مصاصو الحبر
جزء من روايتي للفتيان بهذا العنوان
قبل أن تطرق جودي الباب الخشبي الأنيق المفضي
إلى مكتب السيد إريك سان فوازان، وجدن الباب ينفتح ليطل منه رجل طويل ممشوق القامة، أشبه
بالرياضيين، يضع نظارة طبية على وجهه، يميزه شعر رأسه الكثيف القاتم الذي يبدو مثل
هالة أعلى رأسه، لكنه مصفف بعناية، ويغطي أذنيه ، وكانت ملامح وجهه تشي بأنه في
الأربعينات من عمره، يرتدي قميصًا أصفر بكاروهات مربعة سوداء، وبنطلون أسود.
ابتسم لهن قائلاً :
-
مرحبًا.
فحيينه ثم سألته جودي:
-
كم عمرك يا سيدي؟
ضحك الرجل ثم قال:
-
تفضلن أولا.
سبقهن إلى المكتب الخشبي الأنيق الحديث الذي
يتعارض مع شكل البناء الخارجي شديد القدم، وأشار إليهن بالجلوس، فجلست كل من ليلى
وجودي على كرسيين متقابلين أمام مكتبه، بينما اختارت بسمة أريكة صغيرة في الواجهة،
وهي تتأمل رفوف الكتب التي تحيط به في كل مكان.
نظر السيد سان فوازان إلى جودي وسألها:
-
هلاّ تعرفت بأسمائكن أولاً؟
ابتسمت جودي معتذرة وأخبرته عن اسمها واسم كل من
ليلى وبسمة. فابتسم لهن مرة أخرى قائلا: فرصة سعيدة، ثم التفت إلى جودي قائلاً:
-
آه، أنت إذن الآنسة جودي التي كتبت لي على الإيميل؟ رائع! لكن هذه أول مرة
ألتقي أحدا يسألني عن عمري قبل حتى ان يتأكد من اسمي.
فضحكت جودي وقالت:
-
أنا آسفة، لكني بصراحة كنت أعتقد أنك أكبر عمرًا بكثير مما تبدو عليه.
وأمّنت ليلى على كلماتها فوزع نظرته عليهما ثم
ابتسم قائلا:
-
أنا أعتبر أن من يكتب للشباب هو كاتب شاب أيا كان عمره. ولهذا ربما يبدو
شكلي شابًا.
فابتسمت جودي وقالت له:
-
ربما كنت أعتقد ذلك لأني أعرف أنك كتبت الكثير من الكتب.
-
هذا صحيح، ولكن هل قرأتِ لي شيئًا غير كتاب مصّاص الحبر؟
-
للأسف لا.
فابتسم ونظر للفتيات الثلاث قائلا:
-
هل قرأتن لي باللغة العربية؟
فأجابت ليلى: لا، نحن قرأناها بالفرنسية.
ابتسم قائلا:
-
عموما أنا حقًا سعيد بهذا اللقاء. أن أرى قارئات لكتبي يأتين من آخر العالم
لكي يلتقين بي. فعادة أنا لا التق غالبا إلا قرائي وقارئاتي الشباب من فرنسا.
ابتسمن ثلاثتهن لجملة آخرالعالم، لكنهن لم يعلقن، وقالت ليلى:
-
نحن أيضا سعيدات جدا للقائك، وخصوصا أنها المرة الأولى التي نقابل فيها
كاتبًا في الحقيقة.
ابتسم لها، ثم بدأ يسألنهن أسئلة عما أعجبهن في
كتبه، فأجمعن على أن فكرة الكتاب غير مسبوقة، وأن فكرة مصّاص حبر لم يسبقه أحد
إليها، وأن هذا كان مصدر الدهشة والإعجاب. ثم أضافت ليلى:
-
أعتقد أيضا أن فكرة تداخل أحد نصوص الكتاب بين الواقع والخيال حين وقع بعض
أبطال واحدة من قصصك داخل القصة وأصبحوا جزء من الكتاب كانت فكرة مدهشة أخرى.
ابتسم لها وقال:
-
جميل أنك أعجبت بهذا الفكرة، ولكني في الحقيقة بدأت كاتبًا للكبار، قبل أن
أتجه للكتابة للناشئين والشباب. وربما استفدت من تقنيات الكتابة للكبار.
