Wednesday, November 4, 2015

متاحف الشائعات


تغريدة

متاحف الشائعات!


إبراهيم فرغلي




تصلح قصة الشائعات التي أطلقت حول الكاتبة الفلسطينية اللبنانية الراحلة؛ مي زيادة (1886-1941)، على امتداد الأسبوع الماضي أن تعبر عن الكثير مما يجري حولنا اليوم، فقد أطلق محرر صحفي كذبة صحفية، تقول أن منزلها ومحتوياته سيعرض للبيع في مزاد علني، وأن بين المحتويات رسائل الأديبة الراحلة إلى ومن كبار المثقفين المصريين والعرب. وتنقلت الكذبة كيقين، بين المثقفين على وسائل التواصل الاجتماعي، وسرعان ما انطلقت نداءات لعمل حملة تضامن، لوقف البيع، من قبل بعض كبار المثقفين، ووازاها على أرض الواقع، أيضا، مسيرات لعدد من الصحفيين الذين انطلقوا للعنوان المذكور للتحري عن الأمر، حتى تبين للجميع أن الخبر ليس سوى شائعة سخيفة أطلقها صحفي أراد الاحتفال بذكرى الأديبة الراحلة على طريقته الخاصة.

هذه واقعة جديدة تدلل على المستوى الذي وصلت إليه الصحافة في مصر، والتي أصبحت تقوم على إطلاق الشائعات، ولم تعد مقصورة على كاتبة راحلة، أو مثقف معاصر، بل تمتد إلى الدولة والفساد، والاقتصاد، والفن والسياسة، مما يجعل كل خبر وأي خبر أو معلومة قابلة للتصديق كأنها يقين، وأن تكذب، في الوقت نفسه كأنها كذبة العام. لكن الفارق في تناول نفس الكذبة أن الفرق المتناحرة سوف تستخدم الشائعة وفق هواها، وميولها العاطفية السياسية. وحتى بعد أن تتبين حقيقة الشائعات لا يعود أحد عن رأيه لأنه في الحقيقة يستخدمها، لهوى في نفسه،وليس اهتماما بالحقيقة ولا بأهمية البحث عنها.
والأهم ألا تكون وزارة الثقافة عرضة لشائعات كهذه، وأن يكون هذا الخبر دافع قوي للوزراة لعمل خطة متكاملة لرصد منازل ومكتبات وتراث أبرز الكتاب والمثقفين والفنانين والمفكرين المصريين، وعمل متحف ضخم لنقل تراث من لا يمكن تحويل منزل ورثته إلى متحف شخصي.
لماذا لا تتبنى الوزارة مشروعا لتخصيص أرض لمتحف كهذا؟ يضم أقساما يجد من يزورها مقتنيات ومخطوطات وكتب وصور وأقلام كتّاب وعلماء مثل عباس العقاد، أحمد شوقي، جمال حمدان، توفيق الحكيم، يحي حقي، مصطفى مشرفة، زكي نجيب محمود، طه حسين يوسف إدريس، نجيب محفوظـ، جمال الغيطاني، محمد البساطي، يحي الطاهر عبدالله، صلاح جاهين، الأبنودي، ألفرد فرج وسواهم من رموز الثقافة المصرية. وأن يكون ذلك، جنبا إلى جنب مع متاحف شخصية وليكن أولها المتحف المنشود لأديب نوبل نجيب محفوظ بسبب شهرته العالمية وقيمته الكبيرة لدى الجمهور والكتاب في مصر والعالم العربي.
لا أحتاج إلى توضيح لما مثل هذه المتاحف من أهمية في الدول التي ترعى تراثها الحضاري ممثلا في منازل- متاحف الفلاسفة والأدباء وأهل الفكر والفن، وتأكيد قوتها الحضارية، بالإضافة إلى الدلالة الرمزية التي يمكن أن تقدمها متاحف كهذه لأجيال جديدة لا تمتلك نماذج تقتدي بها إلا ما يقدم على الشاشات من ابتذال محض في المجالات كافة. كما أن أحدا، وقد تمت صيانة تراث هؤلاء الأدباء، لايمكن له آنئذ على إطلاق الشائعات التي تجد، بسبب الإهمال المتراكم، إقبالا كنار الهشيم. 
وربما في وقت آخر حين نصل لرفاهية لا وقت لها الآن وهنا، يمكننا أن نجمع ما يحيط بنا اليوم من توافه الشائعات وصغائر الأفعال لتوضع في متحف افتراضي يليق بها وقد نسميه متحف الشائعات أو التفاهة!


نشرت في جريدة القاهرة في 29 أكتوبر 2015


Monday, October 19, 2015

درس الغيطاني.. الكتابة وسوق الكتابة




بين الكتابة والتسويق





هذا المقال كتبته عقب حصول الغيطاني على جائزة الدولة التقديرية ونشر في صفحة "المدونة" في الأهرام اليومي في أغسطس 2007


زرت المكتبة الخاصة بالكاتب جمال الغيطاني، في منزله، الأسبوع الماضي، ولست الآن في حل لذكر محتوياتها التي لا تقل بحال عن كونها كنزا حقيقيا . لكن ما أود أن أتوقف عنده هنا هو الصورة المهيبة التي يحتفظ بها الغيطاني إلى يسار المكتب الذي يجلس إليه، وهي صورة "الكبير" كما 
يسميه الغيطاني، وكما يعرفه أغلب الكتاب:

 "ديستويفسكي". هذا الكاتب الكبير الذي لم يخرج كاتب في العالم –كما أظن- إلا من معطفه. هكذا يجلس الغيطاني للكتابة تحت رقابة، وعناية، هذا الكبير، وهو في ظني ما يجعل من الكتاب مسؤولية إضافية تضاف إلى ما تتضمنه من مسؤولية تجاه الجماليات التي أسسها المبدعون الكبار على مدى تاريخ الكتابة.

