تعقيبا على مقال سيد محمود
نوبل بوب ديلان دفعة لإنعاش وسيط يعاني تجاريا
وصمت صاحب الجائزة أبلغ رد على نوبل
إبراهيم فرغلي
أعجبني مقال الصديق سيد محمود، رئيس تحرير القاهرة، العدد الماضي عن
جائزة نوبل تحت عنوان "بوب ديلان ونوبل ..حبّة فوق وحبّة تحت"، لأنه حاول
أن يجد في اختيار الجائزة سياقا مختلفا وواسعا وجديدا، ينحاز لمفاهيم ما بعد
الحداثة، ويكسر سلطة النقد التقليدية، ويصدم "أولئك الذين ينظرون للأدب نظرة
نخبوية ضيقة"، كما أنه، في تبريره لاختيار الجائزة المدهش، يشير إلى أن أنصار
التحيز لهذا الاختيار يرون فيه تفكيرا إيجابيا خارج الصندوق.
وبالرغم من أن المقال بدأ بعرض الموقفين، المعارض والمؤيد، تجاه الجائزة
إلا أنه مال في ثلثيه الأخيرين للانحياز لاختيار اللجنة لبوب ديلان. مؤيّدا رأيه
بأن الجائزة في اختيارها الجديد: "تستعيد قدرتها على مقاومة الأعراف التقليدية
والتعاطي بنوع من التقدير للثقافة الجماهيرية التي تعامت عنها النخبة طويلا، سيما تلك
المعبرة عن ميول سياسية محبطة، وحس فردى هش، إنها مواجهة مع طبقية فحولية مترسخة وبحسبما
أشار الناقد السعودي عبد الله الغذامي فى كتابه «النقد الثقافي» فإن هذه الطبقية ظلت
متمسكة برفض الطارئ والجديد، بما أنه مخالف للقياس الذوقي المؤسساتي، وهو رفض يتحول
بالتالي إلى رفض للآخر وحرمانه من حقه فى التعبير عن ذاته، وفى ممارسة ذائقته الخاصة،
وهذا يتكامل مع سابقه فى تكوين طبقية فوقية تشكل سورًا من الحراسة يحمى قلعة الثقافة
من الغزاة. ولا شك أن رفض ديلان في عالمنا العربي يعبر بوضوح عن هذه الفحولية التى
تقاوم ديمقراطية الثقافة بعدما تأكد حضور الديكتاتورية السياسية، فالسمة ما بعد حداثية
في الفنون تجلت منذ أكثر من ثلاثين عاما في إلغاء الحد الفاصل بين النخبوي والشعبي،
ومحو للحدود بين الفن والحياة اليومية، وإزالة التسلسل الهرمى بين الراقي والجماهيري
في الثقافة الدارجة، وتفضيل الأسلوب الانتقائي المشوش، وتمازج الثغرات والمحاكاة الساخرة،
والمعارضة والتهكم والسخرية والهزل والمزاح والنظر للثقافة بوصفها احتفالا".
وحتى لا أكرر ما جاء بالمقال أحيل القراء للمقال في العدد الماضي. لكني
أعتقد ان الانحياز لمبررات اللجنة من المنطلقات الما بعد حداثية التي أشار إليها
سيد محمود، واستشهد فيها بمقولات الغذامي تنقصها بالضرورة اعتبارات أخرى عديدة، من
بينها النظر إلى السياق الرأسمالي المصاحب لصعود موجة ما من الثقافة الشعبية، بشكل
عام، والصعود هنا بمعنى دعمها كما يحدث في إنتاج السينما التي أبرزت البطل الشعبي،
بمواصفاته الجديدة، المنتزعة من الأحياء الشعبية الجديدة المسماة بالعشوائيات،
بوصفه بطل الحي العشوائي بكل القيم السلبية التي يتسلح بها، وأبرزها امتلاك القوة
غير الشرعية وعشوائية القيم التي يؤمن بها واضطراب حياته قيميا، ودمجها مع أغنيات
"المهرجان" الشعبية التي أصبحت صرعة جديدة بعد صرعات مثيلة سادت واختفت
بعد أن حققت لمنتجيها الأرباح الطائلة، أو عبر إنتاج ألوان محددة من الموسيقى
الشعبية ودعمها بالإنتاج والدعاية، كما حدث في الدعم الإعلامي لعدد من الظواهر
الشعبية في الإعلام المصري مثلا على مدى العقدين الماضيين، وانتقال هذا الدعم
للسينما من خلال قيام المطربين الشعبيين بالغناء أو حتى التمثيل في الأفلام
السينمائية. فهذه الظواهر لا يمكن تأملها من دون وضع اعتبار طبيعة رأس المال الذي
يدفع بها، من أجل نوع من البحث عن الأرباح التي لا تحققها اليوم السينما الرفيعة، على
حساب القيم المتعارف عليها في الطرب أو في السينما أو كلاهما معا.
