فصلان من رواية "مفتاح الحياة"..
الرواية الثالثة من "ثلاثية جزيرة الورد"
جزيرة الورد
عَدَدْتُ غيابها عن حياتي الضربة الثانية لي بعد موت عماد المبكّر، والصادم،
الذي كان حَدَثًا مفصليًّا في حياتي وحياة كلّ شلّتنا (الأصدقاء المُقرّبون) تقريبًا.
وبالرغم من أنني تمنّيتُ لها السعادة من أعماق قلبي، لكنّي، لن أسامحها أبدًا على زواجها
المبكّر، ورحيلها إلى أمريكا مع زوجها. وسوف يلاحقني الشعور بالتعاسة لغيابها دائمًا.
بينما سيظلّ عزائي أنها كانت سعيدة بقرارها بالزواج والهجرة.
جاكلين صديقة بالمعنى الذي أفهمه لفكرة الصداقة، ومعها أتحدّث عن أيّ شيء
يخطر ببالي، فتبتسم وتهزّ رأسها بتفهّم وهدوء كعادتها.
بين أسباب ارتباطي الروحي بها؛ إحساسي
بأنها أكبر من عمرها، فقد كانت أكثر نُضجًا منّي بكثير. عاقلة، وهادئة، قارئة نهمة،
وتحلم بالحياة في أوربا أو أمريكا. لم تشاركْني تعلُّقي بالشارع، والخروج مع عماد ورامي
وشلّة الجيران في توريل. لكنها، لا تخفي شَغَفَهَا بحكاياتي عنهم. ووصفتْني بأنني أصبحتُ
أُشبِهُ الأولادَ، بسبب شدّة ارتباطي بهم!
تاريخ مغادرتها للمنصورة أصبح تاريخًا مركزيًا، أُؤرّخ به الحكايات والأحداث.
أحكي الحكاية، وأقول حَدَثَ ذلك بعد سَفَر جاكلين. وأحيانًا أبدأ قائلة: "لمّا
جاكلين كانت هِنا، أو لمّا سافِرنا "رأس البرّ" مع جاكلين حصل كذا".
"بقَدْر جمال المنصورة بقَدْر ما أضاعتْ شباب الكثير من أبنائها".
هكذا قالتْ يومًا، ومعها الحقّ طبعًا، فلا يمكن مقارنة المنصورة، بكلّ ما فيها، بليلة
في الإسكندرية، أو القاهرة.
اعتادتْ جاكي، كما نُدلّلها، في رحلاتها
للقاهرة مع أمّها وأختها الأصغر، زيارة المسارح، والسينمات، والتّردّد على مطاعم أنيقة،
ونوادٍ عديدة. أمّا هنا، فليس لدينا إلا ناديَيْن أو ثلاثة، وبعض المطاعم. السينما
لا تليق بالعائلات. والحياة اليومية فيها مَبنية على الروابط الاجتماعية والزيارات
العائلية في البيوت.
لكننا، مع ذلك، مثل كائنات البحر؛
لا يمكن أن نبتعد عن المنصورة إلا ونشعر لها بالحنين الجارف. وهو مرضٌ شائعٌ عند أهلِها
جميعًا تقريبًا. فمَن الذي لا يحبُّ المنصورة؟ ولعلّ تعلُّقنا بالمنصورة له علاقة بمعرفتنا
بتاريخ المدينة الجميل.
كان عمّي وديع، مثلًا، حين يأتي لزيارتنا قادمًا من بورسعيد، يحكي لنا عن
منصورة ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، فتبدو لنا كأنّها بلدة أوربية بسبب الأبنية
العتيقة، مخروطية الأسقف، التي تخصّ الرعايا الأجانب. يُخرِج لنا ألبوم الصور الجِلْدي
العتيق، الذي يحتفظ به معه في حقيبة صغيرة، أينما ذهب. نتأمّل الصور التي تبدو لنا
كأنها رحلة في زمنٍ آخر. صُورٌ بالأبيض والأسود، مصقولة، وفي حالة جيّدة كأنها كروت
بوستال. صور من زمن آخر، لا علاقة له بزمن بالمدينة التي نعرفها.
