في نقد نقد ساق البامبو
جدل واسع يؤكد أن الرسالة وصلت!
إبراهيم فرغلي
أثار المسلسل الكويتي "ساق البامبو" المأخوذ عن رواية الكاتب سعود السنعوسي بنفس العنوان جدلا واسعا، ربما سبق حتى بداية عرضه في رمضان، واستمر الجدل بشكل كبير خلال عرض الحلقات الأولى منه ولا يزال مستمرا.
وما يشغلني، خلال تتبعي لردود الفعل على المسلسل، ليس التفاصيل الفنية للعمل ومدى نجاحه في نقل روح العمل الأصلي، بقدر ما يشغلني تأمل طبيعة هذه الردود، ودلالاتها. أولا لأنني من المؤمنين أن نقل أي عمل أدبي من المتن إلى الشاشة تسقطفي المسافة بيتن الوسيطين، الكثير من عناصر قوة النص الأدبي، والاستثناءات نادرة جدا. وتاليا بسبب أهمية دلالات ردود الفعل على العمل: ثقافيا واجتماعيا.
من المعروف بطبيعة الحال رواية "ساق البامبو"المأخوذ عنها العمل الدرامي، تتناول موضوعا حساسا يتعلق بزواج شاب كويتي من فلبينية تعمل لدى أسرة كويتية تنتمي لإحدى العائلات الكبيرة، ويسفر الزواج عن ابن ترفضه الأسرة، وتضغط على الابن لكي ترحل الأم ومعها طفلها خارج الكويت.
تتتبع الرواية تفاصيل حياة هذا الطفل "هوزيه الطاروف"، الكويتي الجنسية، فلبيني الأم والذي ورث عنها ملامح الوجه، المسلم بحكم تبعيته لديانة والده، المسيحي لظروف نشأته على تقاليد وبيئة عائلة أمه المسيحية، الذي ينشأ في الفلبين وهو يحاول أن يجد إجابة على أسئلته التي ولّدتها ظروفه: هل هو كويتي أم فلبيني؟ هل هو مسلم أم مسيحي؟ وبالتالي يأخذ السؤال الديني باعتباره جزءا من هويته اهتماما كبيرا، هل سيجد إلهه في المسجد أم في الكنيسة؟ هل ينتمي لأسرته الفلبينية أم لعائلته الكويتية؟
تدور وقائع الرواية بين المجتمعين الفلبيني والكويتي حيث يتناول جزء الرواية الأول حياة ونشأة هوزيه، أو عيسى الطاروف في الفلبين، وتفاصيل علاقاته مع أمه وجده غريب الأطوار، وتعقيدات حياة هذا الجد وتأثيرها على العائلة، وتتوغل الرواية في التراث الثقافي الشعبي لأهل الفلبين، بشكل يعبر عن البحث والمعايشة المبذولة من الكاتب لهذا الغرض. أما الجزء الثاني من الرواية فيدور في الكويت حيثيقرر عيسى العودة لبلاده، تنفيذا لوصية الأب؛ راشد الطاروف، الذي تعرض للاسر في أثناء فترة غزو الكويت، وانقطعت أخباره للأبد.
وفي الكويت سيواجه رفضا مضاعفا من المجتمع، بداية من ضابط الاستقبال في المطار، ووصولا لجدته غنيمة التي رفضت الاعتراف بوجوده منذ عرفت بحمل أمه جوزفين به، ومرورا ببعض أطراف العائلة الذين تذبذبت مواقفهم حول الاعتراف به وقبوله بينهم أو رفض وجوده بشكل قاطع.
ثم تتداعى التفاصيل الخاصة بعلاقات أطراف العائلة به، وفقا لشخصياتهم وظروف حياتهم، فالعمة هند، الحقوقية التي تهتم بحقوق الإنسان والتي رفضت الزواج بعد رفض أمها زواجها من غسان، لأنه بدون، أي ينتمي لفئة غير محددي الجنسية في الكويت، هي الطرف الذي يستقبل الشاب بأريحية وترحاب، وتتولى مهمة تقديمه للعائلة تباعا. ثم علاقة غسان نفسه بعيسى باعتباره ابن صديق عمره، ولأنه الذي تلقى من راشد الوصية بالعناية بابنه والإصرار لعودته إلى الكويت حين يكبر. وهناك علاقته بعمتيه الأخريين، وهما على مسافات مختلفة من قبوله، إضافة إلى أخته خولة التي انجبها الأب من زواج تلا علاقته بجوزفين. وتتداعى رحلته حتى يقرر في النهاية أنه لا يمكن أن يعيش في مجتمع يرفضه حتى لو كان بلده ويتمتع فيه بجنسيته.