تحيط بالغيطاني قواميس اللغة وكتب البلاغة الكبرى التي غرف منها لينحت لغته الخاصة، ومراجع قديمة، ونسخ عديدة من تفاسير القرآن، وغيره.
وهي في النهاية مؤشر كبير على الجهد الذي يبذله . والذي تجلى في العديد من أعماله البديعة التي قرأت بعضها في مرحلة مبكرة مثل الزيني بركات و رائعته الكبيرة:التجليات، ورسالة في الصبابة والوجد، ويوميات شاب عاش منذ ألف عام . ووقائع حارة الزعفراني. ومنها ما قرأته في مراحل عمرية متقدمة مثل شطح المدينة ونوافذ النوافذ، ونثار المحو. وغيرها وصولا للزويل . وفي هذه الأعمال جميعا يتبدى الجهد الكبير الذي بذله الغيطاني في اللغة البديعة التي يستخدمها. ولعل هذا ما وصل القراء الأجانب منقولا إلى لغاتهم وساهم في نشر كتبه في كبريات دور النشر البريطانية التي تطبع بمئات الآلاف مثل بنجوين البريطانية، التي طبعت الزيني بركات قبل سنوات عدة، وفي ترجمات أعماله للفرنسية منذ مطلع الثمامينات في كبريات الدور الفرنسية، وذيوع أسمه كواحد من أهم الكتاب العرب المترجمين في فرنسا.

الغيطاني،ككاتب كبير؛ لم يذكر شيئا من هذا يوما، ولم يهادن، في نفس الوقت، في معركته الكبرى في انتقاد سياسات وزارة الثقافة، لكن ، ها هو أخيرا، يحصل على الجائزة التي تأخرت كثيرا: وهي جائزة الدولة التقديرية.

هذه الجائزة المستحقة تأخرت لأن الغرب التفت لأعمال الغيطاني منذ سنوات طويلة، بالتقدير والعناية، وأنا أعرف ذلك من علاقاتي بأصدقاء من خارج الوسط الثقافي من الفرنسيين يعرفون الغيطاني جيدا ويقرأون أعماله باهتمام.

هذا الجهد الكبير حققه الغيطاني بدأب، وهو يستمر في مشروعه، دون أن يلتفت إلى معايير التسويق التي يمارسها البعض، وبدون أن يسعى للترجمة التي سعت إليه، ولهذا فإن الغيطاني اليوم أحد الاسماء اللامعة التي يقرأها الغرب لفنياتها، ولخصائص جمالية، وليس بحثا – من القاريء الغربي- عن نمائم، أو تلصصا اجتماعيا، كما هو شأن بعض الروايات السعودية الجديدة التي يكتبها بعض الكتاب الشباب اللآن، 

وأستثني منها رواية الآخرون لصبا حرز، أو بعض روايات الأكثر مبيعا التي لا يمل كتابها ممن يعتمدون على التسويق من ذكر أرقام مبيعاتهم، يرهبون بها قارئا يعيش في مجتمعات متهمة بالجهل والأمية انعدام الرغبة والقدرة على الثقافة، وهؤلاء القراء الذين يتهافتون على مثل هذه الأعمال مثلما يتهافتون على كل السلع التي تخضع لبند "الموضة" يبتلون بالتسويق والترويج لما يحتاجونه ولا يحتاجونه .

وهؤلاء انضم لقائمة مستهدفيهم الآن مروجو سلع الأدب الشعبي بقوة أرقام التوزيع، التي لا تعني شيئا لجودة الأدب، وبدخول مجال الدعاية كتاب مختصون في الاقتصاد والتاريخ يقرأون الأدب أخلاقيا.

دان براون يوزع أكثر من 50 مليون نسخة، وكذلك كويليو، لكن دوستويفسكي هو الذي تقاوم كتابته الزمن، ومثله كل الكتاب الكبار، مهما راجت الكتب الشعبية، وتم التسويق لها. صحيح أن في التسويق فائدة لاكتساب قاريء جديد، لكنها لا يمكن أن 

تغير القاعدة الأساسية بأن الكبير كبير، وأن الزبد يذهب هباء مهما كانت ثخانته!

