Wednesday, November 4, 2015

ثورة الجميلات 2- 2


ثورة الجميلات

الأزياء والأناقة كمدخل لفهم الذكورية العربية في الأدب (2-2)



إبراهيم فرغلي




أذكر حين التقيت الكاتبتين الصديقتين منصورة عز الدين وزهرة يسري في فرانكفورت في العام 2004 وكانتا قد انتهيتا من جولة قراءات في عدة مدن ألمانية ذكرتا لي أن السؤال الشائع بين جمهور القراء هو لماذا لا ترتدين الحجاب كما هو شائع في بلادكما؟
سؤال مدهش لكاتبة، أي كاتبة، كان من الممكن أو المفترض أن توجه لها أسئلة عديدة عن الأدب وقضاياه وتقنياته وموضوعاته، وبقدر ما يعبر عن الكلاشيه الذي يخندق فيه الغرب الشخصية العربية، لكنه يعكس علاقة ما مفترضة ما بين مظهر الكاتب وبيئته.

في المشهد الافتتاحي للفيلم التسجيلي "اربع نساء من مصر"، إخراج تهاني راشد، نرى السيدات الأربع؛ وداد متري، شاهندة مقلد، صافيناز كاظم، وأمينة رشيد، وهن يسرن متجاورات. ارتدت صافيناز كاظم ثوبا أسود واسعا ووضعت حجابا لفت به شعرها ووجهها، بينما ارتدت متري جيب سوداء طويلة وجاكيت واسع بنفس اللون، أما مقلد فاختارت كنزة صوفية حمراء أسفل "تايير" أسود، وارتدت أمينة رشيد فستانا بلون البنفسج. أربع سيدات لا يمكن من هذه الأزياء أن تميز الطبقات التي ينتمين لها أو لكونهن ينتمين للنخبة الفكرية، ولا يمكن سوى التأكد من كون صافيناز امرأة مصرية مسلمة، بالحجاب الذي تغطي بها شعرها، كما شاع منذ الثمانينات في مصر.

سنرى في الفيلم،عبر لقطات توثيقية أرشيفية للسيدات في مراحل مختلفة من حياتهن، كيف تغيرت صورة المظهر العام لكل منهن، من صورة الفتاة الشابة التقليدية في الخمسينات، المتحررة، الأنيقة أناقة عصرية بسيطة، بلا حجاب غالبا، وعادة ما كان من الممكن أن ترتدي بلوزة نصف كم أو بدون كم مثلا كما ساد في الستينيات، إلى المظهر التقليدي العام الذي تحولن إليه في مرحلة متقدمة من أعمارهن، وسنرى أيضا أن بعض الاختلافات في البيئات الثقافية التي تنتمي كل منهن اليها قد تؤثر في المظهر العام الذي ارتضته كل منهن لنفسها.

على سبيل المثال، وكما نفهم من الفيلم تنتمي صافيناز كاظم للطبقة الوسطى التي نشأت في حي العباسية، ذكرياتها أغلبها في شارع الجيش، درست الصحافة ثم انتقلت لأمريكا لمدة ست سنوات بين 1960 وحتى 1966، وعاشت هناك وهي متأثرة بالنموذج الغربي للمرأة في الستينات، ثم انتقلت لاحقا للتفكير في الكيفية التي تستعيد بها نموذج المرأة الذي يمثل الثقافة التي تنتمي إليها، ووجدته في الفكر الإسلامي، وتحجبت، من دون أن تتأثر بذلك شخصيتها المتمردة وبفرديتها، رغم بعض التناقضات التي تفرضها الفكرة الدينية عموما. تبدو صافيناز كاظم في مظهرها مثل أي امرأة مصرية في هذا العمر، محجبة ومحتشمة ولا تهتم في مظهرها إلا بما قد يخفي ترهل الجسد في ثقافة لا تميل عادة للالتزام بالأغذية الصحية والرشاقة. بينما سنرى أن أمينة رشيد التي تنتمي في الأساس لطبقة أرستقراطية مصرية لا تتحدث العربية في المنزل، وتتماهى مصالحها مع مصالح كبار الملاك، تحافظ في زيها على لمسة من الأناقة الحديثة المحتشمة مع الميل لألوان زاهية في حياتها كلها.




تأملت أيضا صورة فوتوغرافية جمعت الكاتب المصري الراحل توفيق الحكيم منتصف السبعينات مع مجموعة من نجمات الصحافة المصرية الشباب آنذاك وهن ماجدة الجندي وكريمة كمال ومنى سراج، وقد ارتدين بلوزات بسيطة وأنيقة بنصف كم، على جيبات قصيرة, وهو ما يعطينا فكرة عن الزي الشائع لدى صحافية مصرية من الطبقة الوسطى من جيل المثقفات في السبعينات. تعكس أزياؤهن لمسة الأناقة التي تعبر عن الزي الشائع لدى الطبقة الوسطى آنذاك، من دون أن تتعارض مع الطابع العملي لصحافيات يتحركن بين مصادر مختلفة لموضوعات ينشغلن بالكتابة عنها.