فقالت ليلى:
-
ولماذا اتجهت للكتابة للصغار؟
-
لا أعرف بالضبط، لكني أعتقد ان هذا بدأ بعد أن أصبحت أبًا، وبدأت الاهتمام
بما يقرأه أبنائي فكتبت قصة أعجبت القراء وتوالت القصص. وجدت أن الكتابة للصغار
تقتضي بعض الوضوح والتبسيط، وهذا أثّر أيضًا في كتابتي للكبار، وهكذا. لكن في النهاية
أعتبر نفسي هاويًا، فأنا أعمل هنا كما ترين، وبالتالي أكتب لأنني شغوف بالكتابة،
أشعر أنها مسألة حيوية وضرورية، يمكنك القول أنني أتنفس حين أكتب او شئ من هذا
القبيل. في النهاية أنا بدأ ت الكتابة وعمري تسع سنوات.
-
فهتفت ليلى: وااااااااو. في التاسعة؟
هز لها رأسه مبتسما. فقالت:
-
إذن بالفعل يمكنني أن أكتب أنا أيضا؟
-
بالتأكيد إذا كنت شغوفة باختلاق القصص؟
فقالت بسمة:
-
ليلى بالفعل لها محاولات في الكتابة، وأنا اعتقد انها يوما ستكون كاتبة
مميزة.
فقال السيد سان فوازان وهو يتأمل ليلى التي
ابتسمت لبسمة
بامتنان وخجل:
-
رائع، وهل تكتبين بالعربية أم الفرنسية؟
-
لا أفضل الكتابة الأدبية بالعربية.
-
هذا جيد جدا. عليك ألا تتوقفي عن ذلك، لقد بدأت شخصيا الكتابة في عمر أصغر
من عمرك بكثير.
فعادت ليلى تسأل:
-
فعلا؟ هذا مدهش حقًا. لكن بصراحة أريد أن أعرف كيف جاءت لذهنك فكرة كتابة
مصّاص الحبر؟
-
لا أعرف أيضًا، كنت أرغب في كتابة فكرة أصيلة غير مسبوقة، وأنا لا أكتب
بناء على فكرة مسبقة، أنا أبدأ بكلمة أو جملة، وكل كلمة تقودني للكلمة التي تليها.
لكن من المؤكد أنني أحب قصص مصاصي الدماء، وربما كنت افكر فيها كثيرا حتى استوحيت
هذه الفكرة.
-
وهل تحب مصّاصي الدماء؟
ضحك قائلا:
-
أحبهم؟ لا طبعا، لكن تستهويني القراءة عنهم، وعمومًا لو كان بإمكاني أن أحب
أحدًا منهم فسوف أحب منهم مصاصي الدماء
النهاريين، هؤلاء الذين يمكن أن يظهروا في
النهار فقط.
فضحكت الفتيات الثلاث معا لملاحظته. لأن مصاصي
الدماء كائنات ليلية يقضي الضوء عليها.
ثم سألته بسمة:
-
وهل حقًا أنك تحمل معك مصاصة الحبر باستمرار؟ يقول البعض أنك مصّاص حبر؟
ضحك بقوة وفتح الدُرج الخشبي في مكتبه، ثم أخرج
منه شفاطة بلاستيكية من تلك التي تساعد على تناول المشروبات وقال لها:
-
هذا صحيح، كيف عرفت هذه المعلومة؟
ابتسمت ليلى وقالت:
-
من الإنترنت، وبعض الصور في موقعك الشخصي.
لكن جودي تدخلت قائلة:
-
إذن كان معي كل الحق.
نظر إليها الكاتب نظرة فضولية يحرضها على المزيد
من التوضيح.
فقالت:
-
بصراحة نحن نواجه مشكلة، وهي تخص كتاب كانت ليلى قد بدأت كتابته منذ فترة،
لكننا فوجئنا بأن كل ما كتبته قد اختفى فجأة، وعادت الأوراق بيضاء تمامًا كما
كانت. وبعد تفكير طويل، وتدخل بعض أصدقائنا المهتمين بالعلوم وإجراء اختبارات كيميائية
على الحبر الذي استخدمته ليلى وعلى أوراق الدفتر الذي كانت تكتب فيه توصلنا إلى..
فقاطعتها ليلى قائلة:
-
توصلتِ.. أنتِ توصلتِ..
رمقتها جودي وعادت لتقول بإصرار:
-
أوكي! توصلت أنا إلى أن الحل الوحيد الممكن قبوله لتفسير ما حدث هو تعرض
الكتاب لأحد مصاصي الحبر.
كان إريك سان فوازان ينظر بجدية وانتباه شديدين لما تقوله جودي. وعندما
انتهتاعتدل في مقعده ونظر إلى السقف، ومسح شعر رأسه كأنه لا يجد ما يقوله، لكنه
في النهاية قال:
-
لحظة من فضلك.. تريدون أن تقولوا لي أن ليلى مشروع كاتبة؟ وهذا
قد عرفته، وأحييها عليه. ولكن الآن تريدون القول أن الكتابة التي كتبتها ليلى
تعرضت لهجوم مصاصي الحبر؟
فهزت جودي رأسها بيقين، بينما ابدت كل من بسمة وليلى ابتسامة حيادية.
