Wednesday, October 12, 2016

ضد التفاهة


تغريدة


ضد التفاهة


إبراهيم فرغلي


أعتبر نفسي أحد المؤمنين بأن المستقبل يصنعه الأمل، وأحد المنحازين للتفاؤل مهما ضاقت الظروف، ومهما كان المناخ العام دافعا للتشاؤم. ومعيني في ذلك ليس إلا إعادة قراءة وتأمل دروس التاريخ.
في حوار جمعني مع الصديق سعود السنعوسي مؤخرا حول بعض كُتّاب العالم، أشار إلى عدد ممن لم يسبق لي القراءة لهم، وتطرق الحوار إلى الكتّاب اليابانيين، وحكى لي عن رحلتين قام بهما إلى بيتي أو متحفي الأديبين البارزين: يوكيو ميشيما، وياسوناري كاواباتا. ووصف لي تفاصيل المشقة المرعبة التي واجهها في واحدة من الرحلتين بسبب البرد وابتعاد المسافة حيث يقع البيت في منطقة بعيدة عن كيوتو بنحو خمس ساعات.
في أثناء استعادتنا لكتابات اليابانيين، قلت له أنهم من بين كتاب العالم الأكثر إنصاتا لكل كائنات الحياة بشرا وحيوانات، ونباتات او جبالا. ولهذا تأخذ نصوصهم هذا الطابع الوجودي العميق. وأظن أن هذا الطابع ليس له مثيل في ثقافات أخرى في العالم.
حين عدت لمراجعة تاريخ اليابان، تبينت أن النظام الياباني لم يتمكن من معجزته التنموية إلا بمنهج تعليمي يعلي من قيم المعرفة والعلم والبحث والاتقان، ولكنه، لم يكتف بالعلم فقط، بل حماه بمنظومة قيم أخلاقية رفيعة، تعلي من فكرة الشرف الشخصي، وبالتالي جعل الرقيب الذاتي للفرد على شرفه الشخصي هو الضمير الأعلى المتحكم في أخلاقيات المجتمع، ولعل ذلك مبرر ما نسمعه من قصص انتحار اليابانيين العديدة لأسباب تتعلق بالإحساس بالفشل أو امتهان شرف المهنة التي يمتهنونها.
ولهذا يبدو جليا أن التفاهة ليست من بين مفردات هذا المجتمع. وبمتابعة تجارب نهضوية أخرى مثل تجربة سنغافورة سنجد أن رئيس الوزراء الراحل ومؤسس سنغافورة الحديثة لي كيوان يو قد جمع النظام التعليمي الابتكاري الرائد مع نظام قيمي يهتم بإبراز القيم الكونفوشيسية خصوصا ما يتعلق بالتقاليد الخاصة بتقديس الأسرة وانعكاسها على المجتمع، واعتبارها اساسا للعمل في المصانع وسواها من وحدات الإنتاج. إضافة لفكرة احترام التنوع والاختلاف.
ولا شك أن المنظومتين معا؛ العلمية والاجتماعية الأخلاقية، أوجدتا بذورها في النظام التعليمي، أي من المدارس، ومن المؤكد أن إعداد وتأهيل أجيال من المعلمين المتقنين لنظريات التعليم والعقلانية، والمخلصين لفكرة الحفاظ على المجتمع؛ ببذر القيم الرئيسة في أطفال المدارس باعتبارهم اللبنات التي سيرتكز عليها مستقبل المجتمع، قد حظى باهتمام كبير جدا يجعل مكانة المدرس أو الأكاديمي في اليابان تماثل، أو ربما تعلو، موقع رئيس الوزراء. لأن رئيس الوزراء نفسه لا بد أن يتمتع بمزايا هذا النظام التعليمي حتى يتمكن من أن يتقلد منصبا كهذا، ويسهم بالتالي في استمرار مسيرة المجتمع الياباني في التقدم المستمر نحو الحداثة والرفاهية. 
هذه المنظومة الأخلاقية الرفيعة التي يتحلى بها المجتمع الياباني، ليست النواة الأولى لكل ما حققته النهضة اليابانية فقط، بل هي، كذلك، أداة هذا المجتمع في مواجهة وحشية الكوارث الطبيعية من براكين أو زلازل، بل وحتى الضربات النووية المجرمة، والنهوض عقب كل كارثة منها، أكثر قوة وقدرة على محو آثار الدمار بالمزيد من آثار الحياة.
مجتمع لا يعرف اليأس ولا الابتذال أو التفاهة أو الفساد لا بد ان يكون عملاقا على مستويات عديدة.


