الرواية العربية الحديثة
بين المسؤولية السياسية والجمالية
إبراهيم فرغلي
اخترت لهذه المحاضرة هذا العنوان "الرواية العربية الحديثة بين
المسئولية السياسية والجمالية"، أولا
لأن هذا السؤال بين الجمالي والسياسي، هو موضع تطور حركة الفن منذ عرف الإنسان
الفنون، لكني أعتقد أن اهتمامي الأكبر يتعلق بكلمة "الحديثة في العنوان لأن
الحداثة هي الموضوع الرئيسي للندوة .
السبب الذي فكرتمن أجله لهذه المحاضرة يعود لظواهر عديدة جديدة تتعلق
بالرواية العربية المعاصرة، وأعتقد أنها أزمة في التلقي وفي الكتابة على حد سواء.
فمنذ سنوات طويلة جدا كان المرء يتابع ما يجري في فن الرواية العالمي، أي في أوربا
خصوصا الثقافات المركزية فيها، وفي أمريكا وأمريكا اللاتينية وأيضا في بعض الدول غير
المركزية مثل تركيا وحتى في بعض دول آسيا الشرقية، ويرى أن هناك قفزات في الأساليب
الروائية، وكانت أخبار الجوائز التي
يطالعها المرء تمنح في أغلب الأحيان لروايات عادة ما تمتلك أسلوبا روائيا جديدا
ومختلفا، أو تقنيات جديدة في السرد، وأذكر على سبيل المثال أنه في العام 1996 قرأت
ترجمة رواية "إله الأشياء الصغيرة" للكاتبة الهندية أرونداتي روي التي
كانت حصلت على جائزة البوكر آنذاك، وأحسست بالنقلة الكبيرة في التقنيات التي بلغها
النص السردي في أوربا، وتعرفت بعدها على أعمال كتاب حداثيين مثل بول أوستر، الذي
أخذت نصوصه شكلا مختلفا عن السرد التقليدي. ثم إيتالو كالفينو، وطبعا جوزيف
كونراد، وحتى حينما قرأت الرواية الحائزة على "آسيا مان بوكر" وعنوانها "إلوسترادو"Illustrado من
سنوات للفلبيني ميجيل سوهوكو، وتعني نخبة الطبقة المثقفة في الفلبين، وكانت هذه الرواية هي عمله الأول، لكنها اتسمت بلغة قوية وتقنيات
سردية غير تقليدية، كلها نصوص يمكن وصفها بأنها تأخذ الرواية على محمل الجد. وهذه
الجدية فيما يبدو كانت سببا في تطوير وسائل السرد الروائي باستمرار.
لكن الملاحظ أن ما حدث في خارطة السرد العربي هو العكس تماما، فما حدث
لدينا هو تقريبا عكس ما حدث في الغرب، لم تأخذ الرواية العربية في التطور، بل عادت
إلى أساليب تقليدية تعتمد على الخط الزمني الواحد، والتصاعد في الأحداث، والاعتماد
على التشويق والحبكة التقليدية، وتم تكريس هذه الروايات بشكل غير مسبوق، مرة بدعوى
أن الروايات النخبوية أدت إلى عزوف الجمهور على القراءة، أو لدواعي أخرى كثيرة، وكأنه
احتفاء بالردة الرواية ومحاولة لتجهيل محاولات مستمرة لتحديث الرواية العربية
استمرت لأكثر من ثلاثة عقود على الأقل.
لهذا أود بداية إلقاء الضوء على تطور الرواية الحديثة في الغرب، ثم سأتناول،
باختصار وتركيز بعض مظاهر حداثة الرواية العربية مع التركيز على مصر، لأني متابع
للحركة الأدبية فيها أكثر من غيرها. ولأنها بالفعل بها الكثير من مراحل التطور.
طبعا الحداثة الغربية بدأت تقريبًا في الوقت الذي كانت الرواية في عالمنا
العربي لا تزال تحبو. أي تقريبا بداية القرن العشرين.
أغلب المختصين بتأريخ الأدب والرواية خصوصا يقفون عند رواية دون كيشوت
باعتبارها أول نص أدبي يأخذ شكل الرواية، وإن كان ينتمي أكثر إلى ما عرف آنذاك
بروايات المغامرات والفروسية.