نشرت في الأهرام اليومي، الطبعة العربية، صفحة المدونة في 4 أغسطس 2007 

Monday, August 31, 2015

'معبد أنامل الحرير' .. يغيب الروائى وتبقى الرواية

'معبد أنامل الحرير' .. يغيب الروائى وتبقى الرواية





 بقلم محمود عبد الشكور



مثلما كانت رواية إبراهيم فرغلى الهامة "أبناء الجبلاوى" قصيدة حب عن حرية الفكر والفن والفنان، وأنشودة هجاء ضد االظلامية وضيق الأفق، فإن روايته الجديدة "معبد أنامل الحرير" الصادرة عن منشورات ضفاف ومنشورات الإختلاف، تقدم تنويعة أخرى مرّكبة عن نفس الفكرة، ولكنها تقطع شوطا لافتا فى تحية الفنان والكاتب، بأن تجعل لما كتب قوة وقدرة خلق وحياة أبدية.
فى هذه الرواية الهامة نقرأ عن صاحب الكتابة ولا نسمعه أبدا، تنوب عنه بجدارة روايته التى تتخلق مثل جنين مشاكس، سرعان ما يمتلك هوية وإرادة وحلم، يبحث عن مبدعه، ثم يمتلك القدرة على أن يكمل الحكاية.  
فى "أبناء الجبلاوى" اختفت روايات نجيب محفوظ وسط مجتمع ظلامى، فظهرت شخصياته حية بين الناس لتدافع عن نفسها، وفى "معبد أنامل الحرير" تصبح الرواية التى لم تكتمل بديلا عن كاتبها، تكتبه، وتستعيد سيرته، وتدافع عنه مثلما تدافع عن وجودها، يصبح الفن أقوى وأكثر خلودا من مبدعه، ويبقى النص حتى لو اندثر صانعه، يعيش البشر تحت الأرض، لكى ينسخوا حصاد ما كتبه البشر الأحرار، ويالها من تحية عذبة تستحق التأمل.
لا يمكن الدفاع عن حرية الفن والفكر إلا بطريقة حرة، وبأسلوب فنى ممتع، الى حد كبير نجح إبراهيم فرغلى فى تحقيق ذلك، من حيث البناء فإن الراوى فى "معبد أنامل الحرير" هو صوت رواية  بعنوان "المتكتم" كتبها رجل اسمه رشيد ولم يكملها، الرواية نفسها هى التى تحكى، وهى أيضا التى ستعرفنا على مغامرتين ومعانتين: مغامرة ومعاناة رشيد فى كتابتها بعد حياة مضطربة عاشها، ومغامرة سفينة هائمة فى البحر المتوسط،  وصلت إليها الأجندة التى كتبت فيها سطور الرواية الناقصة. على السفينة شخصيات ومناورات ومعاناة وصراعات مع مهربى المخطوطات والقراصنة وعصابات تهريب البشر،  بحثا عن فرص للعمل فى بلاد جنوب المتوسط الأوربية.
 أتاح هذا البناء المركب حرية كاملة فى السرد، تتسق مع موضوع يتغنى بحرية الفنان، كما أتاح أن يقدم للقارئ مستويين من فنون الرواية ( العمل بأكمله تحية لهذا الفن بكل أنواعه)، ذلك أننا ننتقل من رواية مغامرات على سطح السفينة، الى رواية أفكار عندما يقطع نص "المتكتم" وشخصياته السرد الخاص بأحداث السفينة. الكاتب الأصلى رشيد  لن يظهر إلا من خلال ما تحكيه عنه الرواية، التى أصبحت كائنا مستقلا تماما، ذات حرة تتأمل ما كتبه مبدعها، وتبحث عن سر صنعته، وتربط بين وقائع أحداثه التى عاشها، وبين ما فعله خياله لإنجاز رواية "المتكتم"، بل إن الرواية ستكمل ما نقص من حياتها.
هذه إذن حيلة سردية تحقق أهدافا متعددة، مثل كرة البليادرو التى تضرب عدة كرات بضربة واحدة. أصبحت رواية  "معبد أنامل الحرير" فى جوهرها هى سيرة رواية اسمها "المتكتم": كيف صنعت؟ وكيف صارت كائنا حيا عابرا للمخاطر، ومتحديا للموت؟ وسيرة فنان اسمه رشيد كان يحلم بالطيران، وأصبح مرشدا سياحيا، وعاش أكثر من قصة حب، وقادته الحياة الى شتوتجارت فى ألمانيا وبالى فى أندونيسيا، ثم وجد ذاته أخيرا فى الكتابة، كتب حياته، ثم كتب روايته، ثم اختفى فوق سطح سفينة فى طريقها الى إيطاليا. "معبد أنامل الحرير" هى أيضا سيرة زمن افتراضى ظلامى بامتياز، يمكن أن نصل إليه لو استمرت تلك الغزوة الرجعية، والتى سترى تنويعة لها فى "أبناء الجبلاوى"، وقد كانت أيضا سيرة رواية، تملك شخوصها نفس قدرة مؤلفيها على الحياة والخلود، وعلى الفعل والتحقق بإرادة حرة مستقلة.
المتاهة هى إحدى مفاتيح رواية "معبد أنامل الحرير": السفينة متاهة، كلما توغلنا فى الأحداث سنكتشف فيها أشياء غريبة وراء مهمتها كسفينة ركاب، فى الطابق السفلى مهاجرون تعساء، بيت الفن الذى أقام فيه رشيد فى شتوتجارت أيضا متاهة، استلهمها عندما تخيل فى رواية "المتكتم" مدينة للأنفاق، يهرب إليها الفنانون والعشاق والشعراء، وعندما استلهم مدينة المخطوطات التى يتم فيها كتابة النصوص الممنوعة، بعيدا عن سطوة المتكتم وأعوانه الذين استولوا على مدينة الظلام، رشيد اصطنع من حياته الواقعية عالما حرا موازيا تحت الأرض، ومنح أبطاله أسماء مختلفة وغير تقليدية مثل كيان وسديم ونيرد، واحتفى بتجربة  هؤلاء الهاربين عشاق الحرية: ناصر ومنتصر ومنصور.