ومع ذلك فما يمكن أن نلاحظه اليوم بعد أن سادت ثقافة الجينز أن المظهر العام للكاتبات في مصر مثلا متقارب، مع اختلاف أساسي ربما يعود لبدء شيوع خلخلة نسبية لأفكار نسوية كانت تشدد على إهمال المرأة لمظهرها لتأكيد مساواتها بالرجل. اختلف هذا الأمر لاحقا، لكن في الوقت نفسه يمكن أن نرى اختلافات نوعية بين كاتبات يعشن في الغرب مثلا، ويبدون أكثر تحررا في اختيار أزيائهن، أو بين كاتبات من لبنان أيضا تأخذ أناقتهن أولوية أولى مهما كانت درجة بساطة أو بذخ ما يرتدين حسب المناسبة. 

وأظن أن الجيل الأكثر حداثة اليوم يميل للتمرد نوعيا في طبيعة ما يرتدي إما بالتأكيد على لمسة الأنوثة في أزيائهن مع إظهار الولع بالاكسسوارات، وربما أيضا الاهتمام حتى بتزيين الجسد بالتاتو أو النقوش المرسومة، أو بالاهتمام على ملابس رياضية كاجوال مريحة خصوصا لمن يقضن أوقاتا طويلة في الشارع.

وإذا كانت الأزياء، تاريخيا على الأقل، وسيلة من وسائل رصد سمات الشخصيات وخلفياتها الثقافية والبيئية، وطبيعة الثقافة التي تسيطر على المجتمعات التي تعيش فيها، فكيف عبرت الكاتبات العربيات عن ذلك في نصوصهن؟ هل تلعب الأزياء في شخصيات الروايات دورا في هذا الصدد؟ هل يمكن أن نفهم من خلال تتبع أزياء الشخصيات الروائية طبيعة ثقافة الشخصية وعلاقتها بجسدها، رجلا أو سيدة، أو سمات عامة.

اخترت بشكل عشوائي عشر روايات لعشر كاتبات عربيات ومن أجيال مختلفة لتتبع الكيفية التي تناولت بها كل منهن أزياء شخصيات رواياتها. وهذه الروايات هي كالتالي؛ وراء الفردوس لمنصورة عز الدين، خيانة القاهرة لشيرين أبو النجا، أكابيلا لمي التلمساني، ملكوت هذه الأرض لهدى بركات، أنا وهي والأخريات لجنى الحسن، مسك الغزال لحنان الشيخ، منازل الوحشة لدنى غالي، طوق الحمام لرجاء عالم، سعار لبثينة العيسى، لمار لابتسام تريسي.

والحقيقة أنني اندهشت لأنني تبينت أن غالبية هذه الأعمال لا تذكر فيها أزياء الأبطال تقريبا إلا عابرا وبلا تفاصيل، كأن ترتدي امرأة عارية ثيابها مثلا أو تخلعها! أو أن توصف ملابس شخصية بالقذارة وفقط.

 ومع تراوح حتى مستوى بعض النصوص تقنيا فإن بعضها تجمعه هذه الخصيصة، وعلى سبيل المثال فإن رواية خيانة القاهرة لشيرين أبو النجا تخلو تماما ليس فقط من وصف الأزياء أو ذكرها، رغم أن واحدة من الشخصيات كما نفهم مولعة بعروض الأزياء، لا بل يخلو العمل تقريبا من وصف الأماكن، رغم أن العمل يتحرك بين مدينتين مختلفتين تماما هما القاهرة وبرلين، أو حتى الشخصيات. ونفس الشيئ ينطبق على رواية أكابيلا لمي التلمساني رغم أن العمل يتناول قصة علاقة صديقتين، أو بالأحرى رؤية الراوية لشخصية صديقة علاقتها بها مركبة ومعقدة. العمل منصب فقط على مونولوج البطلة ومشاعرها.

كذلك الأمر في رواية أنا وهي والأخريات لجنى الحسن، فالنص يخلو من الاعتناء بهذا الوصف رغم أن الأحداث في مجتمع يعرف باهتمامه الشديد بالمظهر والأناقة والجمال، ويمكن قراءة العمل أحيانا وكأن أبطاله عراة لا علاقة لهم بالملابس، لكن البطلة المهمومة بقصتها المأساوية مع زوجها تبدو شاردة عن كل شئ سوى الألم الباطني العميق.

