Thursday, December 18, 2014

المرأة- الفتوة الوحيدة بين أساطير "الحرافيش"


المرأة- الفتوة الوحيدة بين أساطير "الحرافيش"
زهيرة الناجي.. القوة الناعمة التي ضلّت سبيلها للخلود


إبراهيم فرغلي




على الرغم من تعدد النساء اللائي فاضت بهن ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، بداية من زوجتي عاشور الناجي: زينب، الفاسدة المزاج سليطة اللسان، وفُلّة الفاتنة التي تزوجها عاشور بعد أن تصارع أبناءه من زوجته زينب، عليها في خمّارة الحارة، وأصبحت أم أول وريث حقيقي لآل الناجي: شمس الدين،  مرورا بكل النماذج اللاحقة التي جسدّ كل منها الطرف الثاني مع أحد أحفاد الناجي في تمديد شجرة حياة العائلة وبالتالي شجرة حياة الحارة. اقول رغم ذلك فإن أكثر من استوقفني من تلك النماذج الأنثوية شخصيتا: زهيرة وزينات.

بطبيعة الحال، وبسبب تعدد الشخصيات وتعاقب الأجيال، لم تجد النساء في رواية الحرافيش فرصة جيدة لتأملها ونقدها، وفك رموزها، رغم غنى الشخصيات وتعبيرها عن تقلبات البشر وتغير أمزجتها، وتحولاتها النفسية حين تتغير حياتها من السراء إلى الضراء أو العكس. بالإضافة إلى أنني أظن أنه بالرغم من "ملحمية" الحرافيش، لكن هذا النص في الحقيقة شديد التكثيف والإيجاز، عمل فيه محفوظ على توفير الإيماءات والتلميحات أكثر من الإسهاب في الوصف، وعلى تكثيف الرؤى الصوفية عن الحياة في عبارات بالغة التكثيف محملة بالدلالات، وهذا سبب آخر، ربما، في الإحساس بأن الشخصيات لم تأخذ حقها من الوصف وكشف دواخلها بشكل دقيق ومفصل كما هو شأن أبطال وبطلات أعماله الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا التناقض بين البناء الملحمي والاقتضاب والتكثيف، ليس على مستوى السرد فقط بل وأيضا على مستوى الحوار بين شخصيات الرواية الذين لا يثرثرون بل ينطقون فقط بخلاصة الكلام، هو أحد الملامح الفنية الخاصة لهذا النص.

وللتذكير أقول أنموقع زهيرة ينتمي للحكاية الخامسة في الملحمة "قرة عيني"، بالأحرى تأتي الحكاية للتمهيد لظهورها لاحقا، وفيها أنه كعادة الكثير من رموز "آل الناجي"، الذين يختفون فجأة ويتحولون إلى أسطورة، غاب سماحة بكر الناجي من الجيل الرابع من أحفاد عاشور الناجي، مسلّما الراية لأبنائه الثلاثة: قرّة ووحيد ورمّانة، بعد أن تعرض عم أبيهم خضر للموت على يد الفتوات، في إطار الصراع المتوارث بين الفتوات من جانب، وبين آل الناجي من جهة أخرى؛ الذين حاول منهم من حاول أن يقتفي آثار عاشور الجد في إرساء القيم والعدل، ومنهم من حاد، وضعف واستسلم للفتوات. 

في زمن هذا الثلاثي عرف "آل الناجي" الفتن وقتل رمانة شقيقه قرة وانتقلت الفتونة إلى أحفاد الناجي لفترة وجيزة على يد وحيد، وهنا نرى سماحة قد عاد فجأة كأنه عاد ليطمئن على استعادة آل الناجي للفتونة، لكنه يموت ثم سرعان ما يعود الصعاليك لاستعادتها.

ويأتي أحد أحفاد سماحة، وهوعزيز قرة الناجي، كما سيتجلى مع
 مطلع الحكاية السادسةمن ملحمة الحرافيش "شهد الملكة"،
 ليقرر العناية بزهيرة حين مات والدها الذي عرف باسم عاشور، وهو ينحدر من سلالة سليمان الناجي. انتقلت الى بيت عزيزة أم عزيز الناجي في سن صغيرة لرعايتها، فعرفت الرفاهة والسعادة، وحين كبرت في العمر تقدم إليها عبد ربه؛ الفرّان فتزوجته بعد مماطلة، لكنها سرعان ما كشفت عن جانب خفي من شخصيتها تجسد في حب النفوذ، والقوة، ولذلك وضعت الحب في مصاف الخطوط الحمراء التي لم تقترب منها. فقد اعتبرت أن الحب هو مكمن ضعف المرأة، ولم تكن تنوي أن تكون ضعيفة يوما، إذ أنها أيضا ورثت العناد والتكبر من سلالتها. كما كان يصفها زوجها.
 وبسبب جمالها الطاغي كانت تتقبل ود أصحاب النفوذ والقوة وهم ثلاثة، الفتوة نوح الغراب، ومأمور القسم فؤاد عبد التواب، ومحمد أنور التاجر الثري. كان دلالها ووعدها غير المعلن لكل منهم سببا في أن يطلّق نوح زوجاته الأربع، وأن يحاول المأمور إبداء قدرته على استخدام كل نفوذه لأجلها سواء ضد الطامعين فيها وبينهم الفتوة، أو حتى إزاء زوجها الذي تزوجته بلا عاطفة، وبدا لكل من اقترب منها أنها مجبرة أن تعيش مع زوجها بلا حب، ولذلك انتهى الأمر بتطليق زوجها لها على غير إرادته، تحت ضغوط مارسها عليه كل أصحاب القوة منفردين. 

وكلما لجأت للأقوى نفوذا وجدت أنها تؤثر في الأحداث لدرجة تغيير المصائر؛ ولم تكن الأحداث التي مرت بها الحارة هينة، ففي يوم زواجها من الفتوة نوح الغراب وفي اثناء حفل الزفاف أردته قوات الشرطة قتيلا، وصادف ذلك ايضا موت رمانة عم عزيز الناجي، وانتحار زوجته رئيفة، خصمتها اللدود، والقضاء على زوجها السابق بالعار. وانتقلت الفتونة من نوح الى غيره ونقل المأمور فجأة بعد أن عرض عليها الزواج، وثارت الشكوك حول أنه من دبر مقتل الفتوة نوح الغراب.

زهيرة الناجي هي المرأة الوحيدة في سلالة آل الناجي والحرافيش التي كانت تشعر بأنها الفتوة، وترى في قوتها الأنثوية معادلا لنفوذ الفتوات، رغم اقتصار هذه السلطة تحديدا على الرجال، وتضمنها أساسا لقيم ذكورية بامتياز. وهي الوحيدة بين بطلات هذا العمل التي يسبغ عليها محفوظ صفة الفتوة، رغم فتنتها وجمالها الطاغي وأنوثتها التي كانت أحد أبرز مكامن قوتها. إنها الفتوة الأنثى. أو القوة الناعمة في أكثر حالاتها تجليا في تاريخ الحارة.
لذلك تبدو زهيرة كأنها هنا تجسيد للمساواة التامة لكل قيم المجتمع الذكوري. ولذلك فحين تزوجت أخيرًا من عزيز قرّة الناجي، نعمت بشعور رهيف خيالي مثل الإلهام المشرق، "آمنت بأنها فتوّة في إهاب امرأة وأن الحياة المقدّسة لا تمتثل إلا للأقوياء". أما الحب فطالما قهرته في سبيل ما هو أعظم وأجل، وطالما قالت لنفسها لست امرأة ضعيفة مثل غيري من النساء". (الحرافيش ص401).

هذه القوة الناعمة تمتد إلى ابنها جلال،ليس فقط باعتباره وريثا لأم عشقت النفوذ وتمكنت بقوتها الناعمة من أن تحظى بالثراء والرفاهية والقدرة على تغيير مصائر البشر، بل ومن خلال طيفها الذي ظل مستمرا بعد مقتلها في وعي ابنيها جلال وراضي، مرة في المشهد الدموي لمقتلها على يد طليقها وقد تهشمت جمجمتها وتناثرت دماها، أمام أطفالها، ومرات في إحساس الابن أينما ذهب بأنه ليس مقبولا بوصفه "ابن زهيرة"، التي اعتبرها الحرافيش مصدرا للشؤم ونموذجا لامرأة خرجت عن إطار تقاليد الحارة، ومنحت نفسها لمن يستطيع أن يحصل عليها، لأن "امتلاكها" كان في يقينها مرادفا لامتلاك القوة.

