القراءة الغربية الخطرة للأدب العربي
إبراهيم فرغلي
قرأت باهتمام تعليق جوناثان رايت حول ما كتبته في موضوع ترجمة الأدب العربي في الغرب، كما قرأت تعليقات من تدخلوا للنقاش، وخصوصا روبن موجر، مترجم مقالي للإنجليزية، والذي أبدى عددا من التعليقات المهمة حول وضع ترجمة الأدب العربي، أو بالأحرى سوق ترجمة الأدب العربي في الغرب.
وقبل العودة للتعليق على بعض ما جاء في تعليقات رايت، أود أن أشير أنني قرأت مؤخرا كتابا بعنوان "سنة القراءة الخطرة" للكاتب البريطاني آندي ميللر، وفيه يقدم تجربته حول قراره بقراءة خمسين عملا أدبيا من تلك التي يمكن أن توصف بأنها كتب عظيمة، أو أساسية.
ميللر في هذا الكتاب يقدم خلاصة خبرته في تجربته لقراءة 50 كتابا من كلاسيكيات الأدب المعاصر، التي توصف بأنها كلاسيكيات، أو بأنها كتبا مهمة، أو عظيمة. الكتب التي ينبغي أن يقرأها الإنسان في حياته، ليس ليتعلم أو ليعرف بل ربما لينقذ حياته.
عناوين من نوع موبي ديك لملفل، الحرب والسلام لتولستوي، المعلم ومارجريتا لبولغالكوف، ميدل مارش لجورج إليوت، الجريمة والعقاب لديستويفسكي، الفردوس المفقود لجون ميلتون، محبوبة لتوني موريسون، ملحمة جلجامش، ومكتب البريد لوبوكوفسكي، والبيان الشيوعي لأنجلز وماركس، البحر.. البحر لآيريس مردوخ، وسواها من بقية عناوين قائمة الخمسين كتابا التي أسماها "قائمة الإصلاح"؛ إصلاح حياته هو البريطاني الذي اكتشف فجأة أنه أهدر حياته بعيدا عن القراءة رغم علاقته الوثيقة بها طفلا، وأنه أهدر مناخ الحرية الذي نشأ فيه وهو يتهرب من قراءة الكتب العظيمة تكاسلا، أو هربا من صعوبتها، أو ادعاء بأنه قرأها.
طبعا انتبهت إلى غياب أي كتاب عربي من قائمة آندي ميللر، مع العلم أنه باستثناء بعض كتب كبار الكتاب الروس، ورواية لماركيز، وملحمة جلجامش، فإن أغلب القائمة تدور في فضاء الكتب التي أنتجها المؤلفون البريطانيون والأمريكيون، أي أن أغلبها تنتمي للثقافة الأنجلوفونية، فليس هناك ذكر أيضا لكاتب من الصين أو اليابان أو إفريقيا.
وهذا ما يجعل المرء يفكر، مرة أخرى، في أسباب الظاهرة، وموضوعنا هنا ليس بعيدا عنها، فصحيح أن القارئ الغربي مهتم بثقافته ومنجزه الأدبي الخاص بهذه الثقافة، ولا يبدو أن الثقافة العالمية تعني له الكثير، خصوصا بعد عقود طويلة من تأكيد ظاهرة المركزية الأوربية. وصحيح أيضا أن البيست سيللر أصبح ظاهرة عالمية، وهذا ما يجعل القارئ العام في العالم متشوقا لقراءة هذا الأدب الخفيف المسلي الشيق غير المجهد، وهذا لا علاقة له بكتاب ميللر، لأن الكتب المختارة لديه بالفعل مهمة جدا وبعيدة في أغلبها عن المنطق التجاري، لكن يبدو أنه من الصحيح أيضا أن المنطق التجاري هو الذي يتسيد حركة النشر في العالم، وبالتالي يضاعف ذلك من التأثير على الثقافات غير المركزية، وبينها الثقافة العربية.