وشخصيا لا أستطيع تأمل ظاهرة نوبل هذا العام من دون الأخذ في الاعتبار
التغيرات المرعبة التي يمر بها فن الموسيقى في العالم، وكلامي هنا ينبني على بعض
أفكار إريك هوبزباوم، المؤرخ البريطاني (1917- 2012)، فالموسيقى، مقارنة بألوان
اخرى من الفنون والثقافة مثل الفن التشكيلي والعمارة والأدب المطبوع، تأثرت بشدة
بسبب التغيرات التكنولوجية سواء على مستوى نوع الموسيقى نفسها، أو على مستوى
الوسيط، أي التحولات التي مرت بها سبل الحفاظ على أو إعادة تسجيل الموسيقى من
الفونوغراف إلى النسخ الإلكترونية التي تمثل اليوم لونا من الرعب لسوق إنتاج
الموسيقى في العالم بسبب تأثر مبيعات الألبومات الموسيقية تجاريا بشكل غير مسبوق،
بسبب عدم قدرة المنتجين الموسيقيين على احتكار حق الأداء، بسبب انتشار التسجيلات
على اليوتيوب ونسخ "الأوديو" غير الرسمية.
وكونها، في الوقت نفسه، مقارنة
بوسائط حفظ الأدب المكتوب والعمارة والفن التشكيلي التقليدي، ستحتاج لوسائط جديدة
غير السائدة الآن مستقبلا بسبب التغيرات التحديثية المستمرة التي تطال برامج حفظ
الموسيقى الإلكترونية والافتراضية. وهو ما ينسحب بالمناسبة على ألوان الفن
التشكيلي الما بعد حداثي التي تواجه نفس المأزق خصوصا الفيديو كليب والوسائط
الفنية الشبيهة، فهي تنتج على وسائط ليس لها نفس قدرة صمود العمارة أو حتى الوسيط
الكتابي الورقي.
الأمر الثاني أن اختيار لجنة نوبل لنوع من الفن لا يمكن الاستماع إليه
إلا بلغته لأنه يفقد جزء كبيرا من قيمته إذا استخدمت لأدائه لغة أخرى، لأنه
"أغنية شعرية" مرتبطة بأداء موسيقي، لا يمكن الاستماع إليها بنفس النص
إذا ترجمت للغة أخرى، ما يعني أنها ستظل مسجونة في زنزانة لغتها، وربما لن تُحدث
تأثيرا وجدانيا إلا للعارفين باللغة الإنجليزية. وصحيح أن الموسيقى لغة عالمية كما
يقال، لكن بما إننا هنا بصدد "شعر غنائي"، فربما يكون هذا المنجز
الغنائي غير قادر على الصمود أمام اختبار الزمن، ولا يمكن مقارنته بقدرة صمود نصوص
شكسبير مثلا التي تتناسل وتصل لقارئها أو تشاهد على المسارح منذ أربعة قرون.
وما أنقذ نصوص شكسبير ونصوص التراث السردي عموما في اختبار الزمن تمثل في
عمليتي الطباعة في كتاب ورقي قادر على إنقاذها باستمرار، والترجمة، الآن وفي
المستقبل.
