يلتقط كلمة يراها مثيرة للريبة او الاشتباه، فيتخذ القرار الأسلم، والأكثر أمانًا له بمنع الكتاب، فهذا أمر مأمون، لا يعرّض من يقوم به للجزاء، على عكس إجازة كتاب قد يرى البعض لاحقًا أنه كان جديرا بالمنع. خصوصا وأن المتكتم كان محميا بترسانة من القوانين والتقاليد الاجتماعية وبالتالي لم يكن يعبأ بجماعة الكتّاب الذين كانوا يشنون هجمات إعلامية على المتكتم وأتباعه، ويكتبون في منافذهم التي لا يقرأها عموم الناس ممن كنا نرى أن حمايتهم أخلاقيا وفكريا أمانة تقتضيها مسؤوليتنا جميعا. لم يلق لهم بالا أو يهتم بما يكتبون، حتى تمكن من تجريم انتقاده في محاولة لإخراس كل معارضيه. وفي هذه الأجواء كان من السهل على الكثير من زملائي المتكتمين معدومي الضمير كتابة ما يربو على عشرة تقارير في اليوم الواحد أحيانا عن كتب يمنعونها من دون قراءة أو معرفة بما تتناوله.
بينما كنت أقضي ساعات طويلة في قراءة كتاب واحد. أتفحص واتأكد من مقاصد المؤلف. وإذا ثبت لي أنه يدس سُمَّاً في عسل فإنني سرعان ما أتحفز له. أبحث عما قد لا يُلتفت له بسهولة، في صياغة جملة تبدو عادية لكنه يريد منها معنى خطيراً، يشكك به في العقيدة النزيهة مثلاً، أو يحاول بها أن يمس ثقاة الشيوخ، أو كاتبة تمرر أفكارا عن تحرر المرأة في مجتمعنا المحافظ، الفاضل الخلوق، الذي يصون شرف المرأة ويقدّرها كما لم تقدّر المرأة في أي حضارة أخرى في العالم.
هنا أطلقت سديم ضحكة صاخبة رقيعة ساخرة على ما كنت أقوله، وأنا أتعمد قوله متقمصاً شخصيتي عندما كنت رقيبًا، متجاهلاً قرقرات سديم الضاحكة كلما سمعت كلمة من هذه الكلمات. كانت تعيد لفظها مقلدة إياي، قاطبة جبينها وراسمة بعينيها ملامح امرأة مجنونة زائغة النظرات، وهي تفخم وتغلظ النطق، ثم عادت لتغرق في الضحك الرقيع.
كنت أستخدم كلمات المتكتم حرفيًا، يساورني إحساس بالتعاسة من غضبه، وقراره بإجراء تحقيق معي. فبالرغم مما مررت به من خبرات التعليقات السلبية التي تلقيتها منه، لم يخالجني الشك أنه يفعل ذلك حرصًا منه على النظام الأخلاقي، وعلى جماعتنا، جماعة المتكتمين، وبالتأكيد حرصه على الأعراف والتقاليد.
خبرتها عما كان يدور في ذهني آنذاك موضحا أنني كنت أعرف أنه يتصرف بقسوة أب على ابنه الذي يريده أن يكون أفضل منه. قدّرت له ذلك. وفي النهاية يجب أن أعترف أنني حاولت كثيرًا إخفاء إحساسي بالغرور، وبقيمتي التي توهمت أنها الأعلى بين أقراني حينما كان يميزني عنهم موجهًا الحديث إليّ وقتما يمر ليتفقد سير العمل، أو ليشيد بتقرير من التقارير التي تقع تحت يده مما خطته يداي. فكم من أفراد جاءوا وعملوا وقرر المتكتم أن يتخلص منهم دون أن يلتقي منهم أحدًا، بلا تأشيرة منه أو تعليق.
ومع ذلك فبين آنٍ وآخر، كان المتكتم يتهمني بالتكاسل، أو بأنني تلميذ المتفسخ، وهو اللقب الذي كان يطلقه على الشخص الذي كان يتولى منصب "كبير المتكتمين" قبل أن يزيحه من مكانه عقب عدد من الضربات الخفيّة التي كان يوجهها من خلال الإعلام؛ لإظهار رئيس الرقابة السابق بمظهر رجل منحلٍ، لا يصلح، بل ولا يجب أن يكون قيّمًا على رقابة الأخلاق العامة وتصويب الأفكار.
كان المتفسخ، أو المسؤول الأسبق عن هيئة المتكتمين، وغريم المتكتم الذي تمكن من إزاحته من طريقه في النهاية، رجل دولة يرى أن الرقابة يجب أن تكون ذكيّة لكي تمنع ما يؤذي مشاعر الناس أو عقائدهم ولكن من دون أن يؤذي النظام السياسي ويتسبب في وسمه بالتخلف والديكتاتورية.
أما المتكتم فكان ينتمي إلى مدرسة أخرى تقول أن الأصل هو المنع، والاستثناء الإباحة. كان صارمًا متشددًا، يرى في كل خروج عما يعتبره صحيح الأخلاق انحلالاً ودعوة لوقوع العباد في أسر الرذيلة، ويتولى بنفسه استقبال المتكتمين الجدد؛ ليتأكد من تلقينهم الخبرة الأهم في عمل أي متكتم: "أن كل نص أدبي أو فني أو كتاب، مجرم حتى تثبت براءته". ولم أنتبه أن كل متكتم تقوم سلطته على الارتياب، وعلى الشك، وهو ما يقتضي منه أن يعين المتلصصين وقصّاصي الأثر والمخبرين، ويُطلقهم، ليس فقط في ربوع المدينة، بل وبيننا. لم أنتبه، ربما بسبب سذاجتي، أو ليقيني بأنني أعيش في أكثر المؤسسات أخلاقية في المجتمع، أن كل من يحيطون بي هم مجموعة من الوشاة الذين يتربصون ببعضهم بعضا لكي ينالوا حظوة عند المسؤولين عنهم، وبالتالي ترتفع أسهمهم لدى المتكتم".
لكن سديم استوقفتني بغتة، وهي تشخر من شدة الضحك، قائلة أن استمراري في هذا المونولج سيصيبها بتشنج عصبي. فتوقفت.
كنتُ مستغرقة في استدعاء لحظات كتابة رشيد لهذا الجزء من النص الذي يعد جزءً من وجودي، حتى شعرت فجأة بحركة غير اعتيادية ارتجّت لها السفينة، كأنها ارتطمت بسفينة أخرى، أو ربما بصخرة عملاقة. سمعت قرقعات وارتطامات من مكان قصيّ، ففهمت أنها تتناهى لي من غرفة المحرك. وأدركت أن العاصفة المتوقعة منذ الصباح حلَّت بشائرها. وأن طاقم السفينة جاء لاستدعاء قاسم من الغرفة لهذا السبب.


