عن المثقف ودوره بعد الثورة
قبل أن أعود لتأمل الطريقة التي تعامل بها
المثقفون مع تطورات الأحداث من بعد 30 يونية وحتى اليوم، وفي ظني أنها في غالبها
لم تتعد حدود ما تم اختباره سابقا في كافة المراحل التي مرت بها الثورة من
رومانسية وشعارات أخلاقية وخلط مفزع بين فكرة الثقافة والوطنية، أي اعتبار أن
امثقف يجب أن يكون وطنيا بعيدا عن مدى تمتعه بالأدوات المعرفية اللازمة لتطوير
أفكاره أم لا، وهو تراث قديم على اي حال يعود لجيل الستينات ورثه الجيل الجديد بلا
تدقيق وبشكل ربما أكثر شعرية، رغم أن الموضوع كله هو موضوع سياسي أي يقع في دوائر
المصلحة العامة وكيفية تحقيقها وكيفية تطوير الأولويات من أجل الوصول إلى وتحقيق
الأهداف. وبالرغم من أن أغلب المثقفين عادة ما يقولون أنهم مع فكرة النقد الذاتي
إلا أنني لا ارى أي محاولة لهذا النقد الذاتي، وبما أنني في النهاية محسوب على هذه
الجماعة فإن أي محاولة للنقد الذاتي هنا ستكون بمثابة نقد ذاتي، وفيما يلي فكرة
صغيرة عن دور المثقف بعد الثورة أففتح بها الفكرة وربما النقاش، مع التأكيد ان هذه الفكرة كتبت قبل فترة تزيد عن العام، وينقصها النقد الذي أراه واجبا اليوم إلى كتلة شباب الثورة الذين نجحوا في إسقاط رمز نظام سابق ثم تخبطوا بعد ذلك، وهنا تأتي مسؤولية المثقفين كما أرى جانبا منها فيما يلي :
الموضوع مركب في الحقيقة، لأن الموضوع لا يخص المثقف بشكل
مباشر، او بالأدق هناك نوع من التعميم في استخدام كلمة مثقف.. فأي مثقف نقصد هنا؟
وهل حقا يمكن لهذا المثقف أن يلهم شعبا
ليقوم بثورة؟ هذا هو، أي التحريض على الثورة، في الحقيقة عمل رجال سياسة، في
الأساس، والأحزاب والنقابات، خصوصا إذا كانت ثورة شعبية، أي أن القطاع الكبير فيها
لا يكون بالضرورة مثقفا.
من الأمثلة القليلة والساطعة على المثقف الذي يمكن له إشعال
ثورة نموذج البطل القومي الفلبيني خوزيه ريزال الذي اعتقل على يد الإسبان واعدم
وبقيت روايته "لا تمسني" وقودا للشعب الفلبيني الذي قام بالثورة بعد
اعدامه مباشرة واستطاع أن يحصل على استقلاله بعد 300 عام من الاحتلال. لكن أي رجل
كان ريزال؟.إنه استثناء نادر هذا المثقف الكاتب الروائي المؤرخ النبيل.
لكن في المنطقة العربية لا يمكن القياس على ذلك..لأن المثقف
في النهاية ليس دوره التحريض، بل خلق الوعي، وإذا تابعنا أغلب من يتكلمون من شباب
ثورة 25 يناير في مصر من الشباب سيتكشف لنا بوضوح أنهم مثقفون، بمعنى أن لديهم
وعيا تكون من قراءات واسعة واطلاع، لكن ما يتميزوا به عن الاجيال الأخرى هو قدرتهم
على الخيال، واليقين في قدرتهم على تحقق ذلك الخيال، وهذا ما يفسر حجم المنجز الذي
انجزوه في نحو 18 يوما والذي كانت أجيال أخرى تظن أن أمامهم على الأقل خمسة عقود
ليتحقق نصف ما تم إنجازه.
