رحيل رضوى عاشور
المثقفة التي تحدت المحن وأصبحت ملهمة
للأجيال
إبراهيم فرغلي
رحلت رضوى عاشور،وفوجئنا جميعا بالخبر، بل
وفوجئت لاحقا أنها خضعت لجراحة صعبة في خلال الثمانية عشر يوما السابقة لتنحي
مبارك، غائبة عن الوعي عما يحدث من ثورة كانت تتمناها طويلا، وحين عادت من رحلة
العلاج ذهبت على الفور إلى الميدان. وربما لهذا كان الأمل في شفائها من محنتها
المرضية الأخيرة، وقدرتها على تجاوز محنتها كبيرا. وربما لأن رضوى من الشخصيات
التي منحت الأمل للكثيرين ولم يكن لهم ولنا أن يصدقوا أنها غابت. ولكن الأقدار
دوما لها تصاريفها.
عرفتها ككاتبة في مطلع الدراسة في الجامعة،
عبركتاب
مذكراتها عن سنوات دراستها في أمريكا "أيام طالبة مصرية
في أمريكا"،
لم أكن أعرفها بعد، وكان العنوان جاذبا، خصوصا
لمن هو متيم بالآخر مثلي، فقرأته
بشغف.
وكان الكتاب بصدقه ولغته داعما لتتبعها لاحقا في "رأيت النخل" وسراج
وخديجة وسوسن. ولاحقا في ثلاثية غرناطة.
كانت من القليلات اللائي تمكن من المزج بين
البحث الأكاديمي النقدي والعمل الإبداعي أو الكتابة الأدبية معا. لكن نصوصها أو
كثيرا منها كانت تمنحنى الإحساس بأنها "مهندسة"، بصوغ آخر يمكنني القول
أيضا أنني أشعر أن المقاييس النقدية لديها تكبح حرية المبدع. الانحياز للواقعية
والتسجيل التاريخي، وربما هندسة النص في البناء على حساب شطحات الإبداع والتجريب. في
غرناطة أبهرني المشهد الافتتاحي للنص الذي نرى فيه امرأة عارية تركض في إتجاه إبي
جعفر، أحد أبطال الرواية، من صانعي المخطوطات، وهو الجد في سلسلة تاريخ تلك العائلة الغرناطية. حيث تبدأ أحداث الثلاثية في العام الذي سقطت فيه غرناطة بإعلان المعاهدة التي
تنازل بمقتضاها أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك غرناطة عن ملكه لملكي قشتالة وأراجون.
ويستوقف أبو جعفر الفتاة منبهرا بجمالها
الفتي، ويتركها لحال سبيلها، ولاحقا حين يعلم بسقوط غرناطة يتذكرها كنذير شؤم
لسقوط المدينة. في تقديري واحد من الافتتاحيات القوية لأي نص روائي. ومع ذلك ففي
النص
كثيرا ما رأيتها تستجيب للمنطق الكلاسيكي في السرد التاريخي، وأحيانا
يسيطر وعي الناقدة على وعي المبدعة في هندسة المشاهد، خصوصا في التقطيع بين الحركة
والحوار في مشاهد حوارات رواد الحمام ليلة سقوط غرناطة. مع ذلك فإن حساسيتها
العالية للغة كانت تعوض هذا الإحساس لدي.
وبالرغم من أن غرناطة كانت تولد سؤالا رئيسا
عن الهوية، وعن اقتلاع شعب وثقافة، تذكر بالمأساة الفلسطينية، وعن تبدل أوضاعه بين
ليلة وضحاها، من الحياة في وطن، إلى التشرد أو الالتجاء لتغيير الديانة أو حتى
القابلية لأن يجد نفسه عبدا يباع في الأسواق إذا وقع في يد الملاك الجدد للأرض.
لكني أعترف أن هذه الرواية جعلتني بالعكس، ولعلها ربما النص الأول الذي يدعوني
لكي، أعيد تأمل تجربة الأندلس بوصفها تجربة استعادة أصحاب الأرض لحقهم التاريخي من
الحضارة الإسلامية الغازية والمحتلة، رغم كل ما بذله المسلمون من آثار ومنجزات
علمية وأدبية وفكرية وموسيقية لا تزال إلى الآن مرجعا أساسيا للغرب في نهضته. كما
لا زلت أذكر الأسئلة التي تطرحها عن السلطة وقوتها، عن مقارنة الشعب للمستبد الذي
رفضوه ليأتوا بمن يرون فيه الحكمة وفهم معنى الحرية فإذا به، أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك غرناطة، أضعف من وصل إلى
الحكم، بل والرجل الذي تضيع على يديه آثار السابقين والتنازل عن السلطة بإعلان المعاهدة التي تنازل بمقتضاها عن ملكه لملكي قشتالة وأراجون.