نجيب محفوظ وشخصياته


وهكذا امتد أثر "الفتونة الناعمة" لزهيرة، بعد مقتلها، في شخصية ابنها جلال، الذي لم يكن قد قوتها وجمالها فقط، حيث بات وسيما حسن الطلعة قوي الجسد،  بل وكان يحتقر الموت ويحتقر البشر لأنهم يخشون الموت. وبهذا استعاد الفتونة والسلطة معا ليجمع مجد جده القديم، ولكنه، لم يسر على درب عاشور الناجي الذي كانت القوة بالنسبة له تحقيقا للعدل، وخدمة الناس لا الشيطان وفق نصيحة الشيخ عفرة الذي تبناه ورعاه.

إن سيرة جلال ابن زهيرة الناجي، في جانب من جوانبها سيرة للأرق والقلق الوجودي وتجسيد لرحلة تحقيق القوة والنفوذ، ثم الانقلاب على الحرافيش بسبب احتقارهم، ثم هي سيرة البحث عن الخلود بسبب هاجس الموت الذي سيطر على خياله منذ مقتل أمه، ثم موت زوجته قمر التي لم تعش معه سوى أيام قبل أن يخطفها منه الموت مرة أخرى، فكان عليه أن يقاتل الموت وأن يجد لنفسه في العالم مكانا أبديا. كان عليه أن يبحث عن الخلود ليقاوم مصير أمه وزوجته. وهكذا بحث وجرّب وتناول أكاسير الشباب، وفتش عن وصفات العطارين التي تسبب الحيوية واستعادة الصبا، وباع نفسه لأحد الدجالين الذي طلب منه أن يعتزل العالم عاما كاملا لكي تنجح وصفة الخلود التي منحها له.

 ليست سيرة جلال سيرة لكل ما سبق فقط، بل هي،أيضا وأساسا، تمثل تجسيدا للتناقض الكبير بين فهم فكرة الخلود التي حققها عاشور الناجي باعتباره نموذجا للعدل، والذي اختفى من الحارة للأبد ليتحول إلى أسطورة العدل، ملهما الأجيال اللاحقة بإمكانية تحقيق العدل، وبين فهم أجيال أخرى من آل الناجي بينهم زهيرة وجلال، الذي ورث من أمه فكرة الخلود وأراد أن يمجد ذكراه فأنشأ، وفقا لنصيحة الساحر الذي أوهمه بوهبه الخلود أن يقيم مئذنة من عشرة طوابق، من دون مسجد أو صلاة، فأصبحت نموذجا لفكرة الخلود البشرية كفكرة مادية.
يمنحنا محفوظ هنا مثالا آخر بين إصرار جلال على عدم الزواج والعقم عن الإنجاب، إذ يحاول أن يكون خلوده ماديا بوجود المئذنة التي ستكون شاهدا على خلوده، بينما هي ليست سوى أثر مادي عقيم، لأنها مئذنة بلا مسجد، ولا هدف منها سوى أن تكون مثار حيرة وتندر ودهشة أهل الحارة. وهكذا يأتي عقمه عن الإنجاب كوسيلة من وسائل استمرار الحياة، والمئذنة العقيمة مثالان متماثلان لإنتاج وهم لا طائل من وراءه، ولا أثر حقيقيا يمكن أن ينجزه.
فمن الذي سيثبت خطأ أوهامه؟ويؤكد له أن إحساسه المتصاعد بالقوة والشباب ليس سوى وهم، وأن الخلود لا تصنعه الأوهام بل لا يتحقق إلا بإرساء العدل؟
 إنها زينات. فتاة الهوى الشقراء، التي كان يراها ويرد تحيتها له بلطف، والتي قررت أن تقتحم قصره وتعرض عليه نفسها وتوقعه في أسرها، على أمل أن يتزوجها يوما. وحين اختلى بنفسه عاما كاملا من أجل تحقيق الخلود، عاد إليها أخيرا، لكن سرعان ما بدأت الفجوة بينهما تظهر من خلال تعارض إحساسها بالزمن مقابل إحساسه بحيويته وبتجدد شبابه، وإقباله بالتالي على كافة مظاهر الحياة والعبث، وبينها التنقل بين نساء أخريات غير زينات.
 وهكذا لم يكن أمامزينات، التي لم تتقبل فكرة إقباله على الأخريات والنأي عنها، هي التي كانت مثالا للجمال، والأنوثة ورغبة الرجال فيها، إلا أن تدس له السم وتتركه وتهرب مجنونة. جنت بفعلتها وتركته يعاني آلام الموت ومواجهته شبح الموت أخيرا وحده يكاد لا يصدق أنه يموت بالفعل، حتى يقع في حوض الدواب ليكون أمثولة للحارة ولكل من يتوهم الخلود.
إن فتونة زهيرة الناجي ليست سوى مستوى آخر من مستويات الفكرة التي كان محفوظ يحاول التعبير عنها على امتداد النص مرارا وتكرارا، وعبر تقلبات المصائر، ليؤكد أن القوة الحقيقية ليست في النفوذ والجاه، وأنها لا تكون قوة إذا شابها ضعف النفس البشرية. وهو هنا يصنع،  من خلال زهيرة، نموذجا للقوة الناعمة مجسدا أولا في شخصيتها وطموحاتها وسلوكها ثم في امتداد تأثيرها على ابنها، الذي يرث وهم الخلود من أمه، ولا يدرك ذلك الوهم إلا على يد قوة ناعمة أخرى لا يمكن لأحد أن يتخيل قدرتها عليه، تأكيدا، ربما، لأن القوة الناعمة الحقيقية هي تلك التي أسسها عاشور الناجي، بخدمة السلطة للناس لا لمصالحها أو لخدمة الشيطان بتعبيره، ولتحقيق العدل الذي يجسد تمام الجمال، لأنه الخالد الوحيد حتى لو ضاع مرة ومرات على يد من يستبدلونه بالجمال المادي المزيف الذي لا يعدو أن يكون شكلا مختلفا لوليمة واحدة تنتظرها ديدان الأرض طال الوقت أم قصر. فيما العدل هو حلم البشرية الحقيقي الذي يخلد دوما من يحققوه باعتباره أمل البشرية وسبيلها الوحيد للتعايش على أرض الحارة، وعلى أرض حارتنا البشرية العملاقة أيضا.


نشرت في جريدة القاهرة في 9ديسمبر2014






Friday, December 12, 2014

أريج جمال صوت جديد..روح جديدة في الكتابة

أفكار من دفتر يومياتي: 
الفضاء الفرانكفورتي ووجع اليومي ولماذا أكتب؟


أريـج جمـال


أريج تتسلم جائزة ألمانية عن قصة لها بعنوان "طنين"


