ثورة الجميلات
الأزياء والأناقة كمدخل لفهم الذكورية العربية
في الأدب (1-2)
إبراهيم فرغلي
لم يعد فضاء التواصل الاجتماعي العربي قادرا على ترك شاردة أو واردة، من السياسة والأوضاع الاجتماعية إلى الأدب والفن، وسواها من
دون تعليق، أو غمز ولمز. فحينما بدأت تظاهرات لبنان الأخيرة تحت شعار "طلعت
ريحتكم"، وبعيدا عن الموقف الشعبي المصري منها، بدا لافتا قيام بعض المغردين
ومستخدمي صفحات الفيس بوك المصريين؛ كعادتهم، بتناول موضوع مظاهرات لبنان بطريقة ساخرة،
عقب انتشار صور المتظاهرات اللبنانيات التي تناقلتها وسائل إعلام أو وسائل التواصل،
واللائي يظهرن فيها بكامل أناقتهن، بأزياء عصرية شابة وملونة.
يبدو أن هذه الصورة، رغم أنها ليست استثناء تاما
لو استدعينا للذاكرة صورة تظاهرات الشارع التونسي، بل وحتى بعض صور المتظاهرات
المصريات في أول أيام الثورة المصرية، دفعت المصريين لبعض التعليقات التي افترضت
سؤالا موضوعه: ماذا لو نزحت اللبنانيات من لبنان إلى مصر بسبب الوضع الأمني؟
وسرعان ما انتشرت، عبر تويتر وغيره، التعليقات المرحبة بهن والساخرة.
أغضبت هذه التعليقات السيدات في لبنان، ومعهن
الحق كله.وأثيرت على هامش المناوشات انتقادات للشارع المصري بالذكورية الفجة،
وقامت بعض الناشطات اللبنانيات، وبينهن عصمت فاعور وتمارا اسماعيل؛ بتذكير
المصريين بوقائع التحرش التي جرت في ميادين الثورة والحرية في القاهرة، تأكيدا
منهما على أن الثورة اللبنانية تجري على أرض يمكن فيها لسيداتها وفتياتها أن يمشين
فيها بكامل حرياتهن، من دون أن يخشين متحرش أو مغتصب، وهو ما يحسب أيضا للرجل
اللبناني وللثقافة السائدة في المجتمع اللبناني إجمالا.
بشكل شخصي تبدو لي هذه الظاهرة استطراد للتمدد السلبي
لظواهر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي اليوم في مصر، في كل شاردة وواردة حول الشأن
المحلي، أو حول بعض الشؤون الخارجية، بتوسل الطرفة والاستخفاف؛ باعتبارهما شكلين
من أشكال معارضة السلطة القائمة، أو نقد الممارسات الحكومية، امتدت لتناول ظواهر عدة
في المجتمع المصري.
أذكر وقد كتبت هذا، على صفحات النهار،أنني أدركت
منذ تعرضت علياء المهدي، الشابة المصرية التي اختارت أن تعبر عن فكرتها عن الثورة
بتعرية جسدها ونشر صورها على الإنترنت، منذ تعرضت للطرد من الميدان على يد الثوار في
مصر خلال فترة الحراك السياسي، أن جانبا ذكوريا طاغيا لا يزال يهيمن على رؤية الأمور
في المجتمع المصري.
كان رفض وجود علياء المهدي في ميدان الثورة
السياسية، لمجرد أنها قامت بثورتها الخاصة باستخدام جسدها وتعريته على الإنترنت، كاشفا
لأزمة عميقة في فهم مسألة الثورة، لأنني ممن يؤمنون أن الثورة الجنسية جزء مهم وأساسي
من تحقيق فكرة أي ثورة. ورأيت، ولا يزال هذا تقديري، أن ما فعله الثوار في ذلك الموقف
لا يقل ذكورية بأي حال من الموقف الذي اعترضوا عليه جميعا؛ والخاص بكشوف العذرية التي
أجريت على بعض الناشطات في مارس 2011 من قبل المجلس العسكري.
لا شك أيضا أن تعليقات المصريين على "ثورة
الجميلات" كما أسمت بعض وسائل الإعلام تظاهرات لبنان، كشفت مدى تغلغل الذكورية
في
قطاع واسع من فئات المجتمع المصري، بل ولدى الكثير من المحسوبين على التيار
الثوري.