Saturday, November 7, 2015

الكسالى الرائعون


تغريدة
الكسالى الرائعون



إبراهيم فرغلي

انشغلت فئات من المحسوبين على النخبة، تضامنا مع الشارع المدعو "ثوري"، بتبرير الكسل السياسي الذي تعاني منه، بالتباهي بالدعوة لمقاطعة الانتخابات النيابية، بالمبررات المعروفة سلفا منذ أكثر من ثلاثة عقود: هذه تمثيلية، الانتخابات لا تعنيني، لا أعرف من سأنتخب، لا يوجد من يمثلني. إلى آخر الحجج والتبريرات المعروفة.
 وبعيدا عن أن هذه الدعوة، بكل ما تتضمنه من إحساس مرير بالعجز، والوقوع في أسر الإحباطات الكبيرة التي سببتها الفجوة الرهيبة بين الأحلام وبين ما وصل إليه الحال، فإن ما يدعو للأسى هنا أن هذا الثوري النقي المثالي يختار الحل الأسهل في الحقيقة، كأنه يصر على ارتكاب الخطايا السياسية والمزيد منها بلا توقف، بدلا من مواجهة الذات، وإعادة تأمل التجارب السياسية الناجحة في تاريخ العالم وتاريخ الثورات.
وهكذا تبدو هذه النخبة الثورية النقية الداعية للكسل الانتخابي أو المقاطعة أو "الاحتقار"، تخيلوا أن أحد "المناضلين" دعا لفعل "احتقار" الانتخابات البرلمانية في سابقة من سوابق اللافعل الثوري التي أظنها ستسجل في موسوعة جينيس يوما.
أقول أن هذه النخبة تبدو وهي تسبح في بركة من سراب اللغو واللافعل، متعامية عن جمهور عريض يرى أن الواقع والحقائق على الأرض تقتضي من كل منهم أن يمارس دوره، وأن يشارك بصوته فيما يراه صوابا، أو يحقق به أمله في المستقبل حتى لو بدا له اليوم بعيدا.
تتعامى النخبة عن آمال الجماهير لا مبالية بالحق الذي انتزع بفضل الحراك الثوري ممثلا في اكتساب الوعي بالحق في التصويت في الانتخابات، وباستبعاد فكرة تزوير الانتخابات أيضا. ناهيك عن أن هذه الدعوات تلقى هوى في نفس الفصيل الذي لا يتورع عن تفجير مصر وترويع أهلها؛ ممثلا في الإخوان وأنصارهم، وهذا شأن آخر لا يوليه الثوري النقي أي أهمية، تماما كما هو شأنه مع مشكلات الناس الحقيقية ومعاناتهم، والتي يستخدمها الجميع اليوم لكي يبيع قضيته لمكاسب خاصة أو يقنع بها ذاته على أسوأ التقديرات.  
لا تتحقق الأماني في يوم وليلة، تعرف ذلك السلطة، والنخبة والجماهير رغم آمالهم العريضة، ولا يمكن أن يتحقق تغيير من دون علم للتخطيط، وجهد للتنفيذ، مع صدق النوايا.
قلة كفاءة؟ طبعا، فلا يمكن أن تنتج منظومة التعليم البائسة لدينا إلا أشباه المتعلمين، وهؤلاء، كل في موقعه، إلا من رحم ربي وقدّر نفسه حق قدرها، يواري فشله بالمؤامرات أو التفرغ لتتبع نقائص من حوله لإخفاء عوراته. وقس على ذلك منظومة كاملة.
لا تتحقق الديمقراطية بالأمنيات، ولا بالمقاطعات، ولا الاحتقار، فهذا عمل العاطلين والفشلة، ولا يمكن أن تقوم دولة بعد ثورة وتنهض إذا لم تقدم القوى الوطنية، نماذج وكيانات حقيقية في الشارع، تؤمن بالشعب فعلا وحقه في "الوعي" و"النهضة"، وتكتسب شرعيتها تدريجيا من ثقة الناس وشعبيتهم، أيا كانت المعيقات. وعدا ذلك فالصمت سيكون أجدى كثيرا، فأضعف الإيمان ألا تتسبب مثل هذه المقولات المحبطة في إرباك أو إضعاف عزيمة الكثير من الواقعيين، الذين يؤمنون بكل مبادئ الثورة حقا وصدقا، لكنهم يعرفون أن الأحلام تسكن أعلى قمم لا يصل لها إلا المخلصين، لا يرون الصعاب ولا ييأسون لأن أعينهم على الحلم وفقط.

