حواديت!
انتهيت مؤخرا من قراءة روايتين للكاتب الأمريكي
فيليب روث، ومثلهما للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو. روايتا فيليب روث هما "الوصمة
البشرية" من ترجمة فاطمة ناعوت، و"الحيوان المحتضر" من ترجمة مصطفى
محمود. أما روايتا كالفينو فهما "البارون ساكن الأشجار" و"فارس بلا
وجود"، وهما يشكلان بقية أجزاء الثلاثية المعروفة باسم "اسلافنا"،
من ترجمة د.أماني فوزي حبشي. وكلها صادرة عن سلسلة الجوائز من الهيئة المصرية
العامة للكتاب.
راودتني مشاعر متباينة في أثناء وعقب الانتهاء
من قراءة هذه الروايات، ما بين الافتتان، والانبهار بطبيعة البناء الروائي في كل
منها، واللغة والدقة الشديدة المتجلية في اختيار كل من الكاتبين البارعين
لمفرداتهما، وكذلك من اللعب الروائي، الذي يجعل من السرد بطلا رئيسا، وليس من
"القصة"، أو "الحدوتة".
يبدو فيليب روث مشغولا بالمجتمع الأمريكي
المعاصر، وخصوصا بكذبات المجتمع الذي يرفع شعار الديمقراطية، بينما تتغلغل في
جذوره أزمة العنصرية بشكل فادح. وهو موضوع رواية الوصمة البشرية، الرواية اللعوب
بوصف مترجمتها الدقيق. بينما نجد أن كالفينو مشغول بكذبات المجتمع الأوروبي على
ذاته، من خلال تحويل شعارات العدل والمساواة إلى كلاشيهات تتنافى تماما مع
مضمونهما. ويقدم تصورا مختلفا لفكرة الفردية والاستقلالية من خلال نموذج البارون،
المتخلي عن كل تراثه البورجوازي لكي يعيش بقية حياته أعلى الأشجار؛ مخلصا لهذه
الفكرة، بإصرار، على مدى عمره الذي بلغ الخامسة والسبعين، ثم يعود كالفينو لاختبار
الفكرة نفسها من خلال نموذج الفارس، بهيئته المعدنية الشائعة في أوربا القديمة، من
دون أن يكون دخل تلك الدروع والمعادن الثقيلة الخاصة بحماية الفارس من الطعن، شخصا
حقيقيا له ملامح.
وسوف أعود لكل رواية منها لاحقا، لأن المساحة لا
تساعد على التوقف المفصل أمام هذه الروايات العبقرية.
ما أود قوله أن الروايات رغم ما يلوح من اختلاف
كاتبيها وموضوعاتها للوهلة الأولى، لكنها، في القراءة المتأنية، تكشف كيف أن
التراكم السردي لدى أوربا والغرب يؤدي إلى زيادة الوعي بمفهوم الرواية، مهما
تباينت الأساليب. الوعي بمفهوم الرواية كنص سردي يقدم تحليلا عميقا جدا للتطورات
الاجتماعية مبنية على فهم السياسي والاقتصادي من دون مباشرة ومن خلال الدخول عميقا
تحت الجلد البشري، وعبر الذهن الإنساني الفردي المعاصر. يضع اعتبارات التطور
الفكري والاقتصادي لمفاهيم الحداثة كجزء من متن السرد مغزولا في التقنية
المستخدمة.
انتبهت أيضا أن سر انبهاري بهذه النصوص يعود
لكونها متخلصة تماما من شوائب التشوش الذي يعاني منه السرد العربي الذي لا يزال
يخلط بين "الحدوتة" باعتبارها رواية، وبين الرواية بوصفها نصا تقنيا،
بمعنى أنه يبحث عن وسائل تقنية غير تقليدية ليحكي بها.
وتقديري أن المشكلة لدينا ليست في وجود نصوص عربية
عديدة يكتبها كتّاب كُثُر لا تخرج من إطار فكرة "الحدوتة"، فهذا موجود حتى
في الثقافة الغربية، حيث تتواجد آلاف العناوين لروايات شعبية، لطيفة، وخفيفة، أو
حتى ذات موضوعات مهمة، لكنها روايات من أجل السوق الضخم المعروف بالبيست سيللر. لا
تنشغل سوى بقارئ يريد بعض التسلية.
أما نحن، فلدينا روايات عديدة من "نصوص
الحواديت"، يتناولها نقاد باعتبارها روايات عظيمة، أو جميلة، ثم نراها مرشحة
لجوائز مرموقة تضفي عليها المزيد من المصداقية. وبين حواديت النصوص وحواديت
الجوائز تغيب الرواية.
No comments:
Post a Comment