ثم على مدى القرن السابع عشر والثامن عشر ظهرت الرواية في عدد من دول أوربا
وفي روسيا ولكنها لم تكن تعتبر فنا يمكن أن يجاور المسرح والشعر وباقي الفنون
آنذاك، حتى جاء فلوبير في القرن التاسع عشر وأثبت أن الرواية فنا يمكن أن يتضمن
تفاصيل دقيقة في المعرفة بالتحليل النفسي، وفي الأفكار الفلسفية، وبدأت النظرة
تختلف تدريجيا نحو الرواية، لكن مع ذلك ظلت الروايات التقليدية هي المسيطرة على
المشهد، حكايات تستلهم موضوعاتها من الواقع، وخصوصا الواقع البورجوازي الذي تنتمي
إليه نشأة الرواية، مقسمة لبداية وذروة عقدة ثم نهاية سعيدة غالبا، وعرف بها
الكتاب الرواد الكبار في فرنسا وانجلترا وأمريكا، يعني أمثال إميل زولا وبلزاك
وألكسندر دوماس، وتشارلز ديكنز، وهنري جيمس وغيرهم من كتاب الرواية الكلاسيكيين
الكبار.
لكن، اللافت أن الرواية اتسمت بطبيعتها بالحداثة، أولا لأنها ظهرت في فترة
النهضة، وعقب ظهور الصناعة وما أسهمت فيه من بداية تحول الحياة من القيم الريفية
لقيم المدينة، وما أدى إليه ذلك من تغيرات اجتماعية واقتصادية. وكانت الرواية
مشغولة بهذه الحياة المعاصرة، وما أسفر عنها من قيم وعلاقات اجتماعية جديدة، وما
استحدثته من نظم طبقية جديدة وأفكار مختلفة.
مؤرخو الأدب، وفقا للأكاديمي جيسي ماتز، اختلفوا حول بداية حداثة الرواية
فالبعضيقرن الحداثة بالعام 1857، وتحديدا مع نشر رواية مدام بوفاري لفلوبير، بينما
يرى البعض أن الحداثة ظهرت في بداية القرن العشرين في الفترة بين 1910 و1929 من خلال
تجارب كل من فيرجينيا وولف وجيمس جويس، وفي كتابه تطور الرواية الحديثة يضيف
الناقد جيسي ماتز روايتين يعتبرهما أيضًا من روافد تأسيس الحداثة الروائية وهما
رواية أزرار رخوة Tender Buttonsلجيرترود شتاين 1914 ورواية قصب لجين تومر.
وهناك أيضا من يعتبر أن بداية الحداثة تعود لتاريخ وفاة الملكة فيكتوريا
1901 التي دفنت معها التقاليد الفيكتورية الصارمة.
هذه النماذج الأربعة أحدثت نقلة في السرد الروائي لأنها كانت ترى أن الوصف
الخارجي للأحداث والشخصيات لم تعد كافية لنقل حقيقة "الوعي البشري" الذي
أصبح أكثر تركيبًا وتعقيدًا بسبب ظروف الحداثة التي كانت تمر بها المجتمعات
الغربية آنذاك.
كانت كل رواية من هذه الروايات تحاول أن تنقل "الوعي" الباطني
للشخصيات وانفعالاتها وأفكارها وفق ما تمر به من ظروف حياتية وخصوصا في التفاصيل
اليومية العادية.
كانت النماذج المهمة في هذا المجال هي أعمال مثل مسز دالاوي لوولف، أو
رواية مثل صورة الفنان في شبابه لجيمس جويس، ثم ذروة هذا التيار طبعا في روايته
يوليسيس التي تعد واحدة من أصعب الأعمال الروائية حتى اليوم. وبالرغم من صعوبة هذه
الأعمال لاهتمامها بنقل الوعي ومنطق العقل، لكن اهتمامها كانت منصبا أيضا على
الواقع اليومي للشخصيات.
وشهدت طبعا فرنسا أيضا موجة شبيهة من تحديث الرواية بعد تجارب الكلاسيكيين
الرواد، عرفت بالموجة الجديدة للرواية الفرنسية وكانت مهتمة بتطبيق الأفكار
الفلسفية وعلم النفس والنظرية الوجودية للتعبير عن القلق الوجودي والتغيرات الفكرية
التي أصابت المجتمع الغربي بسبب الحربين العالمية الأولى والثانية. وهو ما تجلى في
أعمال البر كامو وآلان روب جرييه وسارتر وناتالي ساروت، وكلود سيمون، وقبلهما
بروست وعدد آخر من الروائيين الفرنسيين الذين تمردوا على الرواية الفرنسية
التقليدية التي كان بلزاك وإميل زولا من أبرز رموزها.
طبعا الأمثلة على الروايات التي أرادات أن تعمل على تحديث الرواية
التقليدية عديدة، في أمريكا وانجلترا وفرنسا، وألمانيا.