نشرت في القاهرة في 3 نوفمبر 


Wednesday, November 4, 2015

ثورة الجميلات 1-2





ثورة الجميلات

الأزياء والأناقة كمدخل لفهم الذكورية العربية في الأدب (1-2)


إبراهيم فرغلي




لم يعد فضاء التواصل الاجتماعي العربي قادرا على ترك شاردة أو واردة، من السياسة والأوضاع الاجتماعية إلى الأدب والفن، وسواها من دون تعليق، أو غمز ولمز. فحينما بدأت تظاهرات لبنان الأخيرة تحت شعار "طلعت ريحتكم"، وبعيدا عن الموقف الشعبي المصري منها، بدا لافتا قيام بعض المغردين ومستخدمي صفحات الفيس بوك المصريين؛ كعادتهم، بتناول موضوع مظاهرات لبنان بطريقة ساخرة، عقب انتشار صور المتظاهرات اللبنانيات التي تناقلتها وسائل إعلام أو وسائل التواصل، واللائي يظهرن فيها بكامل أناقتهن، بأزياء عصرية شابة وملونة.

يبدو أن هذه الصورة، رغم أنها ليست استثناء تاما لو استدعينا للذاكرة صورة تظاهرات الشارع التونسي، بل وحتى بعض صور المتظاهرات المصريات في أول أيام الثورة المصرية، دفعت المصريين لبعض التعليقات التي افترضت سؤالا موضوعه: ماذا لو نزحت اللبنانيات من لبنان إلى مصر بسبب الوضع الأمني؟ وسرعان ما انتشرت، عبر تويتر وغيره، التعليقات المرحبة بهن والساخرة.

أغضبت هذه التعليقات السيدات في لبنان، ومعهن الحق كله.وأثيرت على هامش المناوشات انتقادات للشارع المصري بالذكورية الفجة، وقامت بعض الناشطات اللبنانيات، وبينهن عصمت فاعور وتمارا اسماعيل؛ بتذكير المصريين بوقائع التحرش التي جرت في ميادين الثورة والحرية في القاهرة، تأكيدا منهما على أن الثورة اللبنانية تجري على أرض يمكن فيها لسيداتها وفتياتها أن يمشين فيها بكامل حرياتهن، من دون أن يخشين متحرش أو مغتصب، وهو ما يحسب أيضا للرجل اللبناني وللثقافة السائدة في المجتمع اللبناني إجمالا.

بشكل شخصي تبدو لي هذه الظاهرة استطراد للتمدد السلبي لظواهر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي اليوم في مصر، في كل شاردة وواردة حول الشأن المحلي، أو حول بعض الشؤون الخارجية، بتوسل الطرفة والاستخفاف؛ باعتبارهما شكلين من أشكال معارضة السلطة القائمة، أو نقد الممارسات الحكومية، امتدت لتناول ظواهر عدة في المجتمع المصري.

أذكر وقد كتبت هذا، على صفحات النهار،أنني أدركت منذ تعرضت علياء المهدي، الشابة المصرية التي اختارت أن تعبر عن فكرتها عن الثورة بتعرية جسدها ونشر صورها على الإنترنت، منذ تعرضت للطرد من الميدان على يد الثوار في مصر خلال فترة الحراك السياسي، أن جانبا ذكوريا طاغيا لا يزال يهيمن على رؤية الأمور في المجتمع المصري.

