Tuesday, November 8, 2016

الإيروتيكا في مجتمعات تغتصب البشر



الإيروتيكا في مجتمعات تغتصب البشر 

إبراهيم فرغلي 




على مدى العامين الماضيين نقلت وكالات الأنباء والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي مئات التقارير تداولت فيها مصطلحات وكلمات من مثل "اغتصاب"، "سبي"، "رق"، وغيرها مما تعبر مدلولاتها عن علاقات جنسية تتم بالعنف، أو بقهر طرف لآخر؛ أيا كانت المبررات التي تتخذ لتبريرها، على يد أفراد يعلنون أنهم ينتمون لتنظيم داعش مثلا، وغيره من التنظيمات التي تلصق توجهاتها بالإسلام.
لدينا إذن ممارسات ليست قليلة، مثل ما تعرضت له الإيزيديات مثلا، في العراق، وبعض النساء في سوريا، وكذلك في مصر حين سادت لفترة ظاهرة تحرش عنيف بدا المقصود منها إرهاب المصريات من المشاركة في التظاهرات، وهي جميعا في جوهرها، ممارسات عنيفة تعبر عن محاولة طرف لإذلال طرف آخر وإخضاعه بدنيا، باستخدام الجنس.
وفي تصفح سريع لأي موقع تواصل اجتماعي يمكنك أن تمر على عدد لا يستهان به من فيديوهات يبثها المستخدمين لفتاوي دينية تقول بإباحة التمتع بأجساد النساء من أديان أخرى وإذلالها جسديا.
والحقيقة أنني مشغول بهذا التناقض الشديد بين فكرة "المتعة" والإذلال، أو المتعة عن طريق قهر طرف لطرف آخر عن طريق الجسد، كيف يمكن أن يحقق طرف بشري متعته على حساب نقيض هذا الإحساس لدى الطرف الآخر، وكيف يمكن أن نتأمل هذا التناقض السلوكي إلا بوصفه سلوكا جنسيا غير سوي، أو غير طبييعي؟
لكن المفارقة هنا أن هذا السلوك غير الطبيعي يحظى بالتوافق الجماعي باسم الدين، على الرغم من تعارضه مع المبادئ الأولية البسيطة لحقوق الإنسان، التي يفترض أيضا أن تكون جوهر كل الأديان وليس الدين الإسلامي فقط.
فهل ثمة علاقة بين انتشار هذه المفاهيم المشوهة عن الجسد البشري، والمتعة، واحتقار جسد المرأة على هذا النحو والتصرف في جسدها باعتبارها فاقدة الأهلية له أو غير قادرة على امتلاكه، وبين غياب الكتابة الإيروتيكية في ثقافتنا العربية المعاصرة؟
هل ترتبط الإيروتيكا أساسا بشيوع نظرة إنسانية للجسد الإنساني في المجتمع؟ أم أن السبب يعود لكونها تابو يخشى الكتاب الاقتراب منه؟
أيا كانت الأسباب، وهي عديدة، فالثابت هو قلة الإنتاج الأدبي المهتم بموضوع الإيروتيكا، ولو أجرينا إحصاء للكتب الأدبية العربية التي ركزت مضمونها على الإيروتيكا فربما سنكون قادرين على إحصائها على أصابع أيدينا على أقصى تقدير، بسبب ندرتها.
في العرف الثقافي الاجتماعي السائد في المجتمعات العربية أيضا لا تزال فكرة المطابقة بين خبرات الكاتب الشخصية والكتابة الجنسية فكرة شائعة، وخصوصا إذا كانت الكاتبة امرأة، وقد يكون ذلك أحد اسباب تجنب العديد من الكاتبات التطرق للموضوع الإيروتيكي في كتاباتهن، إضافة إلى أن العديد من الكتاب لا يرون في تناول الموضوع الجنسي أهمية، وقد يعتبرونه ترفا فنيا لا تحتاج إليه الكتابة من الأساس.

وأيضا وبسبب اعتبار الموضوع الجنسي تابو لا يفضل الكثير من الكتاب الاقتراب منه، وإذ يقترب بعض الكتاب العرب من تناول موضوع الجنس فقد يكون الهدف لدى البعض منهم هو تحقيق نوع من الإثارة والدهشة من أجل الشهرة، بسبب شيوع نزعة فضائحية لدى قطاع واسع من القراء العرب، ويتمتع بنزعة فضول كبيرة في الاطلاع على المادة الإباحية، سرا في غالب الأحيان، في مجتمعات تعرف بإقبالها الشديد على هذا النوع من المواد في ظل ثقافة مكبوتة ومزدوجة تمارس في السر عكس ما تعلنه.
ثم تأتي المفارقات الكبرى في مجتمعاتنا العربية ممثلة في ملاحقة السلطات الاجتماعية والسياسية والأدبية  للفكر والأدب، ولا تتورع هذه السلطات عن منع النصوص الأدبية والفكرية فقط، بل وملاحقة كتابها أحيانا كما حدث في مصر مؤخرا بسجن الكاتب أحمد ناجي لنشره نصا في صحيفة أخبار الأدب في القاهرة.
وهكذا يبدو موضوع تناول الجنس في العالم العربي إشكاليا ومحاطا بعناصر عديدة يبدو في التحليل الأخير أنها جميعا تؤدي إلى غياب هذا النوع الأدبي، وإن وجد فسيعامل بوصفه جنسا إباحيا في المقام الأول.

وهذه الخارطة المشوشة التي يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي والثقافي بالقانوني، تروح ضحيتها في النهاية النصوص السردية والقيم الأدبية المتعلقة بها لأنها تأتي في آخر صفحات الأولويات والنقاش.

وبهذا تختلط الأمور بدء من المفاهيم والتحديد الدقيق للمصطلحات الخاصة بمفهوم الأدب الإيروتيكي، وهو بالمناسبة مصطلح شبه مجهول أساسا لدى الغالبية العظمى من القراء العرب، مرورا بالمعايير الدقيقة التي يمكن للقارئ بل والكاتب العربي نفسه في أحيان كثيرة بين المادة الإيروتيكية وتلك البورنوغرافية التي تندرج في إطار الإثارة الجنسية من دون وضع أي اعتبار للقيمة الأدبية والمعايير الفنية، ووصولا لغياب تراكم سردي يجعل من هذه الكتابة لونا أدبيا له معاييره، ويمكن بالتالي أن يخلق حركة نقدية متخصصة ، خصوصا في ظل أزمة نقد عامة لكل ألوان السرد وربما الفنون وليس الأدب فقط.