لكن ما اتفقت حوله تجارب التجديد الروائي هذه هي فكرة الكيفية التي يمكن
بها رؤية الواقع، أصبح هناك إحساس بأن الراوي العليم بكل شيء هو نفسه غير واقعي،
لأن الواقع أصبح غير قابل للاستيعاب بشكل كامل. وبسبب التطورات العلمية واختراع
وسائل نقل حديثة تغيرت الأفكار حول الزمن والمكان، أيضا وهو ما اقتضى أن تؤخذ مثل
هذه الأمور في الاعتبار في زمن الرواية.
عندما صدرت «الصخب والعنف» عام 1929، تلقّفها الكتاب والنقاد
معتبرين إياها أولى الروايات التجريبية المغامرة في الأدب الأميركي، وذلك من خلال رسمها
الشخصيات وأفكارها المتشابكة المتحررة من كل عبودية لغوية.
الرواية تحكي أحداث انهيار أسرة تعيش في الجنوب الأميركي،
وهو ما يمثل انهياراً لهذا الجنوب في قيمه وموروثاته عموماً. تُروى الأحداث في أربعة
أيام، وتقوم كل شخصية برواية يوم من هذه الأيام، ولا تكتفي هذه الشخصيات بالحكي، بل
تؤثر في أحداث هذا اليوم، وفي أحداث الأيام الثلاثة الأخرى سلباً وإيجاباً، وقد صاغ
فوكنر روايته هذه بحيث تبدو الحكايات الأربع كحركة دائرية سيمفونية متكاملة الأركان.
فمثلاً، في اليوم الأول «7 أبريل 1928»، توجد الحركة الأولى من خلال أحداث يرويها
«بنجامين»، معتوه عائلة «كمبسن» المكونة - إضافة إلى الأب - من الزوجة كارولين وأربعة
أبناء من ضمنهم «بنجامين» الذي كانت حياته تقوم على ثلاثة أشياء: الأول هو المرعى المملوك
للأسرة، والذي بيع من أجل زواج الأخت «كانديس»، والثاني: حبه الجارف لهذه الأخت منكودة
الحظ، والتي وقعت في الخطيئة وأنجبت طفلاً أسمته «كوينيكن»، ثم تزوجت من شاب يعيش في
«أنديانا»، لكنها طلقت منه بعد أقل من عام واحد على الزواج، لتتزوج بعد ذلك من رجل
يعمل في مجال السنيما في هوليوود، لكنها سرعان ما طلقت منه باتفاق بينهما في المكسيك
ثم تختفي عن الأنظار بعد ذلك.
نتعرف في الرواية على هذه الوقائع بشكل مشوش، وتدريجي ومن وجهات نظر أفراد
العائلةالأربعة، وفي النهاية لن يمكن للقارئ أن يكون صورة واضحة ونهائية لأن
الموضوع قدم من وجهة نظر مختلفة.
كانت
هذه التجارب الروائية تضع حدا فارقا بين الرواية التقليدية والرواية
الحديثة يتمثل في اعتماد كل منهما على عنصر مختلف، فبينما اعتمدت الرواية
التقليدية على الحكي والحكاية كعنصر رئيس للنص، فإن الرواية الحديثة اعتمدت على
"الإظهار"،
"لقد هشمت الرواية الحديثة الحبكة وفككت النهايات ولونت السرد الروائي
بلون الأنماط الحكائية الشائعة في التجارب الحياتية اليومية"، وغيرت مفهوم
البطولة فلم يعد البطل كما كان في السابق يمتلك سمات مثالية وأقرب للكمال بل يمكن
أن يكون شخصا عاديا ومشوش عقليا مثل كوينتن كومبسون في الصخب والعنف.
اصبحت الحياة الحديثة تتسم بالغموض والتعددية واللاتجانس وكان على الرواية
أن تعبر عن ذلك، وأن تقوم تفكيك الحس البدهي للأشياء.
وكانت هذه النقلات في المفاهيم السردية غالبا ما تواجه بسؤال أساسي هو هل
ينبغي للرواية أن تسعى نحو التجريب الجمالي وحده لدفع القيم الجمالية لأقصى حد
ممكن أم ينبغي للرواية أن تسعى للغايات السياسية الخيّرة بعيدا عن الموضوع
الجمالي؟
الإجابة على السؤال تمثلت في تجارب روائية كانت كل منها تطرح أسئلة منبثقة
من الموضوع: الفن أم السياسة؟ الشكل أم المحتوى ؟ التجريب أم القبول بالمواضعات
السائدة؟
كانت هناك إجابات متطرفة في كلا الجانبين، إما جمالية تماما، أو سياسية
تماما، وكانت كلاهما تعاني إما من ابتعاد الأولى عن ذائقة الجمهور، وإحساس القراء
أنها تبتعد عن دور الرواية في الدور الذي يجب أن تقوم به في فهم الواقع، أو
الإحساس بالمباشرة في الحالة الثانية وتحول النصوص لنقل مباشر للواقع أو تسجيل له.