يوم 12 أكتوبر كنتُ، في دفتر يومياتي، أكتب أن التجربة انتهت، ولديّ أشياء قليلة تثبت أنها حدثت، تذكرة السفر، بطاقة الغرفة الفندقية، ونسخة إنجليزية من رواية "القارئ" الألمانية. عدتُ من فرانكفورت بألم حاد في قدميّ من أثر طول المشي، وببراح فيّ من أثر العثور، عرفت أن هذه الحالة ستتبدد تدريجيًا، فدونت كُل ما كُنت أشعرُ به أول بأول.
كنتُ، هُناك قد نذرتُ نفسي للقراءة والكتابة وتعلُّم اللغات، أحببت أن أعود مرة ثانية للألمان الذين منحوني كثيرًا من محبة وكرم على نص وحيد قصير هو "الطنين"، أن أعود إليهم بنصوص أطول مُترجَمة هذه المرة، وربما بمقدرة على التحدث بلغة، لم أعد أهابها ولا أنفرُ من وقعها السمعي، بعد أن ظللتُ لأربعة ليالٍ متتالية أنام على أصوات مُتحدثيها في التلفزيون الألماني، أنيس في غرفة بسرير واحد، وباب.
كانت غُرفتي تطلُ على محطة الترام، ومركز محطة المترو، وعلى فندق آخر بغرف كثيرة لا يبين سُكانها. وباستثناء هزة خفيفة كنتُ أشعرُ بها تحت رِجليّ، وأنا أتفرجُ عارية، على البراح من النافذة بعد الحمام الصباحي، والليلي، لم أكن أسمعُ شيئًا، أقول شيئًا، لأن ثمة نفسي، وكنتُ أسمعها بصفاء، وبالخالق الذي ما عاد عندي شك في وجوده، وهو يُعرِفّني بالكون، مرة أخرى، مرة أولى.
ثم عُدت، من أجل وطنٍ يُختصَر في خُطب الرئيس، وفي شهرة رواية لجورج أورويل، وطن يوطِّن التيه، لا يعترف بأحد، لا يُحب أحدًا، ولا يُحبني أنا بالذات، لأسباب لا أعرفها ولم يعد يعنيني أن أعرفها. كان عليّ أن أوفر المال، كي أتمكن من تحقيق أحلام المعرفة، والكتابة، وكان عليّ أيضًا أن أجد الوقت، والسلام، والفضاء الذي يدفعُني للكتابة، كل هذا هُنا، أنا التي لا تعرفُ كيف تتوقف عن التعثر في الأرض الأسفلتية بالشوارع، ولا تفهم اللغة الوحيدة التي تتقنها بشدة، لا تفهمها حين يتحدث الآخرون مواطنوها بها.
تبددت الحالة فعلًا، لكن فرانكفورت لم تتبدد، المدينة التي علّمتني ممارسة الحب معها، احتفت بي احتفاءها بنجمة شاردة تمكنوا أخيرًا من التقاط الصور معها، مدينة لغة ليس لها علاقة بالكلام؛ لديّ نصي الأثير "الطنين" مُترجمًا إلى الألمانية، لدي شهادة تكريم عليها اسمي في بطاقة واحدة مع كلمة "معرض فرانكفورت الدولي"، وعدة أسماء منحتني المودة، وتدليل على التكريم بعدد سنوات عُمري محسوبة بالربيع منها فقط لا غير.
 ولدتُ أصلًا في بلد غريب- لا أعرف فعلًا أغريب أم أليف- وكنتُ أحمل جنسية بلدٍ آخر، تعلمتُ كتابة الشعِّر على صوته البعيد غير المسموع وأنا أظنه مسموعًا، وكنتُ في الطريق أمر على حدود بلد ثالث، ورابع، يُسجِّل جواز سفري المرور به، دون أن أعرف بَشَرْه، ولا أن أختبر فضاءه، بكل هذا قبلت، لكن فرانكفورت، فرانكفورت براحًا آخر.
اليوم، أفقدُ الكثير من روحي قبل أن أجلس إلى شاشة الاب توب، وأكملُ نصًا ناقصًا، يبقى الصُداع النصفي في رأسي لأيام، وأقرأ فقط من أجل العمل، أو أن أُذّكر نفسي بالكتابة، أو كي تعودني روح فرانكفورت، وأقول سأواظب، صحيح الطريق ليست مُمهدة، لكن بهذه الروح القليلة التي تبقى آخر كُل ليلة، سأُمهدها ولو سنتيمتر واحد كل سبعة أيام.
بهذا المُعدل البطيء كنتُ أقرأ في الكتاب التشجيعي الصادر عن مؤسسة تكوين "لماذا نكتب؟"، ولأن السحر يُفضِّل عادة الانقلاب على الساحر، توقفتْ في مُنتصف الطريق، تقول المُقدمة أن المكتبة العربية تفتقر لكُتب تنظير حول عملية الكتابة نفسها، والواقع أن المكتبة العربية لا تهتم بعملية الكتابة أصلًا، قدر اهتمامها بالنتيجة، بإنتاج مجموعة من الكُتب، تُحقق ربحًا معقولًا بالنسبة للناشر، وتُحقق للوطن الحالم صورة مثالية عن أوضاع الثقافة فيه.
تقولُ كُل كاتبة، ويقول كل كاتب في بداية الحديث أن الكتابة هي الفعل الإنساني الأكثر أهمية بالنسبة للذات الكاتبة، يشرحون كيف كانوا يحاولون إيجاد وقت ملائم للكتابة خلال أعباء الحياة اليومية، ولأن الكتاب يضم التجارب الأدبية الناجحة، بالنسبة للنقد والقُرّاء، فإن الكُتاب يتشابهون في مقدرتهم على الوصول إلى نقطة يتفرغون بعدها للكتابة نهائيًا.
توقفت، لأن العالم العربي لا يوفر ما يمنح الكاتب مقدرة على التفرُغ للكتابة نهائيًا، عدا حالات استثنائية، تتعلق بثراء العائلة أو ثراء الشريك، وعدا احتمال أن يكون الكاتب قد بدأ الكتابة فعلًا عقب إحالته للتعاقد أي في سن متقدمة، لا يوجد عائد حقيقي للكتابة هُنا، وأنا لا أتحدث عن حالات النجاح التُجاري لأنها حالات شاذة وتُلبي احتياجات مُعينة معروفة ومتوقعَة سلفًا.
لم يعد "لماذا نكتب؟" يشجعني، وأنا آسفة لذلك، وأعترف إني فكرت مرات أن أُجيد واحدة من اللغتين، الإنجليزية أوالألمانية، كي أبدأ الكتابة من خلالها، وأنا أعرف ماذا يعني، أن أتنصل من العربية، التي أفكرُ بها، وأغضبُ بها، وأغضبُ منها، يقول إميل سيوران من الأفضل أن تكون مؤلفًا للأوبرا على أن تكتب بلغة لا يعرفها أحد، أنا سأقول على أن تكتب بلغة لا يحبها أحد، لا يفهمُها أحد.
نعم، حقق كتابي الأول بيعًا معقولًا، لأن فرانكفورت رفعت من رواجه، وحدها فرانكفورت فعلت لا جودته، لأن، هُنا لا تنجح الكُتب الجيدة والجميع يعرف ذلك، هذا النجاح يؤلمني لأنه ليس ابنًا للكتابة، ولأن هناك قراءً كُثر رددوا لي عبارة لعنتي نفسها "قرأناكِ ولم نفهم شيئًا"، كأني أكتب بالألمانية مثلًا أو بالإنجليزية أو الصينية في وطن العربي.

لن أرد على سؤال لماذا أكتب؟ لأنه يرتبط بوجودي نفسه، مُفرِط الهشاشة، مُفرِط التطلب ربما، لكني سأقول كي أصدق نفسي، ويصدقني الجميع، إنني سوف أبحث عن هوية أخرى تفهمُني دون تبريرات خرفاء، وخطابات مُجوفّة، هوية ستأتي من الكتابة نفسها، بلغة تختارني ولا أختارها هذه المرة، لأن كل لغة للكتابة هي لغتي، ولأن لا نور آخر بديل.

نقلا عن موقع الكتابة 

Sunday, December 7, 2014

اتفرج - مقالات - مرايا 'صندوق الهوية'

اتفرج - مقالات - مرايا 'صندوق الهوية'


مرايا "صندوق الهوية"