ثمة جانب آخر، إضافة للذكورية، قد يضاف لتعليلأو محاولة فهم الظاهرة، يتمثل في أن بعض تلك التعليقات كانت، بوعي أو بلا وعي،
تستهين بالمظاهرات الغاضبة في بيروت، بسبب حالة الإحباط العام التي انتابت الشارع
الثوري المصري، عقب تحرك المسار السياسي في مسار جاء مخيبا لأحلام أغلب الثوار، من
دون أن يتبين الكثير منهم مدى الأخطاء الكارثية التي ارتكبوها خلال فترة الحراك، ومدى
افتقادهم الفاضح للقدرة على التخطيط أو إدارة العمل الثوري في الشارع، وعدم القدرة
على اكتساب ظهير شعبي يبنون عليه كيانات ثورية حقيقية ومؤثرة، للسير قدما في طريق
طويلة كان المفترض أن يدركوا مدى امتدادها وطولها لمواجهة الفساد وتأثير السلطة
القديمة في المجتمع، ما أدى إلى أن يعكسوا هذا الإحباط في أشكال من النقد السلبي
الذي اتخذ منهج السباب أو السخرية من المجتمع والسلطة على حد سواء، وها هو الآن يمتد
لظاهرة ثورية جديدة في الشارع العربي، في بيروت.
وبعيدا عن هذا البعد السياسي، فإن ما يمكن أن
نلتفت إليه هنا، وعبر عديد الشواهد، أن المجتمع المصري، وربما فئات يمثلها قطاع
واسع من المنطقة العربية بطبيعة الحال، يعاني إشكالية في الذهنية العامة تتعلق بتقبل
جسد المرأة كفرد حر، وهو ما تجلى في مصر خصوصا،عبر وقائع متكررة ومتعددة ومتعاقبة
ومأساوية، انتهكت فيها أعراض فتيات أو سيدات، بأشكال اتخذت طابعا هيستيريا ومريضا
في غير مرة. في النهاية أدى إلى التزام الكثير من السيدات في مصر ارتداء أزياء
تنحو للمحافظة والتقليدية تجنبا لسخافات الكثير من الممارسات الذكورية الشائنة.
لا شك لديّ أن الإعلام المصري المهتم باستضافةالنماذج
الفضائحية من السياسيين والفنانين والشعبويين على حساب النماذج المضيئة من أصحاب القيمة
والقيم، يتحمل جانبا كبيرا من مسؤولية شيوع مثل هذه المفاهيم المختلة، بالإضافة إلى
غياب برامج الثقافة الحرة، التي يمكنها أن تناقش مفاهيم التحرر والمدنية، مقابل شيوع
برامج تغييب العقل، وبرامج حوارية مستلهمة من "صراع الديوك "حول شؤون تافهة
وسخيفة، وظهور رموز إعلاميين لا يليق بهم أصلا الظهور على الشاشات. كل هذا له دور كبير
في هذا الانفلات الذي يتحرك في الشارع وعلى وسائط ووسائل التواصل الاجتماعي
بالتوازي.
لكن، ماذا عن الأدب؟ كيف التفت الأدب العربي إلى هذه الظواهر في
النصوص العربية؟ وهل ثمة علاقة بين الانفلات
الأخلاقي في الشارع بالانفلات الفكري على شاشات الكمبيوتر وبين الطابع العام للأزياء
وأناقة المجتمع. ثم كيف رصد الأدب العربي مثل هذه التفاصيل مثلا؟ وهل انتبهت
الكاتبات العربيات لمثل هذه التفاصيل في كتابتهن؟ كيف يمكن قراءة أناقة ومظهر
الكاتبات العربيات وما تعبر عنه أناقتهن الشخصية؛ عن أفكارهن ودورهن الاجتماعي
وعلاقتهن الخاصة بالسلطة الاجتماعية في المجتمع، وبفكرتهن العامة عن الجسد؟
قبل الإجابة أود بداية الابتعاد قليلا، لتأمل
فيلم "الساعات" المأخوذ عن رواية الكاتب
استغرقت في تأمل فيرجينيا وولف كما جسدت دورها الممثلة البارعة
نيكول كدمان.
وجدت نفسي مأخوذا بتلك المشاهد التي أظهرت وولف وهي تصارع الأفكار
وتحتشد من أجل الكتابة. التوتر الرهيب وتلك النظرة الشاردة عن الواقع، لانشغال عين
الخيال بتتبع الأفكار واللقطات التي يولدها الخيال في أثناء التفكير في كتابة
"السيدة دالواي".
كانت وولف ترتدي، في أثناء الكتابة، رداء طويلا أشبه بفستان بيتي
ذي كمين، يتزركش نسيجه القطني بزهيرات صغيرة متعانقة ومتجاورة ومتماثلة، زيا بيتيا
مريحا لكاتبة تعيش في الريف الانجليزي. يكفي امرأة- كاتبة؛ تعاني من الاكتئاب
واعتلال المزاج والإحساس القاتل بلا جدوى الحياة التي تعيشها.
