لروائيّ المصريّ إبراهيم فرغلي: غمزات الصخر الحنون في رام الله!
أصبحت فلسطين واقعاً بالنسبة لي سيستمر في حياتي للأبد، لم تعد مجرد حلم بعيد، أو بكائيّات ومرثيّات، أو حتى فولكلور نضاليّ ووسيلة لبطولات "دون كيشوتات" زمننا البائسة، وشعارات يرتزق بها مرتزقو السياسة والثقافة. تنشقت هواء رام الله، ورأيت أهلها، بشراً على الأرض، لهم أحلام ورغبات ومشاعر، وطموحات، وآمال، وليسوا مجرد كائنات مصنوعة من كارتون الأخبار ومانشتات الصحف والإعلام. وليسوا أيضاً مجرد شعب لا يستحق إلا الشفقة والرثاء على وطنه المغدور. بل كائنات تملك القدرة على أن تعلمنا الكثير عن الأمل والحب والحياة المستمرة تحت الخطر ونحن نرسم ابتسامة. وقفت معهم على جسر اللنبي، متوتراً، متحفزاً وقلقاً، أداري هواجسي مثلهم، وأتمنى أن تنتهي ساعات المعبر الطويلة من دون كارثة متوقعة في أي لحظة. أراقب المحتلّ مثلهم، راجياً اليوم الذي يمكن لهم فيه العبور من دون تفتيش وإجراءات العبور المقيتة التي يمارس بها المحتلّ دوره كمغتصب للأرض. وجلست على المقاهي بينهم نضحك ونعيش اللحظات المسروقة من الخوف المسيطر على أجواء المكان الذي تشعر أن عيون المحتلّ تراقبه من أماكن غير منظورة، وتتوقع اقتحامه لأيّ مكان بلا سبب.
تابعت معهم فيلماً سينمائياً، شاركتهم فيه الشغف، والابتسامات التي تنشق من رحم مآسي السجن، رغم المعاناة، والضحكات التي يبحثون عنها رغم كل شيء. وشاهدت بينهم مسرحية كنت أتابعها كأنني متفرج بين مسرحيتين الأولى هي العرض الفني الحقيقيّ الذي يشاهده الجميع، والثاني هو الجمهور الفلسطينيّ الذي كنت أتابع ابتساماته وضحكاته محاولاً فهم الشفرة السريّة للكنة والسخرية المبطنة مما يغيب عنيّ من خارطة الطبقات واللكنات والاختلافات المذهبيّة والعرقيّة. وقفت في الغرفة التي حوصر فيها ياسر عرفات من قبل قوّات شارون، وأنا أستدعي مكان جلوسي في غرفة المعيشة في شقتي في مصر مذهولا من البجاحة التي بلغها المحتلّ الأرعن. وأحاول استدعاء مشاعر الختيار في تلك المساحة التي حوصر فيها مندهشاً من شدة تقشفه الذي تكشفه غرفة نومه البسيطة، ومطبخه الذي لا يختلف عن مطبخ أي عائلة صغيرة في أي منزل عاديّ.
رأيت رام الله عندها كمكان تم تخليصه من فم الأسد، حتى لو لم تكن السيادة كاملة اليوم بسبب الجيش الذي يحتلّ شعباً أعزل لا قوّة له إلا إرادة أهله.
شاهدت المستوطنات وكيف تحيط بالمدينة على أعلى التلال، وأنا أشعر أن كاميرا خفيّة في مكان ما منها تراني كما تراقب كل ما يدور في المكان. ومع ذلك كنت أوجه الكاميرا لألتقط الصور بقدر ما يمكنني لأوثق صورة المستوطنة التي يعزل فيها المحتلّ نفسه.
تجوّلت في وسط المدينة مندهشاً ومغتبطاً من جمال العمارة والحجارة، ومن النظافة وجمال الطبيعة معاً. خطف بصري الصخر الحنون، هذا الذي تراه أينما وجهتّ وجهك في أرجاء فلسطين، الحجر الذي يشكل صورة الفضاء العامّ للمبنى الفلسطينيّ الكبير، أو "البلاد" كما يطلق عليها أهلها، والذي يُلفت الانتباه بمجرد أن يتنشق المرء النسمات الأولى لهواء فلسطين. الصخر الحنون في رام الله تجلى في الكنائس القديمة التي تتوسط مركز المدينة، وفي المساجد والبيوت العتيقة الجميلة والمحال والأسواق والمتاحف. الصخر الذي كنت ألمح ابتسامته وهو يغمز لي مذكراً أنه لا يغدو طيعاً إلا حين تمسك به أيدي أهل البلاد، الذين يعرفون أسراره، ويدركون متى يستخدمونه موضوعاً للجمال، وكيف يحوّلونه سلاحاً طيّعا في أيدي الكبار والأطفال حينما تنتفض فلسطين وتصبح الحجارة حُلماً يهز جدران الظلم، كما رأينا في الانتفاضتين الأولى والثانية.
هذا ما تسمح به هذه العجالة، لكن الحديث عن فلسطين سيطول كثيرا
نقلا عن موقع رمان - يونية 2017