كثيرا ما أستعيد سؤالا كنت أوجهه لصديقة ثقافتها تقليدية ممن ورثن أفكارا مريضة عن الاختلاف المزعوم بين المسلمين والمسيحيين، كنت أسألها طيب تخيلي أن شخصين يتقدمان للزواج منك أحدهما باكستاني أو هندي، لن أقول من دولة عربية، مسلم، والآخر مصري مسيحي، فمن تتصورين أن يكون الأكثر قبولا بالنسبة لك؟ وكانت تتأمل السؤال للحظات، ثم تبتسم وتقول: تصدق عندك حق، لكن هذه الابتسامة هي أقصى ما يمكنها أن تمنحه لمثل هذا السؤال، مفضلة العودة لصندوق الهوية الذي نشأت فيه وأسهمت الثقافة التقليدية التي نعيش في إسارها في تغذية المفاهيم الخاصة بمكونات هذا الصندوق الأحادية. 
تقوم الثقافة التقليدية على تغذية إيهام الأشخاص أن صندوق هويتهم له مكون واحد هو الهوية الطائفية أو المذهبية، وتقصي كافة المكونات الأخرى والتي تتضمن التراث الثقافي والحضاري بكل تفاصيله الخصبة من فكر وفن وعادات شعبية ومخزون من الإرث الحضاري المتراكم.
هذا الوهم في الواقع ليس له سوى نتيجة واحدة وهي أن ينشأ الفرد وهو يكره الآخر وكل من يختلف عنه، وهذه الكراهية للآخر قد تأخذ شكل النبذ أو التعالي على الآخر وقد تأخذ أشكالا عنيفة أخرى هي النتاج الطبيعي لتراث طويل من إقصاء الآخر تبرر القتل والإجرام باسم الهوية.
والنتيجة كما شاهدنا في العقود الماضية توترات وحروب أهلية في عدد من دول العالم، وانفجار فتنة ثنائيات : مسيحي- مسلم، شيعي- سني، بكل أطيافها من دون أن ينتبه أحد إلى المفارقة المفزعة في أن الخلاف بين المسلم والمسيحي (وهو وهم تم اختراعه لأسباب سياسية ليس هنا مجال رصدها)، لا يقل بأي درجة في قوته عن طبيعة الاختلاف التي يتصورها أي من طرفي الخلاف السني الشيعي المتطرفين.
لا يدرك طرفا الخلاف في كل هذه الثنائيات المصنوعة داخل صندوق الهوية الأحادي المزيف، أن الإنسان في كل مكان لا يختلف عن غيره، وأن الدم الذي يجري في عروق البشر واحد، وأن كل شعوب العالم لا تختلف على معنى الحق والعدل والخير، فمن أين يأتي الاختلاف؟

إنه صنيعة السياسة، والجماعات السياسية التي تتمحك في الأديان وتعمل على تلميع صندوق الهوية المزيف بكل ما هو لامع وبرَّاق لتخفي زيف الصندوق، وبينما تطور صناع الصناديق المزيفة من جماعات مثل الإخوان المسلمين إلى التكفير والهجرة ، ومن الجماعة الإسلامية إلى القاعدة، ومن النصرة إلى داعش فقد تطور مع تاريخهم حتى أصبح اليوم على يد داعش نوعا من الفجر في الخصام والوحشية التي أتأملها فأدرك كيف نجح صندوق الهوية الوحيد في عودة البشرية إلى المربع الأول: مربع البدائية والوحشية، ما قبل الأديان، ما قبل الإنسانية.

Thursday, November 27, 2014

بين محفوظ، سارتر ودوستويفسكي

ثلاثي المعمار والحداثة والبناء المعرفي
إبراهيم فرغلي 


أظن أن قراءاتي المبكرة للأعمال الغربية المترجمة أنارت لي دربًا قادني للتعرف على مناخ الستينات الثقافي في فرنسا، باعتباره مجالا حيويًا للنقاش والتفكير والعصف الذهني، ومحرّضًا على التعلق بصورة نموذجية للكاتب، من طراز جان بول سارتر وألبير كامو؛ باعتبارهما من أبرز الكتاب «النجوم» في ذلك العصر. تتبعت مع عبثية رواية «الغريب» لألبير كامو سيرة سارتر، وقرأت له كتابه عن الوجودية مبكرا، ثم وقعت تحت يدي مجموعته القصصية الشهيرة: «الجدار»، فكانت بمثابة فتح أدبي. كنت آنذاك قد تعرفت وصرت شغوفًا بنجيب محفوظ، ثم بطه حسين صاحب النصوص الفصيحة فصاحة موسيقية مبهرة حتى لو كان ما يكتبه فكرًا وليس نصًّا أدبيا، وطبعا بأعمال توفيق الحكيم ويحيى حقي بتنوعها ولغتها السهلة الممتنعة، وفي مستوى تال ببعض كتابات عبد الحميد جودة السحار وإحسان عبد القدوس والسباعي، وسرعان ما شعرت أن محفوظ هو «العمدة» الكبير بالنسبة لي، والمهندس البارع لمسارات الشخصيات ومصائرها. فقررت أن أقرأ له كل أعماله. وأظن أن لغته وعوالمه لهما تأثير كبير على مفهومي عن الأدب والكتابة، بينما ظل تأثير سارتر ماثلا وكامنا ومتربصا في خلفية وعيي الأدبي، باعتبار كتاباته لطشة الحداثة أسلوبا، ونموذجا لقدرة الكتابة على الغوص عميقًا في داخل الذهنية النفسية والسيكولوجية من حيث المضمون. والأهم أنها كانت مفتاح الوعي بذلك الطابع الفردي للشخصية الأوروبية، وتأثير ذلك على الكتابة والكُتّاب، عبر مضمون نصوص تختبر وترسم صورًا متباينة للقلق الوجودي الفردي، وتتجول في ذهنية مركّبة تطل عليها الكتابة لتتأمل تفاصيلها الدقيقة بما فيها المساحة الرحبة المتحررة الخاصة بالجسد والجنس. حين قرأت رواية «السراب» لمحفوظ، وهي روايته السيكولوجية التي تعد من بين نصوصه المبكرة القليلة التي استخدم فيها ضمير المتكلم بدلا من ضمير الغائب الشائع في أعماله، كنت أتلمس تأثير المنهج الوجودي وتأثيرات الرواية السيكولوجية الأوروبية عموما. بالطبع لم تكن المقارنة في صالح محفوظ. لأن العوالم التي اختارها سارتر، وغيره طبعًا من كُتّاب فرنسا وأوروبا الكبار، للتعبير عنها أدبيًا كانت لافتة من حيث الفكرة ومن حيث المقدرة الأدبية غير التقليدية في صياغتها، من جهة، ولأن نص محفوظ، من جهة أخرى، افتقد تلك الروح الفردية الوجودية التي أصبحت لاحقا ملمحًا لكتابة جيل كامل من الكتّاب في مصر هو جيل التسعينات ولاحقيه. رغم أن نص «السراب» كان يتتبع التأثير السيكولوجي لعُقدة «أوديب» على نفسية شاب عُصابي يصارع مآزق حياته الوجودية وأسئلته عبر علاقته المركبة بأمه.
أما حين سلّمني محفوظ وسارتر إلى يد دوستويفسكي، أدركت فورًا، أنني بلغت القمة، جالسا على كتف عملاق في فن السرد الأدبي، وربما كان ذلك بعد قراءة «المراهق والأبله»، ومع الوصول إلى «الإخوة كرامازوف» تبينت أن هناك ما يمكن أن نصفه بـ«كتابة وحشية». موهبة بلا حدود وإمكانات ذهنية ومعرفية مبهرة. أدركت معها أن الكتابة ينبغي أن يكون خلفها أيضا بناء معرفي وثقافي متين؛ موظف فقط من أجل «فخامة المبنى الروائي».
من المستحيل قطعا أن يكون أيّاً من ثلاثي (محفوظ، سارتر، دوستويفسكي) فقط أصحاب التأثير الأوحد على كتابتي، لكن تجاربهم جسّدت المركز الذي تفرعت منه حلقات عدة. فبينما قادني محفوظ إلى كتابات نوابغ العرب، قادني سارتر إلى نوابغ الأدب الغربي، وبينما اعتلي دوستويفسكي القمة، كانت نصوصه محرضة للبحث عن الأصوات الاستثنائية في الأدب الروسي والعالمي. إنها رحلة طويلة وممتدة ولا تزال، بلغت اليوم ذروتها في نموذجي الكتاب الأكثر تأثيرا علي الآن وهنا، ممثلين في كل من ساراماجو وبول أوستر بامتياز.

Sunday, November 23, 2014

مخطــــــوط : من إثيوبيا باتجاه قلب الظلام .. الحياة بلا زمن!

مخطــــــوط : من إثيوبيا باتجاه قلب الظلام .. الحياة بلا زمن!: سافاري النجمة السوداء (4-5) من اثيوبيا باتجاه قلب الظلام  التحرر من المستعمر اخطا الطريق الى الفقر والمرض عرض - ابراهيم ف...