فألقى الشفاطة التي في يده، ثم نظر إليهن قائلا:
-
أولا أرجو منكن أن تقبلن اعتذاري أنني لم أقدم لكم شيئا حتى الآن، ماذا
تودون أن تشربن؟
فهزت الفتياترؤوسهن تعبيرًا عن عدم رغبتهن في تناول شئ، وتحت إصراره
اكتفين ببعض الماء، فنهض خارجًا من الغرفة ثم عاد بعد قليل وهو يحمل صينية عليها
ثلاثة أكواب زجاجية ممتلئة بالماء. ثم كرر دعوتهن لشرب قهوة سوف يعدها بنفسه على
ماكينة قهوة موجودة على منضدة في أحد زوايا الغرفة فأكدن له أنهن لا يشربن القهوة.
وضع المياه أمام كل منهن، ثم اتجه صوب الماكينة وبدت عليه ملامح التفكير
والاستغراق ثم قال:
-
هل تعرفن.. من خلال خبرتي الطويلة في الكتابة وقراءتي للكثير من سير حياة
الكتاب، ولقاءاتي بأصدقاء من الكُتّاب أعرف أن الكثير منهم التقوا بعض القراء
الذين وجدوا تشابها بين سيرة حياتهم في بعض الكتب التي قرأوها من دون أن يكون
الكاتب قد التقى بهم أو عرفهم من قبل. وهذا طبعًا يعود إلى أن الكاتب مهما استخدم
من خيال فسوف تكون هناك تجارب من الحياة، من اشخاص التقى بهم أو عرفهم إلى آخره.
ثم صمت قليلاًوهو يعدل من وضع القدح الذي وضعه في المكان المخصص لكي تنسكب
منه القهوة، التي فاح عبقها في الغرفة. فأضاف قائلا:
-
لكن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها قراء يفترضون ويصدقون في بعض الكائنات
الخيالية التي قرأوا عنها في كتب، ويعتبرونها واقعًا حتى من دون أن يروها أو
يتأكدوا من وجودها.
أنهى كلماته واتجه بقدح القهوة عائدًا إلى مكتبه، فقالت جودي:
-
ربما يكون معك حق يا سيد سان فوازان، ولكني سأستعير جملة يستخدمها أحد
أصدقائنا الذين للأسف لم تتح له فرصة لقائك هنا، وهو شغوف بالعلوم وبالكيمياء،
وكان عادة ما يقول أن هناك أشياء كثيرة في الحياة لا نراها مثل الذرات التي تتكون
منها كل الأشياء، ومع ذلك فيمكننا أن نستدل عليها بسلوك المواد. بمعنى آخر كان
يقول أننا لا يمكن أن نرى الرجل الخفي ولكن يمكننا ان ندرك وجوده من حركة الناس من
حوله.
ابتسم سان فوازانوهو يرتشف من القهوة، وهز رأسه إعجابا بالفكرة التي
تقولها:
-
هذه فكرة رائعة طبعا، واسمحوا لي أن أبدي إعجابي بكم، وبصديقكم العالم الذي
لم يحضر معكم، ولكن هذه الفكرة يمكن أن تكون فكرة علمية لا مجال لأن نطبقها هنا
على فكرة خيالية تصورها أحد الكتاب ووضعها في كتاب.
ابتسمت جودي ثم فكرت قليلا وقالت له:
-
سيد سان فوازان، انت بحكم اقترابك من الكتابة للأطفال والفتيان لا بد أن
تكون قد قرأت الكثير من كتب الخيال العلمي.
-
ليس كثيرًا.
-
أوكي، حتى لو كنت قرأت مجموعة محدودة من كتب الخيال العلمي لا شك أنك تعرف
أن الكثير من كُتّاب الخيال العلمي كتبوا أفكارًا خيالية مثل السفر الى الفضاء
مثلا، ولكن العلماء حققوا هذا الخيال.
-
صحيح تماما آنسة جودي، ولكن لا يمكن مثلا أن يفترض كاتب أن هناك مجموعة من
المخلوقات الخيالية التي تمتلك ثلاثة عيون فنبدأ في تأكيد أنها موجودة ولا بد أن
نبحث عنها.
كانت بسمة قد بدأت تشعرمن الضجر من شدة عناد جودي وإصرارها على فكرة يقول
الرجل أنها ليس لها اصل في الواقع فقالت:
-
سيد سان فوازان أرجو أن تعذر جودي فهي عنيدة جدا، وتتشبث بآرائها.