بداية، تخفف المسلسل من الجزء الخاص بالفلبين، لأسباب فنية وربما إنتاجية، وهذا بالتأكيد أثر على العمل الأصلي أي الرواية، لأن الجزء الفلبيني بالنص تضمن تفاصيل وتداعيات مهمة يفهم منها القارئ التركيبة النفسية لعيسى، والمؤثرات الثقافية التي نشأ عليها. كما أن هذا الحذف أدى بطبيعة الحال إلى تطويل الجزء الخاص بالكويت، وهو ما أثر على الأحداث، واضطر كاتب السيناريو رامي عبدالرازق للاستعاضة عن الجزء الدرامي المحذوف من النص بالحوارات الطويلة نسبيا بين أطراف العمل مما كان له دور كبير في بطء إيقاع المسلسل.وربما يكون كاتب الرواية سعود السنعوسي قد اصر على عدم إضافة أحداث أو شخصيات تختلف عن الرواية، وهي بعض الحلول التي كان يمكن أن تعالج مثل هذا الإشكال.
الأمر الثاني الذي أثر بشكل واضح على المسلسل أيضا تعرضه للمنع من التصوير في الكويت، لأسباب لا يعلمها ربما إلا الرقيب، الذي كان سبق وأجاز الرواية بالمناسبة للتوزيع داخل الكويت.
أخل هذا المنع بقدرة المخرج البحريني محمد القفاص، وفريق العمل على تصوير مشاهد مهمة في الكويت وبينها مثلا مسيرات أعياد التحرير، أو إظهار الطابع الحقيقي لبعض الأماكن الشعبية مثل سوق المباركية، وبعض المشاهد الخارجية التي كان من الممكن أن تكسر رتابة الإيقاع أحيانا. إضافة على ما يبدو في الاقتصار على موقع منزل بيت الطاروف ليكون المقر الرئيس لتصوير العمل، وهذا أثر بشكل كبير أيضا على حيوية العمل وقدرته على إظهار جوانب مختلفة من الحياة في الكويت.
بشكل شخصي أعتقد أن هناك تفاوت في فهم العمل من الممثلين لكني أظن أنهم جميعا اجتهدوا لنقل روح النص أو رسالته الرئيسة وخصوصا سعاد العبدالله، التي ربما كانت تحتاج إلى بعض الشخصيات المساعدة لنرى جوانب أخرى من شخصيتها غير الجدة العنيدة الصارمة، وكذلك شخصية غسان التي أداها ببراعة الفنان فيصل العميري، وكذلك اغلب أبطال العمل مثل الفنان عبدالمحسن النمر، راشد الطارووف، الذي تمنيت أن تطول مشاهده أكثر، بالإضافة إلى فريق الفنانين المشاركين: فاطمة الصفي، شجون الهاجري، مرام، أسامة المزيعل إلىجانب ريم أرحمة وفرح الصراف، والممثل الكوري وانهو تشونغ الذي لعب دور عيسى الطارووف.
مع ذلك اكرر أنني لست بصدد تقديم نقد فني بقدر ما أهتم بما وراء المسلسل، بطريقة النقد التي تعرض لها، والتي جاءت إما مديحا مفرطا، أو انتقادا على طول الخط.
تابعت العديد من النقاشات التي تناولت المسلسل على وسائل التواصل الاجتماعي، ولاحظت أن هناك فئة رفضت المسلسل جملة وتفصيلا بدعوى أن فكرته مكررة ونمطية، أو لأن إيقاعه بطئ، أو لأن الحوارات طويلة، أو لأن قلة عدد أبطال العمل أضفىطابع التجهم والميلودراما المبالغ فيها على العمل. والبعض رفض المسلسل بدعوى أن أهل الكويت يعاملون الخدم معاملة جيدة!، والبعض ركز على إدانة المسلسل لأنه ينتصر لامرأة مثل غيرها ممن يخطفن الأزواج من زوجاتهن. وأسباب أخرى.
