Wednesday, December 2, 2015

الشوارع الخلفية في الرحلة الأوربية


الشوارع الخلفية في الرحلة الأوربية 
مع الصديق عبدالوهاب الحمادي، مدير مركز دروب عقب المحاضرة

فكرة الرحلة بالنسبة لي، وسيلة للتعرف على الذات من خلال الآخر، وسيلة لممارسة الإنسانية، باعتبارك آخر في أرضه، واختبار فكرة الهوية الإنسانية التي تحتضن الهويات المختلفة في مكان واحد.ولدي في مقدمة كتابي "وهم الحدود المصنوعة بالدم"  إشارات عديدة على الفكرة وتأملات لفكرة المواطنة. هل لا بد أن ترتبط بحدود جغرافية أم يمكن أن تكون فكرة المواطنة متجاوزة للحدود، وتكون إنسانية على اعتبار أن هذا هو الوضع الذي كانت عليه الحياة في التاريخ البشري بشكل عام.
أما بالنسبة لموضوع الشوارع الخلفية في الرحلة الغربية، فأعتقد أنني بدأت في ملاحظتها مع أول رحلة لي لأوربا، وكانت إلى باريس.
اكتشفت أن باريس لها حضور إعلامي ودعائي قوي جدا، من خلال ما كتب عنها، وانتشار أدبها في العالم، وشهرة الأعمال والأدباء الذين عاشوا فيها إلى آخره، وبالتالي لم تكن رحلتي فيها مجرد اكتشاف، بل مقارنة مستمرة بين ما أعرفه مسبقا، وبين ما أعاينه بنفسي. ولذلك مثلا، وعلى عكس دول أخرى كثيرة زرتها مسبقا، لم أكن أشعر باحتياج لتحديد خطة مسبقة للتحرك فيها. كنت أعرف أنني سأزور الأماكن التي حفظتها عن ظهر قلب منذ الطفولة، لكني أدركت أنني بسبب هذه الشهرة الكبيرة للأماكن كنت أقوم بالمقارنة بين ما قرأته عنها، وبين ما أراه. كيف صوره لي خيالي، وبين إحساسي الواقعي.
واكتشفت طبعا أن الدعاية ترفع سقف التوقعات كثيرا، وحين ترى موضوعها في الواقع قد تحبط. وهو ما حدث مثلا حين شاهدت لوحة الموناليزا لأول مرة، طبعا لما دخلت اللوفر، كنت اعتبر كل خطوة في الطريق إلى الجيوكندا هو طريق للشرف والمجد والتاريخ. وبالفعل وجدت مثلا عشرات الأشخاص يقفون أمام وحول الجيوكندا، التي تتمتع دون غيرها من مئات اللوحات الأخرى، بحماية إضافية من خلال برواز وواجهة زجاجية. وتشعر أنها محاطة ليس فقط باهتمام، بل أيضا بنوع من التأمين الزائد.
لما نظرت وجدت أنها صغيرة جدا، معقول؟ هل هذه هي اللوحة الأسطورة؟ وهل تستحق عذاب الانتظار حتى يمكن أن أصل إليها لمشاهدتها عن قرب. بعد أول جولة لي في اللوفر، أدركت أن الدعاية بالفعل مضللة، وأن هناك مئات اللوحات الأخرى التي تستحق الدعاية والشهرة لم تحظ بمثل شهرة اللوحة منها مثلا لوحة اسمها موت ساردانابالوس لأوجين ديلاكروا، كنت شاهدتها في كتاب عن لوحات المستشرقين، وقرأت عنها وعن أعمال ديلاكروا بعد أن رأيت بعضها في متحف محمود خليل في القاهرة. في اللوفر، وقع بصري على لوحة عالية وضخمة جدا.. 
اكتشفت أنها لوحة جدارية ضخمة، لما شفتها فعلا كدت أبكي من فرط الدقة والجمال، لأنها جسدت تصويرا فنيا للحظة أدبية، ففيها يصوّر ديلاكروا دراما شعرية مقتبسة عن مسرحية لنفس الشاعر تحكي قصّة ملك آشوري قديم يقع تحت حصار فرضه عليه أعداؤه.  وفي النهاية يفضّل الملك الانتحار على الاستسلام. غير انه قبل موته يأمر حرّاسه بقتل جميع خدمه ومحظياته وحيواناته لكي يموتوا ويُدفنوا معه.
من هنا اكتشفت أهمية البحث عن الشارع الخلفي، الذي يضم المسكوت عنه، وهكذا واجهت باريس الأخرى التي لا نعرف عنها شيئا، باريس المشردين، والمتسكعين والإضرابات، الخ.