المتاهة أيضا فى المعبد البوذى الذى زاره رشيد فى جزيرة بالى، وفى معبد الكرنك، بل إنها فى حياة رشيد وأحلامه، وفى بناء الرواية الأم "معبد أنامل الحرير" التى تضم عدة روايات معا: رواية عن رشيد، ورواية عن رواية رشيد، ورواية عن السفينة التى تحمل رواية رشيد، وهذه السفينة ستحمل للقارىء مفاجأة مدهشة فى الصفحات الأخيرة، نستطيع أن نتكلم عن" سرد فى كل الإتجاهات"، وبكل الأساليب، ما بين واقعية مباشرة وفانتازية محلّقة، والمبهج أن العمل الذى يحتفى بالسرد والساردين، يحافظ الى حد كبير على تماسكه، باستثناء بعض الإستطراد فى حكاية يوديت ورشيد فى شتوتجارت، وفى قصة الفتاة الأثيوبية ميهريت على السفينة/ اللغز، وباستثناء بعض لحظات الإنتقال القليلة غير السلسة بين نص رواية "المتكتم"، وبين ما يجرى على السفينة فى عرض البحر.
نحن إذن أمام كتابة عن كتابة، وسطور تحكى عن سطور، ورواية قررت أن تصنع رواية عن نفسها وعن كاتبها وعن مكانها وزمانها، "معبد أنامل الحرير" هى فى إحدى مستوياتها قصة وعى واكتشاف: اكتشاف الفنان رشيد لنفسه وللآخرين وللعالم ولموهبته، واكتشاف رواية "المتكتم" لكيانها ولطريقة خلقها ولذاتها، واكتشاف سكان مدينة الأنفاق لمباهج الحرية، واكتشاف كيان / بطل رواية "المتكتم" لقيمة تمرده على عمله كرقيب سابق فى مدينة الظلام، واكتشافنا نحن كقراء لمعنى الخواء إذا افتقدنا الحرية، وإذا صمتنا فى مواجهة أولئك "الزومبى"، أعداء النور والحرية، أولئك العائدين من قبور الماضى، الذين يريدون أن يحكموا الحاضر من المدافن.
فى رواية "451 فهرناهايت" للكاتب راى براد برى كان لدينا عالم مواز للهاربين بالكتب من الفاشية، أصبحوا هم أنفسهم كتبا تحمل ذاكرة وحرية الفن والفكر، وفى رواية "المتكتم" تتطور فكرة النسخ فى معبد بأنامل من حرير، الى الكتابة على الأجساد العارية، التى سرعان ما ستقوم بغزو مدينة الظلام: فتيات تحملن نصوصا مكتوبة فوق جلودهن الرقيقة المكشوفة، أفكار حرة منقوشة على أجساد حرة، المتكتم وأتباعه تأخذهم المفاجأة، ولكن رشيد لم يكمل روايته ، اختفى تاركا الأجندة المكتوبة فوق سفينة مريبة، الأجندة ستروى وستحكى وستكمل، ستمارس أيضا حريتها، وستمد خط الحرية الى نهايته، ستربح أنامل الحرير المعركة، ولكن بعد مغامرة شاقة، لا يوجد أنتصار دون معركة، ولا يوجد إنسان يستحق اسمه وجنسه دون حرية، ودون دفاع عن تلك الحرية.
يجتزئ إبراهيم فرغلى فى "معبد أنامل الحرير" فقرات من نصوص ممنوعة، يدمجها فى حكايته، يقدم التحية لها ولمؤلفيها، ويترك فرغلى متعمدا مساحات واسعة لخيال القارىء ، يتركنا نخمن سيناريوهات كثيرة لعلاقة  رشيد مع صديقه قاسم، وارتباطهما أو عدم ارتباطهما بعالم تجارة المخطوطات، يتركنا نخمن : هل يعلم قبطان السفينة رؤوف بحكاية تهريب المهاجرين أم لا؟
هناك حرية موازية للقارئ تعادل حرية الكاتب فى السرد، هناك محاولة لكى نكون شركاء فى المتاهة، هناك شخصية تحمل اسم "الكاتب الشبح"، وهو تعبير يطلق على الكاتب الذى يكتب سيرة أحد الأشخاص بأسلوب احترافى نيابة عنه، يوجد فى "معبد أنامل الحرير"  فى الحقيقة أكثر من كاتب شبح، حتى السطور أصبحت تكتب وتشهد وتحكى وتثور، تبدو إذن فكرة التكتم والكتمان سخيفة وعبثية ولا معقولة بشكل يفوق ظهور قراصنة صوماليين فى البحر المتوسط، وما لوحة النهاية الفاتنة إلا ترجمة لفكرة انتقام الفن والفكر من سجانيهم البلهاء، ذلك أنهم لم يدركوا أن الكلمات تمتلك لعنتها، وأن الروايات تبث الحياة فى الكائنات، وأن الأفكار عابرة للمكان وللزمان، وأنها تطير بلا أجنحة، ممتلكة إرادة البقاء، حتى لو ذهب المفكر أو الفنان.
"معبد أنامل الحرير" رواية فى حب الحرية، وفى عشق الفن  والفكر، وتحية فن الرواية والسرد القصصى، وفى هجاء الحمقى من المتكتمين،  وربما تكون هذه الرواية نفسها هدفا لهم، وضحية لعبثهم،  فيثبت الفن من جديد أنه يشهد على زمنه، ويفضح أغبياءه،  وأنه لذلك يستحق الخلود والبقاء.
نقلا عن موقع الكتابة في يوم 30أغسطس 2015 
http://alketaba.com/index.php/2013-10-30-09-53-50/item/4683-2015-08-30-18-59-42.html