كان بين الإجابات محاولات رأت أن تتخذ موقفًا وسطيًا بين الفن والسياسة وهو ما انتهجه جورج أورويل في مزرعة الحيوان المنشورة عام ، 1945و1984 المنشورة 1949.
كما كانت هناك محاولات لما أسمي بالواقعية الجديدة مثلها بين آخرين فيليب روث الذي
كان يرى أن الرواية لا بد أن تقدم تمثيلا للواقع ولكن بأساليب جديدة.
لكن ما اتفق عليه الروائيون الحديثون أن الواقع يعتمد على طريقة رؤية المرء
له. وأن نقله أو محاكاته كما يبدو ليس أكثر من نوع من التزييف. وأنه لا بد من بحث
وسائل أخرى لبحث حقيقة هذا الواقع.
العالم الأمريكي الياباني الأصل ميشيو كاكو في كتابه مستقبل العقل، الصادرة ترجمته العربية عن سلسلة عالم المعرفة، يسأل:
هل الحقيقة حقيقة فعلا؟
ويجيب قائلا: "يعرف كل منا التعبير الرؤية خير برهان SEEING
IS BELEAVING مع ذلك فإن ما نراه هو في الحقيقة وهم. على سبيل المثال عندما نرى مشهدا
طبيعيا يبدو منظرا سينمائيا ناعما. في الحقيقة هناك ثغرة في حقل رؤيتنا توجد عند
موقع العصب البصري في الشبكية. من المفترض أن نرى هذه البقعة السوداء الضخمة أينما
نظرنا لكن أدمغتنا تملأ تلك الثغرة بتغطيتها وتعديلها وهذا يعني أن جزء من رؤيتنا
هو في الحقيقة زائف يولده عقلنا الباطن لخداعنا".
ويقول:
"نمتلك مجسات في شبكية العين يمكنها أن تكتشف اللون الأحمر والأخضر
والأزرق فقط وهذا يعني أننا لا نرى الأصفر والبني والبرتقالي ومجموعة الألوان
الأخرى حقا هذه الألوان موجودة لكن دماغنا يستطيع تقريب كل منها فقط بخلط كميات من
الأحمر والأزرق والأخضر.
تخدعنا عيوننا أيضا إلى التفكير أن في استطاعتنا رؤية العمق وما نراه هو
صور مقربة أو بعد ثالث بين صورتين تتكون كل منهما في شبكية إحدى العينين".
بالتالي، ومع أخذ هذه الحقائق العلمية في الاعتبار، فحين تقوم الرواية فقط
بالمحاكاة ونقل ما يفترض أنه واقع فهي لا تقدم إلا وجهة نظر سطحية ومزيفة، وكان
وعي الحداثة بهذه المشكلة هو السبب في البحث عن وسائل سرد جديدة، لا تكتفي بفكرة
أن يكون السرد انعكاس صورة أو نقل لصورة في مرآه، بل بما يشبه استخدام الآشعة
السينية.
أصبح وعي الحداثة يبتغي نقل ما وراء الواقع وليس محاكاة الواقع أو نقله كما
يبدو.
والمهم هنا أن نفهم أن هذه النقلات في مفاهيم السرد الحديث لم تكن مجرد ترف
أو تحيز لأفكار جمالية محضة، بل كانت استجابة تغيرات عميقة طالت المجتمعات
الغربية، وكان أبرزها وأقساها هي الحرب العالمية ثم ما أدت إليه من إحساس عام
بالهزيمة، وخصوصا هزيمة قيم الحداثة فلم تعد الحداثة عملية اطراد متقدم في الزمن
وتقدم مستمر له نهايات سعيدة كما كان الأمر يبدو عليه، بل على العكس، فقد قادت
الحداثة إلى واحدة من أكبر المذابح البشرية في التاريخ، راح ضحيتها ملايين، وشردت
بسببها آلاف العائلات، وكان لا بد من إيجاد وسائل حديثة في السرد للتعبير عن
المتغيرات الاجتماعية والقيم. وهو نفس ما أدى إلى إحساس الأمريكيين أيضا بسبب
الحرب الأهلية في أمريكا.
