البـلاد..
وهم الحدود!
إبراهيم فرغلي
استفت قلبك ولو أفتوك.
هكذا أردد لنفسي، في محاولتي الفردية المستمرة
لاختبار أفكاري المستقرة عن ذاتي وعن العالم.
وهكذا فعلت حين تلقيت الدعوة من وزير الثقافة
الفلسطيني لزيارة فلسطين. كنت أتأمل كلمة السلطة الفلسطينية باعتزاز، وكلمات
الدعوة بفخر. كانت الكلمات تقدم لي حلما، كنت أظنه مستحيلا. زيارة فلسطين.
قبل عدة سنوات وقفت أمام البحر الميت في عمان
حيث قيل لي أن أتأمل الضفة الأخرى حتى يمكنني أن أرى القدس. كان قلبي يرف لمجرد
أنني أتطلع إلى ضفة كنت أعتبرها مجرد خيال. حلم سنظل نحلم به ولا يتحقق. رؤية
فلسطين وعودتها لأهلها.
قبلت الدعوة فورا، لأنني بعد فترة وجيزة من
رؤيتي لشبح القدس عبر البحر الميت، قرأت رواية باب الشمس، ثم شاهدت الفيلم المأخوذ
عنها ببراعة بنفس الاسم.
تغيرت أفكاري كثيرا عن قضية فلسطين، لأن الرواية
والفيلم نزعا قشرة الشعارات والدعاية السياسية والخطابات العروبية الفارغة، وحولت
القضية إلى دم ولحم. إلى قلوب تنبض وتعيش ولا نعرف عنها شيئا لأنها محجوبة عنا
بالشعارات، والبطولات السياسية الحزبية.
وكان قبولي الدعوة بالتالي واجبا لأغتنم فرصة أن
اتنشق هواء البلاد الحلم. لكي أتواجد بين أهلها، وأن أعلن تضامني الكامل معهم في
قضيتهم العادلة، وأن أشهد طبيعة الحياة اليومية لهم. متاعبهم، آمالهم، أحلامهم،
فشكري بلا حدود لكل من وقف وراء هذه الدعوة الكريمة.
ولأن الحدود والمنفى والبلاد هي موضوع هذه
الندوة فقد اخترت نصا أو شهادة تعبر عن خبرتي الشخصية ككاتب قضى أغلب فترات حياته
خارج "البلاد" كما يقول اهل فلسطين عن بلدهم.
بين صور عديدة صاحبتني في أحلام يقظتي المراهقة،
صورة الرحّالة الذي يمر على بلاد العالم، ملقيا نفسه بين البشر وآثار البلاد، ثم
يترك البلد تلو الآخر، تاركا جزءاً من روحه في المكان كطيف، ويختفي.
أرى آثارَ أقدامِ امرأةً ترتدي خلخالا وتسير
باتجاه الشمس على رمال الصحراء، رمالٌ ناعمة ورطبة تلتمع بلون هجين بين صُفرةٍ
محمرة داكنة وظلالٍ من لون الطين. قدمان نحيلتان لامرأة نحيفة تتتابع خطواتهما
بدلال ودأب. لا أسمع صوت الخلخال. ولا أعرف الجهة التي أتت منها صاحبة القدمين
الخمريتين الناعمتين، ولا الجهة التي تسعى إليها. أين تذهب في هذا التيه الشاسع؟
من أي أرض جاءت وإلى أي أرض تنتمي؟ ولكني سرعان ما أشعر بعبثية السؤال حين ترتفع
نبرة سؤال آخر أكثر إلحاحا: أليست الأرض كلها لنا؟
انفجر السؤال في ذهني وأنا أحدق من الطائرة التي
تحوم حول الصحراء، رأسي قريب من رأس "دي ألماسي"؛ المريض الإنجليزي،
الذي اصطحب جثة عشيقته كاثرين كليفتون، في الطائرة، ليحلق معها في سماء بلا حدود،
أعلى صحراء رسمت تلالها ومسارات طبقات الرمال فيها أجساد بشرية عارية تطفو فوق بلاد
بلا خارطة أو حدود. لوحة جسدية عالمية للبشر الذين يجسدون الأرض التي يجب أن
يعيشوا عليها جميعا أحرارا بلا حدود سياسية أو جغرافية.
لم يتحقق حلمي ولم أكتسب صفة الرحّالة كما حلمت،
ولكني أيضا لم أعش في مكان واحد. قضيت فترات طفولتي بين مسقط في سلطنة عمان ومدينتي
دبي ورأس الخيمة في الإمارات. وظلت مسقط بجبالها، بعلاقاتها المتنافرة صلابة ورقة،
مع البحر أو السحب، ووديانها، وأفلاجها وقلاعها بكل دلالاتها التاريخية، وتراث
السحر عند أهلها وطيبتهم المتناهية، وقُراها الصامتة البسيطة الخاوية أحيانا،
والغامضة في الوقت نفسه، وبقيظها الملتهب، هي أكثر ملامح ذكريات طفولتي رسوخًا
وسطوعًا.
