تغريدة
ضد التفاهة
إبراهيم فرغلي
أعتبر نفسي أحد المؤمنين بأن المستقبل يصنعه الأمل،
وأحد المنحازين للتفاؤل مهما ضاقت الظروف، ومهما كان المناخ العام دافعا للتشاؤم.
ومعيني في ذلك ليس إلا إعادة قراءة وتأمل دروس التاريخ.
في حوار جمعني مع الصديق سعود السنعوسي مؤخرا
حول بعض كُتّاب العالم، أشار إلى عدد ممن لم يسبق لي القراءة لهم، وتطرق الحوار
إلى الكتّاب اليابانيين، وحكى لي عن رحلتين قام بهما إلى بيتي أو متحفي الأديبين
البارزين: يوكيو ميشيما، وياسوناري كاواباتا. ووصف لي تفاصيل المشقة المرعبة التي
واجهها في واحدة من الرحلتين بسبب البرد وابتعاد المسافة حيث يقع البيت في منطقة
بعيدة عن كيوتو بنحو خمس ساعات.
في أثناء استعادتنا لكتابات اليابانيين، قلت له
أنهم من بين كتاب العالم الأكثر إنصاتا لكل كائنات الحياة بشرا وحيوانات، ونباتات او
جبالا. ولهذا تأخذ نصوصهم هذا الطابع الوجودي العميق. وأظن أن هذا الطابع ليس له
مثيل في ثقافات أخرى في العالم.
حين عدت لمراجعة تاريخ اليابان، تبينت أن النظام
الياباني لم يتمكن من معجزته التنموية إلا بمنهج تعليمي يعلي من قيم المعرفة
والعلم والبحث والاتقان، ولكنه، لم يكتف بالعلم فقط، بل حماه بمنظومة قيم أخلاقية
رفيعة، تعلي من فكرة الشرف الشخصي، وبالتالي جعل الرقيب الذاتي للفرد على شرفه
الشخصي هو الضمير الأعلى المتحكم في أخلاقيات المجتمع، ولعل ذلك مبرر ما نسمعه من
قصص انتحار اليابانيين العديدة لأسباب تتعلق بالإحساس بالفشل أو امتهان شرف المهنة
التي يمتهنونها.
ولهذا يبدو جليا أن التفاهة ليست من بين مفردات
هذا المجتمع. وبمتابعة تجارب نهضوية أخرى مثل تجربة سنغافورة سنجد أن رئيس الوزراء
الراحل ومؤسس سنغافورة الحديثة لي كيوان يو قد جمع النظام التعليمي الابتكاري الرائد
مع نظام قيمي يهتم بإبراز القيم الكونفوشيسية خصوصا ما يتعلق بالتقاليد الخاصة
بتقديس الأسرة وانعكاسها على المجتمع، واعتبارها اساسا للعمل في المصانع وسواها من
وحدات الإنتاج. إضافة لفكرة احترام التنوع والاختلاف.
ولا شك أن المنظومتين معا؛ العلمية والاجتماعية
الأخلاقية، أوجدتا بذورها في النظام التعليمي، أي من المدارس، ومن المؤكد أن إعداد
وتأهيل أجيال من المعلمين المتقنين لنظريات التعليم والعقلانية، والمخلصين لفكرة
الحفاظ على المجتمع؛ ببذر القيم الرئيسة في أطفال المدارس باعتبارهم اللبنات التي
سيرتكز عليها مستقبل المجتمع، قد حظى باهتمام كبير جدا يجعل مكانة المدرس أو
الأكاديمي في اليابان تماثل، أو ربما تعلو، موقع رئيس الوزراء. لأن رئيس الوزراء
نفسه لا بد أن يتمتع بمزايا هذا النظام التعليمي حتى يتمكن من أن يتقلد منصبا
كهذا، ويسهم بالتالي في استمرار مسيرة المجتمع الياباني في التقدم المستمر نحو
الحداثة والرفاهية.
هذه المنظومة الأخلاقية الرفيعة التي يتحلى بها
المجتمع الياباني، ليست النواة الأولى لكل ما حققته النهضة اليابانية فقط، بل هي،
كذلك، أداة هذا المجتمع في مواجهة وحشية الكوارث الطبيعية من براكين أو زلازل، بل
وحتى الضربات النووية المجرمة، والنهوض عقب كل كارثة منها، أكثر قوة وقدرة على محو
آثار الدمار بالمزيد من آثار الحياة.
مجتمع لا يعرف اليأس ولا الابتذال أو التفاهة أو
الفساد لا بد ان يكون عملاقا على مستويات عديدة.
No comments:
Post a Comment