وظهرت نزعات جديدة في الرواية مثل ما عرف بأعمال جيل البيت Beat من أمثال
جاك كرواك، والأعمال السوريالية، ومسرح العبث، وكذلك وضع الجنس كوسيلة لفهم
الشخصية الإنسانية ونوازعها وسلوكها، في محاولة لكسر تابوهات قيدت الكتاب كثيرا،
وهو ما تجلى في أعمال هنري ميللر، مدار الجدي ومدار السرطان، أو في بعض أعمال نابكوف
مثل لوليتا، وطبعا كانت هناك محاولات سبقت ذلك على يد د.ه لورانس في "عشيق
الليدي تشاترلي" مثلا وسواها
.
ثم جاءت رواية ما بعد الحداثة
أولا لا بد من التمهيد بالقول أن "ما بعد الحداثة" هي موجة من
موجات الحداثة، وليست انفصالا عن الحداثة، بل حلقة أو موجة جديدة من موجات
التحديث، جاءت كاستجابة لمحاولات حل المعضلات التي أخفقت حقبة الحداثة في علاجها،
وما يهمنا هنا الرواية، لذلك يمكن اقول أن المشكلات التي واجهت السرد الحديث حاولت
ما بعد الحداثة علاجها من خلال طرح أساليب تجريبية تشكك في جدوى كل ما سبق، وقد
كانت بعض هذه التجارب متطرفة ولم يستسغها الجمهور، لكنها أسهمت في علاج بعض مشكلات
السرد الحداثي في النهاية.
يقول جيسي ماتز: "سترتقي الرواية ما بعد الحداثية فوق النزاعات
الواقعية واللاوقعية وبين الشكلانية والنزعة المضمونية وبين الأدب الخالص والملتزم
بقصد جمع المزايا الأكثر حيوية في روايات الماضي وتوظيفها في الفن الروائي الجديد".
وكانت الخصائص هي تفكيك نزعة التعود البدهي على الأشياء وتوظيف الوعي
والتشظي المفرط، وهي أعمال لها أمثلة كثيرة بينها كتبات بورخس، وعدد من أعمال
الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو، وأيضا اعتبرت أعمال ماركيز وأخوليو كورتاثر،
إرهاصات لما بعد الحداثة، لأنها اعتمدت على الخيال والفانتازيا بديلا للواقعية، كما
أدخلت سؤال الرواية نفسه في متن النص وظهرت تجارب الكتابة عن الكتابة في أعمال
كثيرة لعل أبرزها كتابات بول أوستر، وميلان كونديرا، بحيث أصبح العمل السردي هو
نفسه أيضا موضوعا للمساءلة مع موضوعات الشخصيات الروائية التي تتناولها الرواية.
ثم ظهرت في نفس الوقت أشكال أخرى لما بعد الحداثة تمثلت في موجات من أدب
يعتمد على الخيال والفانتازيا مثل الواقعية السحرية، أو حتى وروايات ما يعرف
بالديستوبيا وما يتفرع منها من أنواع سردية مثل أدب الرعب وغيره.
السرد العربي: حداثة أم ردة؟
هذا باختصار شديد أبرز التحولات التي مر بها السرد الغربي، وحين نتأمل
السرد العربي فسوف نجد أنه في التوقيت الذي كان سؤال الحداثة يطرح نفسه بقوة كانت
الرواية العربية بالكاد تتلمس طريقها في أساليب السرد التقليدية التي يمكن أن نجد
مثلا بعض سماتها في روايات المرحلة الأولى لنجيب محفوظ والتي تمتد حتى منتصف
الخمسينات تقريبا.
ومع ذلك فلم يكن محفوظ بعيدا عن التطورات التي كانت تجري في النص الغربي
الحديث لأنه استخدم مثلا تيار الوعي على استحياء في رواية "السراب"،
بالإضافة إلى الاستفادة من دراسات علم النفس، ومن تيار الوعي في المونولوجات
الداخلية الطويلة، وهي ما ركزت عليه روايات تيار الوعي السابق الإشارة إليها، لدى
فيرجينا وولف وجيمس جويس، بدأ استخدام محفوظ للمونولوج الداخلي منذ الثلاثية وفي
اللص والكلاب وغيرها، ثم انتقل من مرحلة السارد العليم إلى السارد غير التقليدي أي
تناول النص من أكثر من وجهة نظر كما فعل، في المرايا، وفي غيرها. ثم المنهج الرمزي
في أولاد حارتنا والحرافيش، وصولا إلى الأشكال التجريدية في الأعمال الأخيرة له
مثل أحلام فترة النقاهة. وأيضا أغلب أعماله بعد الستينات كانت تميل إلى نوع من
الرمزية والتجريد الذي يستوعب تيارات الحداثة في السرد.