Saturday, November 22, 2014

مغامرة في مدينة الموتى

فصل من رواية "مغامرة في مدينة الموتى" ..روايتي لليافعين والناشئة





صديقي الغامض


قبل أن ندخل إلى الفصل، قررت أن أذهب إلى حجرة مدام جورجيت وأخبرها بموضوع مرض شادي. كنت متحمسة جدًّا؛ لأنني أخيرًا وجدت الطريقة الصحيحة لمساعدة شادي. أبي يقول لي دائمًا إن الصدق هو السبيل الوحيد لأي إنسان لا يرغب في التورط في مشاكل، وإن الهروب من المسؤولية بالكذب يؤدي إلى مشاكل أكبر وأخطر وليس العكس. تذكرت بابا وهو يغلق عينيه ويقول بثقة وصوت عال: "الصدق منجاة". وحين أبتسم وأسأله عن معنى ذلك يقول: "الصدق هو الذي ينجي صاحبه من المخاطر والمشكلات".
 المهم أنني بعد فترة من الحماس الشديد، والإصرار على أن أخبر مدام جورجيت بما أفكر فيه بخصوص مشكلة شادي، عدت أشعر فجأة بالتردد؛ فماذا لو أنها سألتني عن السبب الذي يجعلني متأكدة أن ما يمر به شادي هو حالة مرضية بالفعل؟
-       أي شخص في المدرسة يعرف أنه ينسى كل شيء يا مدام.. أليس هذا كافيًا؟
هكذا قلت وكأني أقف أمام المعلمة، وعدت أردد بصوت عال كأني أخاطب مدام جورجيت:
-       لا تنسي يا سيدتي أنه من أذكى طلابك في الفصل، وأكثرنا قدرة على حل المسائل الحسابية، وهذا ما يجعلني أشك أنه بالفعل مريض، وربما يحتاج إلى علاج لو وجد من يهتم بالأمر. أنتِ أكثر إنسانة تعاني من نسيانه يا مدام، وهو يحبّك جدًّا ويشعر بالتعاسة عندما تستائين منه، وهو بالتأكيد ليس سعيدًا بذلك.

*******
 في سنوات الدراسة السابقة في المدرسة لم يكن شادي ينسى أي شيء، بل كان واحدًا من أكثر الأولاد ذكاءً وتفوقًا، يحصل على درجات متقدمة في كل المواد الدراسية. والمدهش أنه كان يتمتع بذاكرة جبارة يتباهى بها أمام جميع أقرانه وزملائه في المدرسة، خصوصًا جوزيف وسيف؛ لأنهما كانا أكثر الأولاد حبًّا لمادة الحساب، وأكثرنا تفوقًا فيها.

كان شادي دائمًا ما يقوم بتحديهما في حساب أي مجموعة أرقام، ومعرفة النتيجة في أسرع وقت ممكن، حتى لو كانت مثلاً 5+14+325، ويترك لهما فترة لا تزيد عن ثوان قليلة، ثم يقول لهما بفخر:
-       أنا مستعجل جدًّا، ومضطر أن أخبركما بالنتيجة، وهي 344.. سجلوها عندكما.
 وعندها يقول له سيف إنه غشَّاش، وإنه أعد هذه العملية الحسابية مسبقًا؛ فيتحداه شادي بأن يسأله عن أي عملية حسابية أخرى ليتأكد من أنه ليس غشاشًا، وبمجرد أن ينتهي سيف من تأليف أي عملية حسابية، يخبره شادي بالنتيجة وهو يبتسم، ويمسح خُصلات شعره الناعم الذي كان يتركه طويلاً ولا يصففه أبدًا.
شادي أيضًا كان معروفًا بين محبي لعبة الشطرنج في المدرسة بأنه الوحيد بين من يلعبون الشطرنج المبرمج على الكمبيوتر الذي هزم البرنامج أكثر من مرة!
كنت أشعر أن شادي وراءه سر ما هو الذي تسبَّب في أن يصبح نسايًا إلى هذه الدرجة.
عندما سألته عن السبب في نسيانه كل شيء تنهّد، ثم أخذ نفسًا عميقًا وجلس يفكر، ولكنه لم يقل شيئًا، وأحسست أنه أصبح شاردًا تمامًا، فقلت له:
-       شادي، أين ذهبت؟ لماذا لا ترد عليَّ؟

نظر لي مبتسمًا، ثم قال:
-       تخيلي يا عالية، لقد نسيت سبب إصابتي بالنسيان.. أعتقد أن ذاكرتي مهووسة بالنسيان!

أخذت أردد لنفسي كلماته في سري ودون أن يسمعني: "ذاكرتي مهووسة بالنسيان"، ولم أفهم المعنى. كنت أريد أن أسأله عن معنى هذه الجملة الغريبة. لكني - كالعادة - ترددت وقررت ألا أفعل؛ أولاً لأنني كنت أعتبر نفسي أفهم كل شيء، وبالتالي لا يمكن أن أسأل أي صديق أو صديقة في عمري عن أي موضوع لا أفهمه، وثانيًا لأنه كان دائمًا يقول لي: "أنت صديقتي الوحيدة في هذا العالم يا عالية، أنت الوحيدة التي تفهمينني".
بصراحة شعرت بالخوف من خسارة ثقته، لو سألته عن معنى كلماته الغامضة فلن أكون "الإنسانة الوحيدة التي تفهمه في هذا العالم".
قلت لنفسي إنني يمكن أن أسأل مدام جميلة مُدرِّسة اللغة العربية عن معنى الجملة في أي وقت.
لكن بسبب هذه الجملة الغامضة، لم أستطع أبدًا أن أدافع عن شادي، الذي اتهمه جميع الأصدقاء في المدرسة بأنه غريب الأطوار، وبعضهم وصفه بأنه شخص غير طبيعي.
كنت أعرف أنني إذا قلت لهم إن السبب الحقيقي لما يحدث لشادي هو أن "الذاكرة مهووسة بالنسيان"؛ فسوف يتهمونني أنا أيضًا بالجنون.
وهكذا كان كل ولد أو بنت في الفصل، يتخيل سببًا يتصور أنه أدى إلى إصابة شادي بالنسيان.
فريدة مثلاً كانت تقول إنه في الأصل ولدٌ شقي، ولا شك أنه وقع على رأسه وهو يركض على الدَرَج، وارتطمت رأسه بالسلالِم وتسببت الصدمة في هذا النسيان.
أما جوزيف فكان يقول إن شادي يقوم بالتمثيل؛ لأنه يريد أن يلفت الانتباه إليه خصوصًا انتباه البنات، ولذلك فهو يمثل دور فاقد الذاكرة. بل كان جوزيف يسأله أسئلة معينة عن أحداث مرت في حياته، ثم يكرر السؤال نفسه بعد ذلك ليحاول أن يوقع به، لكنه لم ينجح أبدًا.
ليلى كانت تقول إن سبب فقدانه الذاكرة يعود لذكائه الشديد، وحبه للقراءة بشكل غير طبيعي؛ مما جعله يحشو عقله بمعلومات كثيرة جدًّا، لدرجة أن عقله امتلأ بالمعلومات ولم تعد به أي مساحة خالية تكفي لاستقبال أي معلومة جديدة.
ولأن شادي لم ينجح في تذكر سبب فقدانه للذاكرة، لم تتوقف محاولات الأولاد والبنات في اختراع أسباب جديدة لما حدث لشادي، وكلها كانت مجرد خيال.
وعندما كان سيف يسمع ما تقولَه ليلى، يضحك ويقول لها إنها لا تعرف الحقيقة. سألَتهُ ليلى وهي تشعر بالغيظ:
-       وما هي الحقيقة يا أستاذ سيف؟
عندها اقترب منّا أنا وليلى، وقال لنا بصوت منخفض أقرب للهمس:
-       شادي مسكون بشبح.
سألته: ماذا تقصد يا سيف؟
فنظر لي وقال بثقة: يعني بداخله عفريت هو الذي يجعله ينسى كل شيء هكذا.
ليلى قالت له بغضب:
-       كيف تقول على زميلك هذا الكلام السخيف؟!
 وانصرفت غاضبة وقررت ألا تتحدث معه مرة أخرى.
أنا باعتباري صديقة شادي المقربة أشعر أحيانًا بالارتباك؛ لأني أشعر بالفعل أن هناك شيئًا غامضًا له علاقة بموضوع النسيان. من المؤكد أن وراءه سرًّا غامضًا يقف وراء نسيانه أغراضه وأدواته بهذا الشكل، ويجعل الجميع يظنونه شخصًا غريب الأطوار.
حاولتُ أن أتذكّر الحوارات التي دارت بيننا، وكانت أغلبها عن الأشياء التي يحبها شادي: لعب الشطرنج على الكمبيوتر، البلاي ستيشن، لاعبي كرة القدم المشهورين وخصوصًا ميسي ورونالدو، لاعبي الفريقين الإسبانيين الشهيرين: برشلونة وريال مدريد، لكن أغلب أحاديثنا التي كنت أستمتع بها أيضًا كانت عن الكتب التي يقرأها.
بصراحة، لم أهتم أبدًا بكلامه عن الشطرنج ولا البلاي ستيشن؛ فأنا لا أحب كرة القدم، لا في الملاعب الحقيقية ولا في المباريات الإلكترونية والألعاب، لكني كنت أحب أن أسمع ما يقوله عن الكتب.
لم يكن مثلنا يقرأ فقط الكتب المصورة وألبومات الشخصيات الكارتونية الشهيرة، بل كان يخبرني أنه يقرأ قصصًا جميلة ويحكي لي عنها: "روبنسن كروزو"، "أوليفر تويست"، "علي الزيبق"، "الفرسان الثلاثة"، "مغامرات علاء الدين" من كتاب "ألف ليلة وليلة"، "رحلات جليفر"، وهذه كنت أعرفها من أمي التي قرأتها لي وأنا صغيرة، ومرات يحكي لي عن رسام إيطالي عاش في القرن السادس عشر اسمه ليوناردو دافنشي. كان يقول لي إنه قرأ له كتابًا جميلاً اسمه "حكايات عجيبة وأساطير غريبة". كما قال لي إنه كان رسامًا مشهورًا ومتعدد المواهب، وأخبرني أنه صاحب أشهر لوحة فنية في العالم، والموجودة في متحف اللوفر في باريس ويعرفها كل الناس إما باسم "لوحة الموناليزا" أو "الجيوكاندا". وقد أراني اللوحة في واحد من كتبه، وتعجبت من أن هذه اللوحة لتلك السيدة صاحبة الابتسامة الغامضة هي أشهر لوحة في العالم.
في مرة أخرى من المرات أخبرني عن كتاب رحلات اسمه "200 يوم حول العالم" كان كثيرًا ما يتكلم عنه، وعن البلاد الكثيرة التي يحكي عنها الكتاب. قال لي إنه يحب السفر، وإنه يتمنى أن يسافر إلى الفضاء الخارجي، وأن يصبح صديقًا لكائنات فضائية ذكية. سألته مرّة أن يعيرني كتاب "200 يوم حول العالم"، فقال لي بطريقة لم تعجبني:
-       هذا الكتاب ليس للأطفال، هو أصلاً للكبار.
وعندما لمح ملامح الغضب، وتحول لون وجهي للون الأحمر، وهو ما أحسست به بسبب سخونة وجنتي، ارتبك وقال:
-       لا يا عالية، لا تفهميني خطأ. هذا الكتاب بالفعل للكبار، لكني بسبب اعتيادي على القراءة بدأت أقرأ كتبًا تناسب عمرًا أكبر من عمري.
لكني لم أصمت.. قلت له بنوع من التحدي إنه إذا كان قادرًا على فهم أي كتاب فسوف أكون أنا أيضًا قادرة على قراءته وفهمه، وقلت له بسخرية:
-       هل تظن فعلاً أن كتابًا يحكي حكايات كتبها رجل سافر بضع بلاد ويروي لنا ما يراه كتابًا صعبًا أو للكبار فقط؟
وهكذا أجبرته على الاعتذار لي.
هل كانت قراءة هذه الكتب هي السبب في ضعف ذاكرة شادي؟