من أهم وأشهر الكتب التي تناولت الموضوع على سبيل المثال كتاب الجنس في القصة العربية للدكتور غالي شكري، وهو كتاب مهم، يتناول الموضوع بالتأصيل النظري أولا ثم بالتطبيق على مجموعة من النصوص السردية لعدد من أبرز كتاب الرواية عدد من الظواهر الفنية وتحليل سياقاتها في تناولها للعلاقة بين الجنسين. كما أنه قدم مقدمة نظرية تاريخية في بداية الكتاب أوضح فيها الكيفية التي تطور فيها مفهوم العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة بناء على التطورات الفكرية والاقتصادية ومفاهيم الملكية وتأثيرها بالتالي على الظروف الاجتماعية التي مرت بها البشرية، كما تأمل تغيرات دور المرأة في المجتمع على هذه العلاقة أيضا، متتبعا الكيفية التي دون بها الجنس البشري معتقداته حول مفاهيم العلاقة الجنسية في التراث الأدبي بدء بالأسطورة والشعر ووصولا لوسائل السرد المعاصر. ومرورا حتى بالكتب المقدسة نفسها التي تناولت موضوع الجنس في مواضع عديدة؛ قصا أو أحكاما شرعية. أو حتى على مستوى الدلالة المقصودة من قصة مثل قصة يوسف في القرآن الكريم وهي تظهر قوة إرادة شخص في عدم الانسياق لرغباته الجسدية مع امرأة لا تربطه بها علاقة.

ما يهمني هنا على أي حال هو تأمل العلاقة بين شيوع المفاهيم التي تربط الجنس بالحب وبالكرامة الإنسانية وبالندية بين الرجل والمرأة والكيفية التي تتواجد بها الكتابة الإيروتيكية في هذه المجتمعات، التي لا ترى ما ينفرها من الجسد، ولا يخجلها منه أيضا. ولعل هذا ما يفسر شيوع الكتابات الإيروتيكية في أوربا إما كنوع أدبي منفصل يركز على موضوع الجسد والعلاقات بين أطرافها رجالا ونساء أو مثليين، حيث يدرك القارئ طبيعة الكتاب الذي يقرأ، ويعرف الفارق جيدا بين هذا الطابع الإيروتيكي وبين الجانب البورنوغرافي المباشر لألوان أخرى تتناول الجنس بشكل صريح وفج وتركز فقط على موضوع تفاصيل الممارسة الجنسية مثلا.

أقول أنه يبدو أن ثمة علاقة كبيرة بين انتشار هذا الأدب في مجتمع ما أو شيوعه بين ألوان الفنون والسرد وسواها وبين اتسام هذه المجتمعات بعلاقات متحررة من عقد امتلاك الرجل لجسد المرأة، أو لشيوع ممارسات القهر سواء بين الأفراد في المجتمع أو بين السلطة وهذا المجتمع. بل يمكن أن يتم ربما تحليل أدبي اجتماعي لهذه العلاقات من خلال تحليل هذه النصوص على سبيل المثال؟

بمعنى آخر ثمة علاقة مباشرة فيما يبدو على شيوع الأدب الإيروتيكي كلما انعدمت مفاهيم الفحولة الذكورية القمعية، وهو بالتالي ما قد يبرر بشكل كبير غياب الأدب الإيروتيكي في مجتمعاتنا العربية. ولعل هذه الفكرة تحتاج للكثير من التأمل لإعادة تتبع دور المرأة العربية في المجتمع خلال الفترة التي شاعت فيها نصوص عربية إيروسية بالغة القوة.
فكيف يمكن لنا اليوم أن نتأمل مجتمعاتنا العربية، وهل ثمة كتابات إيروتيكية عربية معاصرة تعبر أو ترصد تغيرا في مفاهيم التحولات التي مر بها دور المرأة العربية خلال العقود الخمسين الأخيرة على سبيل المثال، وهل أسهم الحراك العربي خلال فترة ما أطلق عليه الربيع العربي في إثارة موضوع الجسد والعلاقات الجسدية أدبيا وفنيا؟

وكيف يمكن حقا أن نتأمل وجود أي تغير في دور المرأة في ظل تصاعد موجات الانتقام الاجتماعي من جسد المرأة كما رأينا خلال الحراك، في صورة مشاهد مستحضرة على عربة الزمن من ما قبل التاريخ من مظاهر الاغتصاب الوحشي على يد داعش وسبي النساء كأننا نعود لزمن العصور الوسطى، أو اغتصابها على يد أطراف من السلطة وأنصارها في وقائع عديدة في مصر وسوريا؟

ربما يحتاج ذلك للمزيد من التأمل والنقاش


 نشرت في العدد الأول من مجلة فنون - القاهرة 





Sunday, November 6, 2016

كلمة ماجدة الجندي في احتفاء السفارة المصرية في الكويت بالغيطاني

أمسية الاحتفاء بالذكرى الأولى

 للكاتب المصري جمال الغيطاني

المكتب الثقافي المصري – الكويت

كلمة الأستاذة / ماجدة الجندي




  السادة الحضور،،،،

  الشكر والامتنان، حق وواجب في المفتتح لليلة تقام احتفاء بجمال الغيطاني، في الكويت، البلد العربي الذي أدرك قيمة الثقافة، قبل غيرها، في ذروة أن أنعم الله عليه بالثروة،  فكان انحيازه للثقافة عبر اصدارات بارزة ، اسهمت في تشكيل معالم فضاء مستنير، لكل العرب.
 فمن منّا لم يتابع مجلة "العربي" التي كانت تخصنا جميعا بمستواها المتفرد منذ صدرت؟ من منا لم يحرص علي اقتناء "عالم المعرفة"، وقد فرَدَت أشرعتها محلّقة في ثقافات الشرق بقوسه المنفرج الواسع، والغرب بكل أطيافه؟