وكانت هناك تجارب أرادت أن تحدث الرواية في مصر منها تجربة "قنطرة
الذي كفر" للدكتور مصطفى مشرفة الذي أراد كتابة نص كامل بالعامية المصرية،
وتجارب أخرى أكثر نخبوية مثل تجربة العنقاء للويس عوض، وتجارب طه حسين، وأيضا
تجارب مختلفة في النوع الأدبي نفسه لتوفيق الحكيم، الذي كان يحاول البحث عن أشكال
سردية جديدة تمزج بين أكثر من نوع أدبي.
ثم ظهر جيل الستينات في الأدب في مصر عبر محاولات قوية في التجريب الروائي،
وإيجاد أشكال جديدة للسرد تتلاءم أيضا مع المضامين الجديدة لجيل شهد أحلاما كبيرة
في النهضة والتقدم، لكن كل هذه الأحلام العظيمة تحولت الأحلام إلى كابوس مع هزيمة
1967 ، واصبح كل ما آمن به هذا الجيل موضعا للشك، وغاب اليقين، وظهرت محاولات
أدبية تجريبية تجلت في أعمال الغيطاني، الذي حاول الاستفادة من التراث العربي في
صياغة النصوص المعاصرة، كما فعل في رواية رسالة في الصبابة والوجد، أو البحث عن
الغرائبي في منطقة مصر القديمة والاحتفاء به في وقائع حارة الزعفراني، ويوميات شاب
عاش ألف عام، واستخدام الرمز ايضا في التعبير عن القمع والديكتاتورية في الزيني
بركات، وأيضا استخدام الرؤيا الصوفية في محاولات البحث عن إجابات أسئلة الفرد في
مواجهة الواقع قبل وبعد 67 خصوصا في رواية التجليات، ثم جاءت محاولات صنع الله
ابراهيم التي حاولت أن تقدم الحياة اليومية لأشخاص عادية في تغيير تام لصورة البطل
المعتاد، وهو ما تجلى في تلك الرائحة، ثم في نجمة أغسطس والتي قدم فيها بناء سرديا
حاول أن يكون مشابها لبناء السد العالي، وقدم محاولة في الرواية الكابوسية
المستلهمة من كافكا في اللجنة، ثم اتجه للواقعية التوثيقية في ذات، واستمر في
منهجه التجريبي.
وبالرغم من بساطة اللغة التي
استخدمها صنع الله، لكن ذلك كان مؤشرا على أن اللغة كانت موضوعا لسؤال التجديد في
النص المعاصر، وقد قدم تقريبا في نفس الوقت الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي تجارب
سردية تجريبية مدهشة اعتمدت على اللغة أيضًا عبر محاولة تحديث اللغة العربية
القديمة بالإضافة إلى بعض سمات ما بعد الحداثة مثل اللعب، والسخرية، خصوصا في
وقائع اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، وجاءت
أعمال إدوار الخراط لتقدم اقتراحا آخر يهتم بالذات، ويركز على المشاعر الفردية
وأسئلة الإنسان الوجودية مع محاولة خلق معجم لغوي خاص وجمالي. ربما عابه لاحقا
تكراره لنفس الخبرة الجمالية بلا تطوير. ثم جاءت تجارب البساطي لتقديم بعض
المحاولات التجريبية التي حاولت تلمس الواقعية السحرية كما في رواية صخب البحيرة،
وغيرها.
لكن المهم ان الرواية العربية الحديثة وبينها تجارب تجريبية مثل بعض أعمال
عبدالرحمن منيف، وأعمال اسماعيل فهد اسماعيل، ومن لبنان إلياس خوري، وربما بعض
أعمال فؤاد التكرلي في العراق، وغيرهم بطبيعة الحال، كانت جميعا قد أنهت مرحلة
"الحكي" منتقلة إلى مفاهيم الرواية الحديثة التي تتكيء على مفهوم "العرض"،
وعلى تخليق لغة سردية خاصة ومختلفة، وهو ما استمر في أعمال أغلب هذه الأسماء،
ومعها أيضا تجارب أخرى، لكن الواضح في كل هذه التجارب أن الهم السياسي كان مشتركا
أساسيا بينها، فقد كان التركيز منصبا على موضوعات مثل القمع والعلاقة بين المثقف
والسلطة أو الشعب والسلطة. ومع ذلك فقد نجت المحاولات التجريبية من المباشرة، من
خلال اقتراح أساليب التجديد المختلفة.