ابتسم الكاتب لبسمة ثم قال لجودي التي كانت على وشك الرد
قائلا:
-
عفوا آنسة جودي، أنا حقا مقدر لإلحاحك على الفكرة والتأكد من مدى واقعيتها،
وبالفعل سوف أعود لأفكر وأتذكر ما إذا كانت هناك أي إشارة ما قرأت عنها لكائنات من
هذا النوع، قد جعلتني أستلهمها، وإن كنت أشك، وفي هذه الحالة سوف أكاتبك على
إيميلك الشخصي.
أطرقت جودي ونظرت إلى أرض الغرفة وبدا عليها التوتر، فحاولت ليلى تخفيف حدة
التوتر بأن عادت لتسأل السيد سان فوازان عن الجديد في كتاباته، واستمروا في الحديث
معه لوهلة قبل أن ينصرفوا.
16
الدير السري!
بعد انتهاء اللقاء مع السيد سان فوازان،التقت
الفتيات الثلاث مع كل من مازن وويليام، اللذين كانا يترقبان نتيجة اللقاء بفضول،
وقد لمح ويليام شرود جودي وملامح الإحباط على وجهها فأدرك النتيجة، ولكن ليلى بدأت
تحكي لهما عن إعجابها بالسيد سان فوازان، وكيف أنه يبدو اصغر من عمره، وعن ترحيبه
بهن، في محاولة لعدم إثارة ضيق جودي. واقترحت بسمة أن يبدأوا رحلة بالدراجات إلى
البحيرة، ثم قضاء بقية اليوم على الشاطئ، حتى لا يضيع اليوم عليهم، قبل عودتهم إلى
باريس صباح اليوم التالي.
في المساء بعد أن قضوا يومًا طويلاً استمتعوا
فيه بالسباحة ومشاهدة بحر الشمال، عادوا إلى المطعم الذي قضوا فيه اليوم السابق، ووجدت
بسمة فرصة لتعزف قليلاً على الكمان، الذي تحمله معها أينما ذهبت، ولم تكن قد وجدت
فرصة للعزف عليه خلال الرحلة. وهو ما جعل المجموعة تطلب منها أداء بعض الموسيقى
لبعض الأغنيات. وساد وقت مرح لبعض الوقت.
ثم عادوا لمناقشة موضوع الكتابة المختفية،
واحتدم النقاش بينهم جميعًا، دون أن يصلوا إلى فكرة محددة واضحة. وفي النهاية اقترحت
جودي انها تريد أن تؤخر عودتها لباريس يوم آخر لزيارة مكتبة المدينة، لكي تطلع على
الكتب الموجودة والتي تتناول موضوع الستيغانوجرافي، فقد اكتشفت من بعض مواقع
الإنترنت أنه ليس علمًا يختص فقط بفكرة الكتابة المختفية بل بالتشفير عمومًا،
بينما في قرارة نفسها كانت تقول أنها ربما تجد كتابًا له علاقة ما بموضوع مصاصي
الحبر.
ورغم استياء الجميعمن الفكرة لأنهم وجدوا في البقاء
في سان بريوك مضيعة للوقت على حساب الكثير مما يمكن لهم أن يشاهدوه أو يفعلوه في
باريس، إلا أنهم رضخوا في النهاية، حتى لا يخرّبوا الرحلة، ولكي يعودوا معا في
مساء اليوم التالي.
******
استيقظت بسمة في صباح اليوم التالي مبكرًا، قبل
كل من ليلى وجودي، فنهضت متثاقلة إلى الحمام، ولاحظت قبل أن تصل إلى باب الحمام
ورقة صغيرة مطوية على الأرض قريبًا من مدخل باب الغرفة، فرفعتها من الأرض ووضعتها
على المنضدة الصغيرة بجوار الباب، وهي تفكر بأنها قد تخص ليلى أو جودي، ثم ذهبت
للحمام، وأخذت حمامًا باردًا، أحست بعده بالانتعاش، فقررت أن تسبق صديقتيها إلى
المطعم وتناول الإفطار والتمشية حول الأوتيل حتى يستيقظوا.
تناولت عصيرا ثم خرجت لتتمشى أولا، وكان الجو
لطيفا به لسعة برودة خفيفة، جعلتها تقرر أن تتمشى قليلا حول الفندق قبل أن تعود
للإفطار. وبعد وهلة وجدت هاتفها يرن. ردت على الهاتف فسمعت صوت جودي تسألها أين
ذهبت؟
أخبرتها أنها تتمشى، فطلبت منها أن تعود للغرفة
بسرعة وأغلقت الهاتف.