 من يمكنه أن يتجاهل ريادة كويتية مبكرة، في توظيف المال العربي، لخدمةٍ حقيقيةٍ لانتشار الثقافة الرفيعة، والمعرفة الحقّة، ومنذ عقود بعيدة، بُغية اتساع مساحات الوعي بإصدارت ترتقي بالعقل العربي في مضمار الفن والأدب والعلم والتاريخ، وشتّي صنوف المعرفة؟
 هذه حقيقة تاريخية راسخة، لعبت فيها الكويت وفي فترة مبكرة، دورًا تأسيسيا رفيعا، للإسهام  في ازاحة أرتال من خفوت الوعي الثقافي، في حقبتنا العربية الحديثة، علينا أن نقر بها، ونحتفظ لها بخصوصية تميزها، تتبلور في اختلاف جذري عما جرى، في أقطارٍ شقيقة أخرى، حباها الله هي الأخرى بالإمكانات، لكنها مزجت ما بين السعي الثقافي والأغراض السياسية . 
هذا مُستهل يجعل من لقاء الليلة، حول جمال الغيطاني، حدث يتمتع بالألفة والطبيعية، لأنه لقاء لا أحسبه تذكرة بمرور عام على رحيل أحد ضمائر الثقافة العربية، بقدر ما هو احتفاء" بالقيم"، "والمعاني" التي نذر لها الكاتب جمال الغيطاني نفسه، والتي اتخذها طريقا وَعِرا في الحياة، انحاز خلاله إلى "الإنسان" أينما كان، معبّرا عن أشواق هذا الانسان وحقه في الحرية، والحلم والتحقق، بنزاهة وعدل.

 لست هنا في مقام القول والحديث عن قامة رحلت، أو إحياء لذكرى، بل أقول نحن في حضرة "الحياة"، وانحيازا للحياة التي كان الغيطاني ترجمانا لأشواقنا إليها، عبر إبداع شق له طريقا عربيا، مؤسّسا لتيّار أصيل في فن الرواية، مغاير لما ألفه القارئ عن التيار الغربي الشائع لكتابة الرواية.
كان الغيطاني يعبر عن ذلك المعني بقوله: إنه القادم من أعرق وأغنى تقاليد السرد الإنساني، من تراث ألف ليلة إلى كتابات المتصوفة، فكيف له أن يعرج على غير منبته وجذوره؟
ومن هذا المنطلق، الواعي والمدرك والملم  لـ "كُنه" ثقافته العربية، أضاف الغيطاني للثقافة الإنسانية.
كان يقول أن أحدا لا يعرف جنسية "ابن خلدون"، ولا التوحيدي، وأن أحدا لا يهتم أين ولد ابن بطوطة، وتحت أي شمس فتح ابن الفارض عينيه لأول مرة .. ولا .. ولا، المهم أنهم يمثلون روافد ثقافتي العربية.

أقول إن الغيطاني كان جذره مصريا عربيا انسانيا، بامتياز، نفذ إلى"المشترك"، القاسم، مابين البشر، إلى "الجوهر" الثابت الذي لا يختلف عليه الإنسان أينما كان موطنه، أو كان مآله. واحد من قامات الثقافة العربية، و ضمائرها، التي "أنشدت الحياة" في كل ماكَتَبَتْ. فإن توقف عند البصّاصين في "الزيني بركات"، فلأن الحرية "قيمة" أوليّة، لا يشابهها إلا الشهيق والزفير، وإن فضح الفساد في "حكايات المؤسسة"، فلأن الفساد  يجور على "العدل" ويهدم البنيان. وإن طال وقوفه عند رقرقات القلب كما في "الصبابة والوجد"، فلأن الحب هو ما يرطب ويعيننا علي جفوة المعاش، وإن نزفنا مع  وجع "الفقد" الإنساني كما في "تجلياته"، فلأن"الموت" هو الحقيقة التي يقف إزاءها كل البشر عاجزين. وإن سطر دقائق وتفاصيل حرب الوطن في "الرفاعي" و"أرض أرض"، فلأن إدراكه لقيمة الأوطان، والدم المدفوع للحفاظ عليها، كان حاضرا كقيمة ثابتة لا تتزحزح، ولا تخضع لأي أمور نسبية، منذ وعى الحياة وحتي الثامن عشر من أكتوبر ٢٠١٥، يوم اختاره الله سبحانه وتعالى في ذروة تجليه إبداعا، ولحكمة يدركها سبحانه وتعالى.

لكل مصري .. لكل عربي .. بل لكل إنسان، نصيب وحق ومساحة في جمال الغيطاني، ربما تفوق ما لنا، نحن أسرته، محمد الديبلوماسي بالخارجية، وماجدة الباحثة بجامعة شيكاغو، وانا التي لا أعرف توصيفا أو تعريفا لموضعي عبر اثنين واربعين عاما، وإن كنت أحمدالله بعدد انفاسي، أن منحني فرصة العيش في حضرة "الحياة". حضرة جمال الغيطاني وحتى آخر لحظة من عمري. وإن كان لي أن أقول ولو جملة تخصني فأستأذنكم البوح أنه توّجني "ملكة"، وأنه "نِعَم" ربي الكريم المستمرة.
 عفوا إن أطلت، وعُذرا، إن قصرّت، فجمال الغيطاني "معنى" اتسع، وضاقت ازاءه.. حروفي. 
وامتناني الذي بلا حدود، إليكم جميعا.

ماجدة الجندي 


Thursday, November 3, 2016

إهانة المؤلف


تغريدة

إهانة المؤلف!



