Wednesday, May 16, 2018

الرواية بين السياسي والجمالي



الرواية العربية الحديثة

بين المسؤولية السياسية والجمالية



إبراهيم فرغلي



اخترت لهذه المحاضرة هذا العنوان "الرواية العربية الحديثة بين المسئولية السياسية والجمالية"،  أولا لأن هذا السؤال بين الجمالي والسياسي، هو موضع تطور حركة الفن منذ عرف الإنسان الفنون، لكني أعتقد أن اهتمامي الأكبر يتعلق بكلمة "الحديثة في العنوان لأن الحداثة هي الموضوع الرئيسي للندوة .
السبب الذي فكرتمن أجله لهذه المحاضرة يعود لظواهر عديدة جديدة تتعلق بالرواية العربية المعاصرة، وأعتقد أنها أزمة في التلقي وفي الكتابة على حد سواء. فمنذ سنوات طويلة جدا كان المرء يتابع ما يجري في فن الرواية العالمي، أي في أوربا خصوصا الثقافات المركزية فيها، وفي أمريكا وأمريكا اللاتينية وأيضا في بعض الدول غير المركزية مثل تركيا وحتى في بعض دول آسيا الشرقية، ويرى أن هناك قفزات في الأساليب الروائية، وكانت أخبار  الجوائز التي يطالعها المرء تمنح في أغلب الأحيان لروايات عادة ما تمتلك أسلوبا روائيا جديدا ومختلفا، أو تقنيات جديدة في السرد، وأذكر على سبيل المثال أنه في العام 1996 قرأت ترجمة رواية "إله الأشياء الصغيرة" للكاتبة الهندية أرونداتي روي التي كانت حصلت على جائزة البوكر آنذاك، وأحسست بالنقلة الكبيرة في التقنيات التي بلغها النص السردي في أوربا، وتعرفت بعدها على أعمال كتاب حداثيين مثل بول أوستر، الذي أخذت نصوصه شكلا مختلفا عن السرد التقليدي. ثم إيتالو كالفينو، وطبعا جوزيف كونراد، وحتى حينما قرأت الرواية الحائزة على "آسيا مان بوكر" وعنوانها "إلوسترادو"Illustrado من سنوات للفلبيني ميجيل سوهوكو، وتعني نخبة الطبقة المثقفة في الفلبين، وكانت هذه الرواية هي عمله الأول، لكنها اتسمت بلغة قوية وتقنيات سردية غير تقليدية، كلها نصوص يمكن وصفها بأنها تأخذ الرواية على محمل الجد. وهذه الجدية فيما يبدو كانت سببا في تطوير وسائل السرد الروائي باستمرار.
لكن الملاحظ أن ما حدث في خارطة السرد العربي هو العكس تماما، فما حدث لدينا هو تقريبا عكس ما حدث في الغرب، لم تأخذ الرواية العربية في التطور، بل عادت إلى أساليب تقليدية تعتمد على الخط الزمني الواحد، والتصاعد في الأحداث، والاعتماد على التشويق والحبكة التقليدية، وتم تكريس هذه الروايات بشكل غير مسبوق، مرة بدعوى أن الروايات النخبوية أدت إلى عزوف الجمهور على القراءة، أو لدواعي أخرى كثيرة، وكأنه احتفاء بالردة الرواية ومحاولة لتجهيل محاولات مستمرة لتحديث الرواية العربية استمرت لأكثر من ثلاثة عقود على الأقل.

لهذا أود بداية إلقاء الضوء على تطور الرواية الحديثة في الغرب، ثم سأتناول، باختصار وتركيز بعض مظاهر حداثة الرواية العربية مع التركيز على مصر، لأني متابع للحركة الأدبية فيها أكثر من غيرها. ولأنها بالفعل بها الكثير من مراحل التطور.
طبعا الحداثة الغربية بدأت تقريبًا في الوقت الذي كانت الرواية في عالمنا العربي لا تزال تحبو. أي تقريبا بداية القرن العشرين.
أغلب المختصين بتأريخ الأدب والرواية خصوصا يقفون عند رواية دون كيشوت باعتبارها أول نص أدبي يأخذ شكل الرواية، وإن كان ينتمي أكثر إلى ما عرف آنذاك بروايات المغامرات والفروسية.
ثم على مدى القرن السابع عشر والثامن عشر ظهرت الرواية في عدد من دول أوربا وفي روسيا ولكنها لم تكن تعتبر فنا يمكن أن يجاور المسرح والشعر وباقي الفنون آنذاك، حتى جاء فلوبير في القرن التاسع عشر وأثبت أن الرواية فنا يمكن أن يتضمن تفاصيل دقيقة في المعرفة بالتحليل النفسي، وفي الأفكار الفلسفية، وبدأت النظرة تختلف تدريجيا نحو الرواية، لكن مع ذلك ظلت الروايات التقليدية هي المسيطرة على المشهد، حكايات تستلهم موضوعاتها من الواقع، وخصوصا الواقع البورجوازي الذي تنتمي إليه نشأة الرواية، مقسمة لبداية وذروة عقدة ثم نهاية سعيدة غالبا، وعرف بها الكتاب الرواد الكبار في فرنسا وانجلترا وأمريكا، يعني أمثال إميل زولا وبلزاك وألكسندر دوماس، وتشارلز ديكنز، وهنري جيمس وغيرهم من كتاب الرواية الكلاسيكيين الكبار.
لكن، اللافت أن الرواية اتسمت بطبيعتها بالحداثة، أولا لأنها ظهرت في فترة النهضة، وعقب ظهور الصناعة وما أسهمت فيه من بداية تحول الحياة من القيم الريفية لقيم المدينة، وما أدى إليه ذلك من تغيرات اجتماعية واقتصادية. وكانت الرواية مشغولة بهذه الحياة المعاصرة، وما أسفر عنها من قيم وعلاقات اجتماعية جديدة، وما استحدثته من نظم طبقية جديدة وأفكار مختلفة.
مؤرخو الأدب، وفقا للأكاديمي جيسي ماتز، اختلفوا حول بداية حداثة الرواية فالبعضيقرن الحداثة بالعام 1857، وتحديدا مع نشر رواية مدام بوفاري لفلوبير، بينما يرى البعض أن الحداثة ظهرت في بداية القرن العشرين في الفترة بين 1910 و1929 من خلال تجارب كل من فيرجينيا وولف وجيمس جويس، وفي كتابه تطور الرواية الحديثة يضيف الناقد جيسي ماتز روايتين يعتبرهما أيضًا من روافد تأسيس الحداثة الروائية وهما رواية أزرار رخوة  Tender Buttonsلجيرترود شتاين 1914 ورواية قصب لجين تومر.
وهناك أيضا من يعتبر أن بداية الحداثة تعود لتاريخ وفاة الملكة فيكتوريا 1901 التي دفنت معها التقاليد الفيكتورية الصارمة.
هذه النماذج الأربعة أحدثت نقلة في السرد الروائي لأنها كانت ترى أن الوصف الخارجي للأحداث والشخصيات لم تعد كافية لنقل حقيقة "الوعي البشري" الذي أصبح أكثر تركيبًا وتعقيدًا بسبب ظروف الحداثة التي كانت تمر بها المجتمعات الغربية آنذاك.
كانت كل رواية من هذه الروايات تحاول أن تنقل "الوعي" الباطني للشخصيات وانفعالاتها وأفكارها وفق ما تمر به من ظروف حياتية وخصوصا في التفاصيل اليومية العادية.
كانت النماذج المهمة في هذا المجال هي أعمال مثل مسز دالاوي لوولف، أو رواية مثل صورة الفنان في شبابه لجيمس جويس، ثم ذروة هذا التيار طبعا في روايته يوليسيس التي تعد واحدة من أصعب الأعمال الروائية حتى اليوم. وبالرغم من صعوبة هذه الأعمال لاهتمامها بنقل الوعي ومنطق العقل، لكن اهتمامها كانت منصبا أيضا على الواقع اليومي للشخصيات.

وشهدت طبعا فرنسا أيضا موجة شبيهة من تحديث الرواية بعد تجارب الكلاسيكيين الرواد، عرفت بالموجة الجديدة للرواية الفرنسية وكانت مهتمة بتطبيق الأفكار الفلسفية وعلم النفس والنظرية الوجودية للتعبير عن القلق الوجودي والتغيرات الفكرية التي أصابت المجتمع الغربي بسبب الحربين العالمية الأولى والثانية. وهو ما تجلى في أعمال البر كامو وآلان روب جرييه وسارتر وناتالي ساروت، وكلود سيمون، وقبلهما بروست وعدد آخر من الروائيين الفرنسيين الذين تمردوا على الرواية الفرنسية التقليدية التي كان بلزاك وإميل زولا من أبرز رموزها.
طبعا الأمثلة على الروايات التي أرادات أن تعمل على تحديث الرواية التقليدية عديدة، في أمريكا وانجلترا وفرنسا، وألمانيا.
لكن ما اتفقت حوله تجارب التجديد الروائي هذه هي فكرة الكيفية التي يمكن بها رؤية الواقع، أصبح هناك إحساس بأن الراوي العليم بكل شيء هو نفسه غير واقعي، لأن الواقع أصبح غير قابل للاستيعاب بشكل كامل. وبسبب التطورات العلمية واختراع وسائل نقل حديثة تغيرت الأفكار حول الزمن والمكان، أيضا وهو ما اقتضى أن تؤخذ مثل هذه الأمور في الاعتبار في زمن الرواية.
عندما صدرت «الصخب والعنف» عام 1929، تلقّفها الكتاب والنقاد معتبرين إياها أولى الروايات التجريبية المغامرة في الأدب الأميركي، وذلك من خلال رسمها الشخصيات وأفكارها المتشابكة المتحررة من كل عبودية لغوية.