كان رفض وجود علياء المهدي في ميدان الثورة السياسية، لمجرد أنها قامت بثورتها الخاصة باستخدام جسدها وتعريته على الإنترنت، كاشفا لأزمة عميقة في فهم مسألة الثورة، لأنني ممن يؤمنون أن الثورة الجنسية جزء مهم وأساسي من تحقيق فكرة أي ثورة. ورأيت، ولا يزال هذا تقديري، أن ما فعله الثوار في ذلك الموقف لا يقل ذكورية بأي حال من الموقف الذي اعترضوا عليه جميعا؛ والخاص بكشوف العذرية التي أجريت على بعض الناشطات في مارس 2011 من قبل المجلس العسكري.

لا شك أيضا أن تعليقات المصريين على "ثورة الجميلات" كما أسمت بعض وسائل الإعلام تظاهرات لبنان، كشفت مدى تغلغل الذكورية في

قطاع واسع من فئات المجتمع المصري، بل ولدى الكثير من المحسوبين على التيار 

الثوري.

ثمة جانب آخر، إضافة للذكورية، قد يضاف لتعليلأو محاولة فهم الظاهرة، يتمثل في أن بعض تلك التعليقات كانت، بوعي أو بلا وعي، تستهين بالمظاهرات الغاضبة في بيروت، بسبب حالة الإحباط العام التي انتابت الشارع الثوري المصري، عقب تحرك المسار السياسي في مسار جاء مخيبا لأحلام أغلب الثوار، من دون أن يتبين الكثير منهم مدى الأخطاء الكارثية التي ارتكبوها خلال فترة الحراك، ومدى افتقادهم الفاضح للقدرة على التخطيط أو إدارة العمل الثوري في الشارع، وعدم القدرة على اكتساب ظهير شعبي يبنون عليه كيانات ثورية حقيقية ومؤثرة، للسير قدما في طريق طويلة كان المفترض أن يدركوا مدى امتدادها وطولها لمواجهة الفساد وتأثير السلطة القديمة في المجتمع، ما أدى إلى أن يعكسوا هذا الإحباط في أشكال من النقد السلبي الذي اتخذ منهج السباب أو السخرية من المجتمع والسلطة على حد سواء، وها هو الآن يمتد لظاهرة ثورية جديدة في الشارع العربي، في بيروت. 


وبعيدا عن هذا البعد السياسي، فإن ما يمكن أن نلتفت إليه هنا، وعبر عديد الشواهد، أن المجتمع المصري، وربما فئات يمثلها قطاع واسع من المنطقة العربية بطبيعة الحال، يعاني إشكالية في الذهنية العامة تتعلق بتقبل جسد المرأة كفرد حر، وهو ما تجلى في مصر خصوصا،عبر وقائع متكررة ومتعددة ومتعاقبة ومأساوية، انتهكت فيها أعراض فتيات أو سيدات، بأشكال اتخذت طابعا هيستيريا ومريضا في غير مرة. في النهاية أدى إلى التزام الكثير من السيدات في مصر ارتداء أزياء تنحو للمحافظة والتقليدية تجنبا لسخافات الكثير من الممارسات الذكورية الشائنة.

لا شك لديّ أن الإعلام المصري المهتم باستضافةالنماذج الفضائحية من السياسيين والفنانين والشعبويين على حساب النماذج المضيئة من أصحاب القيمة والقيم، يتحمل جانبا كبيرا من مسؤولية شيوع مثل هذه المفاهيم المختلة، بالإضافة إلى غياب برامج الثقافة الحرة، التي يمكنها أن تناقش مفاهيم التحرر والمدنية، مقابل شيوع برامج تغييب العقل، وبرامج حوارية مستلهمة من "صراع الديوك "حول شؤون تافهة وسخيفة، وظهور رموز إعلاميين لا يليق بهم أصلا الظهور على الشاشات. كل هذا له دور كبير في هذا الانفلات الذي يتحرك في الشارع وعلى وسائط ووسائل التواصل الاجتماعي بالتوازي.

لكن، ماذا عن الأدب؟  كيف التفت الأدب العربي إلى هذه الظواهر في النصوص العربية؟  وهل ثمة علاقة بين الانفلات الأخلاقي في الشارع بالانفلات الفكري على شاشات الكمبيوتر وبين الطابع العام للأزياء وأناقة المجتمع. ثم كيف رصد الأدب العربي مثل هذه التفاصيل مثلا؟ وهل انتبهت الكاتبات العربيات لمثل هذه التفاصيل في كتابتهن؟ كيف يمكن قراءة أناقة ومظهر الكاتبات العربيات وما تعبر عنه أناقتهن الشخصية؛ عن أفكارهن ودورهن الاجتماعي وعلاقتهن الخاصة بالسلطة الاجتماعية في المجتمع، وبفكرتهن العامة عن الجسد؟

قبل الإجابة أود بداية الابتعاد قليلا، لتأمل فيلم "الساعات" المأخوذ عن رواية الكاتب 

مايكل كاننجهام، من إخراج ستيفان دالدري.