لم نكن نملّ من تكرار الفُرجة على
الصور، وبينها صورته وهو يقف بجوار مبنى القنصلية الإسبانية بتصميمه الأوروبي الجميل،
أو أمام مدرسة "الفورير" التي درس فيها في صغره، وصور أخرى لشارع السِّكَّة
الجديدة في الأربعينيات، مع صور جدّي فلتس وجدّتي اليونانية "تيته فيودورا".
أخبرنا مرّة عن "حارة الخواجات"، التي عاش بها الكثير من الإيطاليّيْن واليونانيّيْن.
من بين الصور التي كنتُ أتمنّى أن
أحتفظ بها، صورة لعمّي وديع أمام المدرسة اليوناني، التي عملتْ فيها جدّتي "تيته
فيودورا" أو "فوفا" كما يُدلّلها أفراد العائلة.
وكنّا منبهرين من مساحة الحدائق والأشجار حول مبنى المدرسة الذي يُشبه قصرًا
فخمًا بسلالم عديدة. وكان واضحًا عُلو أسقف القصر الذي تحوّل للمدرسة اليونانية. وكان
جدّو فلتس يقول إن المنطقة كلّها كانت تابعة للجالية اليونانية، حتّى الخمسينيات.
ولم نرَ صورًا لأبي في تلك المرحلة، إلا في صورة وحيدة، بدا فيها طفلًا، تحمله
جدّتي بين يَدَيْها، وبجوارهما يقف عمّي وديع الذي كان يكبر بابا بأكثر من عشر سنوات.
وحتّى أمّي حَكَتْ لي أنها وزميلاتها خلال فترة الدراسة، كنّ يذهبنَ إلى السينما
في الحفلات الصباحية. وبضحكةٍ خجولة؛ تُلَمِّح لي أن تلك السينما ملتقى المواعيد الغرامية
بين البنات والشباب، حتّى لو اقتصر الأمر على تبادُل الابتسامات من بعيد، والغزل العفيف.
ولمّا سألتُها إذا ما حدث مرّة والتقتْ بابا في موعد غرامي في السينما، فابتسَمَتْ
في خجل، وطلبتْ منّي السكوت. وفهمتُ طبعًا أنها ربّما كانت تلتقي شخصا آخر قبل أن تتعرّف
إلى أبي، الذي تزوّجتْه زواجًا تقليديًّا.
حكى لي بابا أيضًا عن "مدرسة الليسيه"، التي تقع في أوّل شارع طلعت
حرب في توريل، قبل أن تتحوّل لمدرسة حكومية. وعن جمال أيّام المنصورة زمان. وعن الطبقات
الأرستقراطية التي وجدت متنزّهًا لها في "نادي التجديف" و"كازينو النيل"،
بالإضافة للحفلات الموسيقية التي كانوا يُقيمونها لأمّ كُلْثُوم وعبد الوهاب وكبار
الفنّانين في قصورهم، خصوصًا قصور عائلة الشّنّاوي.
وحين نسأله عن تفاصيل بعض ما أخبرنا به "عمّي وديع" يقول لنا مبتسمًا
إن وديع لا يعرف شيئًا عن المنصورة منذ الخمسينيات، بسبب انتقاله إلى بورسعيد للعمل
هناك، وبقي بها، وتزوّج، وصارت معرفته بها أكبر من المنصورة.
كلّنا نعشق المنصورة بجنون، ولكننا أيضًا نعرف أنها أصغر من طموحاتنا، ولذلك
كان من الطبيعي، بين آن وآخر، أن نسمع عن هجرة أو سَفَر أصدقاء لمَنْ هم أكبر منّا
عُمرًا.
ولكننا كنّا نستقبل الأمر بشكلٍ طبيعيّ، بسبب سُمعة المشاهير الذين انطلقوا من المنصورة، وأصبحوا نجومًا في المجالات كافّة.