الرواية تحكي أحداث انهيار أسرة تعيش في الجنوب الأميركي، وهو ما يمثل انهياراً لهذا الجنوب في قيمه وموروثاته عموماً. تُروى الأحداث في أربعة أيام، وتقوم كل شخصية برواية يوم من هذه الأيام، ولا تكتفي هذه الشخصيات بالحكي، بل تؤثر في أحداث هذا اليوم، وفي أحداث الأيام الثلاثة الأخرى سلباً وإيجاباً، وقد صاغ فوكنر روايته هذه بحيث تبدو الحكايات الأربع كحركة دائرية سيمفونية متكاملة الأركان. فمثلاً، في اليوم الأول «7 أبريل 1928»، توجد الحركة الأولى من خلال أحداث يرويها «بنجامين»، معتوه عائلة «كمبسن» المكونة - إضافة إلى الأب - من الزوجة كارولين وأربعة أبناء من ضمنهم «بنجامين» الذي كانت حياته تقوم على ثلاثة أشياء: الأول هو المرعى المملوك للأسرة، والذي بيع من أجل زواج الأخت «كانديس»، والثاني: حبه الجارف لهذه الأخت منكودة الحظ، والتي وقعت في الخطيئة وأنجبت طفلاً أسمته «كوينيكن»، ثم تزوجت من شاب يعيش في «أنديانا»، لكنها طلقت منه بعد أقل من عام واحد على الزواج، لتتزوج بعد ذلك من رجل يعمل في مجال السنيما في هوليوود، لكنها سرعان ما طلقت منه باتفاق بينهما في المكسيك ثم تختفي عن الأنظار بعد ذلك.
نتعرف في الرواية على هذه الوقائع بشكل مشوش، وتدريجي ومن وجهات نظر أفراد العائلةالأربعة، وفي النهاية لن يمكن للقارئ أن يكون صورة واضحة ونهائية لأن الموضوع قدم من وجهة نظر مختلفة.
كانت 
هذه التجارب الروائية تضع حدا فارقا بين الرواية التقليدية والرواية الحديثة يتمثل في اعتماد كل منهما على عنصر مختلف، فبينما اعتمدت الرواية التقليدية على الحكي والحكاية كعنصر رئيس للنص، فإن الرواية الحديثة اعتمدت على "الإظهار"،
"لقد هشمت الرواية الحديثة الحبكة وفككت النهايات ولونت السرد الروائي بلون الأنماط الحكائية الشائعة في التجارب الحياتية اليومية"، وغيرت مفهوم البطولة فلم يعد البطل كما كان في السابق يمتلك سمات مثالية وأقرب للكمال بل يمكن أن يكون شخصا عاديا ومشوش عقليا مثل كوينتن كومبسون في الصخب والعنف.
اصبحت الحياة الحديثة تتسم بالغموض والتعددية واللاتجانس وكان على الرواية أن تعبر عن ذلك، وأن تقوم تفكيك الحس البدهي للأشياء.
وكانت هذه النقلات في المفاهيم السردية غالبا ما تواجه بسؤال أساسي هو هل ينبغي للرواية أن تسعى نحو التجريب الجمالي وحده لدفع القيم الجمالية لأقصى حد ممكن أم ينبغي للرواية أن تسعى للغايات السياسية الخيّرة بعيدا عن الموضوع الجمالي؟
الإجابة على السؤال تمثلت في تجارب روائية كانت كل منها تطرح أسئلة منبثقة من الموضوع: الفن أم السياسة؟ الشكل أم المحتوى ؟ التجريب أم القبول بالمواضعات السائدة؟
كانت هناك إجابات متطرفة في كلا الجانبين، إما جمالية تماما، أو سياسية تماما، وكانت كلاهما تعاني إما من ابتعاد الأولى عن ذائقة الجمهور، وإحساس القراء أنها تبتعد عن دور الرواية في الدور الذي يجب أن تقوم به في فهم الواقع، أو الإحساس بالمباشرة في الحالة الثانية وتحول النصوص لنقل مباشر للواقع أو تسجيل له.
كان بين الإجابات محاولات رأت أن تتخذ موقفًا وسطيًا بين الفن والسياسة وهو ما انتهجه جورج أورويل في مزرعة الحيوان المنشورة عام ، 1945و1984 المنشورة 1949. كما كانت هناك محاولات لما أسمي بالواقعية الجديدة مثلها بين آخرين فيليب روث الذي كان يرى أن الرواية لا بد أن تقدم تمثيلا للواقع ولكن بأساليب جديدة.
لكن ما اتفق عليه الروائيون الحديثون أن الواقع يعتمد على طريقة رؤية المرء له. وأن نقله أو محاكاته كما يبدو ليس أكثر من نوع من التزييف. وأنه لا بد من بحث وسائل أخرى لبحث حقيقة هذا الواقع.
العالم الأمريكي الياباني الأصل ميشيو كاكو في كتابه مستقبل العقل، الصادرة ترجمته العربية عن سلسلة عالم المعرفة،  يسأل:
هل الحقيقة حقيقة فعلا؟
ويجيب قائلا: "يعرف كل منا التعبير الرؤية خير برهان SEEING IS BELEAVING مع ذلك فإن ما نراه هو في الحقيقة وهم. على سبيل المثال عندما نرى مشهدا طبيعيا يبدو منظرا سينمائيا ناعما. في الحقيقة هناك ثغرة في حقل رؤيتنا توجد عند موقع العصب البصري في الشبكية. من المفترض أن نرى هذه البقعة السوداء الضخمة أينما نظرنا لكن أدمغتنا تملأ تلك الثغرة بتغطيتها وتعديلها وهذا يعني أن جزء من رؤيتنا هو في الحقيقة زائف يولده عقلنا الباطن لخداعنا".
ويقول:
"نمتلك مجسات في شبكية العين يمكنها أن تكتشف اللون الأحمر والأخضر والأزرق فقط وهذا يعني أننا لا نرى الأصفر والبني والبرتقالي ومجموعة الألوان الأخرى حقا هذه الألوان موجودة لكن دماغنا يستطيع تقريب كل منها فقط بخلط كميات من الأحمر والأزرق والأخضر.
تخدعنا عيوننا أيضا إلى التفكير أن في استطاعتنا رؤية العمق وما نراه هو صور مقربة أو بعد ثالث بين صورتين تتكون كل منهما في شبكية إحدى العينين".
بالتالي، ومع أخذ هذه الحقائق العلمية في الاعتبار، فحين تقوم الرواية فقط بالمحاكاة ونقل ما يفترض أنه واقع فهي لا تقدم إلا وجهة نظر سطحية ومزيفة، وكان وعي الحداثة بهذه المشكلة هو السبب في البحث عن وسائل سرد جديدة، لا تكتفي بفكرة أن يكون السرد انعكاس صورة أو نقل لصورة في مرآه، بل بما يشبه استخدام الآشعة السينية.
أصبح وعي الحداثة يبتغي نقل ما وراء الواقع وليس محاكاة الواقع أو نقله كما يبدو.
والمهم هنا أن نفهم أن هذه النقلات في مفاهيم السرد الحديث لم تكن مجرد ترف أو تحيز لأفكار جمالية محضة، بل كانت استجابة تغيرات عميقة طالت المجتمعات الغربية، وكان أبرزها وأقساها هي الحرب العالمية ثم ما أدت إليه من إحساس عام بالهزيمة، وخصوصا هزيمة قيم الحداثة فلم تعد الحداثة عملية اطراد متقدم في الزمن وتقدم مستمر له نهايات سعيدة كما كان الأمر يبدو عليه، بل على العكس، فقد قادت الحداثة إلى واحدة من أكبر المذابح البشرية في التاريخ، راح ضحيتها ملايين، وشردت بسببها آلاف العائلات، وكان لا بد من إيجاد وسائل حديثة في السرد للتعبير عن المتغيرات الاجتماعية والقيم. وهو نفس ما أدى إلى إحساس الأمريكيين أيضا بسبب الحرب الأهلية في أمريكا.
وظهرت نزعات جديدة في الرواية مثل ما عرف بأعمال جيل البيت Beat من أمثال جاك كرواك، والأعمال السوريالية، ومسرح العبث، وكذلك وضع الجنس كوسيلة لفهم الشخصية الإنسانية ونوازعها وسلوكها، في محاولة لكسر تابوهات قيدت الكتاب كثيرا، وهو ما تجلى في أعمال هنري ميللر، مدار الجدي ومدار السرطان، أو في بعض أعمال نابكوف مثل لوليتا، وطبعا كانت هناك محاولات سبقت ذلك على يد د.ه لورانس في "عشيق الليدي تشاترلي" مثلا وسواها
.
ثم جاءت رواية ما بعد الحداثة