هذه الخبرة انتقلت معي في رحلتي لألمانيا، لكن في ألمانيا كانت الخبرة مختلفة من ناحيتين: أولا أنه لا يوجد شيئ متوقع، وخصوصا إني أقمت في شتوتجارت وليست مدينة شهيرة مثل برلين أو ميونخ أو فرانكفورت، وثانيا لأني بسبب خبرتي وطبيعة مشروع “مداد” الذي شاركت فيه كان المفترض أن أحاول فهم هذا المجتمع بلغة وسيطة هي الانجليزية، وبالتالي كنت أحاول أن أتأمل الناس وأتحدث معهم وأقيم صداقات، ولكن في النهاية طبعا اكتشفت إني في مجتمع نموذجي صحيح أنالأفراد فيه مثل تروس في آلة، جدول أعمالهم مشحون، لهم أيضا شكاواهم. لكن ذلك لا يقارنبباريس، مثلا، وأظن أن يومياتي في ألمانيا بدت كيوميات شخص مندهش طول الوقت من النظام، والهدوء حتى في المناطق المزدحمة، ومن الريف، كل شئ ملون وجميل وناصع حتى غير باريس. لا أعرف لماذا؟
الرحلة الفردية
أود لفت الانتباه إلى أن منهج الرحلة الفردية يختلف نسبيا، وربما قد يختلف أحيانا تماما عن الرحلة المخططة أو الموجهة، أو التي يتكلف بها الفرد. يعني على سبيل المثال عندي تجربة الرحلة الفردية الخاصة مثل فرنسا، وكذلك رحلة سويسرا، رغم أنني كنت سافرت لتغطية أحداث فنية لكني قمت برحلتي الخاصة في الشوارع الخ.
ففي الرحلة الفردية يترك الفرد نفسه للاكتشافات بلا تخطيط مسبق صارم، لأنك في الأغلب تريد أن تكتشف الآخر بطريقة فطرية، وتريد أيضا أن تتأمل ذاتك وهي تتعرف على الآخر. وكيف تتفاعل مع الاختلافات التي تراها.
لكن في الرحلة الموجهة يكون هناك هدف واضح غالبا، مثلا في رحلات “العربي” على سبيل المثال حين قمت برحلتي الفلبين وإندونيسيا كان العنوان العريض هو “تفقد أوضاع المسلمين” في البلدين، وبالتالي لا بد من الحصول على المعلومات أولا، ثم ترتيب جدول بزيارات لأماكن محددة ومقابلات صحفية تفيد الموضوع، وأن يتم ذلك بشكل دقيق جدا، لأن مدة الرحلة عادة لا تزيد عن أسبوع قد تحتاج فيها مثلا أن تتنقل بين مناطق داخلية بعيدة، وبالتالي أن تتدبر وسائل الانتقال والإقامة الداخلية والعودة إلخ. وأيضا في الرحلة الموجهة لا يمكن الالتفاف على الهدف، وعلى سبيل المثال في رحلة الفلبين كانت الخطة تقصي أحوال المسلمين أولا في المجتمع الفلبيني العادي في العاصمة، في دولة مسيحية أساسا، يعتبر المسلمين فيها أقلية، وبالتالي كان لا بد أن نخطط لرحلة داخلية إلى جزيرة مندناو في الجنوب حيث يعيش الأغلبية المسلمة وحيث أيضا تتمركز بعض الجماعات المتطرفة وأشهرها جماعة أبو سياف. وصادف توقيت الرحلة تصعيد من جهة هذه الجماعات وقيامهم باستهداف الصحافيين الأجانب. ومن هنا كانت السفارة تؤكد أنها غير مسؤولة عن ذهابنا الى الجنوب، وفي مانيلا أيضا تلقينا ما يشبه التحذير من الذهاب إلى هناك.
طبعا في ضوء أن الرحلة قد لا تتكرر أبدا لا يكون أمام المرء إلا المغامرة وتحمل المسؤولية. خلال أيامنا الأولى في مانيلا كانت الأخبار تتواتر عن مقتل صحفيين أجانب في ميندناو، وقبل ليلة من قرارنا السفر لمندناو أنا وزميلي المصور الكويتي تلقيت خبر مقتل الصحفي الخامس، أو ربما في الصباح الباكر لنفس اليوم ولكني لم أخبر زميلي الكويتي حتى لا يتردد، وأخفيت توتري، الذي صاحبني طوال الرحلة إلى الجنوب، حيث أجريت عدة اتصالات ببعض المسؤلين عن الشؤون الإسلامية من الفلبيين، وشجعوني وتمت المهمة.