بالتالي فإن المنجز الذي منحت له جائزة نوبل هذا العام ممثلا في أغنيات
بوب ديلان، ربما للمرة الأولى ستظل منجزا لا يمكن نشره في لغات مختلفة.
ولهذا فإن ما يراه البعض خروجا من أسر التقليدية، وانحيازا لأشكال (فن -أدبية)
جديدة، قد لا يزيد عن كونه ربما دفعة، على عربة نوبل، لإنعاش سوق تجاري تهدده
التكنولوجيا الإلكترونية التي تعد أبرز ما أنتجته ما بعد الحداثة، عبر مغامرة غير
محسوبة أو لعلها محسوبة جيدا، تعرف أن مثل هذه الاختيارات تجد دائما من يبرر لها
تحت لافتات التجديد، والخروج من أطر الأنساق التقليدية، ومقاومة الفحولية والديكتاتورية
الثقافية.
ومدّا لهذا القوس ينبغي علينا أن
نتساءل، إذا ما صدقنا أن هذا الاختيار أدبي بامتياز (ولو بالمعنى الما بعد حداثوي)،
هل يمكن أن نثق حقا في أن بوب ديلان، وليس أي موسيقي وكاتب أغنيات آخر من اليابان
مثلا أو من الصين أو مصر والعالم العربي أو حتى من امريكا أو بريطانيا قد يكون هو
الأحق بالجائزة؟ ما هي الخارطة التي تحركت فيها اللجنة لكي تصل إلى اختيار يمتح من
الثقافة الأنجلو أمريكية فقط، وهل كان بين المرشحين شعراء من كتاب الأغاني من
ثقافات أخرى غير الأنجلو أمريكية؟ أم أن هذه المغامرات هي مجرد ألوان جديدة من صور
تفتيت القيم بشكل عام، في مجتمعات صارت تعاني اليوم من فكرة تسييل وتمييع كل
الأفكار لصالح ما يدعى الذائقة الشعبية؟
السؤال الأهم الآن وهو إذا سلمنا جدلا مرة أخرى في قدرة هذه المغامرة
التي قامت بها لجنة نوبل لهذا العام، على التأثير في "قيم وتقاليد" ما
يسميه أنصار المغامرة "القيم التقليدية الأدبية"، فما هو المسار الذي
سوف يسلكه مستقبل الأدب والفن؟
لعل الإجابة هنا تتمثل في بعض المنجزات التي قدمتها صرعات الفنون
التشكيلية التي سادت في الخمسينات والستينات في أوربا وأمريكا ووصلتنا في التسعينات،
وكان بين شواهدها بعض الجرائم الفنية التي ارتكبها مغامرون في محاولات لمزج الواقع
بالفن تحت عنوان "المفاهيمية"، من بينها أتذكر الآن وعلى سبيل المثال،
فضيحة قيام فنان شاب في مصر يوما، مطلع التسعينات، باستخدام عضو بشري من جثة ميت
في عمل فني. وشارك بها في صالون الشباب. وهذه التجربة وغيرها مما شاع باسم
"الفن المفاهيمي" جاء سليلا لتجربة مارسيل دوشامب الذي دشن ما عرف باسم
"الفن جاهز الصنع"، حين وضع "مبولة" من تلك المتواجدة في
المراحيض العمومية في معرضه الشهير. ولا يمكن إعادة تأمل هذه التجربة وما امتد
خلفها في إطار يبتعد عن كونها تجارب كانت تحارب الفكرة الجمالية نفسها. بالرغم من
أنها استقبلت، بطبيعة الحال، من أنصارها ومروجيها، باعتبارها إطارا جديدا لمحاربة
الفحولة التي تحارب ديمقراطية التجربة الفنية!
هذا المثال ليس تقليلا من شأن موسيقى بوب ديلان، بل يخص تعميم "تعريف
ثقافي جديد" للأدب، لا يبتغي سوى تسييل القيم، كما شأن أغلب منجزات ما بعد
الحداثة، بدعوى أن مؤسس الجائزة لم "يحدد" مفهوم الأدب المقصود!