سأتغاضى تماما هنا عن السخرية في تعليق جوناثان رايت، والنبرة المتعالية أيضا في تناوله مقالي بالنقد والتعليق، كما سأتجاوز الإشارات التي تبادلها مع روبن موجر حول أوضاع الكتاب العرب، الذين يعانون من قلة المقروئية فيرون في الترجمة وسيلة لكي تكون الكتابة وسيلة للحصول على الأموال، وإن كان من المهم الانتباه لدلالاتها في رؤية المترجم الغربي للكاتب العربي الذي ينقل عنه!.
كما سأتجاوز ما يصفه بهجومي على الكتاب الذين تمت ترجمتهم، علما أنني لم أهاجم، بل نقلت ما قاله مستعرب ألماني عن كتاب تاكسي لخالد الخميسي، وهو يروج لقراءته مؤكدا أنه قد لا يكون كتابا فنيا، لكنه مهم. ويبدو أن ترجمة جوناثان للكتاب قد جعله يتصور أن الأمر شخصي، فدافع عن اختياره للكتاب بالقول أنه قطعة من الأدب الخالص. ثم زعم أن نص "بنات الرياض" أكثر ثراء في لغته العربية عن النص الأصلي!
سأتجاوز هذا لأنها تفاصيل بعيدة تماما عن الواقع لأي قارئ مبتدئ في الأدب العربي، وهذه كتب موجهة للمراهقين، وقد تجاوزها حتى المراهقون اليوم.
لكني سأتوقف أمام دفاع جوناثان رايت المستميت، تقريبا في كل النقاط التفصيلية التي توقف عندها، عن المنطق التجاري الذي يخضع له، لأنه يجب أن يوفر للناشر ما يرغب في نشره!
ويبدو أيضا أن علي التوضيح أنني حين عنونت مقالي بالقول "هل من ضرورة لترجمة الأدب العربي؟" لم أقصد بطبيعة الحال الدعوة لوقف ترجمة الأدب العربي، لكن المعنى البديهي للسؤال هو: متى يتوقف الغرب، بمترجميه، وناشريه وقراءه، وإعلامه بالنظر للأدب العربي بوصفه وسيلة للتلصص على مجتمع مكبوت؟ ومتى يتوقف الغرب عن اعتبار الكاتب العربي، كاتبا من الدرجة الثانية الذي لا يمكن أن ينتج أفكارا، أو يضيف لمسار السرد في العالم؟ وسؤالي في المقال يعني بالتالي، أنه إذا استمر هذا المناخ في تأكيد هذه الكلاشيهات التي يبدو الاستشراق الجديد راغبا في ترسيخها، فإن هذه الترجمات ستكون بلا قيمة لأنها لا تقدم للعالم الصورة الحقيقية للأدب العربي، كمنجز فني سردي في المقام الأول.
والحقيقة أن عديدا مما ذكره جوناثان في تعقيبه، بادعاء أن جابر عصفور ينتقد الاستشراق الجديد لأنه يرغب في ترجمة نصوصه، أو اتهامي بأنني ديكتاتور يقرر للمترجمين ما ينبغي ان يترجموه وما لا ينبغي، وغير ذلك من العجائب قد أعفاني من الرد عليها تعقيبين مهمين للمترجم السوري يزن الحاج، والباحث المصري أمير الغندور.
فما يهمني في الحقيقة هنا التأكيد أنه من غير الجائز أن يعرف الغرب كاتبة مثل رجاء الصانع، لا يضعها النقد الأدبي العربي في حسبانه، مقارنة بكاتب ثقيل، من الطراز الرفيع، مثل عبدالرحمن منيف مثلا. كما أنه ليس من الطبيعي أن يعرف القارئ الغربي نصا مثل تاكسي، ولا يعرف أعمالا مهمة لجيل الستينات المصري مثلا، أو أسماء كثيرة جدا أخرى ولا أريد أن أعود لضرب أمثلة، لأن أي متابع للأدب العربي يعرف العديد من الروايات المهمة اليوم، وكلها بالتأكيد يتفق على أنها لا يمكن أن تدرج مع بنات الرياض أو تاكسي في أي سياق، تماما كما يمكن لأي قارئ غربي أن يفهم أنه لا يمكن أن يقارن بين رواية لدان براون ورواية موبي ديك لهرمان ميلفل، مهما بلغ النجاح التجاري لدان براون.