إبراهيم فرغلي


يتحدث الكتّاب عادة عن المسؤولية والحرية، وكذلك عن الحقوق، حقوق الإنسان وحرية التعبير، وحقوق الفقراء في العيش الكريم وغيرها. بل إن جانبا واسعا من المجتمع يرى أن بين أدوار ومسؤوليات الكاتب كل هذه الجوانب.
وبالفعل فأغلب الكتاب في العالم يفعلون ذلك، وبحس بالمسؤولية بوصف هذه المطالب روح الإنسانية التي ينشدونها، وهي مطلب اساسي لكل إنسان.
لكن ماذا عن حقوق الكاتب، وبينها حقوقه الفكرية؟ من يملك أن يطالب بها؟ لا أقصد هنا طبعا حريته في التعبير، أو حقه في أن يعيش حياة تتيح له التفرغ للكتابة، فهذا قد لا يزال من قبيل الترف. لكني فقط أقصد حقه في الملكية الفكرية؟ حقه في الابتكار والإبداع.
من يملك مثلا أن يطالب الناشرين بزيادة حقوقه من نسبة هي الأقل بين كل نسب العاملين في انتاج الكتاب الذي يعتمد بالكامل على أفكار المؤلف؟ ومن يملك أن يطالب دور النشر بمكاشفة المؤلفين بحقيقة نسب توزيع كتبهم بشفافية؟ وكيف يضمن الكاتب أن يستمر ناشر في طباعة وإعادة طباعة نسخ من كتاب المؤلف من دون إبلاغ المؤلف لضمان الهروب من الضرائب أو من دفع مستحقات طبعة جديدة للمؤلف؟
وبتتبع تاريخ العلاقة الطويلة بين الناشر العربي والكاتب العربي يشعر المرء أن هذه العلاقة نتيجتها الوحيدة هي ثراء الناشر على حساب إفقار المؤلف. علاقة غريبة تبدو مثل علاقات الاستعمار. يحصل الناشر على حق طبع كتاب قد يكون قد استهلك من حياة المؤلف سنوات من البحث والتركيز والانشغال والتفكير والعمل المضني، ثم يعتبر الناشر أن علاقة المؤلف انتهت بالكتاب بعد منحه نسبة ما نظير هذا التعاقد، وأحيانا بدون نسبة، بل وفي بعض الأحيان، كما نسمع ونرى، يدفع المؤلف مرتين: مرة من أجل الطباعة ومرة من أجل شراء نسخ.
ثمة شئ مهين جدا في الصيغة الراهنة التي تجمع بين الناشر والمؤلف. لا توجد صيغة تعاقد واحدة متفق عليها مثلا بين الناشرين في العالم العربي، والاتفاق الوحيد على نسبة عشر ارباح الكتاب. ولا توجد صيغ تضمن رقابة عدد النسخ الفعلية المطبوعة من اي كتاب وإعلام المؤلف بها.
واللافت للانتباه أن الصيغة الوحيدة المراقبة، والتي تتضمن ضمانات عدد النسخ ونسب المؤلف من حقوق الملكية الفكرية، هي صيغ النشر لدى دور النشر الحكومية!
صحيح أن أغلب الناشرين يتشكون من اسعار الورق والجمارك وأن الكتب المطبوعة لا تباع أو توزع، إلى آخر هذه الكلاشيهات الشهيرة على ألسنة الكثير من الناشرين للأسف، لكن اللافت أنه لا توجد دار نشر واحدة توقفت لأنها متعثرة، أو لأن حتى أوضاع أصحابها المالية تعرضت لأي هزات اقتصادية. الشكوى مستمرة باستمرار طباعة عناوين جديدة، وكتب جديدة، والنشر مستمر واعتبار المؤلف الضحية الوحيدة في هذه العملية كلها مستمرة، وهو أمر مثير لأسئلة عديدة.
لن يجد المؤلف من يطالب بحقوقه، ربما لأنه من العيب أن يطالب من يفترض به المطالبة بحقوق الآخرين والمستضعفين أو يطلب لنفسه حقا.
عموما، هذه الكلمات مطالبة لحقوق المؤلفين، ومحاولة لإثارة قضية حقوق الملكية الفكرية واستمراء الناشر لإهانة المؤلف، إلا من رحم ربي.