أولا لا بد من التمهيد بالقول أن "ما بعد الحداثة" هي موجة من موجات الحداثة، وليست انفصالا عن الحداثة، بل حلقة أو موجة جديدة من موجات التحديث، جاءت كاستجابة لمحاولات حل المعضلات التي أخفقت حقبة الحداثة في علاجها، وما يهمنا هنا الرواية، لذلك يمكن اقول أن المشكلات التي واجهت السرد الحديث حاولت ما بعد الحداثة علاجها من خلال طرح أساليب تجريبية تشكك في جدوى كل ما سبق، وقد كانت بعض هذه التجارب متطرفة ولم يستسغها الجمهور، لكنها أسهمت في علاج بعض مشكلات السرد الحداثي في النهاية.
يقول جيسي ماتز: "سترتقي الرواية ما بعد الحداثية فوق النزاعات الواقعية واللاوقعية وبين الشكلانية والنزعة المضمونية وبين الأدب الخالص والملتزم بقصد جمع المزايا الأكثر حيوية في روايات الماضي وتوظيفها في الفن الروائي الجديد".
وكانت الخصائص هي تفكيك نزعة التعود البدهي على الأشياء وتوظيف الوعي والتشظي المفرط، وهي أعمال لها أمثلة كثيرة بينها كتبات بورخس، وعدد من أعمال الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو، وأيضا اعتبرت أعمال ماركيز وأخوليو كورتاثر، إرهاصات لما بعد الحداثة، لأنها اعتمدت على الخيال والفانتازيا بديلا للواقعية، كما أدخلت سؤال الرواية نفسه في متن النص وظهرت تجارب الكتابة عن الكتابة في أعمال كثيرة لعل أبرزها كتابات بول أوستر، وميلان كونديرا، بحيث أصبح العمل السردي هو نفسه أيضا موضوعا للمساءلة مع موضوعات الشخصيات الروائية التي تتناولها الرواية.
ثم ظهرت في نفس الوقت أشكال أخرى لما بعد الحداثة تمثلت في موجات من أدب يعتمد على الخيال والفانتازيا مثل الواقعية السحرية، أو حتى وروايات ما يعرف بالديستوبيا وما يتفرع منها من أنواع سردية مثل أدب الرعب وغيره.