وهناك فئات حاولت أن تقدم نقدا متوازنا للعمل بالإشارة للإيجابيات والسلبيات، بشكل فني، وأزعم أنها الفئة الأقل، وهناك قطاع كبير من المعلقين زعمواأنهم لا يشاهدون المسلسل، كأنهم بذلك يرفضون موضوعه جملة وتفصيلا، وبعضهم قاموا بمهاجمته هو والرواية معا.
وعلى عكس الشائع لفت المسلسل انتباه العديد من الأطراف من خارج الكويت وأغلبهم من المثقفين أو المهتمين بالأدب من مصر والسعودية وسلطنة عمان والأردن وغيرها، وهذه في تقديري ظاهرة لافتة جدا أحسبها نقطة نجاح مهمة للمسلسل.
فهل فشل المسلسل كما يردد الكثير من منتقدي المسلسل وبعض المثقفين المنحازين لهذه الرؤية؟
في تقديري أن هذا المسلسل، على العكس تماما، قد نجح نجاحا مشهودا، ونجاحه لا يعود لمستواه الفني ومدى تفوقه فنيا من عدمه، بل يعود لقدرته على إثارة جدل واسع جدا، فني وأدبي واجتماعي، داخل الكويت وخارجها، وكشفه لإصرار الكثيرين على التعبير عن إطرائهم على المسلسل أو مهاجمته، بالرغم من أن هناك عدد كبير آخر من المسلسلات الخليجية قد تتضمن مظاهر ما عدده الكثيرين، سلبا وإيجابا لم يهتم أحد بالتعبير عن رأيه فيها.
وفي تقديري الشخصي أن هذا الجدل الواسع والنقاشات حول العمل والأفكار التي يطرحها وأداء الممثلين قد تكفيه وزيادة.
لكن، مع ذلك فليست هذه أسباب نجاح المسلسل وفق ما اراه فقط، بل هناك اسباب عديدة أخرى منها: أنهكشف، مرة أخرى، تهافت الرقابة ولا مصداقيتها في منع عمل في الحقيقة ليس به، مقارنة حتى بأعمال درامية أخرى، إسفاف أو إساءة لأي طرف. بل لعل هذا المنع قد اضر بالمستوى الفني لعمل كان من الممكن أن يكون أفضل إنتاجا لو صور في الكويت.
كما نجح المسلسل في تقديم إشكالية البدون على الشاشة ربما لأول مرة، وأثار تساؤلات إنسانية وحقوقية لا يتم التعرض لها عادة على الشاشة. كما نجح في تقديم حوارات بالغة الأهمية حول الهوية الوطنية والهوية الدينية، وهي شجاعة تحسب لفريق العمل كاملا، ونجح المسلسل أيضا لأنه نطق بلسان من لا صوت لهم في المجتمع الكويتي، سواء كانوا من فئة البدون أو من الوافدين وخصوصا فئة العمالة المنزلية.
والأهم من هذا كله ربما أنه كشف كيف أن الكاتب الذي اراد أن يلقي بحجر صغير في بحيرة العنصرية، تمكن من دق ناقوس ربما يكون رنينه اليوم خافتا لكنه قد يدوي يوما ما. ويظل من المهم هنا التأكيد أن المسلسل أيا كان مستواه الفني يقدم حلقة جديدة من حلقات الوعي المهتمة الآن بالنقد الذاتي في منطقة الخليج، كما نرى في أعمال ناصر القصبي في السعودية، والذي تألق في "سيلفي" خلال الأيام الماضية، وبعض الأعمال الدرامية التي قدمت على مدى السنوات الماضية، ولا أظنها ستكون الأخيرة.
ليقل من شاء ما شاء في نقد العمل فنيا، وسأتفق مع الكثير منهم فيما ذهبوا إليه، لكني هنا أصر على ألا يظلم أحد رسالة هذا العمل بدعوى نقد الفن، هذه شهادة تقول أنه بالرغم من كل التفاصيل فأنا أعتقد جازما أن رسالة هذا العمل قد وصلت!