تغريدة
وداعا للعقل!
إبراهيم فرغلي
أشعر بخسارة مضاعفة مع كل خبر لوفاة عقلاني عربي، في زمن أصبح التفكير فيه
خطيئة. زمن يُغتال فيه العقل في عصرنا العربي المكبّل بالغيبيات، والنقل عن ناقلي
التراث، وبانتقال جينات الديكتاتورية من السلطة للفرد، ومكبل أيضا، بصلافة
المراهقة الفكرية، وشللية القبائل الثقافية!
نعم أشعر بخسارة فادحة لغياب المفكر والمثقف والعقلاني الموسوعي جورج
طرابيشي، وإن كنت أعرف أن وفاته، كما الشائع في ثقافتنا، سوف تكون تكأة لإنعاش
أفكاره ومشروعه الرائد في نقد مشروع "نقد العقل العربي" للمفكر المغربي
الراحل عابد الجابري، مقدما نموذجا فريدا في كيفية وضرورة تخلي حارس المعرفة، أيا
كان، عن تقديس آباء المعرفة، المفترضين، وكشف ثغرات مشروعاتهم التي قد تبنى على
اقتباسات، أو نقل عن فرع، من دون تمحيص.
نقد "نقد العقل العربي" اقتضى من طرابيشي ربع قرن بالتمام، عاد
خلالها لمصادر التراث التي استعان بها الجابري، ليتأمل ويقارن، ويتعرف على مواطن
التراث التي جاءت بما يتناقض مع معارفه الشخصية، أو مع ثوابت ووقائع ومقولات
تاريخية، كأن يعود لقراءة رسائل إخوان الصفا للتحقق من مقولة عابرة للجابري؛ زعم
فيها أنهم أنكروا الفلسفة، وهو ما يتناقض مع الكثير من منجزهم مثلا، وبهذا كان
مشروعه الأساس كشف المنطلقات المزيفة في نقد العقل العربي لأجل عقلانية غير مزيفة.
كم مقولة ومشروع فكري نحتاج اليوم لإعادة تأملها وفحصها ونقدها، وخصوصا تلك
المقولات التي يتناقلها بعض المثقفين عن الديمقراطية المستلبة من النموذج الغربي،
والتي يستخدمونها لمغازلة الغرب، لكي يصفهم بالمستنيرين على حساب فهم الواقع
الذهني والثقافي للمجتمع المصري، وبناء الطريقة التي يمكن بها تجذير مفاهيم
الثقافة الديمقراطية بعدل كامل بين فئات متنافرة ومتباينة طبقيا وثقافيا
واجتماعيا. كيف يمكن تثوير المعرفة في مجتمع تسوده الأمية الأبجدية، ويرفل متعلميه
في أمية ثقافية مروعة؟ وكيف يمكن تحقيق مساواة الفلاح الأمي الذي يأتي "أكل
العيش" في أعلى سلم أولوياته، مع الثوري النقي المتحذلق المتعالي بقشور
المعرفة بلا إدراك حقيقي لجوهرها على تراب هذه الأرض وثقافة أهلها؟ والذي ينادي
بالحرية بينما يخلط بينها وبين التحرر؟
كم مقولة نحتاج لإعادة تأملها لتفضح كيف أصبحت الديمقراطية مجرد مقولات
مزيفة يستخدمها شارع ثوري مزيف لأجل أن يظل محسوبا على "شلّة الثورة"،
ويحقق شعبية عابرة للأجيال، أوخوفا من أن يتعرض للتجاهل والإقصاء عن جنة
الديمقراطية الثورية الشابة؟ وجنة المنح والدعوات والمؤتمرات "الديمقراطية"
الغربية؟
كم مقولة نحتاج لتمحيصها لندرك أن نقد السلطة وإن كانت واجبا، فإن نقد المعارضة
من داخلها فريضة، ومسؤولية من يريد حقا أن يقوّم السلطة أو يقاومها؟ فلا أمل لبناء
مدني من دون معارضة قوية.
في كتابه الاستثنائي "من النهضة إلى الردة"، حذر طرابيشي من
الغلو في تحويل الديموقراطية إلى معجزة، موضحا أنه بقدر تحولها لمذهب من مذاهب العصر
الذهبي، فإنها قد تكون قاتلة لنفسها. فالديموقراطية منطق لا لاهوت، معادلة جبرية
لا صيغة سحرية. ومؤكدا أنه من دون "ثقافة الديموقراطية" فإن الإجرائية، أو
الشكلانية الديموقراطية، قد تنقلب وبالاً على الديموقراطية نفسها. وبالمناسبة، لم يكن يقصد الدعوة
للديكتاتورية طبعا، بل داعيا لتأمل المفاهيم، بل محذرا من ديمقراطية مزيفة قد تهوي
بالجميع إلى هاوية.
نشرت في القاهرة في 22 إبريل 2016
No comments:
Post a Comment