السرد العربي: حداثة أم ردة؟

هذا باختصار شديد أبرز التحولات التي مر بها السرد الغربي، وحين نتأمل السرد العربي فسوف نجد أنه في التوقيت الذي كان سؤال الحداثة يطرح نفسه بقوة كانت الرواية العربية بالكاد تتلمس طريقها في أساليب السرد التقليدية التي يمكن أن نجد مثلا بعض سماتها في روايات المرحلة الأولى لنجيب محفوظ والتي تمتد حتى منتصف الخمسينات تقريبا.
ومع ذلك فلم يكن محفوظ بعيدا عن التطورات التي كانت تجري في النص الغربي الحديث لأنه استخدم مثلا تيار الوعي على استحياء في رواية "السراب"، بالإضافة إلى الاستفادة من دراسات علم النفس، ومن تيار الوعي في المونولوجات الداخلية الطويلة، وهي ما ركزت عليه روايات تيار الوعي السابق الإشارة إليها، لدى فيرجينا وولف وجيمس جويس، بدأ استخدام محفوظ للمونولوج الداخلي منذ الثلاثية وفي اللص والكلاب وغيرها، ثم انتقل من مرحلة السارد العليم إلى السارد غير التقليدي أي تناول النص من أكثر من وجهة نظر كما فعل، في المرايا، وفي غيرها. ثم المنهج الرمزي في أولاد حارتنا والحرافيش، وصولا إلى الأشكال التجريدية في الأعمال الأخيرة له مثل أحلام فترة النقاهة. وأيضا أغلب أعماله بعد الستينات كانت تميل إلى نوع من الرمزية والتجريد الذي يستوعب تيارات الحداثة في السرد.
وكانت هناك تجارب أرادت أن تحدث الرواية في مصر منها تجربة "قنطرة الذي كفر" للدكتور مصطفى مشرفة الذي أراد كتابة نص كامل بالعامية المصرية، وتجارب أخرى أكثر نخبوية مثل تجربة العنقاء للويس عوض، وتجارب طه حسين، وأيضا تجارب مختلفة في النوع الأدبي نفسه لتوفيق الحكيم، الذي كان يحاول البحث عن أشكال سردية جديدة تمزج بين أكثر من نوع أدبي.
ثم ظهر جيل الستينات في الأدب في مصر عبر محاولات قوية في التجريب الروائي، وإيجاد أشكال جديدة للسرد تتلاءم أيضا مع المضامين الجديدة لجيل شهد أحلاما كبيرة في النهضة والتقدم، لكن كل هذه الأحلام العظيمة تحولت الأحلام إلى كابوس مع هزيمة 1967 ، واصبح كل ما آمن به هذا الجيل موضعا للشك، وغاب اليقين، وظهرت محاولات أدبية تجريبية تجلت في أعمال الغيطاني، الذي حاول الاستفادة من التراث العربي في صياغة النصوص المعاصرة، كما فعل في رواية رسالة في الصبابة والوجد، أو البحث عن الغرائبي في منطقة مصر القديمة والاحتفاء به في وقائع حارة الزعفراني، ويوميات شاب عاش ألف عام، واستخدام الرمز ايضا في التعبير عن القمع والديكتاتورية في الزيني بركات، وأيضا استخدام الرؤيا الصوفية في محاولات البحث عن إجابات أسئلة الفرد في مواجهة الواقع قبل وبعد 67 خصوصا في رواية التجليات، ثم جاءت محاولات صنع الله ابراهيم التي حاولت أن تقدم الحياة اليومية لأشخاص عادية في تغيير تام لصورة البطل المعتاد، وهو ما تجلى في تلك الرائحة، ثم في نجمة أغسطس والتي قدم فيها بناء سرديا حاول أن يكون مشابها لبناء السد العالي، وقدم محاولة في الرواية الكابوسية المستلهمة من كافكا في اللجنة، ثم اتجه للواقعية التوثيقية في ذات، واستمر في منهجه التجريبي.
 وبالرغم من بساطة اللغة التي استخدمها صنع الله، لكن ذلك كان مؤشرا على أن اللغة كانت موضوعا لسؤال التجديد في النص المعاصر، وقد قدم تقريبا في نفس الوقت الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي تجارب سردية تجريبية مدهشة اعتمدت على اللغة أيضًا عبر محاولة تحديث اللغة العربية القديمة بالإضافة إلى بعض سمات ما بعد الحداثة مثل اللعب، والسخرية، خصوصا في وقائع اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل،  وجاءت أعمال إدوار الخراط لتقدم اقتراحا آخر يهتم بالذات، ويركز على المشاعر الفردية وأسئلة الإنسان الوجودية مع محاولة خلق معجم لغوي خاص وجمالي. ربما عابه لاحقا تكراره لنفس الخبرة الجمالية بلا تطوير. ثم جاءت تجارب البساطي لتقديم بعض المحاولات التجريبية التي حاولت تلمس الواقعية السحرية كما في رواية صخب البحيرة، وغيرها.
لكن المهم ان الرواية العربية الحديثة وبينها تجارب تجريبية مثل بعض أعمال عبدالرحمن منيف، وأعمال اسماعيل فهد اسماعيل، ومن لبنان إلياس خوري، وربما بعض أعمال فؤاد التكرلي في العراق، وغيرهم بطبيعة الحال، كانت جميعا قد أنهت مرحلة "الحكي" منتقلة إلى مفاهيم الرواية الحديثة التي تتكيء على مفهوم "العرض"، وعلى تخليق لغة سردية خاصة ومختلفة، وهو ما استمر في أعمال أغلب هذه الأسماء، ومعها أيضا تجارب أخرى، لكن الواضح في كل هذه التجارب أن الهم السياسي كان مشتركا أساسيا بينها، فقد كان التركيز منصبا على موضوعات مثل القمع والعلاقة بين المثقف والسلطة أو الشعب والسلطة. ومع ذلك فقد نجت المحاولات التجريبية من المباشرة، من خلال اقتراح أساليب التجديد المختلفة.  
ثم اتخذت محاولات تحديث أشكالا أخرى في الأجيال الجديدة التي مثلها غالبا جيل التسعينات في مصر. وبدأ بمحاولات أغلبها قدم سردا ذاتيًّا يهتم بالأنا، والتجارب الحياتية اليومية، بعيدًا عن الشعارات السياسية أو الاجتماعية المباشرة، واختارت أن تحاول الإجابة عن الأسئلة من خلال إعادة تأمل الذات في الحياة اليومية العادية، وبدأت تُلقي الضوء على شخصيات تعارض الشكل التقليدي للبطل، ثم تطورت هذه التجارب لاحقًا وظهر منها عدد من الأعمال التي انحازت لتجارب ما بعد الحداثة والتي تمثلت في بعض أعمال كتاب هذا الجيل، من بينهم على سبيل المثال منصورة عز الدين، طارق إمام، ياسر عبدالحافظ، وغيرهم.
لكن ما يلاحظ اليوم أن هناك عودة غريبة لوسائل السرد التقليدية في العديد من الروايات الجديدة، في مصر وغيرها، بدأت في مصر مع عمارة يعقوبيان، لأنها عادت للرواية البلزاكية التقليدية.
وفي العالم العربي فرضت الحروب والأوضاع السياسية، خصوصا  في العراق وسوريا نفسها على الكتاب في هذين البلدين، وتم تناول عواقب الحرب في العراق أو الأحداث في سوريا بوسائل سردية تقليدية، في غالبيتها، تعود للحكي على حساب العرض، أي أنها في غالبيتها حكايات، تتضمن مضامين سياسية مباشرة أو غير مباشرة، مع استثناءات فرية هنا أو هناك بطبيعة الحال، في بعض أعمال فواز حداد، أو رواية مثل فرانكشتاين في بغداد، وحتى الأعمال العربية التي تصنف بأنها ديستوبيات، اتسمت بمفارقة غريبة وهي تجاهلها لموضوع التكنولوجيا والتقنيات أو عدم تناولها بجدية، رغم أنها في الأصل روايات مستقبلية، تندرج في أطار الخيال العلمي، ومثيلتها في الغرب تمارس بمعرفة كبيرة في العلوم، أو تكون التقنية التكنولجية أساسا لها، مهما أوغلت في التشاؤم أو تقديم واقع مستقبلي.
 والمدهش أن هناك حالة حفاوة بهذه السرديات التقليدية من قبل لجان تحكيم الجوائز، أو القراء، كأنما تتجاهل كامل تاريخ حداثة السرد الغربي والعربي على السواء، في حين أن الروايات التي تحوز جوائز في الغرب هي عادة ما تكون ذات شكل سردي وأساليب وتقنيات سردية جديدة، فالجدّة تظل هي معيار أي عمل سردي.
والسؤال الآن لماذا يغيب السؤال الذي انبثقت منه الأعمال التجريبية ولا تزال في الغرب؟ وكذلك على المستوى العربي؟
 طبعا بالتأكيد من بين أسباب هذه الحالة واستمراءها انزياح النقد من ساحة النقد لعدم وجود حركة نقد جادة ورصينة ومؤثرة، لصالح العروض الصحفية القائمة على المجاملات أكثر من تقديم جهد نقدي حقيقي، ولصالح سلطة النقد الحديثة التي أصبحت ساحاتها الآن تعليقات القراء في وسائط التواصل الاجتماعي وفي مواقع مثل الجود ريدز.
تقديري أن هذا كله يؤكد على موقف من الرواية، موقف يؤكد عدم اتخاذ الرواية بالجدية الواجبة، الجدية التي كانت سببا في إيجاد الروايات التي لا تزال قابلة للقراءة اليوم والتي تعد من الكلاسيكيات التي لا يهزمها الزمن.
الجدية التي جعلت مشروع كاتب مثل ماركيز يخرج من إطار الهامش، وتصبح من روايات المركز الأدبي العالمي وتحصل على نوبل، أو تجعل كاتبا مثل اورهان باموق موضعا لحفاوة أوربا قبل حصوله على نوبل بعدة سنوات حين استقبلت روايته إسمي أحمر بتقدير كبير دعا الصحف الألمانية للإشادة به ووصفه بالكاتب الأوروبي الذي يعلم أوربا كتابة الرواية. وصحيح أنا أشك أن لدينا في الأدب العربي المعاصر رواية في قوة رواية مثل إسمي أحمر، من حيث الأسلوب والفكرة والبحث، ووضع الفن الإسلامي والألوان أبطالا بين شخصيات الرواية.
لذلك أرى أنه من المهم في ختام هذه المحاضرة التوقف عند إشارة مهمة يشير لها باموك في كتابه: الروائي الساذج والحساس.
بين ما يقوله باموك "لقد تعلمت التعامل مع الحياة بجدية، جاء ذلك نتيجة تعاملي مع الروايات بجدية في مرحلة شبابي. الروايات الأدبية تقنعنا بأننا يجب أن نتعامل مع الحياة بجدية من خلال إظهار أننا في الحقيقة نمتلك قدرة التأثير على الأحداث وأن اختياراتنا الشخصية تشكل حياتنا. في المجتمعات المغلقة أو شبه المغلقة حيث اختيارات الفرد محدودة فن الرواية يبقى متخلفا. لكن متى ما تطور فن الرواية في مثل هذه المجتمعات فسوف يدعو الناس إلى دراسة حياتهم، وتحقيق ذلك يتم من خلال تقديم أبنية سردية دقيقة عن الصفات الشخصية للفرد".
ويقول باموك شرحا لفكرة أساسية في كتابه "الروائي الساذج والحساس"أن تكون روائيا هو الإبداع في أن تكون ساذجا وحسّاسا في الوقت نفسه".
واسمحوا لي أن أقتطف هذه المقتطفات الطويلة لأهميتها.
يقول باموك:"في هذا المقال المشهور الذي وصفه توماس مان بأنه "أجمل مقال في اللغة الالمانية" قسم شيللر الشعراء إلى مجموعتين: الساذجين والحساسين. الشعراء الساذجون متوحدون مع الطبيعة، في الحقيقة يشبهون الطبيعة: هادئة، قاسية، وحكيمة. يكتبون قصائدهم بكل عفوية، وتقريبا بدون تفكير، بدون قلق من أي تبعات فكرية أو أخلاقية لكلماتهم وبدون اهتمام لما قدي قوله الآخرون".
"من ناحية أخرى ووفقا لشيللر، فالشاعر الحساس (المتأمل، العاطفي) قلق، وقبل كل شيء هو غير متأكد ما إذا كانت كلماته ستحيط بالواقع (..) هو واعي جدا للقصيدة التي يكتبها، ولطرق والأساليب التي يستخدمها. الشاعر الساذج لا يميز كثيرا بين فهمه للعالم، والعالم نفسه. لكن الشاعر العاطفي المتأمل المعاصر يشكك في كل شيء يلاحظه، ويشكك في مشاعره".
"عندما قرأت مقال شيلر عن "الشعر الساذح والحساس" منذ ثلاثين عاما، أنا أيضا – تماما مثل شيلر ممتعض من جوته- أتذمر من سذاجة وطفولة الروائيين الأتراك من الجيل السابق. الروائيون كتبوا رواياتهم بسهولة بدون قلق حول مشاكل الأسلوب والأداء الفني. وأنا ربطت مصطلح ساذج (الذي لا زلت أستخدمه بمفهومه السلبي) ليس فقط بهم، ولكن بكل الكتاب في العالم الذين اعتبروا رواية القرن التاسع عشر البلزاكية (نسبة إلى بلزاك) واقعا طبيعيا لا جدال فيه، الآن بعد مغامرتي التي دامت خمسة وثلاثين عاما في كتابة الرواية أحب أن أستمر مع أمثلتي الخاصة".
هنا ينتهي كلام باموك، لذلك أعتقد أن التحية واجبة لكل التجارب التي اتسمت بالتوازن بين السذاجة والحساسية، وكل الأعمال التجريبية المهمة التي أضافت للسرد العربي من دون أن تخشى من القارئ، والتي تضيف لأفق السرد العربي، مهما انحسرت شعبيتها اليوم، فهي بالتأكيد ستظل الرافد الحقيقي لتطوير السرد العربي الذي لا يمكن له أن يتجاوز موقعه الذي يراوح فيه من دون تجارب جريئة، تضيف لتاريخ السرد العالمي والإنساني، ولفن الرواية التي تعد الحداثة جانبا أصيلا في جينات تطورها وسبب لصمودها بمرور الزمن.

محاضرة أقيمت في منصة الفن المعاصر (كاب) في الكويت






Wednesday, May 2, 2018

ترجمة الأدب العربي بين الاستشراق القديم والجديد

ترجمة الأدب العربي
 بين الاستشراق القديم والجديد

الصورة من موقع Future Trans



نشرت قبل عدة سنوات، في عام 2012، مقالا ترجم للألمانية أولا، ونشر في صحيفة NZZ السويسرية ( Neue Zürcher Zeitung)، تحت عنوان "لماذا يقرأ الغرب الكتب العربية الخاطئة؟" ثم قمت بنشر المقال باللغة العربية في جريدة الحياة في العام 2013، ثم قام المترجم روبين موجر بترجمته للإنجليزية ونشر في صحيفة The Nation في أبو ظبي، وأظن أنه كان مثار نقاشات وتعليقات طويلة، بين أطراف عديدة من المهتمين بالأدب العربي. 
ومؤخرا نشر المترجم جوناثان رايت بالإنجليزية على صفحته تعليقا موسعا على المقال، (طبعا لا بد هنا من الإشارة إلى أنني حين كتبت المقال واقترحت بعض الأسماء للترجمة مثل أعمال يوسف رخا، أو نائل الطوخي أو سعد مكاوي) لم تكن قد ترجمت آنذاك، وتعليق جوناثان رايت كتب بعد ترجمة هذه الأعمال وغيرها مما يستشهد به جوناثان في تعقيبه، وبالمناسبة آنذاك ايضا أشرت إلى أعمال غالب هلسا، وأعمال معاصرة عديدة وأسماء مثل علي بدر ومها حسن وسواهما، وأظن أن بعض أعمالهما ترجمت بالفعل.  
وفي كل الأحوال فكل ترجمة لعمل جيد هي مما يهتم به مقالي الأول، ويجب أن نشكرعليه المترجمين الذين قاموا به، ومع ذلك فهذا كله يظل استثناء في مناخ عام لا يزال يبدو لي وإن حمل بعض الأمل بعد مساهمة الجوائز الأدبية في ترجمة أعمال عربية بعضها وصل للبوكر الإنجليزية مثل رواية فرانكشتاين في بغداد، لأحمد سعداوي، وغيرها. لكن آمالنا في الأمل العربي ووضعه في خارطة الأدب العالمي ستظل كبيرة وطموحة وتبتغي أن يعبر عن هذا الأدب يوما مثل كافة الآداب (التي لا تنتمي للثقافة المركزية الأوربية) وتحظى بالمقروئية والتقدير الأدبي. 