ثم اتخذت محاولات تحديث أشكالا أخرى في الأجيال الجديدة التي مثلها غالبا
جيل التسعينات في مصر. وبدأ بمحاولات أغلبها قدم سردا ذاتيًّا يهتم بالأنا،
والتجارب الحياتية اليومية، بعيدًا عن الشعارات السياسية أو الاجتماعية المباشرة،
واختارت أن تحاول الإجابة عن الأسئلة من خلال إعادة تأمل الذات في الحياة اليومية
العادية، وبدأت تُلقي الضوء على شخصيات تعارض الشكل التقليدي للبطل، ثم تطورت هذه
التجارب لاحقًا وظهر منها عدد من الأعمال التي انحازت لتجارب ما بعد الحداثة والتي
تمثلت في بعض أعمال كتاب هذا الجيل، من بينهم على سبيل المثال منصورة عز الدين،
طارق إمام، ياسر عبدالحافظ، وغيرهم.
لكن ما يلاحظ اليوم أن هناك عودة غريبة لوسائل السرد التقليدية في العديد
من الروايات الجديدة، في مصر وغيرها، بدأت في مصر مع عمارة يعقوبيان، لأنها عادت
للرواية البلزاكية التقليدية.
وفي العالم العربي فرضت الحروب والأوضاع السياسية، خصوصا في العراق وسوريا نفسها على الكتاب في هذين
البلدين، وتم تناول عواقب الحرب في العراق أو الأحداث في سوريا بوسائل سردية
تقليدية، في غالبيتها، تعود للحكي على حساب العرض، أي أنها في غالبيتها حكايات،
تتضمن مضامين سياسية مباشرة أو غير مباشرة، مع استثناءات فرية هنا أو هناك بطبيعة
الحال، في بعض أعمال فواز حداد، أو رواية مثل فرانكشتاين في بغداد، وحتى الأعمال
العربية التي تصنف بأنها ديستوبيات، اتسمت بمفارقة غريبة وهي تجاهلها لموضوع
التكنولوجيا والتقنيات أو عدم تناولها بجدية، رغم أنها في الأصل روايات مستقبلية، تندرج
في أطار الخيال العلمي، ومثيلتها في الغرب تمارس بمعرفة كبيرة في العلوم، أو تكون
التقنية التكنولجية أساسا لها، مهما أوغلت في التشاؤم أو تقديم واقع مستقبلي.
والمدهش أن هناك حالة حفاوة بهذه
السرديات التقليدية من قبل لجان تحكيم الجوائز، أو القراء، كأنما تتجاهل كامل
تاريخ حداثة السرد الغربي والعربي على السواء، في حين أن الروايات التي تحوز جوائز
في الغرب هي عادة ما تكون ذات شكل سردي وأساليب وتقنيات سردية جديدة، فالجدّة تظل
هي معيار أي عمل سردي.
والسؤال الآن لماذا يغيب السؤال الذي انبثقت منه الأعمال التجريبية ولا
تزال في الغرب؟ وكذلك على المستوى العربي؟
طبعا بالتأكيد من بين أسباب هذه
الحالة واستمراءها انزياح النقد من ساحة النقد لعدم وجود حركة نقد جادة ورصينة
ومؤثرة، لصالح العروض الصحفية القائمة على المجاملات أكثر من تقديم جهد نقدي
حقيقي، ولصالح سلطة النقد الحديثة التي أصبحت ساحاتها الآن تعليقات القراء في
وسائط التواصل الاجتماعي وفي مواقع مثل الجود ريدز.
تقديري أن هذا كله يؤكد على موقف من الرواية، موقف يؤكد عدم اتخاذ الرواية
بالجدية الواجبة، الجدية التي كانت سببا في إيجاد الروايات التي لا تزال قابلة
للقراءة اليوم والتي تعد من الكلاسيكيات التي لا يهزمها الزمن.
الجدية التي جعلت مشروع كاتب مثل ماركيز يخرج من إطار الهامش، وتصبح من
روايات المركز الأدبي العالمي وتحصل على نوبل، أو تجعل كاتبا مثل اورهان باموق
موضعا لحفاوة أوربا قبل حصوله على نوبل بعدة سنوات حين استقبلت روايته إسمي أحمر
بتقدير كبير دعا الصحف الألمانية للإشادة به ووصفه بالكاتب الأوروبي الذي يعلم
أوربا كتابة الرواية. وصحيح أنا أشك أن لدينا في الأدب العربي المعاصر رواية في
قوة رواية مثل إسمي أحمر، من حيث الأسلوب والفكرة والبحث، ووضع الفن الإسلامي
والألوان أبطالا بين شخصيات الرواية.