انزعجت بسمة، وخشيت أن تكون ليلى مريضة، فأخذت
تركض،
حتى وصلت أخيرا إلى الغرفةلاهثة ومتقطعة الأنفاس، فتحت الباب فوجدت ليلى وجودي لا تزالان بملابس النوم، وهما جالستان على الفراش ويتأملان ورقة.
سألتهما إذا كانتا بخير فأجابت ليلى:
-
نعم ولكن وجدنا هذه الورقة الغريبة على المنضدة ولم نفهم من الذي أحضرها.
تأملت بسمة الورقة وتذكرتها فقالت لهما أنها وجدتها على الأرض بجوارالباب
وظنت أنها تخص أي منهما، فنفيا معا ومدت جودي لها بالورقة فتناولتها وأخذت تقرأ ما
بها على الفور.
لم يكن في الورقة سوى كلمات قليلة مكتوبة باللغة الفرنسية وبخط لاتيني جميل
بقلم حبر:
"البحث عن مصاص الحبر؟
دير الكاتدرائية العتيق"
نظرت بسمة إلى الورقة للحظات ثم التفتت إلى صديقتيها
وسألتهما:
-
ما هذا؟
لم ترد اي منهما، لأنهما مثلها لم يكونا قادرتين على استيعاب اي شئ.
فقالت بسمة:
-
هل يعني ذلك ان أحدا ما قد دس الورقة من تحت باب الغرفة؟ هذا قد لا يكون
سوى ملعوب من مازن أو ويليام.
ابتسمت ليلى وقالت:
-
هذا ما فكرنا فيه ولكننا اتصلنا بهما في غرفتيهما وقد وجدناهما نائمين،
وأقسما أنهما لا يعرفان ما هو موضوع هذه الورقة، ولا من أحضرها إلى غرفتنا.
أخفقت محاولاتجودي في معرفة طبيعة من يكون قد ارسل الورقة إلى الغرفة بعد
ان سألت الفتيات اللائي ينظفن الغرف، وموظفة الاستقبال الصباحية التي أكدت أنه لا
يمكن لغير نزلاء الفندق الدخول إلى منطقة الغرف بدون اصطحاب أصحاب الغرفة. بينما
في قرارة نفسها كان لديها ما يشبه اليقين أن هناك يد للسيد سان فوازان في هذه
المسألة.
وعندما اجتمعوا على الإفطار ، لم يكن أمامهم مفرمن البحث عن الدير المذكور
في الورقة وعن كيفية البحث عنه لزيارته. لكن المفاجأة أن الدير المذكور لم يكن له
أي أثر في خريطة المدينة، كما أن أغلب من سألوهم في الأوتيل وخارجه كانوا أيضًا لا
يعرفون عنه شيئًا. حتى شكّوا أنهم قد تعرضوا لمزحة سخيفة، وأنهم يبحثون عن وهمٍ لا
وجود له.
وبعد فترة من الصمت، اقترح مازن أن يذهبوا لزيارة الكاتدرائية، وهناك يمكن لهم أن يستفسروا عن هذا الدير الغامض من أيّ من الكهنة أو القساوسة الموجودين في
الكاتدرائية، فغالبًا سيكونوا على دراية بمكانه.
استحسن الجميع اقتراحه،وبلا مزيد من إضاعة الوقت أخذوا دراجاتهم المؤجّرة،
وانطلقوا إلى الكاتدرائية. وفور أن وصلوا إلى هناك دخلت كل من بسمة وويليام للبحث
عن أحد الكهنة. وبمساعدة إحدى السيدات اللائي كن قد ذهبن للصلاة وإضاءة شمعة للسيّد
المسيح عرفوا مكان إحدى الغرف التي تخص أحد الكهنة.
طرقوا الباب، وحينسمح لهما بالدخول وجدوا الكاهن جالسا إلى منضدة خشبية
صغيرة وأمامه بضعة كتب. كان يرتدي زي الكهنة الأسود، ولكن من دون أن يضع شيئًا على
رأسه. خلع الرجل نظارته الطبية، وهو يتأملهما بعينيه الزقاوين، ويحك شعر رأسه
الأبيض. ثم نهض محييًا إياهما وداعيا لهما للدخول.
حين سألهما عن الكيفية التي يمكن له بها أن يساعدهما قال له ويليام أنهما
يبحثان عن أحد الأديرة، وأنهما لم يجدا له أثرا في خرائط المدينة، فعاد وسألهما عن
اسم الدير فأخبراه بالإسم. أبدى الرجل دهشته بشكل لافت، لكنهم لم يفهموا سر دهشته.
سألهما عن الطريقة التي عرفوا بها بأمر الدير. فأجاب ويليام قائلا أن صديقًا لهم
كان قد زار المدينة وسبق له زيارة المكان.