وفيما يلي أنشر تباعا، المقال الأول الذي كتبته قبل سنوات طويلة، ثم تعقيب جوناثان رايت المتأخر عليه، والذي قام بترجمته الصديق أمير الغندور، وتعقيب أمير ثم تعقيبي على المقال، ثم إشارة من الكاتب سنان أنطون عبارة عن تعليق على الموضوع لأنني التقيته في ندوة في الكويت في تكوين وسألته عن رأيه في القضية المثارة. 

بالمناسبة : جانب من هذه الحوارات نشر في موقع قل الالكتروني بالإنجليزية 

ملاحظة أخيرة: تجدر الإشارة إلى أن هناك جهود مهمة تسهم في الاهتمام بترجمة الادب العربي من هيئات مستقلة ومترجمين مستقلين، وجهات تقوم بدور مهم مثل الجامعة الأمريكية في القاهرة، ومجلة بانيبال التي تصدر بالإنجليزية في لندن، والجائزة المهمة التي أنشأتها سيف غباش- بانيبال للترجمة، وجهد موقع مثل Arablit، وغيرهم من المؤسسات والأفراد، لكن الطريق لا يزال طويلا  


هل هناك أهمية لترجمة الأدب العربي إلى لغات أجنبية حقا؟
إبراهيم فرغلي

أتابع منذ فترة بحكم عملي كصحفي وكاتب ووفقا لاهتماماتي أخبار ما يترجم من الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية في أوربا، خصوصا للغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية. كما أتابع باهتمام أخبار الجوائز العربية التي تحظى باهتمام مؤسسات الترجمة وبينها على وجه الخصوص جائزتي نجيب محفوظ التي يمنحها سنويا قسم النشر بالجامعة الامريكية بالقاهرة، والجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة باسم بوكر العربية.
ولفترة طويلة كنت استقبل تلك الأخبار بحسن نية، وبتقدير الجهات الغربية المهتمة بترجمة ادب ليس له شعبية عالمية، مبتسما في الحالات جميعا ابتسامة مرارة، لكني اليوم، وبعد الكثير من المراقبة والمتابعة وجدتني اسأل نفسي سؤالا ملحاً وهو: هل ثمة أهمية بالفعل لأن يترجم الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية؟ وهل تؤدي مثل تلك الجوائز حقا إلى انتشار الأدب العربي في لغات أخرى؟ وأخشى أن إجابتي على السؤالين هي إجابة بالنفي، بـ "لا" قاطعة وبلا تردد. فمن مجمل ما نراه اليوم مترجما ومحتفى به من الأدب العربي في الغرب، ومن الجائزتين المذكورتين وسواهما أرى أن شيئا لم يتغير، فلا هذه الترجمات نجحت في التعبير عن الإنتاج الأدبي الحقيقي في العالم العربي من جهة، ولا استطاعت أن تحقق أية جماهيرية لهذا الأدب، ولا أتوقع أن يحدث هذا مستقبلا طالما استمرت الطريقة التي تعمل بها آليات الترجمة الموجودة الآن على النحو نفسه. خصوصا وأن المشكلة الكبرى التي تواجه ترجمة الأدب العربي هي غياب مؤسسات عربية تدعم وتروج وتخطط لعملية ترجمة منظمة. ولعله من الضروري هنا أن أذكر نفسي أننا نعيش في مجتمع فُرجة كما يقول جي دوبور  Guy Debor، وأن القيم الرأسمالية الربحية تصوغ القيم في العالم كله غربا وشرقا، وتعمل مؤسسات تسويق الصور الاستهلاكية الجبارة على خلق أسواق تؤدي للربح ايا كان المنتج، وللأسف يبدو لي أن سوق النشر والترجمة، أوربيا وعربيا لم يعد استثناء من هذه القاعدة. لكن ما يهمني هنا ككاتب عربي هو التأكيد على أن الكتاب العربي الذي يتم تصديره خارج حدوده عبر الترجمة، ممثلا للمجتمع العربي الذي يصدر فيه، أصبح ضحية مزدوجة؛ مرة من الإعلام السطحي التجاري المهتم بالصورة على حساب الجوهر في بلد إنتاجه العربي، ثم هو، مرة أخرى ضحية أيضا  لـ "الصورة" التي تحاول المركزية الأوربية أن تقدمها للعالم عنه. فمن الجلي اليوم أن هناك تركيزا من الناشرين على "موضوعات" كتابة وليس على "أساليب" كتابة، تركز عادة على موضوعات مثل الفساد ودور المرأة العربية في مجتمعها والعلاقات الجنسية خصوصا في المجتمعات المغلقة في محاولة تبدو كأنها مدفوعة من سوق نشر يقدم للقاريء الغربي صورة تقول بأن هذه المجتمعات قد لا تمتلك كتّابا عالميين، وهذا مفهوم مخلوق بواسطة المركزية الأوربية على أي حال، لكنها تمتلك مجتمعات يمكن للقاريء الغربي أن يتسلى بالتعرف عليها؛ مجتمعات مغلقة غير مفهومة تنتج الإرهاب والعنف، ويعيش اهلها العديد من مظاهر الفساد والاضطهاد وتعاني فيه المرأة من الاضطهاد الجنسي والاجتماعي،  وهذه الكتب تحاول أن تفتح لكم هذا العالم. والحقيقة أن هذه الظاهرة أصبحت مثار تعليق الكثير من الكتاب العرب والمهتمين، واقتطف فيما يلي من مقالة لجابر عصفور الناقد والأكاديمي ورئيس المجلس الأعلى للثقافة المصري ووزيرالثقافة سابقا، في مقال له نشر في صحيفة الحياة متأملا هذه الظاهرة مؤكدا ان ما يحركها ما يسميه بنزعة الاستشراق الجديدة ويقول:"ترعى نزعة عالمية الاستشراق الجديد مجموعة من الأعمال الأدبية والفنية التي ينتجها العالم الثالث بوجه عام، والعالم العربى بوجه خاص، وهي أعمال تتوافر فيها صفات التشهير وفضح أشكال التخلف البشع في كل مكان، والفساد المستشري على كل مستوى، بهدف التسويق لهذه الأعمال بعد ترجمتها وتوزيعها، بعد الترويج الإعلامي لها على نحو غير مسبوق. ومن هنا نشأت ظاهرة الروايات الرائجة المحدودة القيمة الإبداعية الفضائحية التي لا تترك فساداً أو قمعاً أو شذوذاً أو انحرافاً إلا وتبديه مبرزة صوراً بشعة في تخلفها"، ويرى عصفور أن هذا الأمر ليس صدفة مشيرا إلى أن "ارتباط نزعة الاستشراق بأيديولوجيا هيمنة موازية، لحقها صعود أيديولوجيا العولمة، وتهدف إلى تحقيق أمرين، أولهما إبقاء صورة الشرق المتدني الغريب والعجيب والمتخلف والمقموع في آن في أذهان الغربيين، تبريراً لضرورة الهيمنة الاستعمارية على هذا الشرق ، وثانيها إيهام أبناء هذا الشرق العجيب بتخلفهم الأبدي الذي هو مصدر الإعجاب بهم، والفتنة بعوالمهم، وذلك بما يبقي الشرق المتخلف على تخلفه، مصدراً لثروات منهوبة، ومتحفاً لعجائب البشر وغرائب عوائدهم". المستعرب الصديق شتيفان فايدنر كان واحدا ممن احتفوا ببعض هذه الكتب محدودة القيمة وبينها مثلا كتاب "تاكسي" لخالد الخميسي، قائلا:"سيتساءل بعض النقاد في الغرب: "أليست القيمة الأدبية لهذا الكتاب محدودة؟". لكن علينا حقا أن نتخلى عن الفهم الغربي التقليدي للأدب، من أجل فهم ما تمكن الكاتب من تحقيقه هنا. علينا أن نعترف أن الخميسي قد حل بضربة حاسمة عقدة الأدب العربي المعاصر والتي تكمن في أن المشاكل التي يفترضها أن يتناولها الكُتّاب في اعمالهم كبيرة جدا بحيث تصعب معالجتها أدبيا". والحقيقة أنني بشكل شخصي لا أفهم لماذا يجب أن يتحول النص الأدبي إلى وثيقة سوسيولوجية متخليا عن قيمته الأدبية؟ ولماذا يروج لحكايات من هذا النوع على أنها ادبا من الأساس؟ والحقيقة أنه في مقابل هذه الفكرة التجارية تاكسي أنجزت الباحثة اللبنانية دلال البزري كتابا مهما صدر عن ميريت، بعنوان "السياسة أقوى من الحداثة" وهذا بحق هو الكتاب الذي يمكن أن يقدم لنا توضيحا رائعا للتغيرات التي مرت بها مصر اجتماعيا وسياسيا عبر شهادات هي اجابات على اسئلة لعدد من الاشخاص من أجيال مختلفة وطبقات مختلفة اكبرهم عمره 90 عاما واصغرهم في العشرين . واعتبرت المؤلفة أن ما قدمته هو بحث سوسيولوجي للكيفية التي يتم بها استقبال عناصر الحداثة والتعامل معها سلبا أو إيجابا في مقابل المفاهيم التقليدية. فهذا ما يجب أن يبحث عنه القاريء الغربي ليفهم العرب إن شاء.  وما يجعلني اشعر بالغبن تجاه قيمة الأدب العربي في الغرب سأضرب له مثلا صغيرا يخص الكتب التي تنتج في آسيا، وتترجم ويحتفى بها، ليس فقط لموضوعاتها بل واساسا لأساليب كتابها. أذكر عندما زرت الفلبين قبل عامين سألت عن الكتاب الشباب فعرفوني إلى رواية كاتب شاب حازت جائزة البوكر الآسيوية وهي Illustrado للكاتب Miguel Syjuco، وهالني المستوى الرفيع للرواية وتركيبها والجهد المبذول فيها لغة واسلوبا ومهارة. فهذا هو الدور الحقيقي للجوائز في ظني، وليس هذا هو وضع الأدب العربي للأسف.
ومن أجل الأمانة يهمني أن أؤكد أن الكثير من الجهات ودور النشر الخاصة والصغيرة، أحيانا، في اوربا عموما، تقوم بدور يفوق طاقتها في التعريف بأهم الروايات العربية، بمعاونة فرسان من المترجمين النبلاء،ولكن لا تبدو أن مهمتهم سهلة. والمشكلة أن بعض الكتب التي تترجم للكتاب العرب الكبار مثل الغيطاني والبساطي وعبدالرحمن منيف وغيرهم، على سبيل المثال، لا يحتفى بها بالقدر التي يحتفى به بكتب متوسطة أخرى، واضرب مثلا واحدا آخر يحضرني الآن وهو مثلا الاحتفاء المبالغ فيه برواية الكاتبة السعودية رجاء الصانع "بنات الرياض"، وهو كتاب محدود فنيا، ولا يمكن لشخص معتاد على قراءة الأدب الالتفات إليه، على الرغم من أن هناك كتابا آخر لروائية سعودية اسمها صبا الحرز مثلا نشرت رواية مهمة عن مجتمع الأقلية الشيعة في السعودية، وعلاقات الغرام بين الفتيات هناك، في أسلوب فني رفيع، كاشفة عن مهارات سردية كبيرة وصدرت بعنوان "الآخرون" ولم يلتفت إليها أحد. لذلك اظن أن جانبا مهما مفقودا في عملية الترجمة من العربية للغات الأجنبية وهو الجانب الأدبي نفسه، أي وضع القيمة الأدبية كمعيار أولي ووحيد، لأن العملية القائمة الآن تقوم على عامل السياسة بمعنى محاولة التعرف على ثقافة تصدر مشكلات تخلفها للغرب. وإقحام الأدب هنا قد تكون له بعض الفوائد لكنها في النهاية قد تسيء للأدب أكثر مما تنفع. والدليل على ذلك أن الكتاب أصحاب الأساليب الكتابية الرفيعة، باستثناء إدوار الخراط ربما، تكاد تكون ترجمتهم معدومة، ومن بينهم من جيل الكتاب المعروف في مصر بجيل التسعينات مثلا مصطفى ذكري وهو سيناريست وكاتب رفيع الطراز يرى السياسة والاجتماع في الأدب تلويث للنص الأدبي، أسلافه بروست وبورخس وكافكا، نصوصه مركبة، ذات لغة خاصة، وثقافته رفيعة، وله عدة نصوص مهمة بينها "مراة 202" الذي أعده أحد أهم تجارب الكتابة الأسلوبية العربية مثلا. كما أن هناك كاتبا استثنائيا هو يوسف رخا من الجيل الجديد أيضا أصدر العام الماضي رواية مهمة بعنوان "كتاب الطغرى" تعد، في اعتقادي، من الروايات الطليعية والتجريبية الهامة، ليس لأن لها لغة خاصة جدا وغير مسبوقة، بل وكنص يتحيز لمفهوم الرواية بصفتها الجنس الأدبي المشغول بإنتاج الفكر، وبوصفها وعاء الفلسفة الأدبية، وليس لكونها مرآه للواقع.تسأل معنى الهوية في مجتمع يمور بالتناقض. وعن أسباب قبول البعض التناقضات التي يحيونها كأنهم يتكيفون مع القهر او يستبدلوا ذلك بالانسياق الكامل لسلطة دينية كأنهم جماعات من الزومبي؟ بالإضافة إلى صوتين بارزين في تجديدهما في النص الروائي الجديد غير التجاري والذي يعتمد على مفاهيم ما بعد الحداثة في الكتابة الأدبية وهما نائل الطوخي "ليلى أنطون"، وطارق إمام "هدوء القتلة".