 آآآآخ.. تذكرت الآن شيئًا مهمًّا. أعتقد فعلاً أنني يجب أن أجد وسيلة لزيارة شادي في بيته فجأة ودون أن يعرف أنني سأزوره! نعم، يجب أن أزور شادي في بيتهم حتى أتمكن من كشف أسرار هذا الولد، صديقي الغامض كما يحب أن أسميه.

Thursday, November 13, 2014

من إثيوبيا باتجاه قلب الظلام .. الحياة بلا زمن!

سافاري النجمة السوداء (4-5)

من اثيوبيا باتجاه قلب الظلام 

  1. التحرر من المستعمر اخطا الطريق الى الفقر والمرض



عرض - ابراهيم فرغلي



    قلب الظلام.. هذا واحد من التعبيرات التي ارتبطت تاريخيا بوصف أفريقيا، ليس فقط لكونها عنوان رواية الكاتب الذي قضى جزءاً من حياته في أفريقيا «جوزيف كونراد»، ولكن - أيضاً - لأن المصطلح يعبر عن أكثر من معنى في الواقع فهو توصيف لطبيعة الحياة البدائية التي لا تحظى بإضاءة صناعية جيدة، وهذا أحد المعاني المباشرة، كما أنه يعكس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي يعاني منها أغلب الأفارقة بسبب استبداد الحكام الأفارقة الذين تولوا الحكم بعد الاستقلال فلم يزيدوا الأمور إلا سوءاً وتعقيداً، وقد أضافوا إلى مساوئه الكثير من الحروب الأهلية الدامية.

لكن هناك ظاهرة أخرى أيضا يتوقف أمامها الكاتب الروائي الأمريكي والرحالة بول ثيروكس في كتابه الذي نعرض له هنا وهو «سافاري النجمة السوداء» هي ظاهرة التأخير والانتظار الطويل.

ويتذكر كيف أن كتاباً من الكتب الوافرة التي قرأها عن أفريقيا لم تخل من إشارة أو أكثر إلى هذا التأخير. وعلى سبيل المثال، فالكاتب في رحلته من حدود أوغندا إلى تنزانيا كان عليه أن يعبر بحيرة فيكتوريا من شمالها إلى جنوبها أولا ثم يستقل القطار من حدود تنزانيا في مدينة «موانزا» إلى «تابورا» ثم يحاول من هناك أن يجد وسيلة أخرى للانتقال إلى «دار السلام» التي تقع على حدود الساحل الشرقي على بعد مسافة قليلة من إحدى أشهر المستعمرات العربية في أفريقيا: «زانزيبار» أو زنجبار كما تعرف في العربية.

---------------------------------------

شاهد جزيرة، سأل عنها فأخبروه أنها تعرف باسم «جزيرة جوزيبا» .. ويعيش عليها مواطنون من رواندا وأوغندا وكينيا والكونغو، فهي جزيرة بلا سلطات من أي نوع، لا شرطة، ولا ضرائب، ولا حكومة، وهكذا يقرر من يريدون التحرر من كل هذا أن يذهبوا ليعيشوا هناك في هدوء.


------------------------------------------




منطقة الحدود الكينية التنزانية

http://www.horizonsunlimited.com/newsletter/2002-11-01.shtml





لكنه عندما وصل إلى نقطة الحدود البحرية اكتشف أن القارب البخاري الذي سيستقله يحتاج إلى عملية صيانة ولحامات سوف تستغرق وقتا. وهكذا كان يحاول أن يقضي ساعات الانتظار التي بلغت حوالي ست ساعات، بالقراءة والتأمل ومصارعة إحساسه الداخلي بالتلهف على الحركة بسبب طول الفترة التي يحتاجها لاستكمال رحلته.

ولاشك أن هذا الإيقاع يعكس أحد أوجه الاختلاف الأساسية بين الحضارات المدنية الحديثة والحضارات الأكثر تخلفاً، فالحياة في المدينة الحديثة لها إيقاع صاخب، مستمر، ولاهث، يشعر فيه الفرد بأن الوقت لا يسمح له بإنجاز ما يريد إنجازه، أما في المجتمعات البدائية فالوقت له إيقاع معاكس تماما.

وأخيرا وبعد ساعات الانتظار الطويلة ظهر قائد القارب ليعلن استعداده لبدء الرحلة..وهنا يصف لنا ثيروكس الوضع البائس لهذه الرحلة في غرفة خشبية صغيرة داخل إحدى كبائن القارب، مطاردا من آلاف الحشرات الليلية الطائرة، والحرارة، وصوت المحرك الصاخب.