نشرت المقال في جريدة القاهرة في 1 نوفمبر 2016


Tuesday, October 25, 2016

صمت بوب ديلان.. الرد البليغ على نوبل

تعقيبا على مقال سيد محمود

نوبل بوب ديلان دفعة لإنعاش وسيط يعاني تجاريا

وصمت صاحب الجائزة أبلغ رد على نوبل

إبراهيم فرغلي




أعجبني مقال الصديق سيد محمود، رئيس تحرير القاهرة، العدد الماضي عن جائزة نوبل تحت عنوان "بوب ديلان ونوبل ..حبّة فوق وحبّة تحت"، لأنه حاول أن يجد في اختيار الجائزة سياقا مختلفا وواسعا وجديدا، ينحاز لمفاهيم ما بعد الحداثة، ويكسر سلطة النقد التقليدية، ويصدم "أولئك الذين ينظرون للأدب نظرة نخبوية ضيقة"، كما أنه، في تبريره لاختيار الجائزة المدهش، يشير إلى أن أنصار التحيز لهذا الاختيار يرون فيه تفكيرا إيجابيا خارج الصندوق.
وبالرغم من أن المقال بدأ بعرض الموقفين، المعارض والمؤيد، تجاه الجائزة إلا أنه مال في ثلثيه الأخيرين للانحياز لاختيار اللجنة لبوب ديلان. مؤيّدا رأيه بأن الجائزة في اختيارها الجديد: "تستعيد قدرتها على مقاومة الأعراف التقليدية والتعاطي بنوع من التقدير للثقافة الجماهيرية التي تعامت عنها النخبة طويلا، سيما تلك المعبرة عن ميول سياسية محبطة، وحس فردى هش، إنها مواجهة مع طبقية فحولية مترسخة وبحسبما أشار الناقد السعودي عبد الله الغذامي فى كتابه «النقد الثقافي» فإن هذه الطبقية ظلت متمسكة برفض الطارئ والجديد، بما أنه مخالف للقياس الذوقي المؤسساتي، وهو رفض يتحول بالتالي إلى رفض للآخر وحرمانه من حقه فى التعبير عن ذاته، وفى ممارسة ذائقته الخاصة، وهذا يتكامل مع سابقه فى تكوين طبقية فوقية تشكل سورًا من الحراسة يحمى قلعة الثقافة من الغزاة. ولا شك أن رفض ديلان في عالمنا العربي يعبر بوضوح عن هذه الفحولية التى تقاوم ديمقراطية الثقافة بعدما تأكد حضور الديكتاتورية السياسية، فالسمة ما بعد حداثية في الفنون تجلت منذ أكثر من ثلاثين عاما في إلغاء الحد الفاصل بين النخبوي والشعبي، ومحو للحدود بين الفن والحياة اليومية، وإزالة التسلسل الهرمى بين الراقي والجماهيري في الثقافة الدارجة، وتفضيل الأسلوب الانتقائي المشوش، وتمازج الثغرات والمحاكاة الساخرة، والمعارضة والتهكم والسخرية والهزل والمزاح والنظر للثقافة بوصفها احتفالا".
وحتى لا أكرر ما جاء بالمقال أحيل القراء للمقال في العدد الماضي. لكني أعتقد ان الانحياز لمبررات اللجنة من المنطلقات الما بعد حداثية التي أشار إليها سيد محمود، واستشهد فيها بمقولات الغذامي تنقصها بالضرورة اعتبارات أخرى عديدة، من بينها النظر إلى السياق الرأسمالي المصاحب لصعود موجة ما من الثقافة الشعبية، بشكل عام، والصعود هنا بمعنى دعمها كما يحدث في إنتاج السينما التي أبرزت البطل الشعبي، بمواصفاته الجديدة، المنتزعة من الأحياء الشعبية الجديدة المسماة بالعشوائيات، بوصفه بطل الحي العشوائي بكل القيم السلبية التي يتسلح بها، وأبرزها امتلاك القوة غير الشرعية وعشوائية القيم التي يؤمن بها واضطراب حياته قيميا، ودمجها مع أغنيات "المهرجان" الشعبية التي أصبحت صرعة جديدة بعد صرعات مثيلة سادت واختفت بعد أن حققت لمنتجيها الأرباح الطائلة، أو عبر إنتاج ألوان محددة من الموسيقى الشعبية ودعمها بالإنتاج والدعاية، كما حدث في الدعم الإعلامي لعدد من الظواهر الشعبية في الإعلام المصري مثلا على مدى العقدين الماضيين، وانتقال هذا الدعم للسينما من خلال قيام المطربين الشعبيين بالغناء أو حتى التمثيل في الأفلام السينمائية. فهذه الظواهر لا يمكن تأملها من دون وضع اعتبار طبيعة رأس المال الذي يدفع بها، من أجل نوع من البحث عن الأرباح التي لا تحققها اليوم السينما الرفيعة، على حساب القيم المتعارف عليها في الطرب أو في السينما أو كلاهما معا.
وشخصيا لا أستطيع تأمل ظاهرة نوبل هذا العام من دون الأخذ في الاعتبار التغيرات المرعبة التي يمر بها فن الموسيقى في العالم، وكلامي هنا ينبني على بعض أفكار إريك هوبزباوم، المؤرخ البريطاني (1917- 2012)، فالموسيقى، مقارنة بألوان اخرى من الفنون والثقافة مثل الفن التشكيلي والعمارة والأدب المطبوع، تأثرت بشدة بسبب التغيرات التكنولوجية سواء على مستوى نوع الموسيقى نفسها، أو على مستوى الوسيط، أي التحولات التي مرت بها سبل الحفاظ على أو إعادة تسجيل الموسيقى من الفونوغراف إلى النسخ الإلكترونية التي تمثل اليوم لونا من الرعب لسوق إنتاج الموسيقى في العالم بسبب تأثر مبيعات الألبومات الموسيقية تجاريا بشكل غير مسبوق، بسبب عدم قدرة المنتجين الموسيقيين على احتكار حق الأداء، بسبب انتشار التسجيلات على اليوتيوب ونسخ "الأوديو" غير الرسمية.
 وكونها، في الوقت نفسه، مقارنة بوسائط حفظ الأدب المكتوب والعمارة والفن التشكيلي التقليدي، ستحتاج لوسائط جديدة غير السائدة الآن مستقبلا بسبب التغيرات التحديثية المستمرة التي تطال برامج حفظ الموسيقى الإلكترونية والافتراضية. وهو ما ينسحب بالمناسبة على ألوان الفن التشكيلي الما بعد حداثي التي تواجه نفس المأزق خصوصا الفيديو كليب والوسائط الفنية الشبيهة، فهي تنتج على وسائط ليس لها نفس قدرة صمود العمارة أو حتى الوسيط الكتابي الورقي.
الأمر الثاني أن اختيار لجنة نوبل لنوع من الفن لا يمكن الاستماع إليه إلا بلغته لأنه يفقد جزء كبيرا من قيمته إذا استخدمت لأدائه لغة أخرى، لأنه "أغنية شعرية" مرتبطة بأداء موسيقي، لا يمكن الاستماع إليها بنفس النص إذا ترجمت للغة أخرى، ما يعني أنها ستظل مسجونة في زنزانة لغتها، وربما لن تُحدث تأثيرا وجدانيا إلا للعارفين باللغة الإنجليزية. وصحيح أن الموسيقى لغة عالمية كما يقال، لكن بما إننا هنا بصدد "شعر غنائي"، فربما يكون هذا المنجز الغنائي غير قادر على الصمود أمام اختبار الزمن، ولا يمكن مقارنته بقدرة صمود نصوص شكسبير مثلا التي تتناسل وتصل لقارئها أو تشاهد على المسارح منذ أربعة قرون.
وما أنقذ نصوص شكسبير ونصوص التراث السردي عموما في اختبار الزمن تمثل في عمليتي الطباعة في كتاب ورقي قادر على إنقاذها باستمرار، والترجمة، الآن وفي المستقبل.