 وحتى الأدباء أصحاب التجارب الاستثنائية الراحلين من جيل محفوظ مثل يحي حقي صاحب الأسلوب الرفيع واللغة الخاصة لم يترجم من أعماله ربما سوى "قنديل أم هاشم" رغم ان له مجموعات قصصية في غاية الأهمية، أو رواية سعد مكاوي "السائرون نياما" وهي إحدى تحف النثر العربي المعاصر لم يترجما على حد علمي، وكذلك سنجد أن كاتبا مثل اللبناني ربيع جابر وهو أحد الكتاب المخلصين للرواية وأغزر الكتاب العرب إنتاجا من جيله مع العراقي علي بدر، لا يحظيان بالحفاوة التي تحظى بها نصوص اقل مستوى كثيرا مما ينتجه كل منهما. 

هناك ايضا كاتبا مصريا مهما هو محمد المخزنجي وهو قصاص في المقام الأول، موهوب بشكل كبير، ويعد امتداد عملاق القصة المصرية يوسف إدريس، لم يترجم بالشكل الكافي، وأظن أن إدريس نفسه لم يلق ما يستحقه من اهتمام.   والقائمة طويلة من الكتاب المهمين من حيث قيمة نصوصهم ولم تلتفت لاعمالهم الترجمة اذكر على سبيل المثال منهم، الكاتب المصري الراحل صبري موسى صاحب النص الفاتن "فساد الأمكنة"، أو الكاتب المصري فتحي غانم وله عدد من الروايات المهمة بينها مثلا رواية "الافيال"، ومن الكويت إسماعيل فهد إسماعيل، بل حتى الكتاب المهمين الرواد في الجزائر مثل الطاهر وطار ومحمد زفزاف أكاد لا اسمع عن شيء ترجمة لأي من كتبهما، وإن لم اكن متأكدا من ترجمة اي منهما للألمانية وهما رائدان مهمان في السرد العربي المعاصر، والفلسطيني غالب هلسا، كما أن هناك اصواتا شابة مجيدة ولها تجارب مهمة لم اسمع عن نصوص قد ترجمت لهم إلى أي لغة اجنبية مثل السورية مها حسن ولها رواية جيدة جدا اسمها "حبل سري" عن معاناة الأكراد السوريين في هويتهم، أو علي المقري من اليمن، وحسين العبري من سلطنة عمان وله رواية جميلة بعنوان "الوخز"، تتناول عالمي المرض النفسي والقهر السياسي في سلطنة عمان بمهارة سردية. وغير هؤلاء الكثير من الأسماء.  عندما زرت المانيا كراو مدينة شتوتجارت في العام 2004 لاحظت أن معرفة الالمان بالعرب غائمة، يكادون لا يفرقون حتى بين مدن منغلقة وذات ثقافة صحراوية مثل السعودية وبين بلد صاحب حضارة قديمة مثل مصر أو مدينة شبه اوربية متحررة تماما مثل بيروت، ويتعاملون مع العرب ذهنيا ككتلة جغرافية متماثلة تمتليء بالتخلف والعنف والرجعية ..الى آخر الكلاشيهات الموروثة من الكتابات الاستشراقية الكلاسيكية. وبمثل هذه التصورات العامة والمشوشة، قد تكون مهمة إثبات أن هذا العالم يمتلك أدبا قيما وكتابا لا يقلون عن نظرائهم في العالم، وان لديهم مدارس واساليب ادبية مختلفة، مسألة ليست من السهولة بمكان. واليوم لا أظن أن الفكرة التي يروج لها شتيفان فايدنر بالاحتفاء بالكتب متوسطة القيمة لأجل التعرف على العالم العربي سيحقق الهدف، بل العكس صحيح، وهو ما يحدث الآن مع الثقافة العربية التي احتفى بها في فرانكفورت في العام 2004 ولكن بلا أثر حقيقي في تحفيز الإقبال على قراءة هذا الأدب كما هو شأن أدب آسيا وامريكا اللاتينية، لاختلاف المنطلق الذي تم منه تناول تلك الأعمال الأدبية.





رداً على سؤال إبراهيم فرغلي:
 "هل من الضروري ترجمة الأدب العربي؟"

بقلم: جوناثان رايت

ترجمة: أمير الغندور


ما هي بالضبط شكوى إبراهيم فرغلي ضد أولئك الذين يختارون ويترجمون وينشرون ويشجعون الأعمال الأدبية العربية بلغات أجنبية وأغلبها أوروبية؟ وما هي الحلول التي يقترحها كبدائل للنظام الحالي المعيب؟
لنأخذ الشكاوى واحداً تلو الآخر:

"فلا هذه الترجمات نجحت في التعبير عن (الطبيعة الحقيقية) للإنتاج الأدبي في العالم العربي..."