وهو ما يجعلنا نشعر بالزهو، ولا نبالي بسخافات الذين يسخرون من انتشار زُرقة عيون الفتيات،
بالإشارة السخيفة إلى تزاوُج الفرنسيّيْن بأهل المدينة إبّان حملة لويس التاسع وهزيمته
وأَسْره في المدينة.
في النهاية، ارتبط قَدَرُ المنصورة
بطريقة بنائها كمدينة عسكرية محدودة المساحة، ولم تكن له أيّ حلول. وأسهم الريف والقرى
القريبة منها في تضييق الخناق حولها بما لا يتيح أيّ مجال لتوسّعها.
مع ذلك، كانت المنصورة، وستظلّ، بالنسبة لنا، العالم كلّه.
الرسالة 4
كريستين .. يا حبيبتي ..
هل تُصدِّقين أني توقّفتُ عن قراءة القانون؟ قرأتُ ما يكفيني لمائة سنة بصراحة،
في القوانين الجنائية والدولية والدستورية، وحفظتُ عشرات النصوص القانونية، وطبعًا
قرأتُ عشرات القضايا والملفّات، والآن أشعر أنني أصبحتُ متمرّسًا بما يكفي، لكي أتفرّغ
لقراءات أخرى. أقرأ الآن في الأدب والفكر والفلسفة. وأستدعي أيّامنا الجميلة، حين كنّا
نتبادل القراءة.
اكتشفتُ قصيدة لأمل دنقل، يقال إنه كَتَبَهَا لحبيبة طفولته، وهي من المنصورة،
واسمعي ماذا يقول فيها:
"في صمت "الكاتدرائيات" الوسنان
صور «للعذراء» المسبّلة الأجفان
يا مَنْ أرضعت الحبّ صلاة الغفران
وتمطّى في عينَيْكِ المسبّلتَيْن
شباب الحرمان
ردّي جفنَيْكِ
لأُبصر في عينَيْكِ الألوان
أهما خضراوان
كعيون حبيبي؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن
يسأل عن حبّ
عن ذكرى
عن نسيان!
والعينان الخضراوان
مروّحتان!".
الآن أقرأ وحدي تمامًا. وإن كنتُ أرفع صوتي متخيِّلًا أنكِ تسمعيني، لكنْ،
على أيّ حال، لا أظنّ أنه كان بإمكاني تجاوُز هذه المحنة من دون القراءة فعلًا. لم
يعد يعنيني شيء في هذا العالم. ولولا محاولات نادية للضغط عليّ لزيارة بيت العائلة
في المنصورة بين آن وآخر، وترتيبها لجلسات عائلية مع أمّي وأبي، لاعتزلتُ العالم تمامًا.
مع ذلك، أظنّ القراءة سوف تُنقذني من هذه المحنة بشكل ما، ولا أعرف الآن الكيفية.
سأُضطرّ أن أذكر لكِ ما رفضتِ أن تستمعي له طَوَال الفترة التي عشناها معًا
منذ عودتنا أحياء من نضالنا المقدّس:
سأذكر لكِ الآن أوّلًا أنني لولا تمسّكي بالقراءة حتّى في أعتى فترات اقتناعي
بالخُرافات التي غسل بها عقولنا جماعة الإخوان، لرُبّما كان مصيري اليوم زنزانة مُعتمة،
أرى فيها الثمن البخس الذي يمكن أن يبذله الإنسان راضيًا لوجه الله، كما يزعمون، أو
مُجاهدًا بلحيةٍ في قندهار، أرتدي جلبابًا قصيرًا، وأضع على رأسي المُلتحي عمامة، وأُمسك
ببندقية أو رشّاشًا آليًّا، ينتظر العدوّ المُختَلَق في البشر كلّهم؛ الكُفّار، لكي
أقتلَهم، وأُخلّص البشرية منهم، ولكي أزيدَ من حسناتي التي سُتوفّر لي مكانًا في جنّة
ممتلئة بالحور العين. أيّ بؤسٍ كان سيؤول إليه مصيري، يا كريستين، لولا القراءة؟
وبينما كان المفترض أن أقرأ "سيّد قُطب"، وكُتُب الغزالي وفقه السُّنّة
للسّيّد سابق، والأوراد، وقد قرأتُها بالفعل بالمناسبة، لكني لم أكن لأتنازل عن قراءة
رواية لنجيب محفوظ مثلًا، أو رواية من روايات العظيم دوستويفسكي. وليسا وحدهما طبعًا،
كما تعرفين، فقد قرأتُ بالإضافة لهما "توفيق الحكيم" و"يوسف إدريس"
و"إحسان عبد القدّوس" حبيبكِ! وبعض الروايات المترجمة الجميلة. كان التماهي
مع "أوليفر تويست" جزءًا من تدريبي على حيوات أخرى، لم أعشها.