بعد
عودتي إلى مصر عشت دائما على الحد الفاصل بين كوني مزدوجا بين الغريب والآخر. كان
إحساسي بالغربة يفوق وعيي بانتمائي للمكان. اكتفيت من المكان بتكوين الهوية بكل
تراثها، اجتماعيًا وثقافيًا وتراثيًا، لكنني كفرد يعيش في المكان كنت نائيا وبعيدا
وغريبا باستمرار.
كان لتجربة الخليج دور في نشأتي وحيدا متأملا،
مصادقا لذاتي،
راضيا وقانعا بالعزلة والفردية، وبالمونولوج الخاص المستمر مع
الذات، وبذلك الإحساس المفرط بالأمان النابع من صحبة الذات.
في مصر، وبالتحديد في مدينة المنصورة؛ حيث ولدت،
وإلى حيث عدت في بداية مرحلة المراهقة بعد سنوات الخليج، وجدت الشارع مخيفا، ولغته
غريبة، وطباعه مختلفة. كان مزيجا مثيرا من الأليف البسيط التراثي الشعبي والبدائي
معا، لكني بقدرتي على التكيف ورغبتي في التغلب على مظاهر خجلي وعزلتي، ألقيت بنفسي
في الشارع، وأوجدت لنفسي مساحة خاصة في التعامل مع صبية ومراهقين من عمري، لم
أستطع أن أزيل إحساسي بالاختلاف الكامل معهم، وحتى هذه اللحظة. كنت إذا مرّت على
رفقتي المستمرة بهم ثلاثة أو أربعة أيام متصلة ينتابني شعور مؤرق بالضجر والارتباك
والتوتر النفسي الشديد، وبرغبة حارقة في الجلوس مع ذاتي والاستماع لمخاوفي
وأحلامي، والانطلاق بمساحة خيالي إلى مداها مع الفتيات اللاتي أحلم بهن، وبالبلاد
التي أتوق لأن أعيش بها.
رافقت الكتب بديلا، عرفت صحبتها منذ الطفولة
المبكرة، وكان لها فضل إنقاذي من هاويات العدم والعبثية السحيقة التي رأيت كثيرًا
من هؤلاء الأصدقاء يسقطون فيها تباعا بلا أمل ولا هدف، ولا طموح ولا معنى. بل وكان
لهذه الصحبة فضل انتشالي من تجربة الانخراط في الجماعات الإسلامية في ذروة نشاطها،
الذي سبق اغتيال السادات مطلع الثمانينيات.
وهكذا تكشف لي مبكرا أن فكرة الوطن، بقدر ما
تستأثر وجدانيا وعاطفيا بالفرد، غير أنها لم تجسد عندي منتهى الطموح، فكلما استقرت
حياتي في مصر لسنوات أحسست بقوة الغربة، لأسباب لم أستطع تحديدها بشكل واضح، لكن
ربما أهمها أنني عادة ما كنت أفتقد لغة مشتركة مع رفاقي، في زاوية النظر ورؤية
الأمور، كنت مختلفا حريصا على إخفاء هذا الاختلاف، أعيش بينهم قارئا ولا اتحدث
معهم عن أي كتاب، ولاحقا كاتبا، ولا أظهر ما أكتبه لأي منهم.
كان هناك ثمة شيء محدود وخانق ومحصور في المجتمع
الصغير الممثل لحدود مدينتي الصغيرة المنصورة، وعندما هربت منها إلى القاهرة قبل حتى أن أنتهي من دراستي
الجامعية، كنت أشعر كمن كان غارقا في أعماق المياه وانتهى الأمر به أخيرا إلى سطح
المياه، وانفتحت رئته على الحياة بعدما كاد أن يكون في عداد الأموات. لكن وجودي في
القاهرة لم يستغرق سوى سنوات أربع، اكتشفت بعدها أنني استنفذت فضاء القاهرة،
واكتسى لونها المشرق بلون رمادي كئيب جعلني راغبا في التحليق بعيدا إلى مكان جديد.
كانت مشكلتي مع المنصورة أنها مجتمع مسخ بين
الريف والمدينة. مدينة شكلا، لكنها ريف من حيث القيم والعادات والتقاليد
والطموحات، وبقدر ما بدت لي القاهرة في بداية انتقالي إليها مطلع التسعينيات عالما
جديدا لانهائيا، يمتلك الكثير مما حلمت به لحياة عصرية مدنية ومتحررة، لكنها سرعان
ما خذلتني؛ لأني اكتشفت أنها تجتذب دوائر الريف بقيمه العتيقة أيضا، وتفتح لها
ذراعيها، حتى يختلط فيها كل شيء. مدينة تسلم ذاتها، لكنها تسلمها غصبا، وبدلا من
ان تفرض قيمها المدنية على ساكنيها الجدد سرعان ما تمتثل لمنطق عكسي غريب، كأنها
تنتقم لروحها التي سرقت منها، فتريّفت وأصبحت مكانا خانقا لم أقوَ على الحياة فيه.