لست متأكداً من أين أبدأ مع هذه الشكوى، حيث الذاتية متغلغلة بعمق في هذه العبارة. فهناك إحساس ينتمي للرومانسية الألمانية في القرن التاسع عشر، فيما يتعلق بتعبير "الطبيعة الحقيقية" هنا، وأنا أود أن أشكك في أن الأدب العربي له "طبيعة حقيقية". فهو مثل كل الإبداعات البشرية الأخرى، يتنوع بشكل واسع، ومن الغرور أن نزعم أن أي عمل واحد هو "أكثر حقيقية" وتعبيرا عن جوهر معين من أي عمل آخر. لكن إذا كان يقصد أن الأعمال المترجمة لا تعكس النطاق الكامل للأدب باللغة العربية، فمن المحتمل أنه على حق. ولكن هذا ينطبق على أي لغة. فالحقيقة المحزنة هي أن هناك سوقاً محدودة للغاية للأدب الأجنبي المترجم في العالم الناطق باللغة الإنجليزية ، وهناك الكثير من المنافسة. فالقراء يفضلون الأعمال ذات الشخصيات القوية والسرديات القوية. ولا يبدو أن نخبة الكتاب المفضلين في الساحة الأدبية العربية ماهرون في تقديم ذلك لهم.

"ولا استطاعت (هذه الترجمات) أن تحقق أية جماهيرية لهذا الأدب".
هذه الشكوى خاطئة بشكل بين. بالتأكيد أرقام المبيعات متواضعة، لكن الناشرين لا ينشرون الكتب ليراكموها في المخازن. لكن المجادلة بأن انخفاض المبيعات هو أحد أسباب التوقف عن المحاولة هو قمة الانهزامية. فنحن قد نحظى بعروض لهذه الكتب في وسائل الإعلام الرئيسية من وقت لآخر، وهي أمر كان نادر الحدوث قبل عشرين عاما مضت.

"ولعله من الضروري هنا أن أذكر نفسي .. أن القيم الرأسمالية الربحية تصوغ القيم في العالم كله غربا وشرقا... وللأسف يبدو لي أن سوق النشر والترجمة، أوربيا وعربيا لم يعد استثناء من هذه القاعدة."

حسنا ، نعم ، هذا صحيح إلى حد ما. لكن ألم يكن الحال على هذا الشكل دومًا، باستثناء عندما تسيطر الدولة بشكل كامل على شركات النشر، كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال؟ لكن إلى جانب ذلك، هناك تمويل من منظمات غير حكومية وشبه الحكومية للترجمة الأدبية، وهذا يسهم مساهمة كبيرة في حالة الترجمة العربية-الإنجليزية. قد تجادل فيما يخص الطريقة التي يختار بها مانح التمويل نوعية الأعمال، لكن هذه مسألة مختلفة.

"... تبدو كأنها مدفوعة من سوق نشر يقدم للقارئ الغربي صورة تقول بأن هذه المجتمعات (العربية) ... مجتمعات مغلقة غير مفهومة تنتج الإرهاب والعنف، ويعيش اهلها العديد من مظاهر الفساد والاضطهاد وتعاني فيه المرأة من الاضطهاد الجنسي والاجتماعي..."

هذا اتهام بشع، والدليل عليه ضئيل للغاية. ومن الغريب أنه عندما يتم الضغط لإظهار الدليل على أن الناشرين الغربيين يفضلون مثل هذه الكتب عن عمد، فإن أصحاب هذا الاتهام غالباً دوما ما يستشهدون بكتب مكتوبة أصلاً بالإنجليزية، بواسطة بعض المستبعدين الراغبين في الاستفادة من هذا الشق من السوق. لكني أعجز حقاً عن إيجاد أي كتاب باللغة العربية تم ترجمته إلى اللغة الإنجليزية يتوافق مع وصف فرغلي – وأقصد كتاب تم فيه عن عمد تضخيم هذه الجوانب من المجتمع العربي بهدف زيادة مبيعاته. فإذا كان لدى فرغلي أمثلة جيدة، فدعنا نناقشها. إلى جانب ذلك، فمن ذا الذي بإمكانه أن ينكر أن العنف والفساد والتعصب والنظام الأبوي هي سمات بارزة في العديد من الدول العربية في هذا العقد؟ ولماذا لا يكتب الكتاب العرب عن مثل هذه الأمور؟ إن رأي مصطفى زكري حين "يرى السياسة والاجتماع في الأدب تلويث للنص الأدبي" هو رأي غريب. فبالطبع هناك مكان ما للأدب ذي الطابع الشخصي التام، لكنه ليس في الأدب العالمي العظيم (هل نجده في الحرب والسلام؟ أو في أنتوني وكليوباترا؟ أم لدى نجيب محفوظ؟) فليس بينهم ما يتفق مع حديث مصطفى زكري عن التلويث. وبالتأكيد سيكون هذا الأدب أقل ثراء بكثير إذا ما إذا ما أضطر لفعل ذلك.

أما نظرية جابر عصفور عن وجود مؤامرة من نزعة الاستشراق الجديد لفرض الهيمنة من خلال صور المجتمع العربي، فهي بالأساس نسخة أشد بارانويا وعصبية من الشكوى المذكورة سابقا. فأنا لا أرى أي دليل عليها. أخبرنا بالأعمال التي تعترض عليها. بل أظن أنه في حالة جابر عصفور، الذي لم أقابله أبداً ولم أقرأ له أبداً، فإن هذه الشكوى قد يكون لها علاقة بحقيقة أن أعماله الخاصة لم تترجم. لماذا هذا الأمر، لا أستطيع أن أحكم.

أما هجوم فرغلي على "تاكسي" لخالد الخميسي، فهذه قصة قديمة، لكن فرغلي يضيف إليها حيلة جديدة حين يفترض خطأ أن "تاكسي" هي محض تقارير اثنوجرافية - "لا أفهم لماذا يجب أن يتحول النص الأدبي إلى وثيقة سوسيولوجية متخليا عن قيمته الأدبية؟"، كما يقول. بطبيعة الحال، "تاكسي" هي رواية، بل وقطعة جميلة من الأدب المصري اليومي، وتحتوي على شخصيات قوية ولغة ثرية وحيوية. لذا أظن أن المنهج الذي يتبناه على ما يبدو كل من إبراهيم فرغلي وجابر عصفور هو منهج متكبر، ونخبوي، وشعاراتي ومضلل. إنهم يعيقون نشر الأدب العربي في جميع أنحاء العالم عن طريق التقليل من شأن الكتاب الذين يجب أن يكونوا متضامنين معهم.

"اظن أن جانبا مهما مفقودا في عملية الترجمة من العربية للغات الأجنبية وهو الجانب الأدبي نفسه، أي وضع القيمة الأدبية كمعيار أولي ووحيد، لأن العملية القائمة الآن تقوم على عامل السياسة".

هذا الموقف مثير للضحك بصراحة. من سيفرض مثل هذا المعيار؟ من سيخبر الناشرين أنهم لا يمكنهم نشر مثل هذا الكتاب أو كتابه لأنه ليس "أدبيًا" بما فيه الكفاية؟ أي نوع من الديكتاتورية الأفلاطونية يريد فرغلي فرضها علينا؟ لا، لن نتلقى الأوامر من الآخرين. سننشر ما نحب، ولأي أسباب نراها مناسبة.

بالنسبة لحديث فرغلي عن المؤلفين الذين تنعدم ترجمة أعمالهم وعن المؤلفين الذين تتضخم ترجمة أعمالهم، فلا أريد الخوض في التفاصيل هنا لأنني متردد في مناقشة الأفضلية النسبية للكتاب الأحياء، بشكل علني. لكن هناك بعض سوء الفهم الغريب في حديثه - يوسف رخا، على سبيل المثال، تمت ترجمة أعماله بسرعة كبيرة وحصل كتابه على جائزة بانيبال في العام الماضي. كذلك تمت ترجمة نائل الطوخي. وقد قمت بترجمة "السائرون نياما" لسعد مكاوي، لكن دار الشروق مترددة في نشره، ربما لأنهم لا يعتقدون أنه سيبيع بشكل جيد. وقد أعترض على اعتبارها تحفة فنية، فهي تمتلئ بالصور النمطية الفظيعة والمفككة عن المجتمع المملوكي، كما أن مكاوي يستخدم فيها لغة متضخمة بعض الشيء لمجرد التباهي، على ما يبدو. لكن من العجيب، أنك إن أردت أن تحدد كتابًا يستوفي معايير الدعاية "الاستشراقية الجديدة"، فستجد أن "السائرون نياما" هو مثال جيد على ذلك.