بصراحة أنا لا أعرف ولا أتخيّل كيف تكون الحياة مقبولة لو لم يكن "دوستويفسكي"
موجودًا؟
هذه القراءات، بلا شكّ، وقفتْ حائطًا
منيعًا بيني وبين تحوُّلي لمُجرّد مُتلقّن ساذج لأفكارهم، هؤلاء البؤساء، ليُردّد ما
يقولون مثل ببغاء أحمق.
طبعًا آنذاك لم يكونوا بالنسبة لي بؤساء، بل كانوا رفاقًا وإخوة في الله،
كما كنّا نتنادى. وكان للأمير مهابة خاصّة بيننا. وبشكل شخصيّ، لن أنكر أنني كنتُ أحبّه.
كان أكثر تسامحًا وبشاشة من غيره من المتجهّمين، وأقلّ تكلّفًا وادّعاء. وأظنّه مُنح
"إمارة الجماعة"، لأنه كان أكثر تفقّهًا من غيره. وبصراحة أكثر سأقول لكِ
لأنه، وهذا كان مُجرّد إحساس لم أكن قد فكّرتُ في تفسيره في ذلك الوقت، كان من طبقة
وسطى مُتيسّرة، وبالتالي كانت قناعاته في الأساس دينية، وليستْ طبقية أو وليدة عقد
نَقْص، كما كنتُ ألاحظها عند غيره.
ربّما كان يمتلك لونًا من الصدق،
لم يتيسّر لغيره. كان أكثر مَنْ ينفّرني بينهم الريفيون الذين وصلوا لدراسة الهندسة
أو الطّبّ، وكانوا يجدون في الانتماء للجماعة قوّة معنوية، ووجاهةً ما. كنتُ أشعر بذلك
في نكاتهم الطبقية أو محاولة الاستخفاف بالطبقات البورجوازية.
فكرة الانتماء للجماعة بمثابة الصفعة
التي يُوجّهونها للطبقة التي لا ينتمون لها، من منظور متعالٍ، لأنهم يُمثّلون المرجعية
الأعلى، وهي الدِّين.
لعلّ هذه الأفكار هي ما جعلتْني لا شعوريًا أنفر منهم، وربُّما جعلتْني أكثر
إصرارًا على القراءة في العوالم التي أعرف أنهم لن يقتربوا منها لا جهرًا ولا سرًّا.
ومنها كنتُ أستمدّ شجاعة الرّدّ على ابتساماتهم المُستخِفّة أمام أسئلتي الفقهية التي
كنتُ أحاول بها التّأكّد من مدى سماحتهم.
في رمضان مثلًا، وبعد العصر، أقترب من المسؤول الأكبر عن مجموعتنا، كانت له
ملامح آسيوية غريبة، ولعَرَقِهِ رائحة نفّاذة، وحتّى "السِّوَاك" الذي يستخدمه
لم يكن قادرًا على إزالة صفار أسنانه العجيب.
أقول له إني احتلمتُ خلال نومي، ولا أعرف هل سيُقبَل صيامي؟ أم لا؟ فينظر
لي مُستفِزَّا، لكنه يحوِّل استفزازه إلى ابتسامة صفراء مذهلة، ويردّ بما يعني أن أستريح
وأُكمل صيامي. أبتسم له ابتسامة ناعمة، وأهزّ له رأسي بجدّيّة دلالة على استفادتي من
علمه الغزير.