لذلك أرى أنه من المهم في ختام هذه المحاضرة التوقف عند إشارة مهمة يشير
لها باموك في كتابه: الروائي الساذج والحساس.
بين ما يقوله باموك "لقد تعلمت التعامل مع الحياة بجدية، جاء ذلك
نتيجة تعاملي مع الروايات بجدية في مرحلة شبابي. الروايات الأدبية تقنعنا بأننا
يجب أن نتعامل مع الحياة بجدية من خلال إظهار أننا في الحقيقة نمتلك قدرة التأثير
على الأحداث وأن اختياراتنا الشخصية تشكل حياتنا. في المجتمعات المغلقة أو شبه
المغلقة حيث اختيارات الفرد محدودة فن الرواية يبقى متخلفا. لكن متى ما تطور فن
الرواية في مثل هذه المجتمعات فسوف يدعو الناس إلى دراسة حياتهم، وتحقيق ذلك يتم
من خلال تقديم أبنية سردية دقيقة عن الصفات الشخصية للفرد".
ويقول باموك شرحا لفكرة أساسية في كتابه "الروائي الساذج
والحساس"أن تكون روائيا هو الإبداع في أن تكون ساذجا وحسّاسا في الوقت
نفسه".
واسمحوا لي أن أقتطف هذه المقتطفات الطويلة لأهميتها.
يقول باموك:"في هذا المقال المشهور الذي وصفه توماس مان بأنه
"أجمل مقال في اللغة الالمانية" قسم شيللر الشعراء إلى مجموعتين:
الساذجين والحساسين. الشعراء الساذجون متوحدون مع الطبيعة، في الحقيقة يشبهون
الطبيعة: هادئة، قاسية، وحكيمة. يكتبون قصائدهم بكل عفوية، وتقريبا بدون تفكير،
بدون قلق من أي تبعات فكرية أو أخلاقية لكلماتهم وبدون اهتمام لما قدي قوله
الآخرون".
"من ناحية أخرى ووفقا لشيللر، فالشاعر الحساس (المتأمل، العاطفي) قلق،
وقبل كل شيء هو غير متأكد ما إذا كانت كلماته ستحيط بالواقع (..) هو واعي جدا
للقصيدة التي يكتبها، ولطرق والأساليب التي يستخدمها. الشاعر الساذج لا يميز كثيرا
بين فهمه للعالم، والعالم نفسه. لكن الشاعر العاطفي المتأمل المعاصر يشكك في كل
شيء يلاحظه، ويشكك في مشاعره".
"عندما قرأت مقال شيلر عن "الشعر الساذح والحساس" منذ
ثلاثين عاما، أنا أيضا – تماما مثل شيلر ممتعض من جوته- أتذمر من سذاجة وطفولة
الروائيين الأتراك من الجيل السابق. الروائيون كتبوا رواياتهم بسهولة بدون قلق حول
مشاكل الأسلوب والأداء الفني. وأنا ربطت مصطلح ساذج (الذي لا زلت أستخدمه بمفهومه
السلبي) ليس فقط بهم، ولكن بكل الكتاب في العالم الذين اعتبروا رواية القرن التاسع
عشر البلزاكية (نسبة إلى بلزاك) واقعا طبيعيا لا جدال فيه، الآن بعد مغامرتي التي دامت
خمسة وثلاثين عاما في كتابة الرواية أحب أن أستمر مع أمثلتي الخاصة".
هنا ينتهي كلام باموك، لذلك أعتقد أن التحية واجبة لكل التجارب التي اتسمت
بالتوازن بين السذاجة والحساسية، وكل الأعمال التجريبية المهمة التي أضافت للسرد العربي
من دون أن تخشى من القارئ، والتي تضيف لأفق السرد العربي، مهما انحسرت شعبيتها
اليوم، فهي بالتأكيد ستظل الرافد الحقيقي لتطوير السرد العربي الذي لا يمكن له أن
يتجاوز موقعه الذي يراوح فيه من دون تجارب جريئة، تضيف لتاريخ السرد العالمي
والإنساني، ولفن الرواية التي تعد الحداثة جانبا أصيلا في جينات تطورها وسبب
لصمودها بمرور الزمن.
محاضرة أقيمت في منصة الفن المعاصر (كاب) في الكويت
No comments:
Post a Comment