على سبيل المثال أيضا رحلة جراتس أساسا كانت رحلة خاصة كنت مدعوا فيها ككاتب إلى ندوة، لمدة ثلاثة أيام، وكان كل يوم فيه نشاط، يعني محاضرة في الجامعة أولا، ثم ندوتان للقراءة من الأعمال ونقاش. وبسبب توقفمجلة العربي عن تمويل الاستطلاعات من العام 2010 تقريبا، كنت أرى في أي فرصة لرحلة خاصة أن أجري فيها استطلاعا لصالح العربي حتى نسد الفجوة. المهم كنت بين النشاط والآخر أجري مثلا مقابلة لمسؤول أو أزور معالم المدينة ، وأصور.. الخ.
والأهم من هذا كله هو محاولة التقاط روح وخصوصية المكان وتقديمه للقارئ، وهذا في تقديري أهم دور يقوم به المستطلع أو كاتب الرحلة عموما.
سؤال الحداثة
بشكل عام عندما أعدت النظر في الكتاب كاملا محاولا أن أتأمل حقيقة اهتمام هذا الكتاب، وأحسست أن الرحلة عندي بعد كونها تعرف على الآخر من جهة وبحث عن الذات طبعا، لكنها في عمقها بحث عن سؤال الحداثة.
ولهذا أعتقد أن الشوارع الخلفية بالفعل هي التي تقدم الإجابة الحقيقية عن السؤال. هل هذه المجتمعات التي نراها كنماذج للحداثة حديثة بالفعل؟ وإذا كانت بلدا مثل باريس حديثة فكيف نفسر مظاهر العشوائيات الثقافية مثل الأفارقة في مترو الأنفاق، تجمعات الشخصيات الهامشية في الضواحي. وجود مشردين كنت أراهم يجلسون نائمين وهم يضعون قبعة أو يمدون أيديهم لمن يضع فيها أي نقود… ثم في دولة حديثة كيف أفسر مثلا ذلك الغضب العارم الذي جعل الناس تخرج للشوراع وإضراب سائقي المترو . .بمعنى أن هذه الدولة الحديثة تمارس إجراءات ضد مصالح الناس، والفارق طبعا أن المجتمع يؤكد حق اللناس في التعبير السلمي عن غضبهم.
أيضا في ألمانيا لما زرت مثلا مصنع سيارات بورش وجدت فتيات يعملن في المصنع في تركيب أجزاء السيارات. لما سألت طبعا فهمت انهم مهاجرات من شرق أوربا. ثم هناك مجموعات السكارى غريبي الأطوار الذين يظهرون بالمئات في يوم مباراة لكرة القدم مثلا في شتوتجارت، وبعض الشحاذين أو المشردين الذين يظهرون هنا أو هناك؟ يسأل المرء نفسه فورا كيف تسلل هؤلاء من نظام الدولة الحديثة، وخرجوا عن الضمان الاجتماعي، الخ؟
الريف الألماني
في ألمانيا انشغلت بالسؤال عن الريف ولذلك أردت أن أزور عائلة ريفية، لأني كنت مشغول بفكرة أن القاهرة تريفت بسبب نزوح القرية إلى المدينة. وأن أزمة الحداثة في مصر وتعطل التنمية لها علاقة كبيرة بهذا الأمر، مع ضعف التنمية المحلية.
طبعا الملاحظة الأولى أن الريفي يبدو عليه أولا أنه متعلم، يرتدي أزياء أنيقة، زوجته سيدة ممكن تقول عنها أستاذة جامعة. الشئ الثاني بالتالي إن هذا العقل الأوروبي المتعلم يعمل في الحقل، ويستخدم الوسائل الزراعية المختلفة بشكل علمي. لكن مشكلتهم مثلا تمثلت في أن أبناءهم لا يريدون أن يكملوا هذا النمط من الحياة ويودون الانتقال الى المدن.
كنت مشغولا جدا في التفكير كيف يمكن أن نرتقي بالفرد في الريف وتخليصه من مصادر الرجعية الفكرية والمواريث القبلية وتعليمه الفردية، وتحديث نمط حياته في قرى لها طابع مدني قريبا من الحقول.