في الحقيقة كنتُ أقرأ "فقه السُّنَّة"، وأعرف أن إجابات الأسئلة
كلّهم موجودة في الكُتُب، لكني انتبهتُ لفكرة أُبوّتهم لنا. شكَّلَ لي نوعًا من الاستفزاز،
لأني أيضًا لي مشاكلي مع إحساسي بسلطة أبي. واكتشفتُ أنهم مبرمجون للتعامل مع شخصيات
لا تقرأ، أو تقرأ القشور. لم أكن مستعدًا حتّى لمناقشتهم في أمور أكثر تعقيدًا، مثل
"خَلْق القرآن" أو "العلاقة بالقَدَر" وهل الإنسان مُخيَّر أم
مُسيَّر؟ السؤال الذي قادني للتفكير في هذه الأمور كلّها، وشغلني بعد موت عماد بالبحث
عن إجابات دقيقة عنها.
كانوا أصحاب ثقافة شفاهية، تناسب بسطاء الناس: الخطبة هي موضع التأثير الرئيس،
هكذا انتشرتْ أفكار "الشيخ كشك"، الذي كفّر المجتمع، وكل ما له علاقة بالفنّ
أو الحياة المَدَنية، وهكذا انتشرت فكرة الاعتماد دائمًا على مُفتٍ، يُفتي للجميع بما
يحلّ، ويحرّم ما يراه حرامًا.
ولا أزعم أنني امتلكتُ مثل ذلك الوعي الطبقي آنذاك، لكن شعورًا باطنيًا ما،
في أعماق قلبي، انتبه لتفاصيل صغيرة كهذه، لم تجد جاذبية كبيرة في نفسي. ومن المؤكّد
أن أمرًا مرّ عليه اليوم أكثر من 15 عامًا لا بدّ أن يراه الفرد بشكل مختلف.
بيني وبينكِ، اكتشفتُ الآن أن وعينا الطبقي لم يكن مُستفَزًّا. أقصد، لم نكن
مهتمّين بوعينا بالطبقة. ربّما هذه حال الطبقة الوسطى عمومًا، أكثر تصالحًا مع ذاتها.
لكنني أستعيد تلك الأيّام، فأسترجع ما أعدّه خُبثًا في هذا الشخص. الطريقة التي كان
يتعمّد بها إيغال صدر صديق ممّنْ انضمّ إلينا آنذاك ضدّ عائلته، وكان أهله من عائلة
إقطاعية شديدة الثراء. كان يتعمّد أن يتحدّث بابتسامته السخيفة الصفراء اللاإنسانية،
التي يخفي بها ارتعاشة صوته من فرط الحقد والغلّ، عن مطامع الإقطاعيّيْن، وظُلمهم،
وعرفتُ من ذلك الصديق أنه دخل في نقاش حادّ مع جدتّه، لأنه أخذ يسبّ جدّه الميت أمامها،
ويصفه باللصوصية وامتصاص دم الفقراء.
كان الفتى آسيوي الملامح، يُخلّص حسابه الشخصي مع تاريخه، سواء بوعي أو من
دون وعي. أظنّه وأمثاله كانوا يجدون في تنظيم مثل الإخوان ما يجعلهم يحاولون تعويض
الكثير من النقص بسلطة النفوذ الدِّيني التي تمنحهم إيّاه الجماعة.
مع ذلك، لم ننتبه أبدًا لموقعنا الطبقي، وشخصيًّا كنتُ أميل للبساطة، وأؤمن
أنني في وسط الوسط. أصادق البسطاء أو أبناء الطبقة العليا بالحماس نفسه. طبعًا وأنا
معك، وأحيانًا أنا وأنت وعماد، كُنّا نقارن بين عائلاتنا التي تتماثل في كونها طبقة
أبناء الموظّفين وبين شخص من أصدقائنا ممّنْ يملك أبوه بُرجًا من تلك الأبراج الجديدة
التي عرفت طريقها للمنصورة منذ نهاية السبعينيات، أو أراض زراعية وسيّارات، وأشياء
من هذا القبيل. ولكنها لم تمثِّل لنا حُلمًا حقيقيًّا. لم نكن مادّيّيْن بشكل ما.