ترددالرجل في قول أي شئ لفترة من الوقت شعر ويليام وبسمة خلالها بالارتباك.
وعاد ليسألهما بضعة اسئلة أخرى عن ذلك الرجل وكيف عرف بأمر الدير. وشعر كل من بسمة
وويليام أن هناك بالفعل شيئًا غامضًا يخص هذا الدير. وفهم ويليام على الفور أن
الدير في هذه الحالة قد يكون موجودًا بالفعل، لكنه ليس مكانًا مسموحًا بزيارته من
عامة الناس. وبالرغم من أن ويليام كان يفكر أنه حتى لو كان الدير مقتصرًا على
الكهنة والدارسين لعلوم الدين المسيحي واللاهوت، فلماذا لا يوجد له أثر في الخرائط
وآثار المدينة؟
صمت ويليام قليلاً ثم قال للكاهن أن الأمر يتعلق بدراسة مدرسية يجرونها على مخطوطات الأديرة القديمة في فرنسا.
طلب الرجل منهما الانتظار خارج الغرفة، وخرج معهما، ثم اختفى من أمامهما
وعاد بعد دقائق بصحبة كاهن آخر، كان أكبر في العمر ويرتدي زي الرهبان، ويضع على
رأسه غطاء الرأس. كان وجهه سمحًا والابتسامة لا تفارق وجهه، وهو ما شجع بسمة على
أن تتحدث معه وتشرح له أهمية زيارة الدير بالنسبة لهم، خصوصًا وأنهم حضرو
للكاتدرائية قادمين من مكان بعيد، ولن يكون بإمكانهم زيارة المدينة مرة أخرى
بسهولة. أما ويليام فقد استجمع كل ما قرأه عن المخطوطات القديمة وحاول أن يضعه في
جمل متلاحقة لكي يوحي للراهب اهتمامه بأمر المخطوطات القديمة. فابتسم لهم الرجل
وسألهم إذا كان هناك أحد آخر في صحبتهم فأخبراه بوجود أصدقائهم الثلاثة فقال لهم:
-
اخشى أنه سيكون من الصعب عليكم أن
تدخلوا معا إلى الدير، ولكن يمكنكما أنتما الإثنان فقط زيارة الدير والاطلاع على
ما ترغبان فيه في مكتبة الدير فقط.
ووافقا على الفور ومن دون الرجوع
إلى المنتظرين في الخارج. لكن عندما أخبرهما الراهب أن الدير موجود قريبا من
الكاتدرائية، في موقع أسفل الأرض، ويمكن الوصول إليه عبر ممرات داخلية قريبة، كان
على بسمة أن تعلن الأمر للمنتظرين في الخارج، والذين أبدوا احتجاجهم وخصوصًا جودي
التي كانت ترى أنها الأولى بهذه الزيارة، وهكذا قررت بسمة أن تسمح لجودي أن تذهب
مع ويليام بدلا منها.
وحين ذهبت جودي إلى حيث وقف ويليام والكاهن سألها
الرجل عن بسمة فأوضحت
أنها الأكثر تخصصًا في الموضوع، وأنها المكلفة بعمل هذا البحث مع ويليام وبعد أن
استمع الكاهن إلى جودي هز رأسه متمتمًا أن اختيار من يزور المكان شأن داخلي بينهم،
ودعاهم للسير خلفه في الطريق إلى الدير الخفي!
17
ضوء في نهاية النفق
بقدر ما كانت جودي تشعر بالإثارة بقدر ما شعرتبالوجل
والخوف، كلما تقدموا في السير، خصوصًا مع اقترابهم من ممر ضيق في نهاية
الكاتدرائية كان يهبط تدريجيًا إلى الأسفل، ولم تكن توجد به إلا بضعة مصابيح،
معلّقة على الجدار المجاور للدَرَج الحجري العتيق، لم تكن ذات وهج كافي لإضاءة
المكان. كان الكاهن يسبقهما، وكانت جودي تسير خلف ويليام وهي تخفض رأسها، وتهبط
بحذر شديد، بينما كانت تشعر برطوبة المكان.
أخيرا وصلوا إلى باحة كبيرة تتراص فيها وحدات من
الخشب والمعدن تشبه الخزائن، تبينوا بعد قليل أنها الأماكن التي تخزن فيها الكتب
والمخطوطات القديمة.
وقف الكاهن في وسط الباحة تقريبًا وأشار بشكل
دائري إلى محتويات المكان قائلا:
-
أنظروا، هنا توجد مجموعة من أهم الكتب والمخطوطات في العالم. بل لعل هذا
المكان يحتوي كنزًا من المعرفة، في العلوم والأديان والفلسفة والفكر والأدب، بعضها
لا يعرف أحد في العالم شيئًا عنه.