النقطة الثانية التي استوقفتني هي الامتثال المدهش من قبل جوناثان رايت لمنطق السوق التجاري، ولمزاج القارئ العام المدلل الذي يرغب في قراءة كتب سهلة لطيفة للتسلية، واعتباره أن أي كتب لا تخضع لهذا المعيار التجاري مكانها أقسام دراسة الأدب العربي في الجامعات الغربية.
ودوري ككاتب هو مواجهة هذه الظواهر التجارية في الأدب العربي وكذلك في الغرب، لأن تحويل سوق النشر إلى مجرد مجال للاستهلاك الخفيف، في مثل هذا التوقيت الذي نرى فيه العالم، شرقا وغربا، وهو يموج بالعبث والفساد بسبب سيادة القيم الاستهلاكية، ونفوذ القيم النيوليبرالية التي لم تغذ شيئا كما فعلت في تغذية رأس المال الفاسد، وتمكينهعلى حساب كل القيم، هو بمثابة جريمة لا ينبغي أن نتركها تمر لأن المترجمين يرغبون في البحث عن نصوص تدر عليهم المال، ويرضى عنها الناشرون الرأسماليون المنتفعون من سيادة النيوليبرالية التي تضاعف أرباحهم على حساب أي شئ. وهذا بالتأكيد لا يعني التوقف عن إنتاج الأشكال المختلفة من الكتب الخفيفة والمسلية والمعرفية وغيرها، ولكن المقصود ألا تكون هذه هي الخيار الوحيد.
وعلينا ألا نتناسى أن هناك في المقابل ترجمات لا بأس بها لعدد من الكتاب العرب الذين لديهم منتجا أدبيا متميزا، لكن الغرب لا يمتلك وسائل دعاية وإعلام جيد لهذه الكتب. فلا يوجد محررون متخصصون في نقد الأدب العربي ممن يقدمون مثلا الكتب المترجمة من أمريكا اللاتينية، بسبب ضعف اللغة العربية، من جهة في الانتشار غربيا، وانتشار كلاشيهات إعلامية وثقافية وجماهيرية تربط العرب بالتخلف وتصدير الإرهاب، رغم أن ظاهرة الإرهاب وحركات الإسلام السياسي حتى عربيا، تصنف في المجال الثقافي العربي كعدو حقيقي لحركة النهضة والتنوير التي ينبغي أن تحظى بالإضاءة والإعلام من الغرب، والحركة الثقافية والمدنية والجماهيرية العربية المناهضة للإسلام السياسي بالمناسبة ليست بالضرورة تابعة لمنظمات حقوق الإنسان ونشطاء حقوق الإنسان، لأن هذه الدائرة دائرة سياسية وليست ثقافية، وأحيانا تكون موجهة أيضا.
وفي أغلب الأمسيات التي تقام ويكون بين أطرافها جمهور عرب نجد أن الموضوع يقدم باعتبار الكتاب مواطنين يأتون من بلادهم ليقدموا للجمهور تقارير عن أوضاع المرأة في بلدانهم، وحقوق الأقليات، وأوضاع الحكم، وليسوا فنانين، أو مفكرين، أو أصحاب أقلام متميزة وإضافات فنية تضاف لمنجز السرد العربي والعالمي التي تنتمي ل"ألف ليلة وليلة" الذي يعد أحد النصوص الملهمة لكل كتاب العالم في الشرق والغرب على السواء، وهذه هي القضية التي تشغلني وستظل تشغلني، حتى تجد حلا.
No comments:
Post a Comment