Monday, April 16, 2018

اصطياد أشباح ذاكرة قهر السجان


إصطياد أشباح 
كيف تبني معتقلا شهيرا من الذاكرة؟ وتستدعهي أشباحه للواقع؟ 


اخترت تناول الفيلم (اصطياد اشباح) بداية لأنه بالفعل فيلم استثنائي من حيث التقنيات الفنية والفكرة والإخراج، ولأنه يدور حول فكرة الأسر في السجون الإسرائيلية، في وقت تشهد فيه فلسطين إضرابا عاما من قبل آلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية، من أجل تلبية مطالب الأسرى بزيادة عدد مرات الزيارات المسموحة وزيادة عدد ساعات الزيارة، إضافة إلى مطالب تحسين ظروف السجن نفسه.
يطلب المخرج في إعلان موسع مجموعة من الحرفيين: نجارين، حدادين، محترفي صباغة، مصممي ديكور، وغيرهم، ويفضل أن يكون المتقدم ممن تعرضوا للسجن في سجن مسكوبيه التابع للاحتلال.  (لاحظ أن صناعة الفيلم نفسه تأتي كجزء من الفيلم). والفيلم بالمناسبة حصل على جائزة الدب الفضي كأفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين السينمائي هذا العام.
المتقدمون يتعرضون لاختبار التمثيل، ويختار المخرج من بينهم من سيؤدون أدوار الأسرى، ومن سيقوم بدور المحقق. لكن قبل ذلك تبدأ محاولات إعادة بناء زنازين سجن مسكوبيه من ذاكرة الاسرى، وبينهم المخرج نفسه بالمناسبة. ويقوم المصممون بتصميم الديكور والحرفيون بتنفيذه على أرض الواقع.
تكتب مشاهد الاعتقال والتحقيق ويبدأ تصويرها، تأخذ الدراما مجراها، وتنقبض الأنفاس، مع لحظات التعذيب أو المضايقات أو العزلة، أو حتى إعادة تذكر الأسرى لتفاصيل ما مروا به حتى يصل الانفعال ذروته، بكاء، أو ألما، او حتى تماهيا مع شخص السجان! وهنا يتوقف التصوير، بالأحرى يتم القطع. ورائد انضوني بمونتاج الفيلم يقدم لنا درسا بديعا في فنون إيقاع السينما.
ينتقل المخرج فورا إلى تخفيف الدراما بالابتسامة التي تصنعها اختلافات وجهات نظر الحرفيين العاملين في الفيلم في تنفيذ باب أو جدار، أو استدعاء لقطة كوميدية طرافتها تتحقق من كونها تنخلق في وسط أقسى لحظات الأسر. أو استدعاء ذكريات الحب والعواطف. أو استهجان أحد الممثلين لتعرضه لتحرش من السجان، بأن ذلك قد يهز صورته أمام خطيبته، لكنه يعود ليطمئن نفسه قائلا إن الفيلم لن يعرض قبل أن يتم الزواج، فتنفلت الضحكات الصاخبة من صناع الفيلم والجمهور على السواء.
وهنا، هنا تحديدا سر من أسرار عبقرية الفيلم، ومكمن رسالته. فالقوة الحقيقية هي تلك التي يمتلكها الأسير لا السجان، رغم كل ما يمتلكه من سلاح وجدران عازلة وقدرة على الكذب، فهذا هو الموضوع العقلي الذي ينبغي أن يسيطر به الأسير على جسده. أن يحاول أن يغني فور أن ينتهي السجان من تعذيبه، أو ان يضحك بقوة أو حتى يفتعل الضحك بمجرد ان يغلق السجان باب الزنزانة. قوة المقاومة وشفرتها وسر استمرارها هنا بالضبط: في عقل الأسير الذي لا بد ان يظل يقظا، وان يميت جسده تماما في المقابل، أما اللاوعي فيحتال بالخيال والصور التي تستدعي له كل ما يحب أن يراه ليقاوم: صورة وجه الأم، ابتسامة محب، أو تربيتة يد متخيلة حد التماهي معها في الواقع من قلب حنون.
هنا مكمن دلالات فكرة المقاومة التي يحتفظ بها عموم الشعب الفلسطيني، لا يمكن أن يؤسر عقله مهما تعرض بدنه للإذلال أو المهانة. 

No comments:

Post a Comment