المثير للتأمل هنا في تقديري أن التحيز لقيم "الديمقراطية
الثقافية" بتبني مقولات الغذامي جاء تماما في غير محله، لأنه قد يكون مقبولا
مثلا في الدفاع عن منجز مثل أعمال الكاتبة سفيتلانا اليكسييفيتش، لكنه هنا حين
يثار على هذا النحو من دون الالتفات إلى أن الوسيط الذي تنشغل به الجائزة هو
"حقل صناعة الموسيقى"، فإنني أشك كثيرا في أصالة فكرة التفكير خارج
الصندوق هنا، لأن الخروج من الصندوق كان لا بد أن يحيلني لتأمل المناخ العام
للموسيقى في الولايات المتحدة، والاطلاع على التقارير التي تتناول حجم الخسائر
الهائلة التي يمنى بها هذا القطاع، لتأمل ظلال منح هذه الجائزة على هذا القطاع.
فبين تقارير كثيرة نشرت حول الموضوع نشرت صحيفة Buisness insider
تقريرا عن الخسائر الهائلة التي مني بها قطاع صناعة الموسيقى الأمريكي بدء من عام
2009 مع سيادة ألوان التخزين الموسيقية الالكترونية، كتبه مايكل دي جوستا جاء فيه
أن الأمريكيين قبل عشر سنوات كانوا ينفقون ثلاث أضعاف ما ينفقونه اليوم على
الموسيقى، وأنهم كانوا ينفقون ضعف ما ينفقونه اليوم على شراء المنتجات الموسيقية
قبل 26 عاما.
الأمر الثاني أننا بالتأكيد اليوم، وغدا لا يمكن
أن نشك في إمكانية توفير عروض مستمرة لمسرحيات شكسبير، لكن الأمر بالنسبة للموسيقى
لم يعد على هذا النحو بالنسبة للموسيقى الكلاسيكية مثلا، لأن غالبية جمهور عروضها
الحية على المسرح من كبار السن، ولا يجد الجيل الجديد بشكل جماهيري ما يغريه
للذهاب للاستماع لحفل موسيقى كلاسيك مقارنة بإغواء الفكرة لفرقة بوب معاصرة حديثة،
ما يجعل سوق الموسيقى الكلاسيكية الحية بالنسبة لمنتجيها في انحدار، وإذا كانت موسيقى
البوب، كما يشير إريك هوبزباوم قادرة على إحياء وإنعاش سوقها حتى الآن ببراعة،
فالأمر يختلف بالنسبة لموسيقى سادت خلال أكثر من ثلاثة أو اربعة عقود.
وربما يكون في تقديري، من خلال منح جائزة أدب
مرموقة، لموسيقي ينتمي لعقد الستينات، محاولة ذكية لإنعاش سوق يحتاج إلى الكثير من
الدفع من أجل إنقاذ مستقبله التجاري.
وتاليا أعتقد ايضا أن الخروج من الصندوق يستدعي تأمل تجربة ديلان
التجارية في السنوات الأخيرة، وهو قدم إعلانات تجارية لعدد كبير من المنتجات
الأمريكية بينها مثلا الملابس الداخلية لشركة فيكتوريا سيكريت الشهيرة، ومشروب
بيبسي (الصرعة الجديدة اللاحقة على كوكاكولا)، وسيارات كاديلاك، وسيارات كرايزلر.
وفقا لتقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية. ولا يمكنني أن أفكر في نوبل ايضا
من دون تأمل تأثير المنتجات "الأمريكية" التي روج لها ديلان في
الإعلانات التجارية.
على أي حال، فإنني أعتقد أن أبلغ تعليق على اختيار لجنة الجائزة لهذا
العام هو رد الفنان بوب ديلان نفسه، الذي لم ينطق بحرف ولم يرد على اتصال مؤسسة
الجائزة وحتى لحظة كتابة هذا المقال، مؤثرا التجاهل والصمت التام. وهذا حقا هو
الصمت البليغ.