 استغرقت في تأمل فيرجينيا وولف كما جسدت دورها الممثلة البارعة نيكول كدمان.

 وجدت نفسي مأخوذا بتلك المشاهد التي أظهرت وولف وهي تصارع الأفكار وتحتشد من أجل الكتابة. التوتر الرهيب وتلك النظرة الشاردة عن الواقع، لانشغال عين الخيال بتتبع الأفكار واللقطات التي يولدها الخيال في أثناء التفكير في كتابة "السيدة دالواي".

كانت وولف ترتدي، في أثناء الكتابة، رداء طويلا أشبه بفستان بيتي ذي كمين، يتزركش نسيجه القطني بزهيرات صغيرة متعانقة ومتجاورة ومتماثلة، زيا بيتيا مريحا لكاتبة تعيش في الريف الانجليزي. يكفي امرأة- كاتبة؛ تعاني من الاكتئاب واعتلال المزاج والإحساس القاتل بلا جدوى الحياة التي تعيشها.


أما جوليان مور في أدائها لدور(لورا براون)، وهي أمريكية لديها طفل وحامل في 
الطفل الثاني، تعاني من متاعب نفسية وأعراض اكتئابية وعصابية،لإحساسها بعدم السعادة في زواجها، تدفعها في التفكير في الانتحار، بينما تتمزق بين الرغبة في الموت وخوفها على ابنها ومصيره. لكنها رغم عصابيتها واكتئابها فإن لونا من الأناقة يميز الأزياء متنوعة الألوان التي ترتديها عادة، التي تجسد العصر الذي تعيشه في كاليفورنيا في الخمسينات. بينما كلاريسا فوغان (ميريل ستريب)، وهي أمريكية في الخمسينات من عمرها، تعيش في نيويورك، في بداية الألفية، وتحاول عمل حفلة لريتشارد، صديق عمرها الشاعر المصاب بالإيدز، فغالبا ما تظهر متدثرة بمعطفها أو ومتوشحة بالصوف، وإذا خلعت معطفها، نجدها ترتدي كنزة صوفية خفيفة بلون السماء، بسيطة التصميم، يظهر تحتها بلوزة قطنية عالية الرقبة، أما ساقيها فتختفيان في بنطلون جينز واسع مناسب لعمرها.

في فيلم آيريس، من إخراج ريتشارد إيار، المأخوذ عن السيرة التي كتبها جون بايلي حول سيرة الكاتبة البريطانية آيريس ميردوخ، ينقسم الفيلم إلى فترتين أساسيتين في حياة ميردوخ؛ الأولى مرحلة الشباب وجسدتها كيت وينسلت، بينما جسدت جودي لينش مرحلة الشيخوخة.

يعرض الفيلم الأزياء التي كانت تحرص على ارتدائها في مرحلة شبابها، وبها لمسة من العصرية، والتحرر؛ مثل جاكيت أحمر صارخ على بلوزة بيضاء وبنطلون جينز، أو فستانا أحمر عصريا في حفل راقص، وهو ما يتلاءم مع حياتها كشابة، مقبلة على المرح والمغامرة والحب والعلاقات الحسية الطبيعية والمثلية. لكنها في مرحلة لاحقة؛ أعقبت تحققها ككاتبة، بدت حريصة على ارتداء أزياء أنيقة لكن بألوان لا تلفت الانتباه. في رصدي للمقابلات التلفزيونية التي أجريت معها، وهذه مقابلات لا علاقة لها بالفيلم، غالبا ما كانت ترتدي معطفا خفيفا أسود اللون يخبئ قميصا أزرق مشجر أو أيا ما كان لون القميص فهي تفضل أن تتخفى باللون الأسود. اللون الذي يمنح الإحساس برغبة الكاتب في التخفي عن المظاهر لصالح إبراز شخصيته وأفكاره. 

تعرضت لهذين الفيلمين في معرض الاهتمام بتتبع أزياء الكاتبات في العصور المختلفة، بحثا عن إجابات الأسئلة التي طرحتها قبل قليل عن الأزياء في الكتابة ومدلولها في علاقتها بالجسد والحرية والسلطة، إضافة لما قد تعكسه هذه الأزياء من انتماء طبقي، أوما تشير إليه من دلالات حول كون الكاتبة متمردة أم تقليدية فيما يخص ما ترتديه، ثم انعكاس ذلك على كتابتها، على الشخصيات التي تتناولها في أعمالها.

مع ذلك، فهذان المثالان المستلهمان من الغرب والسينما الغربية فقط لتوضيح فكرتي، وليس لبحث امتداد هذه الظاهرة هناك، ولهذا سأنتقل من هنا مباشرة إلى الجانب العربي، عبر رصد بعض صور الكاتبات العربيات وما تعكسه الأزياء التي يبدون فيها في صورهن المختلفة، في وسائل الإعلام أو على الوسائط الاجتماعية، ثم الكيفية التي تناولت بها الكاتبات العربيات موضوع الجسد ومدى التركيز أو العناية والانتباه لتفصيلات الأزياء التي ترتديها شخصيات الكتابة، كجزء من موضوع الأسئلة المطروحة، وهو موضوع الحلقة المقبلة من هذا الموضوع.