وعندما حاول النوم، ذهبت محاولاته عبثا، وعندما تسلل النعاس أخيرا إليه، كان يستيقظ بين آن وآخر بسبب الأحلام المزعجة.

في الصباح استيقظ وجد المياه تحيط به وبالقارب والركاب المسافرين معه من كل اتجاه، وكأنه في عرض المحيط. وهو يوضح أن ذلك يعود لاتساع مساحة بحيرة فيكتوريا بشكل كبير، إذ تصل مساحتها إلى 70 ألف كيلومتر مربع.

شاهد جزيرة، سأل عنها فأخبروه أنها تعرف باسم «جزيرة جوزيبا» .. ويعيش عليها مواطنون من رواندا وأوغندا وكينيا والكونغو، فهي جزيرة بلا سلطات من أي نوع، لا شرطة، ولا ضرائب، ولا حكومة، وهكذا يقرر من يريدون التحرر من كل هذا أن يذهبوا ليعيشوا هناك في هدوء.

ومن المشاهد التي عاشها ثيروكس، وكان يتوقعها من الأساس، مناظر التماسيح العملاقة في البحيرة. وهي معروفة بخطورتها، وكانت جزيرة سيجولو في شمال البحيرة قد شهدت، على سبيل المثال، وقوع 43 حادث وفاة لأشخاص تعرضوا لهجوم التماسيح خلال ستة أشهر.

ويصف الإفطار الذي تناوله بأنه كان مكوناً من عصيدة ذات قوام خفيف وشاي ذى مذاق حلو. ويقول إنه لم يكن من الأشخاص الذواقة لكن الطعام الذي تناوله في أفريقيا بشكل عام كان مستساغا وكان ومازال، كل بلد أو منطقة أفريقية تشتهر بنوع معين من المنتجات أو الفواكه، ويرتبط هذا المنتج بكثير من وجباتهم، فجنوب أثيوبيا، على سبيل المثال مشهور بأجود أنواع الأناناس، وكينيا بالبرتقال، وأوغندا بالموز وتشتهر الحدود التنزانية من بحيرة فيكتوريا بالمانجو التي يقال إنها الأفضل في العالم.

--------------------------------------
 قرأ تعليقاً تحليلياً في إحدى الصحف يؤكد أنه بحلول هذا العام 2005 فإن نحو 75 بالمئة من أفريقيا ستصبح مناطق مدنية .
لكنه يقول إن تحول أفريقيا إلى المدنية أصبح مرعباً لأن المدن تكبر وتتوسع بشكل كبير، لكنها تنقل معها قيم القرية البدائية فتصبح بشعة، أو مخيفة مثلما يبدو الأمر في نيروبي مثلاً.

------------------------------------------


وفي رحلة القطار من «موانزا» إلى «دار السلام»، كان ثيروكس يتأمل الطبيعة في الخارج، فتبدو له التلال والأرض الشاسعة الممتدة في ظلام الليل وبأثر انعكاس اللون الفضي الذي ينعكس عن ضوء القمر وكأنها بحيرة كبيرة.

ولكن في أثناء المرور على القرى الصغيرة في تنزانيا كان يلاحظ أن المباني كلها بسيطة، تضاء بمصابيح الزيت الخافتة. على عكس القرى في أوغندا التي تختلف سماتها من قرية إلى أخرى، وتظهر على مباني بعضها آثار التجديد والتطوير بما يعطي الإحساس بتاريخ المكان وتجدد أحداثه من حروب إلى عمليات الترحيل الجماعي، والتغيرات التي تنشأ بسبب أعمال العنف، وهو ما يضفي الإحساس بتاريخ المكان وقوته. أما في تنزانيا فالبيوت تبدو بسيطة، لا أثر لأي تغيير من أي نوع على ربوعها.


أما أهل تنزانيا فيبدون أكثر ثقافة من الأجيال السابقة لهم، فقد التقى شاباً يقرأ كتاباً عن صناعة المحركات والميكانيكا بالإنجليزية وذلك في القارب الذي استقله عبر بحيرة فيكتوريا، كما التقى شبابا تعرفوا عليه في القطار وأكدوا له أنهم قرأوا الكثير من أعماله الأدبية، وهو ما كان بمثابة مفاجأة مدهشة بالنسبة له.


بحيرة فيكتوريا تقع على حدود ثلاثة دول: أوغندا، كينيا وتنزانيا



لكن على مستوى آخر، فإن تنزانيا كما يرى المؤلف، بالكاد لا تتجاوز الحد الأدنى في أي تطور اجتماعي أو اقتصادي بسبب الفشل الذريع لسياسات حكومتها الاقتصادية وعدم وجود عمليات تصنيع من أي نوع، والاعتماد فقط على اجتذاب السياح لزيارة حدائق الحيوان الطبيعية، خاصة وأنها تعاني أيضا من فشل سياساتها الزراعية، كما خصصت جزءاً من الحدود مع كينيا للأثرياء من هواة صيد الحيوانات الشرسة في تلك المنطقة كمصدر آخر من مصادر الدخل.

وأصبح كل اهتمام الشباب الآن هو البحث عن فرص عمل في الفنادق، أو في السياحة، وإذا لم تكن المدينة قريبة من الأماكن التي تعيش فيها الأفيال والأسود فهي تصبح مدينة سيئة الحظ، مثل العاصمة تابورا .

وفي مثل هذه الحالة تسوء حالة الخدمات مثل المواصلات والطرق، باستثناء خط السكك الحديدية الذي أنشأه الألمان قبل نحو مئة عام من الآن.

إلا أن الحكومة في تابورا تحاول تشجيع إنتاج بعض المحاصيل الزراعية من خلال مشروعات تدعم المزارعين لإنتاج هذه الانواع. ولكن بسبب المجاعة وقلة الدخل، تحول المزارعون من زراعة بعض المحاصيل ذات الطابع التجاري مثل القهوة ليزرعوا ما يحتاجونه هم لغذائهم وطعامهم مثل الحبوب والذرة والبصل.

وبسب هذا الفقر، فإن أغلب الأرفف في محلات البقالة الصغيرة المنتشرة في تابورا تبدو خاوية، بينما تتواجد بعض السيدات الأفريقيات يجلسن أمام هذه المحلات ليعرضن ما بحوزتهن من طماطم وموز وبصل .

ويستعرض ثيروكس بعض الحوارات التي أجراها مع بعض أهل تنزانيا .. صبي صغير يبيع الشاي والحليب في القطار، أو شاب يعمل في حسابات إحدى الشركات الصغيرة وغيرها وكانت الشكوى دائماً هي الفقر الشديد وقلة الدخل، وعدم وجود فرص لتحسينه، وهو ما ينعكس على كل شيء .. المرافق والخدمات وطرق المواصلات التي لم تتطور أو تتحسن أو تمتد لها يد الإضافة بشيء منذ أنشأها الألمان.

لم يستطع أن يحصل سوى على تأشيرة زيارة لمدة أربعة أيام في تنزانيا، قضى نصفها في المواصلات، وهو ما جعله يتحرك بسرعة بين المشاهد، خاصة وأن الأوضاع في تنزانيا حتى في دار السلام وزنزبار لم تكن لتختلف في درجة الفقر. البطالة والبيوت البسيطة، ومحاولات أهل تنزانيا لكي يحصلوا على النقود على سبيل السلفة من الأجانب المقيمين فيها، إما لعمل بعض المشروعات الصغيرة الخاصة، أو للسفر الى الولايات المتحدة أو جنوب أفريقيا .

لكن المدة القصيرة التي قضاها ثيروكس في تنزانيا جعلته يشعر بالرغبة في المغادرة والذهاب إلى جنوب أفريقيا بأي شكل . 

صحيح أن الأوضاع في تنزانيا لا يمكن مقارنتها بالوضع في نيروبي أو كينيا كلها . لكن الفقر المحيط بالمكان وسوء الوضع جعلا الكاتب يبدو مستفزاً من أحوال أفريقيا كلها . فهي لا تبدو مهيأة لسكنى البشر واستقرارهم إما لتكدس السكان أو للفقر والقذارة وسوء حالة الطرق ووسائل المواصلات .