لكن هذه التفاصيل كلّها كوم، وما سمعتُهُ من الأصدقاء الأكبر عُمرًا الذين
انخرطوا في جماعة أخرى منظّمة أكبر عمرًا منّا، كانوا قد تجاوزوا المراحل اللّيّنة
التي كنّا نمرّ بها، وبدؤوا في اختبارات في تقديري ليستْ إلا عسكرية، خطط لأعمال عنف
ضدّ الحكومة، وتدريب على الرماية، ومسائل حين استمعتُ لها أصابني الفزع، كانت كومًا
ثانيًا. بعد يومَيْن فقط شاهدتُ كما شاهد العالم حادث المنصّة واغتيال السادات.
ربّما راودني إحساس بالارتياح للحَدَث
الضخم، أو ربّما مثل كثيرين أصابتْني الدهشة التي جعلتْ عقلي يسعد بأن حاكمًا بأمر
الغطرسة قد قُتل في يوم، لا يمكن للمرء أن يتصوّر فيه ما حدث، أو الإحساس بأن ثقلًا
هائلًا أطبق على قلب البلد، وأخيرًا أُزيح بغير رجعة. هل غذّى تلك المشاعر ما غسل به
هؤلاء البشر عقلي حتّى أصبحتُ أجد فيه الأمل مثلهم؟
خلال يومَيْن من التفكير، اكتشفتُ
أن الأمر لم يعد مُجرّد تقرّب من الله وعبادة، بل خطّة كبيرة، ربّما أكبر من خيالي
بكثير. هل كانوا يرغبون أو يطمعون حقًّا في السيطرة على الحكم؟ لم يدرْ ببالي هذا الخاطر
من قبلها.
كان عليّ إعادة تأمّل كلّ شيء، فقرّرتُ التّوقّف عن الذهاب إلى المسجد، وكثّفتُ
من قراءاتي العلمانية. وبالتدريج، كنتُ أرى زيف تلك التجربة بكلّ ما فيها. والأهمّ
الكذب الصارخ فيها للتّعلّق بالدِّين من أجل أسبابٍ دنيوية محضة هي السلطة.
أتساءل خلال الفراغ الكبير الذي أعيشه بعد غيابكِ عن أشياء كثيرة، أسأل نفسي
بينما أسأل عمّا جذبني إليكِ، غير جمالكِ، وضحكة عينَيْكِ الخضراوَيْن ـ رغم إصرار
الجميع على أنهما زرقاوان ـ اللَّتَيْن يمكن لهما أن تُضحِكَا العالم كلّه. الإجابة
تمثّلتْ في هذا الإحساس الغامض بأن مصيرنا واحد، وباشتراكنا في البساطة. لم تكوني بالغة
التّأنّق مثل جاكلين مثلًا. ولا أُقيّم هذا الآن. فقط أصفه وأراه كان مثاليًا بالنسبة
لي. أعتقد أن قراركِ بالرهبنة له علاقة بتكوينتكِ المستغنية أيضًا. ولهذا أعتقد أننا
أحببْنا بعضنا البعض. كنّا نبحث عن أشياء أخرى مختلفة عمّا يمتلكه الآخرون.
في هذا الفراغ، وفي مواجهة الزمن، هنا في غرفة المعيشة الصغيرة التي تعرفين.
أجلس لأكتب هذه السطور، بينما ينازعني الأمل أن أسمع طَرَقات الباب، وأفتح لأراكِ،
فنجلس لنستكملَ هذا الحوار، وكأن شيئًا لم يكن. ولكنْ، حتّى الآن، لا طَرقات. كالأحلام
كلّها التي أحلمها ولا تتحقّق. لا أسمع إلا صوت نبضات قلبي المتوتّرة.
سوف أُنصت الآن لأُغنيّة من أُغنيّات ماجدة الرومي التي كنّا نسمعها في الوكر
معًا، "خِدْني حَبيبي" أظنّها كانت المُفضّلة بالنسبة لكِ.
"تصبحين على خير أينما كنتِ، يا عمري الضائع".
الجمعة 2 فبراير 1996