الوحدة في التنوع
عندما ذهبت إلى إندونيسيا، كنت بالإضافة طبعا للتعرف على مظاهر حداثة مجتمع آسيوي نامي ومسلم، قد أبديت اهتماما بمحاولة فهم جوهر المكان. أول ملاحظة هي المساحات الواسعة جدا في المساجد، بسبب الكثافة السكانية، وبعد زيارة عدد من تلك المساجد الكبيرة،إضافة إلى المعاهد المختصة في تدريس الفقه والشريعة والعلوم الإسلامية تكتشف إن هذه البلد التي يعيش بها 200 مليون مسلما، هي أغلبية بالنسبة لعدد المسلمين في منطقتنا العربية كلها،والتي تحتكر الكلام باسم الإسلام. ولكنك رغم هذه الأغلبية تجد احتراما كبيرا للآخر، وللتعددية، يعني في المتحف القومي الذي يستعرض التاريخ الاجتماعي لإندونيسيا تجد نماذج للبيوت المستخدمة لدى كل مجموعة عرقية، وصولا لغينيا الجديدة اللي يعيش فيها أناس عرايا يشبهون الإنسان البدائي، ومع ذلك فدستور الدولة لا يقول أن الدولة مسلمة، تأكيدا للتعددية،بل ترفع الدولة شعارا يحدد هويتها القائمة على التنوع وهو “الوحدة في التنوع”.
طبعا هذا المناخ المتسامح ينعكس حتى في القدرة على حل مشكلات الناس البديهية، يعني مثلا هناك منظومات لحل المشكلات الاجتماعية، وستجد ايضا أن فكرة التطرف أو التشدد غير موجودة، وفي مسجد مبنية قبابه من الذهب في إحدى ضواحي جاكرتا عرفنا أن صاحبة المسجد سيدة تتبرع للفقراء وتسفر أعدادا كبيرة سنويا للحج، الخ. في المسجد وجدنا سيدة تقوم بإلقاء محاضرة دينية، وحولها عدد من السيدات، لكنهن غير معزولات، ألا بحاجز صغير يحدد مكان السيدات، ويجلس الرجال في الجهة الأخرى ينصتون للمحاضرة بشكل طبيعي.
هذا المجتمع المسلم أيضا تجده في المقابل، رغم بعض مظاهر العشوائية في الأحياء الفقيرة لديه شبكة مواصلات جيدة، وأحد حلول الزحام مثلا كان الاهتمام بالحافلات.
طبعا النموذج الإسلامي المبهر جدا أيضا، وربما أكثر حتى من إندونيسيا، فتمثل في البوسنة لأنها ذات طابع أوروبي تماما، لكن هويتها إسلامية، وهنا تجد نفسك في مقارنة لمدينة إسلامية حديثة نموذجية تقوم هويتها أيضا على التنوع والاختلاف. وطبعا ستكتشف بعد زيارة لطلبة كلية الشريعة أو للمؤسسة الدينية هناك، أن الفكر العقلاني هو الذي يحكم هذه المؤسسات, وأن النموذج الذي يجب أن يقتدي به المسلمون هو هذا وليس غيره.
في الفلبيناكتشفت أنه لا توجدهناك هوية واضحة للفلبين، الطابع العام للمدن النامية الحديثة، الغربي نسبيا، ويمكن الأمريكي، الحي الصيني مثلا اللي زرناه كان حي فقير،وخصوصيته مستوحاة من الثقافة الصينية في التصميم وواجهات بعض المحال الخ. لكن لفت انتباهي يوم ما يشبه المهرجان سألت قالوا ليهذا يوم عيد ميلاد خوزيه ريزال، البطل القومي للفلبين، سألت وبحثت اكتشفت أنه كان طبيبا وألف كتب أدبية منها رواية كانت السبب في تأجيج ثورة شعبية ضد الإسبان انتهت بخروج الإسبان من الفلبين. وبدأت رحلة البحث عن خوزيه ريزال، ثم عن الثقافة في الفلبين وأدركت أن عندهم حركة ثقافية مهمة في آسيا : مهرجانات أدبية بيشارك فيها كل بلاد آسيا، ولديهم كاتب حصل على جائزة مان بوكر .. وحركة سينمائية وكذلك حركة مسرحية وهي اقوى الأنواع الأدلية عندهم بسبب شعبية الثقافة الشفهية
بالتالي كان سؤالي عن الخصوصية والحداثة والاجابةجاءت من الثقافة والفنون في هذه الحالة.
وهكذا كل رحلة تقدم أسئلتها وتحاول أن تجيب أيضا وتضيف إلى رصيد معرفتنا جديدا، نحن في أمس الحاجة إليه اليوم في عالم مفرط في انغلاقه على ذاته ومفرط في جنونه بذاته بفعل الخيلاء الكاذبة وهيستريا جنون العظمة.
 محاضرة ألقيت في مركز دروب الثقافي بمعرض الكويت العربي للكتاب 26 نوفمبر 2015

No comments:

Post a Comment