أما جوليان مور في أدائها لدور(لورا براون)، وهي
أمريكية لديها طفل وحامل في
الطفل الثاني، تعاني من متاعب نفسية وأعراض اكتئابية
وعصابية،لإحساسها بعدم السعادة في زواجها، تدفعها في التفكير في الانتحار، بينما تتمزق
بين الرغبة في الموت وخوفها على ابنها ومصيره. لكنها رغم عصابيتها واكتئابها فإن
لونا من الأناقة يميز الأزياء متنوعة الألوان التي ترتديها عادة، التي تجسد العصر
الذي تعيشه في كاليفورنيا في الخمسينات. بينما كلاريسا فوغان (ميريل ستريب)، وهي
أمريكية في الخمسينات من عمرها، تعيش في نيويورك، في بداية الألفية، وتحاول عمل
حفلة لريتشارد، صديق عمرها الشاعر المصاب بالإيدز، فغالبا ما تظهر متدثرة بمعطفها
أو ومتوشحة بالصوف، وإذا خلعت معطفها، نجدها ترتدي كنزة صوفية خفيفة بلون السماء،
بسيطة التصميم، يظهر تحتها بلوزة قطنية عالية الرقبة، أما ساقيها فتختفيان في
بنطلون جينز واسع مناسب لعمرها.
في فيلم آيريس، من إخراج ريتشارد إيار، المأخوذ
عن السيرة التي كتبها جون بايلي حول سيرة الكاتبة البريطانية آيريس ميردوخ، ينقسم
الفيلم إلى فترتين أساسيتين في حياة ميردوخ؛ الأولى مرحلة الشباب وجسدتها كيت
وينسلت، بينما جسدت جودي لينش مرحلة الشيخوخة.
يعرض الفيلم الأزياء التي كانت تحرص على
ارتدائها في مرحلة شبابها، وبها لمسة من العصرية، والتحرر؛ مثل جاكيت أحمر صارخ
على بلوزة بيضاء وبنطلون جينز، أو فستانا أحمر عصريا في حفل راقص، وهو ما يتلاءم
مع حياتها كشابة، مقبلة على المرح والمغامرة والحب والعلاقات الحسية الطبيعية
والمثلية. لكنها في مرحلة لاحقة؛ أعقبت تحققها ككاتبة، بدت حريصة على ارتداء أزياء
أنيقة لكن بألوان لا تلفت الانتباه. في رصدي للمقابلات التلفزيونية التي أجريت
معها، وهذه مقابلات لا علاقة لها بالفيلم، غالبا ما كانت ترتدي معطفا خفيفا أسود اللون
يخبئ قميصا أزرق مشجر أو أيا ما كان لون القميص فهي تفضل أن تتخفى باللون الأسود. اللون
الذي يمنح الإحساس برغبة الكاتب في التخفي عن المظاهر لصالح إبراز شخصيته وأفكاره.
تعرضت لهذين الفيلمين في معرض الاهتمام بتتبع
أزياء الكاتبات في العصور المختلفة، بحثا عن إجابات الأسئلة التي طرحتها قبل قليل
عن الأزياء في الكتابة ومدلولها في علاقتها بالجسد والحرية والسلطة، إضافة لما قد
تعكسه هذه الأزياء من انتماء طبقي، أوما تشير إليه من دلالات حول كون الكاتبة
متمردة أم تقليدية فيما يخص ما ترتديه، ثم انعكاس ذلك على كتابتها، على الشخصيات
التي تتناولها في أعمالها.
مع ذلك، فهذان المثالان المستلهمان من الغرب
والسينما الغربية فقط لتوضيح فكرتي، وليس لبحث امتداد هذه الظاهرة هناك، ولهذا
سأنتقل من هنا مباشرة إلى الجانب العربي، عبر رصد بعض صور الكاتبات العربيات وما
تعكسه الأزياء التي يبدون فيها في صورهن المختلفة، في وسائل الإعلام أو على
الوسائط الاجتماعية، ثم الكيفية التي تناولت بها الكاتبات العربيات موضوع الجسد ومدى
التركيز أو العناية والانتباه لتفصيلات الأزياء التي ترتديها شخصيات الكتابة، كجزء
من موضوع الأسئلة المطروحة، وهو موضوع الحلقة المقبلة من هذا الموضوع.
نشرت في النهار (بيروت) في أكتوبر 2015
No comments:
Post a Comment