بالتالي فإن المنجز الذي منحت له جائزة نوبل هذا العام ممثلا في أغنيات بوب ديلان، ربما للمرة الأولى ستظل منجزا لا يمكن نشره في لغات مختلفة.
ولهذا فإن ما يراه البعض خروجا من أسر التقليدية، وانحيازا لأشكال (فن -أدبية) جديدة، قد لا يزيد عن كونه ربما دفعة، على عربة نوبل، لإنعاش سوق تجاري تهدده التكنولوجيا الإلكترونية التي تعد أبرز ما أنتجته ما بعد الحداثة، عبر مغامرة غير محسوبة أو لعلها محسوبة جيدا، تعرف أن مثل هذه الاختيارات تجد دائما من يبرر لها تحت لافتات التجديد، والخروج من أطر الأنساق التقليدية، ومقاومة الفحولية والديكتاتورية الثقافية.
 ومدّا لهذا القوس ينبغي علينا أن نتساءل، إذا ما صدقنا أن هذا الاختيار أدبي بامتياز (ولو بالمعنى الما بعد حداثوي)، هل يمكن أن نثق حقا في أن بوب ديلان، وليس أي موسيقي وكاتب أغنيات آخر من اليابان مثلا أو من الصين أو مصر والعالم العربي أو حتى من امريكا أو بريطانيا قد يكون هو الأحق بالجائزة؟ ما هي الخارطة التي تحركت فيها اللجنة لكي تصل إلى اختيار يمتح من الثقافة الأنجلو أمريكية فقط، وهل كان بين المرشحين شعراء من كتاب الأغاني من ثقافات أخرى غير الأنجلو أمريكية؟ أم أن هذه المغامرات هي مجرد ألوان جديدة من صور تفتيت القيم بشكل عام، في مجتمعات صارت تعاني اليوم من فكرة تسييل وتمييع كل الأفكار لصالح ما يدعى الذائقة الشعبية؟
السؤال الأهم الآن وهو إذا سلمنا جدلا مرة أخرى في قدرة هذه المغامرة التي قامت بها لجنة نوبل لهذا العام، على التأثير في "قيم وتقاليد" ما يسميه أنصار المغامرة "القيم التقليدية الأدبية"، فما هو المسار الذي سوف يسلكه مستقبل الأدب والفن؟
لعل الإجابة هنا تتمثل في بعض المنجزات التي قدمتها صرعات الفنون التشكيلية التي سادت في الخمسينات والستينات في أوربا وأمريكا ووصلتنا في التسعينات، وكان بين شواهدها بعض الجرائم الفنية التي ارتكبها مغامرون في محاولات لمزج الواقع بالفن تحت عنوان "المفاهيمية"، من بينها أتذكر الآن وعلى سبيل المثال، فضيحة قيام فنان شاب في مصر يوما، مطلع التسعينات، باستخدام عضو بشري من جثة ميت في عمل فني. وشارك بها في صالون الشباب. وهذه التجربة وغيرها مما شاع باسم "الفن المفاهيمي" جاء سليلا لتجربة مارسيل دوشامب الذي دشن ما عرف باسم "الفن جاهز الصنع"، حين وضع "مبولة" من تلك المتواجدة في المراحيض العمومية في معرضه الشهير. ولا يمكن إعادة تأمل هذه التجربة وما امتد خلفها في إطار يبتعد عن كونها تجارب كانت تحارب الفكرة الجمالية نفسها. بالرغم من أنها استقبلت، بطبيعة الحال، من أنصارها ومروجيها، باعتبارها إطارا جديدا لمحاربة الفحولة التي تحارب ديمقراطية التجربة الفنية!
هذا المثال ليس تقليلا من شأن موسيقى بوب ديلان، بل يخص تعميم "تعريف ثقافي جديد" للأدب، لا يبتغي سوى تسييل القيم، كما شأن أغلب منجزات ما بعد الحداثة، بدعوى أن مؤسس الجائزة لم "يحدد" مفهوم الأدب المقصود!
المثير للتأمل هنا في تقديري أن التحيز لقيم "الديمقراطية الثقافية" بتبني مقولات الغذامي جاء تماما في غير محله، لأنه قد يكون مقبولا مثلا في الدفاع عن منجز مثل أعمال الكاتبة سفيتلانا اليكسييفيتش، لكنه هنا حين يثار على هذا النحو من دون الالتفات إلى أن الوسيط الذي تنشغل به الجائزة هو "حقل صناعة الموسيقى"، فإنني أشك كثيرا في أصالة فكرة التفكير خارج الصندوق هنا، لأن الخروج من الصندوق كان لا بد أن يحيلني لتأمل المناخ العام للموسيقى في الولايات المتحدة، والاطلاع على التقارير التي تتناول حجم الخسائر الهائلة التي يمنى بها هذا القطاع، لتأمل ظلال منح هذه الجائزة على هذا القطاع.
فبين تقارير كثيرة نشرت حول الموضوع نشرت صحيفة Buisness insider تقريرا عن الخسائر الهائلة التي مني بها قطاع صناعة الموسيقى الأمريكي بدء من عام 2009 مع سيادة ألوان التخزين الموسيقية الالكترونية، كتبه مايكل دي جوستا جاء فيه أن الأمريكيين قبل عشر سنوات كانوا ينفقون ثلاث أضعاف ما ينفقونه اليوم على الموسيقى، وأنهم كانوا ينفقون ضعف ما ينفقونه اليوم على شراء المنتجات الموسيقية قبل 26 عاما.
الأمر الثاني أننا بالتأكيد اليوم، وغدا لا يمكن أن نشك في إمكانية توفير عروض مستمرة لمسرحيات شكسبير، لكن الأمر بالنسبة للموسيقى لم يعد على هذا النحو بالنسبة للموسيقى الكلاسيكية مثلا، لأن غالبية جمهور عروضها الحية على المسرح من كبار السن، ولا يجد الجيل الجديد بشكل جماهيري ما يغريه للذهاب للاستماع لحفل موسيقى كلاسيك مقارنة بإغواء الفكرة لفرقة بوب معاصرة حديثة، ما يجعل سوق الموسيقى الكلاسيكية الحية بالنسبة لمنتجيها في انحدار، وإذا كانت موسيقى البوب، كما يشير إريك هوبزباوم قادرة على إحياء وإنعاش سوقها حتى الآن ببراعة، فالأمر يختلف بالنسبة لموسيقى سادت خلال أكثر من ثلاثة أو اربعة عقود.
وربما يكون في تقديري، من خلال منح جائزة أدب مرموقة، لموسيقي ينتمي لعقد الستينات، محاولة ذكية لإنعاش سوق يحتاج إلى الكثير من الدفع من أجل إنقاذ مستقبله التجاري.
وتاليا أعتقد ايضا أن الخروج من الصندوق يستدعي تأمل تجربة ديلان التجارية في السنوات الأخيرة، وهو قدم إعلانات تجارية لعدد كبير من المنتجات الأمريكية بينها مثلا الملابس الداخلية لشركة فيكتوريا سيكريت الشهيرة، ومشروب بيبسي (الصرعة الجديدة اللاحقة على كوكاكولا)، وسيارات كاديلاك، وسيارات كرايزلر. وفقا لتقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية. ولا يمكنني أن أفكر في نوبل ايضا من دون تأمل تأثير المنتجات "الأمريكية" التي روج لها ديلان في الإعلانات التجارية.
على أي حال، فإنني أعتقد أن أبلغ تعليق على اختيار لجنة الجائزة لهذا العام هو رد الفنان بوب ديلان نفسه، الذي لم ينطق بحرف ولم يرد على اتصال مؤسسة الجائزة وحتى لحظة كتابة هذا المقال، مؤثرا التجاهل والصمت التام. وهذا حقا هو الصمت البليغ.