 نشرت في النهار (بيروت) في أكتوبر 2015



ثورة الجميلات 2- 2


ثورة الجميلات

الأزياء والأناقة كمدخل لفهم الذكورية العربية في الأدب (2-2)



إبراهيم فرغلي




أذكر حين التقيت الكاتبتين الصديقتين منصورة عز الدين وزهرة يسري في فرانكفورت في العام 2004 وكانتا قد انتهيتا من جولة قراءات في عدة مدن ألمانية ذكرتا لي أن السؤال الشائع بين جمهور القراء هو لماذا لا ترتدين الحجاب كما هو شائع في بلادكما؟
سؤال مدهش لكاتبة، أي كاتبة، كان من الممكن أو المفترض أن توجه لها أسئلة عديدة عن الأدب وقضاياه وتقنياته وموضوعاته، وبقدر ما يعبر عن الكلاشيه الذي يخندق فيه الغرب الشخصية العربية، لكنه يعكس علاقة ما مفترضة ما بين مظهر الكاتب وبيئته.

في المشهد الافتتاحي للفيلم التسجيلي "اربع نساء من مصر"، إخراج تهاني راشد، نرى السيدات الأربع؛ وداد متري، شاهندة مقلد، صافيناز كاظم، وأمينة رشيد، وهن يسرن متجاورات. ارتدت صافيناز كاظم ثوبا أسود واسعا ووضعت حجابا لفت به شعرها ووجهها، بينما ارتدت متري جيب سوداء طويلة وجاكيت واسع بنفس اللون، أما مقلد فاختارت كنزة صوفية حمراء أسفل "تايير" أسود، وارتدت أمينة رشيد فستانا بلون البنفسج. أربع سيدات لا يمكن من هذه الأزياء أن تميز الطبقات التي ينتمين لها أو لكونهن ينتمين للنخبة الفكرية، ولا يمكن سوى التأكد من كون صافيناز امرأة مصرية مسلمة، بالحجاب الذي تغطي بها شعرها، كما شاع منذ الثمانينات في مصر.

سنرى في الفيلم،عبر لقطات توثيقية أرشيفية للسيدات في مراحل مختلفة من حياتهن، كيف تغيرت صورة المظهر العام لكل منهن، من صورة الفتاة الشابة التقليدية في الخمسينات، المتحررة، الأنيقة أناقة عصرية بسيطة، بلا حجاب غالبا، وعادة ما كان من الممكن أن ترتدي بلوزة نصف كم أو بدون كم مثلا كما ساد في الستينيات، إلى المظهر التقليدي العام الذي تحولن إليه في مرحلة متقدمة من أعمارهن، وسنرى أيضا أن بعض الاختلافات في البيئات الثقافية التي تنتمي كل منهن اليها قد تؤثر في المظهر العام الذي ارتضته كل منهن لنفسها.

على سبيل المثال، وكما نفهم من الفيلم تنتمي صافيناز كاظم للطبقة الوسطى التي نشأت في حي العباسية، ذكرياتها أغلبها في شارع الجيش، درست الصحافة ثم انتقلت لأمريكا لمدة ست سنوات بين 1960 وحتى 1966، وعاشت هناك وهي متأثرة بالنموذج الغربي للمرأة في الستينات، ثم انتقلت لاحقا للتفكير في الكيفية التي تستعيد بها نموذج المرأة الذي يمثل الثقافة التي تنتمي إليها، ووجدته في الفكر الإسلامي، وتحجبت، من دون أن تتأثر بذلك شخصيتها المتمردة وبفرديتها، رغم بعض التناقضات التي تفرضها الفكرة الدينية عموما. تبدو صافيناز كاظم في مظهرها مثل أي امرأة مصرية في هذا العمر، محجبة ومحتشمة ولا تهتم في مظهرها إلا بما قد يخفي ترهل الجسد في ثقافة لا تميل عادة للالتزام بالأغذية الصحية والرشاقة. بينما سنرى أن أمينة رشيد التي تنتمي في الأساس لطبقة أرستقراطية مصرية لا تتحدث العربية في المنزل، وتتماهى مصالحها مع مصالح كبار الملاك، تحافظ في زيها على لمسة من الأناقة الحديثة المحتشمة مع الميل لألوان زاهية في حياتها كلها.