 وحتى رواية ملكوت هذه الأرض لهدى بركات تكاد تخلو حرفيا من أي إشارة إلى الأزياء التي يرتديها الأبطال، أو وصف رتوش لها تكمل بها شخصياتها بما فيها بعض المشاهد التي تدور في كنائس بوجود رجال دين وخلافه لا توصف مظاهرهم. كذلك تأتي رواية سعار لبثينة العيسى، فيما تحكي البطلة قصة حبها بمونولوج يعكس طبيعة الشخصية البطلة سعاد، التي تقاتل لأجل أن تجيب عن أسئلتها عن الحب في مجتمع له طبيعة خاصة. النبرة الحماسية أو الوحشية تنبه القارئ وتشده، وفيما يبدو هنا أن الجسد جزء أساسي من قضية امرأة تحب وتفرض وجودها وكاريزميتها لكن هذا الجسد لم يوصف جيدا ولا استخدمت الأزياء أيضا فيه كدلالة إضافية على ما قد يعنيه، إشارة باهتة إلى تي شيرت أزرق باهت ترتديه وهي تلعب الكرة، ومرات تقول أنها تود أن تفتح أزرار قميصها لأنها تشعر بالاختناق.

 بينما تحكي رواية لمار لابتسام تريسي قصة القهر والمعتقلات في السجون السورية لا يبدو الزي هنا مهما لها، فالجسد حين يتعرض للتعذيب يعرى من ملابسه، الجسد مقهور ولا تلتفت له الكاتبة أو الراوية بالأحرى إلا لبيان أثر العذاب والقهر.

الروايات الأربع الباقية كلها تتضمن اهتماما أكبر بالإشاترة لأزياء الشخصيات، ليس بالتفصيل، ولا بالدقة التي يمكن أن نراها في الأعمال الكلاسيكية الأوربية، لكن بما يفيد التأثير في النص، وفي تأكيد علاقة الجسد الأنثوي بحريته، ربما يأتي هذا الاستخدام بشكل أكثر فنية في روايتي المسك لحنان الشيخ وطوق الحمام لرجاء عالم، في الأولى تصف الراوية المجتمع الصحراوي المغلق الذي تعيش فيه وتتورط في علاقة مثلية وهي تتحرك بالسرد بين وصف المشاعر الداخلية والوصف الخارجي بدقة وتوازن. كذلك تفعل رجاء عالم في نصها الذي تقدم فيها أوصافا دقيقة ومقاربات زمنية لحقب وشخصيات.

أخيرا بقي نصين الاول وراء الفردوس وفيه تظهر ملامح أنوثة الشخصيتين الرئيستين المتنافستين عبر تفاصيل تظهر لتؤكد مواضع الاختلاف أو ترمز بها لبعض التراتبيات أو الاختلافات الطبقية، أما في نص منازل الوحشة يدور النص أو أغلبه داخل جدران منزل بالتالي يتركز مونولوج الراوية على مشاعرها ومشاعر ابنها المريض بالاكتئاب، مع ذلك فقد تصف عابرا أزياء ابنها أو أمها حين تأتي لزيارتهم أو ما ترتديه البنت أسيل التي أحضرتها الجدة لتعالج الابن أملا  أن يغرم بها.  

السؤال إذن هنا كيف يمكن إهمال تفاصيل الجسد على هذا النحو من قبل الأدب؟ هذا النفي للجسد قد يكون مقصودا أي مؤكدا على أن المجتمع ينفي الفرد ويقهره فيصبح لا وجود له، أو ألا يكون مقصودا، وفي تقديري هنا يكون تقصيرا كبيرا فيما تقتضيه الرواية من إثارة للحواس، وإذا كان السرد الروائي بناء معرفي يقتضي لفهمه استخدام الحواس فإن إغفال الجانب البصري يعد نقيصة مهما كانت المبررات ترجح أن النص يهتم بالدواخل والأفكار الباطنية والمشاعر الخاصة للأبطال.

أظن أن تاريخ السرد الكلاسيكي منح لحاسة البصر أولوية كبيرة ليس إسهاما في أن يرى القارئ ما يود المؤلف أن يريه إياه، بل لأن الرتوش العامة للمظهر ترتبط وتفسر الكثير من سمات الشخصية. المظهر يكمل الصورة التي يود الكاتب أن يرسمها عن شخصية ما، وأفكارها ورؤاها عن الحياة مقارنة بمسلكها في حياتها العامة أو الخاصة.

الشاهد أن تجاهل الرواية العربية لتفاصيل الملابس هو جزء من عدم تقدير المجتمع كاملا للجسد، مشاركة ضمنية من الكاتب، بدون وعي غالبا في احتقار المجتمع العربي للجسد. الجسد الذي يمثل اليوم أزمة كبيرة في مجتمعات تحتقره بالتحرش وبالقهر وبالتعذيب ويبدو مع الأسف أيضا أنه يحتقر من قبل الأدب الذي يدعي أحيانا أنه ينتصر للفرد وحريته وكرامته.


نشرت في أكتوبر 2015 في جريدة النهار- بيروت  

No comments:

Post a Comment