Wednesday, October 12, 2016

ضد التفاهة


تغريدة


ضد التفاهة


إبراهيم فرغلي


أعتبر نفسي أحد المؤمنين بأن المستقبل يصنعه الأمل، وأحد المنحازين للتفاؤل مهما ضاقت الظروف، ومهما كان المناخ العام دافعا للتشاؤم. ومعيني في ذلك ليس إلا إعادة قراءة وتأمل دروس التاريخ.
في حوار جمعني مع الصديق سعود السنعوسي مؤخرا حول بعض كُتّاب العالم، أشار إلى عدد ممن لم يسبق لي القراءة لهم، وتطرق الحوار إلى الكتّاب اليابانيين، وحكى لي عن رحلتين قام بهما إلى بيتي أو متحفي الأديبين البارزين: يوكيو ميشيما، وياسوناري كاواباتا. ووصف لي تفاصيل المشقة المرعبة التي واجهها في واحدة من الرحلتين بسبب البرد وابتعاد المسافة حيث يقع البيت في منطقة بعيدة عن كيوتو بنحو خمس ساعات.
في أثناء استعادتنا لكتابات اليابانيين، قلت له أنهم من بين كتاب العالم الأكثر إنصاتا لكل كائنات الحياة بشرا وحيوانات، ونباتات او جبالا. ولهذا تأخذ نصوصهم هذا الطابع الوجودي العميق. وأظن أن هذا الطابع ليس له مثيل في ثقافات أخرى في العالم.
حين عدت لمراجعة تاريخ اليابان، تبينت أن النظام الياباني لم يتمكن من معجزته التنموية إلا بمنهج تعليمي يعلي من قيم المعرفة والعلم والبحث والاتقان، ولكنه، لم يكتف بالعلم فقط، بل حماه بمنظومة قيم أخلاقية رفيعة، تعلي من فكرة الشرف الشخصي، وبالتالي جعل الرقيب الذاتي للفرد على شرفه الشخصي هو الضمير الأعلى المتحكم في أخلاقيات المجتمع، ولعل ذلك مبرر ما نسمعه من قصص انتحار اليابانيين العديدة لأسباب تتعلق بالإحساس بالفشل أو امتهان شرف المهنة التي يمتهنونها.
ولهذا يبدو جليا أن التفاهة ليست من بين مفردات هذا المجتمع. وبمتابعة تجارب نهضوية أخرى مثل تجربة سنغافورة سنجد أن رئيس الوزراء الراحل ومؤسس سنغافورة الحديثة لي كيوان يو قد جمع النظام التعليمي الابتكاري الرائد مع نظام قيمي يهتم بإبراز القيم الكونفوشيسية خصوصا ما يتعلق بالتقاليد الخاصة بتقديس الأسرة وانعكاسها على المجتمع، واعتبارها اساسا للعمل في المصانع وسواها من وحدات الإنتاج. إضافة لفكرة احترام التنوع والاختلاف.
ولا شك أن المنظومتين معا؛ العلمية والاجتماعية الأخلاقية، أوجدتا بذورها في النظام التعليمي، أي من المدارس، ومن المؤكد أن إعداد وتأهيل أجيال من المعلمين المتقنين لنظريات التعليم والعقلانية، والمخلصين لفكرة الحفاظ على المجتمع؛ ببذر القيم الرئيسة في أطفال المدارس باعتبارهم اللبنات التي سيرتكز عليها مستقبل المجتمع، قد حظى باهتمام كبير جدا يجعل مكانة المدرس أو الأكاديمي في اليابان تماثل، أو ربما تعلو، موقع رئيس الوزراء. لأن رئيس الوزراء نفسه لا بد أن يتمتع بمزايا هذا النظام التعليمي حتى يتمكن من أن يتقلد منصبا كهذا، ويسهم بالتالي في استمرار مسيرة المجتمع الياباني في التقدم المستمر نحو الحداثة والرفاهية. 
هذه المنظومة الأخلاقية الرفيعة التي يتحلى بها المجتمع الياباني، ليست النواة الأولى لكل ما حققته النهضة اليابانية فقط، بل هي، كذلك، أداة هذا المجتمع في مواجهة وحشية الكوارث الطبيعية من براكين أو زلازل، بل وحتى الضربات النووية المجرمة، والنهوض عقب كل كارثة منها، أكثر قوة وقدرة على محو آثار الدمار بالمزيد من آثار الحياة.
مجتمع لا يعرف اليأس ولا الابتذال أو التفاهة أو الفساد لا بد ان يكون عملاقا على مستويات عديدة.


 نشرت في القاهرة في 11 أكتوبر 2016

Saturday, October 8, 2016

قبيلة الثورة والغالب والمغلوب


تغريدة

الغالب والمغلوب

إبراهيم فرغلي



خلال الاحتفاء الشعبي بمرور 39 عاما على انتفاضة 17 و18 يناير 1977، التي تعد واحدة من أقوى الانتفاضات الشعبية ضد السلطة الحاكمة في عهد الرئيس السادات، تناول العديد من جمهور وسائل التواصل الاجتماعي المناسبة بالاحتفاء. وبغض النظر عن المعنى المقصود من استدعائها، فقد لفت انتباهي قيام البعض بتدوين بعض الشعارات التي نادى بها الغاضبون تعبيرا عن رفضهم لسياسات رأى الشعب أنها تأتي على حساب الفقراء وتزيد من تجويعهم.
توقفت متأملا شعارا بثه صديق مقرب استدعاه من تراث الهتافات الشعبية آنذاك يقول: "لما الشعب يقوم و ينادي.... يا احنا يا هما في الدنيا دي.. شوف من فينا هيغلب مين".
وبعيدا عن كونه شعار يأتي من زمن آخر، وعبر جمهور أغلبهم اليوم في عقدهم السادس تقريبا، يرفض سلطة بعينها في ظروف تاريخية محددة، لكنه بدا لي ملخصا لأزمة عميقة في ذهنية "المعارض" المصري.
فالشعار يشير إلى عقيدة معارضة تنبني على وضع السلطة كلها في كفة وكل المعارضة في أخرى. وتصور العلاقة بينهما كعلاقة خصمين لا يمكن أن "ينتصر" أحدهما إلا بإبادة الآخر.
وعلى مستوى التعبير عن القهر فإن الشعار يجمع بين جماهير الشعب عاطفيا، ضد إرادة المستغلين والفاسدين، مع الأخذ في الاعتبار أن تلك السنوات شهدت وجود كفاءات سياسية وحزبية وفكرية  في كل من معسكري السلطة والمعارضة معا.
أعتقد أن هذه الذهنية تعبر عن نوع من المراهقة السياسية التي لم تتمكن من تغيير الخطاب الذي استلبته من تاريخ المقاومة الوطنية ضد الاستعمار والاحتلال، فاستخدمته كما هو، من دون تمييز من الفارق بين معارضة الاحتلال التي تأخذ شكلا حادا، دونه الموت، من سلطة الاحتلال، وبين طبيعة المعارضة في حالة وصول حكومة وطنية إلى السلطة لا يمكن النظر إليها كعدو، مهما اختلفنا أو اتفقنا على الممارسات الفاسدة أو الجاهلة أو الفاشلة التي تمارسها، لأنها في الحقيقة، هي تمثل بديلا سياسيا من المفترض أن تعمل المعارضة على إقصائه لتقدم البديل المتضمن للسياسات والإجراءات التي تود أن تقدمها كبديل للسلطة الحاكمة.
وبافتراض نجاح قيادات ثورة 1977 ، فهل المفترض أن تعد نفسها حكومة خصومة مع كل من قام بعمل سياسي في عهد السادات؟ وهل يعني ذلك أن يتحول الجمهور لخصوم مع السلطة الوطنية الجديدة إذا ما خالفت ممارساتهم توقعات الشعب أو مصالحهم؟
أظن أن هذا الشعار يحتاج للمراجعة، في ظل مناخ يفتقر الحد الأدنى من الثقافة السياسية كما يتجلى اليوم على الساحة السياسية الهشة، والبرلمان الجديد خير مثال. إضافة إلى أن ما يعبر عنه هذا الشعار ليس مجرد رفض سياسات بعينها بقدر ما يؤسس ويمثل رؤية أحادية تذكرنا بالخطاب الإقصائي السلطوي من جهة، وذلك المعبر عن خطاب المتأسلمين الذين يقتلون كل من يخالفهم تاليا.