Wednesday, August 12, 2015

المتاهة كرواية

المتاهة كرواية





فالنص وفقا لأمبرتو إيكو، وهو تعريف يروق لي كثيرا: "جهاز الغاية منه انتاج قارئ خاص به. وهذا القارئ ليس شخصا قادرا على طرح تخمينات تكون وحدها دون غيرها جيدة: الأمر على عكس ذلك، يمكن للنص أن يتوقع قارئا نموذجيا له الحق في إسقاط تخمينات لا متناهية".
كنت قد قرأت كتابا مهما أيضا للمفكر الأمريكي الماركسي ديفيد هارفي "حالة ما بعد الحداثة.. بحث في أصول التغيير الثقافي"، وهو يتتبع، بين عناصر وروافد أخرى كثيرة، تأثير التطورات الاقتصادية في العالم، انطلاقا من تكون بذرة الرأسمالية في الولايات المتحدة، وانعكاسها على المنتج الثقافي وتسليعه. وبين ما تناوله الفروق بين الحداثة وما بعد الحداثة، وكيف أن التشظي، لا الانسجام، أصبح ملمحا من ملامح ما بعد الحداثة، وفكرت أن تطبيق ذلك روائيا لا يمكن أن يتحقق في نص منسجم، بل في نص متشظ، لكن ما يبدو متنافرا في النهاية يعبر عن أفكار متجانسة.
وتأتي الحيلة السردية برواية داخل رواية كحل أساسي للسرد المتشظي، وعبر تعدد أصوات الرواة على يد قرائن الشخصيات أو أشباحها أو أطيافها. أما من حيث المضمون فهناك تقاطعات كثيرة بين فكرة الأجيال مثلا في مجتمعات تتغير فيها القيم بتناول فكرة الأب وسلطته، أولا من خلال علاقة الكاتب نفسه بنجيب محفوظ كأب روائي، ثم عبر علاقة البطل "كبرياء"، اللقيط الذي لا يعرف لنفسه أبا، مع جده الحقيقي، رفيق، والذي يرتبط به ويدون سيرته بوصفه خطاطا، من دون أن يعرف أنه جده لأبيه، كما تتحقق الحيلة السردية أيضا في تأملات جانب من رواية كاتب الكاشف؛ مؤلف شخصية كبرياء، على فكرة سلطة الأبوة في عدد من أعمال محفوظ أهمها الثلاثية وقلب الليل والحرافيش وأبناء الجبلاوي.

Tuesday, August 11, 2015

إبراهيم فرغلي.. ملف خاص


إبراهيم فرغلي.. ملف خاص

ملف عن شخصي وأعمالي من إعداد موقع الكتابة بإشراف الشاعر الجميل محمد أبو زيد
الذي لا يمكن لأي كلمات أن توفيه حقه
على ما بذله من جهد الإعداد للملف واستكتاب هذا العدد من المحبين والكتاب والنقاد
إضافة لاستعانته بأفراد من الأسرة لعمل ملف الصور من الطفولة وحتى اليوم :)
ألف شكر لأبي زيد والشكر موصول لكل من كتب في هذا الملف فردا فردا
شكرا لمحبتكم 

Monday, June 8, 2015

أيها الفحم يا سيدي.. جنون عالمنا كما عكسته دفاتر فان جوخ - قاسم حداد



سيرة كتاب
أيها الفحم يا سيدي..

قاسم حداد يعود لزمن فان جوخ كاشفا جنون عالمنا!

إبراهيم فرغلي

فنسنت فان جوخ




رأيت وجه فنسنت، من خلف زجاج النافذة البعيد. لوّح بيده أو هكذا تهيأ لي، بينما وقف قاسم حداد في فناء قصر العزلة الشاسع، شاخصا بنظره، للوجه الشبحي.

ثم رأيت فنسنت، في الساحة نفسها، يبتسم لقاسم الواقف خلف النافذة. كأنهما يتبادلان موقعيهما، كلاهما يتأمل الآخر بامتنان.

قاسم حداد


وجهان ينتمي كل منهما إلى ثقافة تخصه.
 فنان هولندي، مثقف عصامي، وحشي الموهبة، وشاعر بحريني، مجرب، مثقف عصامي دؤوب، يمتلك طاقة فنية وحشية وعذبة في الآن نفسه. التقيا أخيرا. الأول قادم من زمن يمتد إلى ما يزيد عن قرن من الزمان، والآخر ماض إليه.

"يعرف أن كتابا في انتظاره.هناك، في الأعالي، في مكان الضوء الشاحب في هضبة العزلة، في الكوّة الصغيرة، في الغرفة العلوية في بيت عليل تقود الأشباح خطواته إليه".

كان بإمكاني تخيل اللقطة التي افتتح بها قاسم حداد كتابه "أيها الفحم يا سيدي"، والاسترسال في تقمص حال قاسم حداد وهو يحتشد لكتابه المروع هذا. لكني توقفت.

استسلمت لصوت الفنان وتتبعت الخطى؛إلى مدينة الطواحين، في جروت زندرت، حيث ولد فنسنت، شاهدا على طفولته وعذاباته من سوء فهم العائلة، من اتهامات الأب المتدين، القس المغال في التشدد، وقسوة الأم المنحازة للأب، باستثناء الشقيق المدهش.

 "آه ثيودور العظيم، لقد كان وحده حنان العائلة".

أنصت لفنسنت، في أروقة العقل الفنان، الذي يضج بالخيال،
يرى ألوانا لا يراها سواه، فينقلها على لوحات صمدت أمام اختبار الزمن؛ ترينا ما رآه فنسنت في الحقول، وفي وجوه معاصريه، في المشافي، وفي أعماق المناجم المظلمة، وفي السماء.