وسرعان
ما بحثت عن أي وسيلة للسفر، ولم تُتح لي أي فرص سوى العودة إلى مركز طفولتي مرة
أخرى.. مسقط.. التي عدت إليها مقتولا من الحنين إلى مواطن طفولتي فيها: المدرسة
التي كنت أسير إليها يوميا على بعد ثلاثة كيلومترات من المنزل، فرن الخبز الإيراني
القريب منها، المقهى الذي كنت أهرب إليه أحيانا من المدرسة، خوفا من مدرسين اشبه
بـ"الغيلان"، البيت العتيق الذي عشت فيه، شجرة النبق التي كنت قد زرعتها
في حديقة المنزل قبل سنوات، وهالني أنها لاتزال موجودة، بعد كل تلك السنوات التي
تجاوزت العشر، وجذعها كبر وتمرد على جزء من السور المتاخم لها فكسرته، والكنيسة
التي أديت بها طقوس الصلاة ذات مرة حين أودعني أبي في مدرسة تابعة لها يوم أحد
وافق عطلة المدرسة، فما كان من راعية المدرسة إلا اصطحابي لتلك الكنيسة، وسوق روي
العتيق الذي كنت أمر عليه يوميا ذهابا وإيابا من وإلى المدرسة. لكني أدركت، وبسرعة،
أن الأشياء التي كانت ضخمة وكبيرة بوعي طفولتي قد تجردت من تلك العملقة الزائفة
وأضحت صغيرة، وبعد سنوات ثلاث شعرت مرة أخرى بالاحتياج للرحيل.
قررت
أخيرًا أن أحقق حلمي بالذهاب إلى المدينة – الحلم، ورفيقة خيال الطفولة: باريس.
في نافذة غرفة الفندق الصغير في شارع 4 سبتمبر
كنت أحدق إلى الشارع غير مصدق. أنا في باريس.المدينة الحلم التي أثار خيالنا عنها
طه حسين في أيامه الصعبة الأليمة والشاقة ومعه توفيق الحكيم متقنعا بقناع عصفور
الشرق. وكلما استعدت هذه اللحظة التي استيقظت بها في أول صباحاتي في باريس أدرك كم
كانت لحظة استثنائية.
تنشقت الهواء واطلقت نفسي في باريس . كنت أعيش
في حلم، ومع ذلك فقد باغتني الواقع مرتين: الأولى حين تأملت باريس ليلا من على جسر
صغير مطل على نهر "السين" وعلى كاتدرائية نوتردام، وبدت على عكس خيالي
عنها؛ مدينة حزينة بلا إضاءات مبهرة كما كنت أتصور. وفي المترو كان الأفارقة الكثر
يمنحوني إحساسا متناقضا عن باريس الأخرى، وذلك الشاب الباريسي الذي يشبه شخصية
"تان تان" الكارتونية الشهيرة؛ الذي كان ينام جالسا طول الليل ملتحفًا
بالصوف الذي يرتدي، مادًا يديه لما قد يمنحه إياه المارة. كان يخطف قلبي، ويريني
باريس الفقر والعنصرية، باريس الإمبريالية
التي تعلم العالم الثورة والحرية بينما يعيش في هوامشها فقر مدقع، وبطالة، واحلام
موءودة على رصيف الرأسمالية العالمية، التي راحت تشوه كل قيمة في العالم بامتياز.
أما الثانية فكانت تتعلق بضرورة الرحيل؛ خوفا من
الإضرابات التي كانت تزداد يوميًا، ومنعتني من ركوب المواصلات الا نادرا.
تجاهلت خوفي من المغامرة باستمرار الإقامة في
باريس؛ حيث انتويت أن أكمل إقامتي بها مغامرا الى أن يقضي الله أمرا، بدعوى الخوف
من الإضرابات واحتمال وصولها إلى فئة عمال المطار؛ ما قد يمنعني من السفر أذا
قررت، ولكني لم أستطع أن أمنع نفسي ولسنوات عن المقارنة، وعن إحساس الفرنسي بوطنه
مقارنة بإحساسي انا المصري بوطني. ففي النهاية ورغم كل شيء كيف يمكن أن يكون إحساس
فرد ينتمي لبلد تفتخر بثورة الديمقراطية والحرية والعدل في العالم وشخص ينتمي لبلد
أنهكه المستعمر حتى كاد أن يقضي عليه؟
لكني، وبالرغم مما تشربته من نوازع وطنية، لم
اكن شوفينيا قط. كنت بسبب حياتي خارج مصر لسنوات طويلة منذ الطفولة قد اكتسبت قدرة
على التكيف مع أي مكان يقدّر لي أن أعيش فيه، كما تخلصت من تلك الميوعة العاطفية
المصرية الشائعة لدى المصريين ، يقيناً مني بأن الوطن فكرة أكثر من كونه مكانا.