ويقول إنه قرأ تعليقاً تحليلياً في إحدى الصحف يؤكد أنه بحلول هذا العام 2005 فإن نحو 75 بالمئة من أفريقيا ستصبح مناطق مدنية . لكنه يقول إن تحول أفريقيا إلى المدنية أصبح مرعباً لأن المدن تكبر وتتوسع بشكل كبير، لكنها تنقل معها قيم القرية البدائية فتصبح بشعة، أو مخيفة مثلما يبدو الأمر في نيروبي مثلاً.

ويقول إنه حتى الذين لا يشكون من البطالة ..ويعانون من مظاهر التوظيف الرديء ويضرب مثلاً بزيارته لمكتب الهجرة في دار السلام للحصول على تأشيرة لزيارة زيمبابوي لكي يستطيع اللحاق بالقطار الذي ينقله من دار السلام إلى قلب زيمبابوي.

فقد ظل واقفاً في طابور لمدة ساعتين ونصف بينما الموظف يتناول قطع الكيك الرديء ويمارس عمله ببطء شديد، أما الموظفة ذات الشعر المجعد فكانت تقرأ صحيفة باهتمام بدلاً من ممارسة عملها، حيث يقف أمامها طابور من عشرات الأشخاص الذين جاءوا لإجراءات متعلقة بالسفر والهجرة .

ويبدو أن زيارة تنزانيا قد أفقدت بول ثيروكس كل تعاطفه مع أفريقيا الذي بدا جلياً في مقدمة الكتاب، وفي رحلته إلى القاهرة والسودان ثم أثيوبيا، وحتى المتاعب التي صادفها في كينيا جعلته دائماً ينظر بعين المحبة للأفريقيين أما في أوغندا فقد بدا وكأنه يعيش في بقعة من الجنة تربطه بها الكثير من الذكريات الجميلة والمحبة لأهلها.

لكن هذه النقمة التي فجرتها زيارة تنزانيا القصيرة كانت في الحقيقة موجهة إلى الحكومات الأفريقية التي تسلمت حكم بلادها وهي متحررة من الاستعمار لكنها سقطت بها الى هاوية من الفساد وسوء الإدارة وقلة الإنتاج وإنهاك المرافق الأساسية التي ربما لو لم يشيدها المستعمرون ما كان قد قدر لها أن تنشأ من الأساس.

أما اللمسة الصينية في أفريقيا فتبدو جلية في خط السكك الحديدية المار بين تنزانيا وزامبيا . فهي تعرف باسم سكك حديد تازارا أهدتها الصين لحكومة البلدين الأفريقيين بفضل دعم من حركات الثقافة البروليتارية في الصين،
طريق السكة الحديد بين في زامبيا، على جسر تازارا
وتم إنشاؤها بالكامل بأيدي الصينيين من العمال والمهندسين وأفراد الحراسة التابعة لفرق الحرس الأحمر. وكان ذلك في إطار دعم حركات التحرر الأفريقي التي بلغت ذروتها في الستينيات والسبعينيات . وكذلك تم بناء مبنى محطة القطار في دار السلام على الطراز الصيني، مع التقشف الشديد، وبالأسلوب الذي يعود الى طراز البناء الماركسي أي بالاعتماد على صالات واسعة مكشوفة يبدو كل من فيها واضحاً لرجال الأمن والشرطة
.

وبالرغم من أن هذا الطراز الصيني في البناء قد يبدو فريداً في مثل هذه البقعة من أفريقيا، إلا أنها في النهاية لا تختلف عن بساطة العمارة التي خلفها الزمن الكولينالي في المنطقة، سواء المكاتب الإدارية الألمانية أو النوادي الإنجليزية في دار السلام أو المنازل ذات الطابع المعماري العربي في زنجبار .

--------------------------------------------

  سألها بول ثيروكس : وهل حاولت أن تتحدثي معهم وتعطيهم نوعاً    أفضل من الوعي أو الدعاية غير المباشرة؟

 نعم .. حاولت كثيراً .

 وماذا كانت النتيجة؟

 أرادوا أن يمارسوا الجنس معي!

-------------------------------------------------



ومن الأيدز في «زامبيا» وانتشاره المروع يناقش ثيروكس قضية الجنس في أفريقيا بشكل عام، وزامبيا على نحو خاص. فقد اكتشف أن الجنس في زامبيا يمارس على نطاق واسع بين الفتيان والفتيات بلا رادع أو منطق، والصبية والفتيات يبدأون في ممارسة الجنس وهم في عمر صغير أحياناً لا يتجاوز عشر سنوات، وبدون وعي بأي تربية ثقافية من أي نوع مما يزيد من فرص انتشار مرض الإيدز بشكل خطير.

وعندما التقى سيدة فنلندية تتبع إحدى الجهات الخاصة بمكافحة الإيدز أخبرته بنفس التفاصيل، وقالت إن كل الجهود التي تقوم بها هي وفريق العمل وتتركز في التوعية بخطورة المرض وطرق الوقاية منه قد ذهبت أدراج الرياح.

فقد وصفوا أفلام التوعية التي عرضت عليهم لمشاهدتها بأنها فاضحة ! ورفضوا مشاهدتها .

وسألها بول ثيروكس : وهل حاولت أن تتحدثي معهم وتعطيهم نوعاً أفضل من الوعي أو الدعاية غير المباشرة؟

نعم .. حاولت كثيراً .

وماذا كانت النتيجة؟

أرادوا أن يمارسوا الجنس معي!

ولم تكن ملاحظات الكاتب عن زامبيا لتخلتف كثيراً عما كان عليه الأمر في تنزانيا، وخاصة في مدينة «ميبيا» التي كان زارها قبل 35 عاماً، لكنه وجد الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ . وهكذا قرر أن يذهب إلى البلد الصغير في شرق زامبيا وهي مالاوي .

وهذا البلد الصغير لا تختلف الأوضاع فيه كثيراً عن جارته زامبيا، باستثناء المناخ الذي يتسم بالأمطار الغزيرة. ومثل هذا المناخ يعرض صالات الرقص في النوادي الخشبية لمآس، تحولها إلى برك صغيرة في لحظات .

حتى على مستوى انتشار مرض الإيدز كانت الملاحظة الأساسية هي ارتفاع نسبة الإصابة به بشكل كبير في مالاوي وقد لاحظ ثيروكس انتشار العاهرات في الفنادق والملاهي الليلية بشكل كبير . وعندما ناقش المسألة مع رجل من أصل مالاوي التقى به في الفندق أوضح له أن فكرة الاستعانة بالواقي الذكرى كوسيلة لمنع انتقال عدوى الإيدز هي فكرة لا وجود لها في مالاوي .. وأجاب ضاحكاً : نحن المالاويين .. لا نفضل مثل هذه الوسائل الصناعية.. نحن لا نثق إلا في الطبيعة ! وكانت المشكلة التي يحكيها هذا الرجل لثيروكس هي أنه يحب امرأة تبادله الغرام بشدة، لكنها رفضت الزواج منه لأنه فقير .

بسبب انتشار الدعارة، والمعونات الدولية التي تذهب إلى مالاوي بشكل خاص، فقد أدى ذلك إلى اشتراط بعض الموظفين المسؤولين عن توزيع المعونة على الناس ألا يقدموها للسيدات إلا بعد أن يمارسوا الجنس معهن، وهو ما يعني وجود فريق من الضحايا من السيدات اللائي يتعرضن للاغتصاب غير المباشر تحت وطأة احتياجهن للأغذية المقدمة إليهن من قبل الجهات الدولية !

ويصف الفنادق أيضاً بأنها تتسم بارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه، لأن من يمتلكونها من جنوب أفريقيا ولديهم خبرة في هذه الأمور. إلا أنه أيضاً التقى خلال فترة إقامته بأحد فنادق مالاوي بأكبر عدد من الفتيات اللائي عرضن عليه أجسادهن، وقد تزين ووضعن المساحيق على وجوههن والزيوت على شعورهن وأجسادهن مع ملاحظة أنهن .. جميعاً قد حصلن على دراسة جامعية ولم يعثرن على أي فرصة عمل أخرى !


إنه الجانب الآخر للظلم في أفريقيا كما يشير بول ثيروكس.. وهو أيضاً ما جعله يشعر بالرغبة في الوصول إلى جنوب أفريقيا بشكل أسرع.

نشرت في "الرياض" بالتعاون مع وكالة "الأهرام" للصحافة، في إبريل 2005.