يا صديقي يا أخي!


 "يا صديقي، يا أخي، يا أنا، تعرف أننا لا نستطيع أن نفعل شيئا لأنفسنا. ولا ينبغي أن نأخذ الآخرين بالوهم. ما من أحد يمكنه فعل شيئ لنا. وحيدون نحن، وحيدون جدا، كلانا وحيد".

أهو نداء قاسم لفنسنت؟ أم نداء الأخير لشقيقه ثيو: صديقه وخدينه وشقيقه وداعمه الأوحد؟ السؤال مفتوح على كل الإجابات، تماما كما هذا الكتاب. المفتوح على الاحتمالات، العصي على التصنيف. يمتح من الشعر لغته، ومن السرد صفته، ومن الخيال أفقه.


 غلاف كتاب أيها الفحم يا سيدي الصادر عن دار مسعى للنشر 


يشبه السيرة، ويتغول في أزقة التاريخ البعيد. وإذ تتعثر فيها خطاك قد يباغتك أن تجد نفسك في واحد من ميادين الحرية التي استعارت من الثورات البعيدة كلمة الربيع، لكنها لم تنتج سوى أكثر من خريف!

نص له صوتان: صوت لفنسنت وآخر لقاسم.

في  حواري مع قاسم حداد،بدا محتشدا بالفضول ليعرف رأيي في الكتاب. قلت له: الكتاب عصي على التصنيف. كتاب معرفة.

قال: "وهذا تماما ما أود اقتراحه على القارئ: الإصغاء لما يقترحه النص. من متعة أو لغة أو معرفة أو أفكار.  في تجربة من هذا النوع ينبغي تفادي تصنيفها مسبقا، بل نمنحها الفرصة لنرى ما الذي تقترحه".

قاسم حداد وإبراهيم فرغلي بعد الحوار 


مالي وفنسنت؟ ماذا يخصنا منه؟ مالي وطواحين هولندا وزهور خشخاش فان جوخ، والحقول ونجوم السماء؟ ردد لي صديق ما افترضه من تساؤلات محتملة قد يلهج بها هذا أو ذاك. قلت ربما يكون  الحق مع من يظن هذا الظن. لكن الملاحظة خدشت صدري، وضميري، لأن بعض الظن إثم.

يا أخي، يا صديقي، أنصت أولا، لتدرك أن هذا النص عولمي، يخص قاسم، وفنسنت معا. وعمال الفحم أو أطيافهم تماما كما يخص سجناء الزنازين الضيقة المعتمة الخانقة،
المماثلة لحفر المناجم في باطن الأرض. يحتفي بالشعر، ويتقصد الجيم والضاد.

قلت السؤال يمكن أن يصاغ في كلمتين "لماذا فان جوخ؟". فأجاب منفعلا بالحميمية 

والحماس: 


"أعجبت كثيرا بفان جوخ منذ الثمانينات، ولكن اهتمامي أو اعجابي به في الحقيقة يعود إلى ما قبل ذلك. كانت مجلة "الهلال" في الستينات والسبعينات تصدر ملفات شديدة التميز عن التشكيليين الأوروبيين، وفي واحد من هذه الملفات شاهدت أعمال فان جوخ فأعجبتني جدا وتعلقت به".


عدت إلى أعمال قاسم حداد ونقبت بينها حتى عثرت على نص بعنوان "ورشة أورسي"، 

في ديوانه "دع الملاك".

يقول قاسم حداد:

لوحة استراحة الفلاح وزوجته


"لوحةاستراحة الفلاح وزوجته، بملابسهما الزرقاء، حيث الروح الفعالة تفيض على الجسد، في حقل القمح الذهبي. أوصاني الصديق صبحي حديدي، بهذه اللوحة بالذات، وهو ينصحني بعدم تفويت زيارة متحف أورسي، سرّني أنه فعل ذلك، فهو قد لامَسَ شغافَ مُولَعٍ بـ فان غوخ. الرسامُ الذي رافقني السنوات الأخيرة، كما لو أنه قرينٌ غير معلن لنص في الحسبان. فليس أقل من أن أشترك مع هذا الفنان في عمل إبداعي.
إذن،
هذا هو (فان غوخ) الرهيب".


زهرة الخشخاش يا أختي!


بعدما تلمست الولع القديم لقاسم حداد بفان جوخ،
عرجت على لوحاته، لكي أعيد تأملها، وفهمها، بعد أن أضاءها لي، تشكيلا وقيما فنية، وأحيانا عبر التحليل الذهني والنفسي لفنسنت نفسه خلال عمله فيها.
استدعيت تأملاتي للعمل الوحيد "الأصلي" لفان جوخ الذي كنت شاهدته مرات عديدة، ممثلا في "زهرة الخشخاش" التي كانت بين مقتنيات متحف محمود خليل.
واستعدت، انخلاع قلبي، حين أعلنت كارثة سرقة عمل فان جوخ الوحيد، من المتحف في آواخر عهد الديكتاتور المخلوع مبارك.
أين أنت يا زهرة الخشخاش لأحتضنك مثل أختي؟!

تأملت "زهرة الخشخاش"، مرة أخرى،
عبر الوسائط الحديثة، مستدعيا عبقرية استخدام الأصفر، بينما كان أزرق السماء يخاتلني من لوحة أخرى يقشعر بدني كلما رأيتها وهي لوحة "سماء مضيئة بالنجوم".