لبعض المثقفين دور كبير بالتأكيد في الكتابة ضد الفساد وضد
النظام السابق بكل رموزه رغم التهديد والقمع وهذا يحسب لهم، لكنه ليس كافيا لأن
التحريض شيء والوعي شيء آخر.
أعتقد أن الدور الحقيقي للمثقف يبتغي تجنب المستويات
السطحية لتناول فكرة الديمقراطية او كيفية التطلع أو تحقيق نهضة مجتمعاتهم.
فالإشارة للفساد وللقمع هو مجرد معلومات يتناقلها الناس في المقاهي.. وقد يوصف
المثقف في هذه الحالة بالجريء..مثل الشباب الذين واجهوا جحافل الأمن والمدرعات
بصدورهم في المظاهرات. أما دور المثقف الحقيقي في رأيي فيجب أن يشير للناس عما
تعنيه الثورة والقفز بالخيال لما يتعدى الراهن لتخيل المستقبل، والتبشير بكل ما
تعنيه افق الدولة المستقبلية وهذا مثلا كان سببا لبلبلة كبيرة لدى اصحاب الوعي
المحدود عن معنى الثورة وما تريده، وقد كان ذلك الطموح والوعي هو ما تطلع له شباب
الثوار من البداية أي كيفية تكوين دولة مساواة وعدل وحرية على أسس نظرية سليمة
ووفقا لمنهج عقلاني وعلمي، وليس بمجرد ترديد شعارات بسيطة ذات بعد واحد ومباشرة.
إن وضع المثقف الراهن يشبه في نظري وضع أحد الهتِّيفة الذين
حازوا شهرة في الهتاف في المظاهرات خلال السنوات الخمس الماضية، والذي ظل يبحث عن
أي تظاهرة ويجري ليرفع على الأكتاف، اتكاء على ماض في الكفاح الطلابي ضد
الديكتاتورية وضد نظام السادات.
لقد ظل الرجل يهتف بنفس الهتافات التي كانت تتردد في
السبعينات بلا أي إضافة أو إبداع أو خيال. وربما لذلك ظلت تلك التظاهرات محدودة في
قوتها وتأثيرها، لم تلهم أحدا، ولم تثوّر احدا، بينما الشباب – شباب 25 يناير،
الأحياء منهم والشهداء- في ثورتهم النبيلة ابتكروا شعارات جديدة قوية ومبتكرة
وملهمة "الشعب يريد إسقاط النظام"، وقد كان.
أظن أن المثقفين يحتاجون لأن يتعلموا الكثير من شباب
الثورة، ومن بين ما ينبغي لهم أن يتعلموه أن الثقافة تحتاج للخيال، وللمبادرات،
ووضوح الرؤية والثقة بالنفس، والأهم من هذا كله : النبل بالمعنى الأخلاقي والجمالي
معا. النبل بمعنى القدرة على الإيثار، والتضحية بالنفس من أجل الآخرين، أظن أنه
على المثقفين أن يتخلوا قليلا، وربما كثيرا، عن نرجسيتهم وتضخم ذواتهم المريض، وأن
يعالجوا ذواتهم من أدران الانتهازية التي كانت سمة مرحلة كاملة خلقها نظام قمعي
فاسد وامتثل لقيمها بعض أو الكثير من المثقفين مع الأسف، لأن المرحلة المقبلة هي
مرحلة التوعية ونشر مفاهيم الحرية والعدل والدولة المدنية، وهذا يحتاج لأفكار
عميقة وجدية في الطرح وليس مجرد خطابات يظن من يكتبونها أنهم يقفون على المنبر.
ويستعيدون أزمانا قديمة لا تخص الراهن الذي نعيش.. ولكي لا أبدو واعظا أو ملاكا
بشريا أو نبيا، فأنا لا أستثني نفسي من هذا النقد، بل وأشير إلى نفسي بأصابع اربعة
لو اقتضى الأمر.
No comments:
Post a Comment