تأملت أيضا صورة فوتوغرافية جمعت الكاتب المصري الراحل توفيق الحكيم منتصف السبعينات مع مجموعة من نجمات الصحافة المصرية الشباب آنذاك وهن ماجدة الجندي وكريمة كمال ومنى سراج، وقد ارتدين بلوزات بسيطة وأنيقة بنصف كم، على جيبات قصيرة, وهو ما يعطينا فكرة عن الزي الشائع لدى صحافية مصرية من الطبقة الوسطى من جيل المثقفات في السبعينات. تعكس أزياؤهن لمسة الأناقة التي تعبر عن الزي الشائع لدى الطبقة الوسطى آنذاك، من دون أن تتعارض مع الطابع العملي لصحافيات يتحركن بين مصادر مختلفة لموضوعات ينشغلن بالكتابة عنها.

ومع ذلك فما يمكن أن نلاحظه اليوم بعد أن سادت ثقافة الجينز أن المظهر العام للكاتبات في مصر مثلا متقارب، مع اختلاف أساسي ربما يعود لبدء شيوع خلخلة نسبية لأفكار نسوية كانت تشدد على إهمال المرأة لمظهرها لتأكيد مساواتها بالرجل. اختلف هذا الأمر لاحقا، لكن في الوقت نفسه يمكن أن نرى اختلافات نوعية بين كاتبات يعشن في الغرب مثلا، ويبدون أكثر تحررا في اختيار أزيائهن، أو بين كاتبات من لبنان أيضا تأخذ أناقتهن أولوية أولى مهما كانت درجة بساطة أو بذخ ما يرتدين حسب المناسبة. 

وأظن أن الجيل الأكثر حداثة اليوم يميل للتمرد نوعيا في طبيعة ما يرتدي إما بالتأكيد على لمسة الأنوثة في أزيائهن مع إظهار الولع بالاكسسوارات، وربما أيضا الاهتمام حتى بتزيين الجسد بالتاتو أو النقوش المرسومة، أو بالاهتمام على ملابس رياضية كاجوال مريحة خصوصا لمن يقضن أوقاتا طويلة في الشارع.

وإذا كانت الأزياء، تاريخيا على الأقل، وسيلة من وسائل رصد سمات الشخصيات وخلفياتها الثقافية والبيئية، وطبيعة الثقافة التي تسيطر على المجتمعات التي تعيش فيها، فكيف عبرت الكاتبات العربيات عن ذلك في نصوصهن؟ هل تلعب الأزياء في شخصيات الروايات دورا في هذا الصدد؟ هل يمكن أن نفهم من خلال تتبع أزياء الشخصيات الروائية طبيعة ثقافة الشخصية وعلاقتها بجسدها، رجلا أو سيدة، أو سمات عامة.

اخترت بشكل عشوائي عشر روايات لعشر كاتبات عربيات ومن أجيال مختلفة لتتبع الكيفية التي تناولت بها كل منهن أزياء شخصيات رواياتها. وهذه الروايات هي كالتالي؛ وراء الفردوس لمنصورة عز الدين، خيانة القاهرة لشيرين أبو النجا، أكابيلا لمي التلمساني، ملكوت هذه الأرض لهدى بركات، أنا وهي والأخريات لجنى الحسن، مسك الغزال لحنان الشيخ، منازل الوحشة لدنى غالي، طوق الحمام لرجاء عالم، سعار لبثينة العيسى، لمار لابتسام تريسي.

والحقيقة أنني اندهشت لأنني تبينت أن غالبية هذه الأعمال لا تذكر فيها أزياء الأبطال تقريبا إلا عابرا وبلا تفاصيل، كأن ترتدي امرأة عارية ثيابها مثلا أو تخلعها! أو أن توصف ملابس شخصية بالقذارة وفقط.

 ومع تراوح حتى مستوى بعض النصوص تقنيا فإن بعضها تجمعه هذه الخصيصة، وعلى سبيل المثال فإن رواية خيانة القاهرة لشيرين أبو النجا تخلو تماما ليس فقط من وصف الأزياء أو ذكرها، رغم أن واحدة من الشخصيات كما نفهم مولعة بعروض الأزياء، لا بل يخلو العمل تقريبا من وصف الأماكن، رغم أن العمل يتحرك بين مدينتين مختلفتين تماما هما القاهرة وبرلين، أو حتى الشخصيات. ونفس الشيئ ينطبق على رواية أكابيلا لمي التلمساني رغم أن العمل يتناول قصة علاقة صديقتين، أو بالأحرى رؤية الراوية لشخصية صديقة علاقتها بها مركبة ومعقدة. العمل منصب فقط على مونولوج البطلة ومشاعرها.

كذلك الأمر في رواية أنا وهي والأخريات لجنى الحسن، فالنص يخلو من الاعتناء بهذا الوصف رغم أن الأحداث في مجتمع يعرف باهتمامه الشديد بالمظهر والأناقة والجمال، ويمكن قراءة العمل أحيانا وكأن أبطاله عراة لا علاقة لهم بالملابس، لكن البطلة المهمومة بقصتها المأساوية مع زوجها تبدو شاردة عن كل شئ سوى الألم الباطني العميق.