إذن ما الحلول التي يقترحها إبراهيم فرغلي؟ إنه يلمح في البداية إلى أنه ربما ينبغي علينا التخلي عن المشروع تمامًا. وهذا اقتراح عبثي وضار للغاية بعملية الحوار بين الثقافات التي أفترض أنه يؤيدها. أو ربما هو يقصد أنه من الجيد أن تتم ترجمة المؤلفين الذين يفضلهم هو، لكن ليس من الجيد ترجمة المؤلفين الذين لا يوافق عليهم. لكن من هو ليمنح نفسه هذه القوى الحاكمية؟ لكنني أعتقد أن مفتاح حديثه يكمن حقيقة في هذه العبارة: "خصوصا وأن المشكلة الكبرى التي تواجه ترجمة الأدب العربي هي غياب مؤسسات عربية تدعم وتروج وتخطط لعملية ترجمة منظمة". هذه نزعة نخبوية-دولتية عربية عفا عليها الزمن تعاود رفع رأسها القبيح. ذلك إن ما يقترحه فرغلي حقا هو أن عملية الاختيار يجب أن توضع في أيدي البيروقراطيين العرب العاملين في مجال الثقافة، الذين من المؤكد أن لديهم آراء رجعية في اللغة والابتكار. ونحمد لله أن هذا لن يحدث أبدا.

الجزء الثاني من التعليقات قريبا 


Friday, April 20, 2018

جنية في قارورة، ثاني روايات ثلاثية جزيرة الورد




جنية في قارورة لإبراهيم فرغلي 

تضع يدها على حدود غير منظورة 

مقال :لبنى الأمين




مع الصديقة الكاتبة والفنانة ميسون صقر خلال حفل توقيع جنية في قارورة قبل سنوات


بعيداً من الطابع السحري او الاكزوتيكي الذي يمكن ان يحيل عليه عنوان مثل "جنية في قارورة"، يلجأ المصري ابراهيم فرغلي في روايته الصادرة اخيراً ، الى كتابة تحاول رصد تفاعل الواقع المجتمعي المصري مع بعض ما يطرحه العالم المعاصر من اشكاليات ترغم الافراد على اعادة بلورة مفاهيمهم ومنظوماتهم الأخلاقية والنفسية والعاطفية. في زمن العولمة وانتفاء الحدود بين البلدان والمجتمعات والأفراد، يضع فرغلي يده على حدود غير منظورة تتحكم بأفكار الأفراد وعاداتهم وسلوكياتهم، متسببةً بشرخ هائل وفصام قاسٍ بين ما يعلنونه من أفكار تحررية وعيش يحاكي الذهنية الغربية، وما هو راسخ ومتجذر فيهم ولا يكشف عن نفسه إلا في لحظات الخيارات المصيرية.هو فصام سنعيش تعقيداته مع البطلة حنين، المصرية التي نشأت في فرنسا وعاشت فيها، إلا أن موت والدها وحياتها الجامحة المفتقدة كل بوصلة توجّهها صوب الاستقرار والأمان، سيجعلانها تقرر العودة الى وطنها الام علّها تجد هناك ما ظلت تبحث عنه عبثاً في فرنسا: ذاتاً واثقة من هويتها وانتمائها.

 يتابع الكاتب تطور نموها العاطفي والجنسي، من قبلاتها الأولى الى أقصى لحظات جموحها، مروراً بالفترة التي ظنّت فيها ان لديها ميولاً سحاقية، مضيئاً على نوع من الإزدواجبة في شخصية هذه الفتاة الخجولة والهادئة والمنكسرة في البيت وفي حضور والدها. اما خارج "الرحم" الأبوية، فتطلق العنان لنزعة استعراضية، كما تسميها، ولجموح في التصرفات. وفي كل مرة يكون سلوكها مدفوعاً ببحث مرتبك عن استقرار عاطفي لا تجده. واذ يرتسم شيئاً فشيئاً تاريخها الشخصي، يكشف السرد عن شخصيات اخرى تدخل حياتها وتخرج منها وتبدو جميعها محكومة بالفصام نفسه، وإن بدرجات واشكال متفاوتة.في الجزء الثاني من الرواية المؤلفة من ثلاثة اجزاء، وفي موازاة قصة حنين، يتسلم السرد صوت قادم من عالم آخر (نفهم من خلال الغلاف الخارجي للرواية انه صوت عماد الذي كان الصوت الاساسي في رواية سابقة للكاتب هي "ابتسامات القديسين")، يقيم مقارنات بين الواقع الارضي الموهوم وحقيقة هذا اللامكان الذي ينتمي هو اليه، ويأتي ليطرح اسئلة الانسان الكبرى حول الوجود والمعرفة والاخلاق متحدثاً عما يسمّيه "جوهر الحقيقة"، هذا الذي لا يسع الأحياء إدراكه.

باستثناء عوالم عماد السحرية، تحمل معظم شخصيات الرواية خطابين ووجهين وسلوكين يأتي تناقضهما الصارخ ليصبّ في رسم بانوراما معولمة عن انسان اليوم الذي تتحكم فيه اصولية مضمرة تظهر من وقت الى آخر لتطيح، بضربة قاضية، كل البناء التسامحي المعلن. وهي اصولية قد تكون دينية او عرقية او جنسية أو وطنية، يغذّيها جهل تام بالآخر الذي مهما تبلغ العلاقة به من مراحل متقدمة تظل علاقة سطحية قائمة على أحكام مسبقة وصور نمطية متطرفة. 

هكذا ستنتهي منذ بداية الرواية قصة الحب التي تجمع حنين بديفيد، الفرنسي اليهودي الذي سيقرر ذات يوم أنه  "يريد أن يكمل دينه بالذهاب الى ارض الميعاد". إلا أن حنين تتميز عن الشخصيات الأخرى بأنها لا تكفّ عن طرح الأسئلة وإعادة النظر في المسلّمات والأفكار. حتى والدها المتوفى لا ينجو من إعادة التقويم هذه. فاستناداً إلى جزء من مذكراته فضّل اخفاءه عنها، ستشكك في أنه رغم تجربة زواجه هو المسلم بوالدتها المسيحية ظل تسامحه سطحياً ومصطنعاً: "هل يمكن ان اكون تعرضت للتضليل وظننت أن أبي مثالي ومتسامح لأنه أحب أمي وتزوجها على ديانتها، بينما هو يحتفظ في أعماقه بنموذج المتعصب المتخلف؟". 

هذا السؤال وسواه سينتج منها صدام حاد بين مثاليات حنين والواقع المحكوم بازدواجية قد تبلغ حد النفاق، مما سيجعلها تتخبط في متاهة لا تعرف كيف السبيل للخروج منها: "يبدو إنني جننت، ولكن ما المانع في الجنون والعالم نفسه يعاني الاختلال؟ فهل سأكون أنا العاقلة الوحيدة في هذه المتاهة؟". من خلال أطروحة الدكتوراه التي تحضّرها حول العلاقات الجنسية وتأثرها بالمستوى الاقتصادي للمجتمع المصري، ستعاين حنين عن قرب بعض مظاهر هذه الازدواجية على غرار سلوكيات، من مثل ترقيع غشاء البكارة أو التحرش الجنسي، أو ازدياد عدد الفتيات المحجبات اللواتي لا تمتنع غالبيتهن عن ارتداء "البناطيل الضيقة التي تغطي الأرداف الكبيرة المدملكة المتمايلة يمنة ويسرة بلا رادع"، وذلك كجزء من ميل عام إلى ذوبان الخيارات الشخصية في سلوكيات جماعية تفقد تدريجاً مسوغاتها الأولى ومعانيها الأصلية. فها هي تفاجأ بابنة عمتها نسرين التي تحجبت فقط لأن كل صديقاتها فعلن ذلك.كما سترصد عدم ارتياح الفتيات في اجسادهن وشعورهن الدائم بأن ثمة من يتلصص عليهن. وإذ نراها تغوص في مدوّنات مصرية لفتيات يكتبن عن حياتهن الجنسية بحرية وتحرر تامين، لكن خصوصاً بنضج ووعي يصعب إيجادهما في الواقع، تكشف عن مجتمع افتراضي نشأ على هامش المجتمع الواقعي ويكاد يتحول بديلاً أكثر صدقية منه. وفي طريق بحث حنين عن ذاتها، مستندة إلى مرجعيات ونقاط استدلال أدبية وفنية وسينمائية، نستعيد كذلك معالم العاصمة الفرنسية من شوارع ومقاه ومعالم مختلفة، تبدو اكثر وضوحاً مما سيكشف عنه السرد حول القاهرة والمنصورة. إلا أن بين صورتي هذين المكانين، تبرز صورة اخرى لمدينة زجاجية طالعة من احلام حنين لتعكس حلم الشفافية المطلقة، فلا يعود هناك فرق بين الداخل والخارج، بين المعلن والمضمر.  مدينة تشكل النقيض لـ"تلك الصناديق الإسمنتية (حيث) نتنفس بالكاد، ننام ونقضي حاجتنا، ونمارس الحب بسرعة لنلحق بدوائر الحياة التي تنتظر خروجنا لتستهلكنا". في النهاية، سيصل سعيها الى طريق مسدود تكشف عنه علاقتها بعلي الذي يحمل كل تناقضات الرجل الشرقي المعاصر ويشكل في رأيها نموذج "انصاف المتفتحين".ولن يكون قرارها بالعودة الى باريس الا نوعاً من الاقرار الضمني بأن مجتمعاتنا لا تزال غير مؤهلة لاستيعاب حاجة الافراد الى مساحتهم الشخصية وحريتهم الجسدية والجنسية كما الفكرية والعاطفية.

نشرت في النهار اللبنانية