وأن اغترابي المستمر لا علاقة له بالأماكن بقدر ما له علاقة بالبشر. وكلما وجدت من
أستريح اليهم، أيا كانت جنسياتهم، واوطانهم، تبدد إحساسي بالغربة، تماما كما شأني
مع مقهى آلفه فيصبح لي وطنا صغيرا، لأنه يمنحني ما يسعدني من صحبةٍ للذات والتأمل
والكتابة والإحساس بالإنسانية.
لماذا تخايلني صورة القدمين الحافيتين لتلك
الفتاة، التي لا أعرف لها ملامحا، وإلى أين؟ هل الوطن هو مجرد الحلم بالحياة معها
في مكان ما؟ أم أن اقتفاء أثرها هذا في حد ذاته هو يقين بأن الحياة ليست سوى رحلة
للبحث عن وطن؟
لعلها فتاة هجين، والدها من بلد بعيد نصف أوروبي
ونصف شرقي، وهو ما يعني أنه أيضا متعدد الهويات، ولعل والدتها نصف مسلمة ونصف
مسيحية، أو ربما نصف سنية ونصف شيعية، أو لعلها هجين من هذا كله: امرأة العالم
الجديد مختلطة الهوية بكل ما يعنيه ذلك من زوال حدود فاصلة بين البلاد والعقائد
والطوائف. إنسانة تخطو في صحراء الإنسانية، بحثا عن أرض جديدة بلا تمييز.
حين قرأت رواية "حبل سري" للكاتبة
السورية مها حسن، اكتشفت أزمة الأكراد لأول مرة: كانت قضية الشعب الفلسطيني، هي
النموذج المخيف لفكرة شعب تنتزع منه أرضه تحت بصر العالم، وباستخدام الأساطير
والسلاح. وبدفع القوى المؤهلة للدفاع عن هذا الشعب للتفتت والتشرذم لأبعد مدى.
وبحيث يكون الشتات للشعب الفلسطيني هو المصير البديل للوجود على ارضهم.
وفاجأتني مها حسن بقضية من نوع آخر، قضية شعب
يعيش بهوية ولكن بلا وطن، ليس كالفلسطينيين حتى الذين انتزعوا من أوطانهم، بل هم
يعيشون في مكان يشبه الوطن، لكنه لا يمثل هويتهم الحقيقية، شعب يعيش في شتات وجودي
حقيقي، ولم يغب عن مخيلتي باستمرار في
أثناء قراءة هذه الرواية التي فتنت بها، فئة البدون، هذه الفئة التي تختلف عن
الأكراد في جزء آخر، فهم يمتلكون هويتهم لكنهم يعيشون بلا حقوق من أي نوع؟
في حال الغضب أصرخ لنفسي كثيرًا بأننا نحن
الوطن، نحن الأوطان: حتى لو كانت أوطانا لا مرئية، أوطانا تصنعها أرواحنا، التي
تهفو لكل ما يجسد ضمير الإنسانية وقيمها.
في كهف معتم وبارد انطفأت شمعته الأخيرة، فاضت
روح كاترين كليفتون، عشيقة المريض الإنجليزي، قضت عليها شكوك الولاءات المريضة
لحدود أوطان تقدس رسم الحدود على كل قيمة أخرى، ولأجلها تقتل كل من لا يقع داخل
هذا الإطار الحدودي، المصنوع باسم سلطة متعطشة لحكم أي بقعة من الأرض، تبيع نفسها
لمن يرسم لها تلك الحدود وتمنحها كل ما تملك من كرامة مقابل أن تغذي عطشها المريض
للسلطة والنفوذ والتحكم في مصائر البشر.
في الفضاء الافتراضي اليوم، يبدو العالم بالفعل
عالما بلا خرائط، مفتوحًا على بعضه، تتدفق بينه الأفكار والأحلام والثورة والدموع
بلا حدود، تنسال بينه الأحزان وتتدفق القصائد تشكل هوية جديدة لوطن يتسع
للإنسانية؛ لحق الشعوب في أن تعيش أينما تشاء وكيفما تشاء، تقتفي أثرها الأوطان
بينما لا تقتفي هي سوى الضمير الذي فقده وضيعه كل من رسموا الحدود والخرائط
والأوطان.
قرأت في ملتقى الرواية العربية الاول في فلسطين- رام الله 9 مايو 2017
No comments:
Post a Comment