 وحتى رواية ملكوت هذه الأرض لهدى بركات تكاد تخلو حرفيا من أي إشارة إلى الأزياء التي يرتديها الأبطال، أو وصف رتوش لها تكمل بها شخصياتها بما فيها بعض المشاهد التي تدور في كنائس بوجود رجال دين وخلافه لا توصف مظاهرهم. كذلك تأتي رواية سعار لبثينة العيسى، فيما تحكي البطلة قصة حبها بمونولوج يعكس طبيعة الشخصية البطلة سعاد، التي تقاتل لأجل أن تجيب عن أسئلتها عن الحب في مجتمع له طبيعة خاصة. النبرة الحماسية أو الوحشية تنبه القارئ وتشده، وفيما يبدو هنا أن الجسد جزء أساسي من قضية امرأة تحب وتفرض وجودها وكاريزميتها لكن هذا الجسد لم يوصف جيدا ولا استخدمت الأزياء أيضا فيه كدلالة إضافية على ما قد يعنيه، إشارة باهتة إلى تي شيرت أزرق باهت ترتديه وهي تلعب الكرة، ومرات تقول أنها تود أن تفتح أزرار قميصها لأنها تشعر بالاختناق.

 بينما تحكي رواية لمار لابتسام تريسي قصة القهر والمعتقلات في السجون السورية لا يبدو الزي هنا مهما لها، فالجسد حين يتعرض للتعذيب يعرى من ملابسه، الجسد مقهور ولا تلتفت له الكاتبة أو الراوية بالأحرى إلا لبيان أثر العذاب والقهر.

الروايات الأربع الباقية كلها تتضمن اهتماما أكبر بالإشاترة لأزياء الشخصيات، ليس بالتفصيل، ولا بالدقة التي يمكن أن نراها في الأعمال الكلاسيكية الأوربية، لكن بما يفيد التأثير في النص، وفي تأكيد علاقة الجسد الأنثوي بحريته، ربما يأتي هذا الاستخدام بشكل أكثر فنية في روايتي المسك لحنان الشيخ وطوق الحمام لرجاء عالم، في الأولى تصف الراوية المجتمع الصحراوي المغلق الذي تعيش فيه وتتورط في علاقة مثلية وهي تتحرك بالسرد بين وصف المشاعر الداخلية والوصف الخارجي بدقة وتوازن. كذلك تفعل رجاء عالم في نصها الذي تقدم فيها أوصافا دقيقة ومقاربات زمنية لحقب وشخصيات.

أخيرا بقي نصين الاول وراء الفردوس وفيه تظهر ملامح أنوثة الشخصيتين الرئيستين المتنافستين عبر تفاصيل تظهر لتؤكد مواضع الاختلاف أو ترمز بها لبعض التراتبيات أو الاختلافات الطبقية، أما في نص منازل الوحشة يدور النص أو أغلبه داخل جدران منزل بالتالي يتركز مونولوج الراوية على مشاعرها ومشاعر ابنها المريض بالاكتئاب، مع ذلك فقد تصف عابرا أزياء ابنها أو أمها حين تأتي لزيارتهم أو ما ترتديه البنت أسيل التي أحضرتها الجدة لتعالج الابن أملا  أن يغرم بها.  

السؤال إذن هنا كيف يمكن إهمال تفاصيل الجسد على هذا النحو من قبل الأدب؟ هذا النفي للجسد قد يكون مقصودا أي مؤكدا على أن المجتمع ينفي الفرد ويقهره فيصبح لا وجود له، أو ألا يكون مقصودا، وفي تقديري هنا يكون تقصيرا كبيرا فيما تقتضيه الرواية من إثارة للحواس، وإذا كان السرد الروائي بناء معرفي يقتضي لفهمه استخدام الحواس فإن إغفال الجانب البصري يعد نقيصة مهما كانت المبررات ترجح أن النص يهتم بالدواخل والأفكار الباطنية والمشاعر الخاصة للأبطال.

أظن أن تاريخ السرد الكلاسيكي منح لحاسة البصر أولوية كبيرة ليس إسهاما في أن يرى القارئ ما يود المؤلف أن يريه إياه، بل لأن الرتوش العامة للمظهر ترتبط وتفسر الكثير من سمات الشخصية. المظهر يكمل الصورة التي يود الكاتب أن يرسمها عن شخصية ما، وأفكارها ورؤاها عن الحياة مقارنة بمسلكها في حياتها العامة أو الخاصة.

الشاهد أن تجاهل الرواية العربية لتفاصيل الملابس هو جزء من عدم تقدير المجتمع كاملا للجسد، مشاركة ضمنية من الكاتب، بدون وعي غالبا في احتقار المجتمع العربي للجسد. الجسد الذي يمثل اليوم أزمة كبيرة في مجتمعات تحتقره بالتحرش وبالقهر وبالتعذيب ويبدو مع الأسف أيضا أنه يحتقر من قبل الأدب الذي يدعي أحيانا أنه ينتصر للفرد وحريته وكرامته.


نشرت في أكتوبر 2015 في جريدة النهار- بيروت