لوحة زهرة الخشخاش التي كانت موجودة في متحف محمود خليل بالقاهرة وسرقت في أواخر عهد مبارك في اغسطس 2010




الأصفر والأزرق، دائما وأبدا. وبسببهما يكاد يدرك المتطلع للوحات ذلك الفنان الاستثنائي، ليس فقط قدراته المدهشة في مزج الألوان، ولا اللعب بالإضاءة، وابتكار تقنية خاصة للضوء، بل أنه شخص يضج بالحيوية.






لم ينتـــــــحر!


استعيد صوت قاسم حداد مؤكدا بنبرة مشحونة بالحماس والعاطفية: "إبراهيم، ما ممكن. ما قبلت فكرة انتحاره، لأني أحسست إن هذه ليست حقيقة، لأنك لما تشوف أعماله، هذه أعمال شخص مقبل على الحياة، لا يمكن أن ينتحر"

يستطرد موضحا: "جمعت الكثير من المعلومات.
من بين ما تورده الوثائق أنه حصل من صديق بندقية صغيرة لكي يطيّر الطيور ليصورها، وكانا يقفان على صخرة وسقطا في الأثناء. في نفس الفترة قرأت كتابا لكاتبين أمريكيين يشككان في انتحاره. شعرت انهما يساندان فكرتي بشكل غير مباشر. وكذلك مسألة قطع الأذن. أيضا صغت القصة كما أقنعتني".

"كنت في لحظة الهياج،
 فأحدثت تلك الحركة جرحا في شحمة الأذن. هل كنت في اللوحة، في الرسم، أم في المرآة(..)اختلط الأمر علي بين رأسي خارج اللوحة ورأسي هناك".


بورتريه رسمه فان جوخ لنفسه وأذنه مجروحة باستخدام المرايا



يستطرد حداد:"هذه متعة انك تعيد صياغة الحدث بقناعاتك. في النهاية لست مؤرخا بل شاعر. فلا يأتيني شخص يقول لي هذا غلط أو صحيح تاريخيا.  طيب ما كل شيئ غلط بالعالم. حبكت على هذه؟".


صحيح والله! أقول له، ونضحك.

لكني لا أستطيع أن أكبح فضولي عما ذكره لي في بداية حوارنا عن تماس تجربة المناجم التي مر بها فنسنت فان جوخ مع تجربة اعتقاله وتعرضه للسجن. يخبرني أنه اعتقل في السبعينات في البحرين، لأسباب سياسية بطبيعة الحال، مرة في 1973، ثم استغرقت فترة الاعتقال الثانية خمس سنوات.

لمن يود العودة لقصائد السجن لقاسم حداد وفيها يقول:

("أنا قابع في زنزانتي المظلمة ولكن قلبي يخفق مع ابعد نجم في السماء". هكذا تحدث ناظم حكمت، وهكذا تعلمت قلوبنا كيف تخفق مع نجوم السماء، مهما ابتعدت وتعايش العالم كما لو كانت موجودة في كل العالم").

لون الظلام!

خرج حداد من السجن في العام 1980، وحين استدعى فان جوخ في فترة المناجم تداعت لذهنه، تجربة السجن. ولعله لذلك رأى أن:

"للظلام لون أيضا"!


"في زنزانة الأرض بالمناجم، ثمة لون واحد هو الظلام. ما من لون آخر هناك. الشعل الصغيرة المرتعشة تهدي العمال لمواقع خطواتهم، نقاط شاحبة في صقيع سحيق( ..) الظلام هو اللون الوحيد الذي كنت اخرج مكنوزا منه، فـأسرع نحو غرفتي محاولا رسم الظلام ".

يقول قاسم حداد: "أنجزت هذا الجزء بتفاصيل صغيرة، عن عمله مبشرا لصالح الكنيسة في أحد المناجم. لكنه كان فنانا في أول الأمر ومنتهاه. كان يرى العمال يموتون. وبسبب ما شاهده من بؤس ما يتعرض له عمال المناجم كفر، وأخذ يسأل الله عن سر إهمال هؤلاء، من فرط ما رأى من قسوة ما يتعرض له العمال".

"أيها الفحم، يا ذهب النار وذريعة الحياة، من أين لك كل هذا

 الصمت عن صريخ الأرواح المعذبة في غياهبك".

يستطرد موضحا:" كان شديد التعاطف معهم، يتبرع لهم بما يملك وبملابسه.ثم أصيب بنزلة صحية ولما جاء أخوه ثيو فجأة وشاهد تخطيطاته بالفحم، أدرك حجم موهبته، فأنقذه وطلب منه أن يتفرغ للرسم".

-         بالمناسبة هل كان للواقعة دور في اختيار العنوان:"أيها الفحم يا سيدي"؟

** الحقيقة الاسم اقترحه أمين صالح (الكاتبالبحريني صاحب التجارب السردية التجريبية اللافتة وصديق مقرب من حداد)، وهو يقرأ المخطوط وأعجبني. لأنه يضئ دور الفحم في الحياة وفي المنجم وفي الرسم وفي كل شئ.

يحيلني عنوان الكتاب على لغة النص: لغة مكثفة، قاموسها متسع. يقول حداد:
"هذه المقاطع لم أكتبها متواصلة كما هي في الكتاب. بل منفصلة كمقاطع، ثم رتبتها لاحقا. كنت أكتبها كشعر في حالات نفسية وذهنية مختلفة. لكن في الوقت نفسه كل جملة لها أصل معلوماتي. كنت أتدفق في الكتابة في قصر العزلة في شتوتغارت، لأيام، وبسبب الثلوج وغياب الحدود بين الليل والنهار أكتب وأقرأ، دون وعي بالزمن. كنت أشعر بالخوف من أني قد أكون لازلت أعيش في غمار تجربة طرفة بن الوردة، وهذا ما ضاعف قلقي".