لكني للأسف لم أعد أذكر إذاما كانت هذه
القضية محورا للحوار
معها في يوم زيارتي لها في بيتها الأنيق الدافئ في وسط البلد،
في
صحبة زوجها الشاعر
الجميل مريد البرغوثي. الذي لا أتحيز له كسياسي بالمناسبة،
قدر تحيزي له كشاعر. كان لقاء ودودا دافئا وجميلا،
أظنني بادرت إليه حين وجدت أنها
محور مستمر لتعليقات من
عرفت من مجايليها وصديقاتها خصوصا أهداف سويف وأمينة
رشيد
وكذلك سامية محرز.
كما لاحظت من صديقات وأصدقاء حرصهم على تدعيم علاقتهم
بها.
خصوصا وقد عرفت منهم شذرات عن حياتها في الغربة
طويلا بسبب قصة حبها لرفيق حياتها
مريد البرغوثي
واضطرارهما للعيش خارج مصر طويلا قبل العودة والاستقرار
فيها.
لكن انطباعي الراسخ عنها هو هذا التوازن
والموضوعية الشديدة
فيما تتناوله من أفكار، وكنت أتتبع ما تكتبه لهذا السبب، إضافة
إلى
أنني أيضا كصحفي كثيرا ما كنت ألجأ إليها لمعرفة رأيها في
شؤون ثقافية عدة
والتعرف باستمرار على مايشغلها من
مشروعات إبداعية أو نقدية، خصوصا خلال فترة عملي
في
الأهرام.
ويأتي ذلك ليكمل صورتها
كمبدعة وناقدة ومثقفة وإنسانة تميز مشروعها الإبداعى بارتباطه الوثيق بقضايا التحرر
الوطنى من الظلم والقهر. واهتمامها الكبير بقضية التبعية للغرب المستعمر. وقد تجلى
هذا منذ أطروحة الدكتوراه التى كانت حول "الأدب الأفريقى الأمريكى". والذي
أتبعته بكتابها حول الرواية في غرب إفريقيا بعنوان: التابع ينهض.
كانت عاشور شاركت الدكتورة
لطيفة الزيات فى تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، التى لعبت دورا مهما فى صد
الهجوم على الثقافة الوطنية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كما كانت عضوا فاعلا فى
مجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعات التى دافعت عن استقلال الجامعات فى ظل الحكم الاستبدادى
لنظام مبارك.
رحم الله رضوى عاشور الإنسانة
والمناضلة والمثقفة التي يمثل رحيلها خسارة كبيرة لمحبيها، وقد كانت بمثابة الأم والصديقة
الفضلى للكثيرين، لكنها مثل كل أصحاب البصمات المميزة في الثقافة والفكر العربي ستظل
حية بأفكارها وكتاباتها وبما ألهمته لطلبتها ومحبيها من الأجيال المتعاقبة.
سيــــرة
ولدت رضوى عاشور في القاهرة،
سنة 1946. درست اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وبعد حصولها على شهادة
الماجستير في الأدب المقارن، من نفس الجامعة، انتقلت إلى الولايات المتحدة حيث نالت
شهادة الدكتوراه من جامعة ماساتشوستس، بأطروحة حول الأدب الإفريقي الأمريكي.
في 1977، نشرت رضوى عاشور
أول أعمالها النقدية، الطريق إلى الخيمة الأخرى، حول التجربة الأدبية لغسان كنفاني.
وفي 1978، صدر لها بالإنجليزية كتاب جبران وبليك، وهي الدراسة نقدية، التي شكلت أطروحتها
لنيل شهادة الماجستير سنة 1972.
في 1979، وتحت حكم الرئيس
أنور السادات، تم منع زوجها الفلسطيني مريد البرغوثي من الإقامة في مصر، مما أدى لتشتيت
أسرتها.
اشتغلت، بين 1990 و1993
كرئيسة لقسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب بجامعة عين شمس.
أصدرت مجموعة من الأعمال
تتناول مجال النقد التطبيقي، وساهمت في موسوعة الكاتبة العربية (2004)، وأشرفت على
ترجمة الجزء التاسع من موسوعة كامبريدج في النقد الأدبي (2005).
نشرت بين 1999 و2012 أربع
روايات ومجموعة قصصية واحدة، من أهمها رواية الطنطورية (2011) ومجموعة تقارير السيدة
راء القصصية.
في 2007، توجت بجائزة قسطنطين
كفافيس الدولية للأدب في اليونان، وأصدرت سنة 2008، ترجمة إلى الإنجليزية لمختارات
شعرية لمريد البرغوتي بعنوان "منتصف الليل وقصائد أخرى".
نشرت في صحيفة النهار - بيروت- في ١٠ كانون الأول - ديسمبر٢٠١٤