انتبهت جودي لهذه الكلمات وقالت لنفسها، طالما أن أحداً لا يعرف شيئًا عن
هذا الكنز فلا بد أن هناك بالفعل مخطوطات قديمة قد تحتوي أية معلومات مدونة عن
مصاصي الحبر. وبينما بدأ الرجل يشرح لهما أقسام المكتبة السرية أخذت تتجول بعينيها
في المكان، كانت الباحة واسعة مبلطة بالحجارة، وكانت الجدران مبنية من حجارة عتيقة
طوبية اللون، أما السقف فكان منخفضًا بشكل ملحوظ ويبدو مقوسًا، كأن المكتبة بنيت
داخل نفق اسطواني. لكن الإضاءة اختلفت بحيث تدلت من السقف كشافات مربعة الشكل،
مزودة بمصابيح قوية الإضاءة، كل منها مسلط على أحد خزائن الكتب. وبينما بدأ الكاهن
يفتح بعض الأدراج ليطلعهما على بعض نماذج المخطوطات، قررت جودي أن تبتعد عنهما
قليلاً لتتأمل المكان.
أخذت تتجول بعينيها على الملصقات الموضوعة على أدراج الخزائن، وهي التي كتب
على كل منها إما تقسيم محتويات الأدراج، أو التاريخ الذي يعود إليه زمن نسخ أو
كتابة المخطوطات. وبعض الملصقات كانت الكتابة المكتوبة عليها باللغة اللاتينية
القديمة التي لم تفهم جودي منها شيئًا.
سمعت صوت ويلياموهو يسأل الكاهن عما إذا كانت
هناك مخطوطات قديمة خاصة بعلوم الكيمياء، وبعد لحظات جاءها صوت الرجل متحمسًا:
-
آآآآآه الكيمياء، طبعا طبعا.. الكيمياء لها اهتمام كبير بين محتويات
المكان،تعال لكي اطلعك على بعض منها.
اغتنمت جودي فرصة انهماك الرجل مع ويليام في موضوع الكيمياء وبدأت تسرع في
خطاها باتجاه الزوايا البعيدة من المكان،
كانت الخزائن متراصة بجوار الجدران، بالإضافة إلى صفين من الخزائن في منتصف البهو،
ولكنها كانت تركض وتقرأ المكتوب على الملصقات، حتى وقعت عينيها أخيراً على ملصق
مكتوب عليه مصّاصي الدماء، ولم تصدق عينيها، بحثت في الملصقات الأخرى، عن أي شئ له
علاقة بمصّاصي الحبر لكنها لم تجد شيئًا فعادت إلى الدُرج الخاص بمخطوطات مصاصي
الدماء، وفتحته بحرص شديد، وهي تتمنى ألا يُصدر صوتًا، وبالفعل نجحت في ذلك ووجدت
أمامها عددًا كبيرًا من الكتب المجلّدة في جلود عتيقة وعلى حوافها الخارجية راحت
تقرأ العناوين.
كانت أغلبها كتب لم تسمع عنها من قبل، "مصَّاصو الدماء
واللاهوت"، "الخيال والحقيقة في كائنات الظلام"، "الدماء
وشاربوها"، "مقالة في خرافات شرب الدماء"، كما وجدت نسخة من كتاب
"دراكيولا" الشهير، وغيرها، لكنها انتبهت إلى كلمة "مصاصو
الحبر" على أحد الأغلفة، فأمسكت الكتاب، وخلصته من الكتب الأخرى التي كانت
تشعر أنها تمسك به، ولا تريد لأحد أن ينتزعه من مكانه، وأخيرا نجحت في تخليص
الكتاب، ووجدت على الغلاف الجلدي عنوان "نماذج من الكتب منزوعة الدماء"،
فخفق قلبها بعنف، وأحست أن أنفاسها بدأت تتسارع، فها هو ذا كل ما كانت تفكر فيه
يتحقق أخيرا، ويتأكد أنه حقيقة وليس وهمًا.
تصفحت الكتاب، لكنهافوجئت أن الورق العتيق المصفر خال تمام من أي حبر أو
آثار لكتابة، قلبت الصفحات وهي تسند الكتاب على إحدى ذراعيها وتقلب الصفحات
بالأخرى، دون جدوى. وسمعت فجأة صوت الكاهن يقترب منها، فزادت خفقات قلبها، وبدأت
تحاول أن تغلق الكتاب لتضعه في مكانه قبل أن يحضر الرجل، ولمحت في الجلدة الاخيرة
من الغلاف هذه الجملة:
"نموذج من كتب منزوعة الحبر . الموضع: صندوق مصاصي الحبر، الغرفة
7".