في ظل ثقافة سياسة مراهقة كهذه سيكون من الطبيعي جدا، وربما البديهي أن يسود المناخ العام، الثقافي والسياسي، مفهوم التخوين كاتهام وحيد وبديل يستخدمه كل فصيل أو جماعة أو طائفة أو جماعة سياسية مع معارضيهم، ثقافة قبلية تنتهج قيام قبيلة أنصار السلطة أو قبيلة الثوريين بإقصاء كافة القبائل الأخرى والعكس صحيح. 

مصطفى ذكري ويوسف رخا



تغريدة

تجربتان في اللغة

إبراهيم فرغلي

بعيدا عن القضية المستهلكة التي تأخذ أحيانا شكل الصراع حول الفصحى والعامية، هناك تجربتان في تطوير لغة السرد الأدبي، أوليهما الكثير من الاحترام، هما تجربتا الكاتبان الموهوبان القديران مصطفى ذكري، ويوسف رخا.
السبب الأول في احترامي لهاتين التجربتين أن أيا منهما لم يقدم موضوع اللغة وتطويرها بتعسف أو افتعال، بقدر ما أنهما جاءتا في سياق التجربة الأدبية. وهذا لا يعني أنهما التجربتين الوحيدتين المتعلقتين باقتراح تجارب سردية مختلفة تعتمد وتتضمن تطويرا للغة السردية، فهناك في الأدب المصري المعاصر تجارب كثيرة مهمة، لكني أتوقف عند الأحدث والأكثر معاصرة.
اللغة عند مصطفى ذكري هي جزء أساسي من نسيج التجربة السردية. تشعر أن كل كلمة مختارة بدقة وبعناية ومعرفة. كل كلمة ينبغي أن تصنع في النهاية أسلوبا لا يمكن أن يماثل أسلوب كاتب آخر، وهذا هو ما يسميه ذكري شرف الكاتب. وهو توصيف شديد الدقة.
بهذه اللغة التي بدا جليا انشغال ذكري بها منذ بواكير أعماله نحت أسلوبه الخاص، كما أن اهتمامه الشديد بالتفاصيل، أو بالأحرى ولعه بالتفاصيل أثر كثيرا أيضا في طبيعة اللغة السردية التي أنتجها في نصوصه.
على سبيل المثال، سنجده حتى حينما تأثر بألف ليلة وليلة في روايته التي صدرت مطلع التسعينات "هراء متاهة قوطية"، انشغل بحرف واحد هو حرف "الواو"، وهو حرف يوسم أو ينظر إليه بشكل دوني، بتعبير ذكري، لكي يوظفه في المناطق اللغوية البلاغية الضعيفة في اللغة، أي لكي يقوم بما يسميه "هتك البلاغية" الشائعة في ألف ليلة وليلة.
بالإضافة إلى أن نصوص مصطفى ذكري في غالبيتها العظمى تميل لأن تكون مكثفة، وهو ما يحتاج إلى طاقة خاصة لشحن الكلمات بطاقة التكثيف، واختيار الكلمات بأعلى درجة من الحساسية.
بالنسبة ليوسف رخا، فقد مارس أكثر من شكل أدبي، لأنه بدأ بالشعر، ثم انتقل إلى السرد، وأدب الرحلة، وفي كل هذه التجارب بدا جليا أنه مشغول بطرق تعبير فنية مختلفة، ولذلك فحتى حين كتب تجاربه فيما قد ينضوي تحت مسمى أدب الرحلة في "بيروت شي محل" مثلا، أو في كتابه عن تونس أو غيرهما، لم يكن مشغولا برصد ما يرى، بقدر ما بدا جليا انشغاله بالكيفية التي يوجد لهذه الملاحظات وسيلة بلاغية، أو أسلوب لغوي يلائم النص، ويقدم تجربة لغوية جديدة.
وطبعا كانت الطاقة المبذولة في اختلاق بلاغة أدبية جديدة أكثر وضوحا في روايته "الطغرى"، لأنه حاول فيها المزج بين اللغة السائدة في مدونات المرحلة العثمانية مع اللغة المعاصرة تدوينا وشفاهة على مستوى الخطاب اليومي، من دون الوقوع في فخ التحيز لأي منها، لأنه قدمها فقط لخدمة النص، ولإيجاد شكل يناسب مضمون الرواية، وبلغة تخصها وتعبر عنها.
لا ادعاء هنا بأهمية الفصحى أو العامية، ولا تحيز بين الاثنين، بل فقط محاولة لغوية تأتي كجزء من نسيج النص الأدبي، سواء كان الأمر في أعمال مصطفى ذكري، أو في أعمال يوسف رخا.
أما السمات الفنية الدقيقة التي تميز هاتين التجربتين اللغويتين شديدتي الأهمية بين تجارب النصوص السردية المعاصرة فسوف أعود لها تفصيلا، ولكل منهما على حدة في المقالات اللاحقة.

 القاهرة في سبتمبر 2016