حاولت تخيل حال الشاعر الصديق في أثناء الكتابة؛ مستدعيا وصفه لنفسه في سيرته قائلا: "التمرين الأخير على موت في حياة لا تحتمل.


الصورة من أرشيف جريدة الرياض، وفيها تصوير لقاسم حداد في أثناء عمله في كتابه طرفة بن الوردة الذي استخدم فيه خط اليد تأكيدا على أن طرفة بن العبد كان متعلما قادرا على الكتابة على عكس ما أشيع عنه



فهو في كل يوم وأمام أية تجربة جديدة يبدو كأنه يكتب للمرة الأولى والأخيرة في آن واحد. جسد يرتعش مثل طفل مذعور مقبل على الوحش.

 كثيرا ما تركته وحده في الغرفة مريضا يوشك على الموت، وعندما أعود إليه في اليوم التالي، يضع أمامي النص ويجلس مثل شحاذ ينتظر ردة فعلي. ينتحب كأنه الميت يرثي نفسه. وما إن أقول له الكلمة، حتى يستعيد صحته ويقفز مثل العفريت، مستعدا للحياة كأنه يولد توا".

عبر صفحات الكتاب تتسلل إلينا صرخات فنسنت العاتبة للعائلة التي خذلته والقت به في المصحات. للأطباء الذين لم يتفهموا متاعبه، باستثناء طبيبه الفنان بول جاشيه. 


الدكتور بول جوشيه، أحد أطباء فان جوخ، والذي عرف بعلاج الفنانين، وكان محبا للفنون


نسمع صرخاته في عتاب جوجانالذي خذله بمصاحبة النادلة (راشيل) وأفقده أعصابه، وخذل مشروعه أيضا لبيت الفنانين. ولاحقا ننصت لشكواه من أهل آرل (في جنوب فرنسا، والتي أسماها يابان أوربا بسبب سطوع الشمس) حين نكلوا به واستهجنوا وجوده بينهم. ننصت لأفكاره عن الجنون الذي لم يدفعه عن نفسه كتهمة، موضحا أن أي مبدع حقيقي لا بد أن يمسه شيئ منه، مفرقا بينه كمأزق إنساني ووسيلة من المجتمع لتقييد حرية المختلف مع عاداته، وبين الجنون كطاقة هائلة على إنتاج الفن الذي يتقوت من الخيال. نرى فنون العصر كما رآها فان جوخ، وفلسفته الفنية، وعلاقته بالفنانين الآخرين مثل كوربيه، جوجان، كلود مونيه، ديلاكروا، ادوارد مانيه، ديجا، ورامبرنت، الذي يدين له بالكثير من التأثر والإعجاب.

يوضح لي حداد أنه لأجل الاطلاع على أعماله وأعمال هؤلاء تجول جولات واسعة في متاحف فان جوخ خصوصا في هولندا.


كومونة باريس- خريف العرب!

ثم تأتي الثورة، كومونة باريس، فنرى فيها ما نرى اليوم، ربيعنا العربي الذي انقلب خريفا، بسبب رومانسية الثوار؟ ربما. أولأن النار تحرق نارها؟ ممكن. وربما لأن "من يجني الثورات هم اسفل السفلة" بقول رمز الثورة الفرنسية جورج دانتون، ولأسباب بينها أن الاقتصاد وحده الذي يمتلك الكلمة الأخيرة كما يقول ثيودور لشقيقه في أحد حواراتهما.

لوحة الحرية تقود الشعب للفنان الفرنسي ديلاكروا، أثارت اهتمام العالم، لكن فان جوخ انتقد رومانسيتها ودمويتها وواقعيتها المباشرة 


"الحرية تقود الشعب"، لوحة من انبثاقات ديلاكروا الرومانسية، قدم نموذجا فنيا دمويا للعالم. الحرية تتقدم على جثث القتلى". وفي موضع آخر يقول فان جوخ – حداد ما معناه أن الحاكم يقدم الدم دفاعاعن عرشه أما الحكيم فبديله الثوري أخلاقي ينبغي أن يخلو تماما من الدم أو قيادته.

الفن له منطقه، والثورة أيضا، وهما معا لا يتسقان. الثورة بنت الواقع الآني.

بينما ثورة الفن ابنة الخيال، وهي وحدها التي تتحدى الزمن وتنجح.الخيال هو معيار الثورة الوحيد، لا تنجح إلا بقدرتها على تحويل الخيال لقوة على الأرض.

وبإمكان القارئ أن يستفيض من أفكار عديدة أخرى عن الربيع الأوروبي، وعن الفرق بين الثورة ووهم الثورة. وكيف أن الثورة الفرنسية المتغنى بها قادت فرنسا لاستعمار العالم!

هذه رحلة استثنائية بين الشعر والسيرة، على تخوم السرد، وفي قلب المعرفة، وتاريخ الفن. تبدوعائدة للماضي فيما تتوجه للمستقبل.ولا يغني عنها سوى نصها الذي يدعونا لأكثر من قراءة. نص يفتح به قاسم حداد أفقا جديدا للكتابة في الثقافة العربية.

 نشر هذا النص في جريدة القاهرة - في 2 يونية 2015