أغلقت الدرج وراحت تسرع من خطواتها لتقترب من الكاهن وويليام، الذين توقفوا
بجوار خزينة كتب مجاورة لها بالفعل، وكان الرجل يريه بعض المخطوطات التي تعود
لعالم عربي اسماه الرجل آفيسينا، Avicenna، ولم يدرك ويليام معنى الاسم في البداية، لكن جودي ذكرته أنه
الاسم اللاتيني المستخدم لابن سينا. كان المخطوط باسم "رسالة في الأغذية
والأدوية"، لكن الكاهن أوضح لهما أن ابن سينا له مؤلفات أخرى أغلبها في الطب،
وأوضح أن الكثير من كتاباته ترجمت للاتينية وبعضها للفرنسية. ثم ابتسم قائلا:
-
كتابه المسمى "القانون في الطب" ظل مرجعا لدراسة الطب في أوربا
حتى القرن التاسع عشر.
فأبدى ويليام دهشته صائحًا:
-
رائع! هذه معلومة جديدة بالنسبة لي.
فقال له الكاهن:
-
لماذا تندهش هكذا؟ ابن سينا لم يكن المرجع العربي الوحيد للعلم في أوربا،
كانت هناك أيضا مؤلفات مهمة لـ" افيروس" و"مايمونيدس" (سيفهم
ويليام لاحقا ان الأول هو ابن رشد، الفيلسوف العربي الشهير من عصر الأندلس أما
الثاني فهو الميموني أو موسى ابن الميمون وهو عالم عربي يهودي من العصر الأندلسي
أيضًا) والفارابي وابن خلدون والكندي وغيرهم.
كان ويليام يشعر بالانبهار، وتدخلت جودي فجأة قائلة:
-
سيدي القس، هل كان هناك وجود لكائنات تسمى "شاربو الحبر"، أو
"مصاصو دماء الكتب"؟
خفض الرجل نظره بحيث يحدق في عينيها وابتسم ابتسامة
غامضة ثم قال:
-
هذه الأشياء لا تأتي في صميم اهتمامنا هنا يا صغيرتي. نحن لا نهتم
بالخرافات.
-
ولكن ربما يا سيدي القس تهتمون بتوضيح أن الخرافات لا أصل لها مثلا، مثل مصَّاصي
الدماء.
-
ولكن يا صغيرتي هذه أشياء لا نهتم بها حقا.
-
اسمح لي سيدي القس، أن نخبرك بحقيقة ما جئنا من أجله. لقد عرفنا أن هناك
كتبا قديمة تناولت موضوعا غريبا لكائنات كانت تعرف باسم شاربو الحبر، وجئنا لأجل
التحقق من هذا الأمر.
بدا الارتباك على ويليام الذي شعر أن جودي أفسدت كل شئ بتعجلها في الكلام
عن موضوع لا يبدو الكاهن راضيا عنه أو راغبا في الكلام حوله. أما الكاهن فقد صمت
قليلا، ثم نظر إليهما، وقال بصوت منخفض بصوت له نبرات خشنة قليلا بسبب كبر عمره:
-
وهل هذا هو السبب الحقيقي لوجودكما هنا؟
صمت ويليام ونظرإلى جودي على الفور حتى لا يتورط في كلام قد يؤدي إلى
نتائج لا يعرفها، لكن جودي هزت رأسها بإصرار، وقالت له:
-
نعم يا سيدي القس، نحن هنا من أجل هذا الأمر. والحقيقة أننا نواجه مشكلة
تخص إحدى صديقاتنا واسمها ليلى، والموجودة الآن خارج الكاتدرائية، فبعد أن كتبت
جزءً كبيرًا من كتاب كانت ترغب ان تعبر فيه عن موهبتها في كتابة القصة، اكتشفت
اختفاء الحبر الذي كتبت به كتابها. وبالتالي اصبح ما كتبته كأنه لم يكن. ولكنها
حاولت مرة أخرى، وأعادت كتابة جزء كبير من القصة من ذاكرتها فتكرر الأمر.
نظر الكاهن إليها وكأنه يتأملها، وظل صامتًا لوهلة، ثم قال:
-
وهل لديكم نسخة من كتاب صديقتكم منزوع الحبر هذا؟
فهتفت جودي قائلة:
-
نعم بالتأكيد، ليلى لا تتحرك من دونه، معها في حقيبة يدها التي تحملها
معها.
فقال الكاهن:
-
إذن هل يمكن أن تحضري لي نسخة من هذا الكتاب؟
-
بالتأكيد يا سيدي.
-
عظيم، إذن تعالوا معي.