 نشرت في القاهرة في 11 أكتوبر 2016

Saturday, October 8, 2016

قبيلة الثورة والغالب والمغلوب


تغريدة

الغالب والمغلوب

إبراهيم فرغلي



خلال الاحتفاء الشعبي بمرور 39 عاما على انتفاضة 17 و18 يناير 1977، التي تعد واحدة من أقوى الانتفاضات الشعبية ضد السلطة الحاكمة في عهد الرئيس السادات، تناول العديد من جمهور وسائل التواصل الاجتماعي المناسبة بالاحتفاء. وبغض النظر عن المعنى المقصود من استدعائها، فقد لفت انتباهي قيام البعض بتدوين بعض الشعارات التي نادى بها الغاضبون تعبيرا عن رفضهم لسياسات رأى الشعب أنها تأتي على حساب الفقراء وتزيد من تجويعهم.
توقفت متأملا شعارا بثه صديق مقرب استدعاه من تراث الهتافات الشعبية آنذاك يقول: "لما الشعب يقوم و ينادي.... يا احنا يا هما في الدنيا دي.. شوف من فينا هيغلب مين".
وبعيدا عن كونه شعار يأتي من زمن آخر، وعبر جمهور أغلبهم اليوم في عقدهم السادس تقريبا، يرفض سلطة بعينها في ظروف تاريخية محددة، لكنه بدا لي ملخصا لأزمة عميقة في ذهنية "المعارض" المصري.
فالشعار يشير إلى عقيدة معارضة تنبني على وضع السلطة كلها في كفة وكل المعارضة في أخرى. وتصور العلاقة بينهما كعلاقة خصمين لا يمكن أن "ينتصر" أحدهما إلا بإبادة الآخر.
وعلى مستوى التعبير عن القهر فإن الشعار يجمع بين جماهير الشعب عاطفيا، ضد إرادة المستغلين والفاسدين، مع الأخذ في الاعتبار أن تلك السنوات شهدت وجود كفاءات سياسية وحزبية وفكرية  في كل من معسكري السلطة والمعارضة معا.
أعتقد أن هذه الذهنية تعبر عن نوع من المراهقة السياسية التي لم تتمكن من تغيير الخطاب الذي استلبته من تاريخ المقاومة الوطنية ضد الاستعمار والاحتلال، فاستخدمته كما هو، من دون تمييز من الفارق بين معارضة الاحتلال التي تأخذ شكلا حادا، دونه الموت، من سلطة الاحتلال، وبين طبيعة المعارضة في حالة وصول حكومة وطنية إلى السلطة لا يمكن النظر إليها كعدو، مهما اختلفنا أو اتفقنا على الممارسات الفاسدة أو الجاهلة أو الفاشلة التي تمارسها، لأنها في الحقيقة، هي تمثل بديلا سياسيا من المفترض أن تعمل المعارضة على إقصائه لتقدم البديل المتضمن للسياسات والإجراءات التي تود أن تقدمها كبديل للسلطة الحاكمة.
وبافتراض نجاح قيادات ثورة 1977 ، فهل المفترض أن تعد نفسها حكومة خصومة مع كل من قام بعمل سياسي في عهد السادات؟ وهل يعني ذلك أن يتحول الجمهور لخصوم مع السلطة الوطنية الجديدة إذا ما خالفت ممارساتهم توقعات الشعب أو مصالحهم؟
أظن أن هذا الشعار يحتاج للمراجعة، في ظل مناخ يفتقر الحد الأدنى من الثقافة السياسية كما يتجلى اليوم على الساحة السياسية الهشة، والبرلمان الجديد خير مثال. إضافة إلى أن ما يعبر عنه هذا الشعار ليس مجرد رفض سياسات بعينها بقدر ما يؤسس ويمثل رؤية أحادية تذكرنا بالخطاب الإقصائي السلطوي من جهة، وذلك المعبر عن خطاب المتأسلمين الذين يقتلون كل من يخالفهم تاليا.

في ظل ثقافة سياسة مراهقة كهذه سيكون من الطبيعي جدا، وربما البديهي أن يسود المناخ العام، الثقافي والسياسي، مفهوم التخوين كاتهام وحيد وبديل يستخدمه كل فصيل أو جماعة أو طائفة أو جماعة سياسية مع معارضيهم، ثقافة قبلية تنتهج قيام قبيلة أنصار السلطة أو قبيلة الثوريين بإقصاء كافة القبائل الأخرى والعكس صحيح. 

مصطفى ذكري ويوسف رخا



تغريدة

تجربتان في اللغة

إبراهيم فرغلي

بعيدا عن القضية المستهلكة التي تأخذ أحيانا شكل الصراع حول الفصحى والعامية، هناك تجربتان في تطوير لغة السرد الأدبي، أوليهما الكثير من الاحترام، هما تجربتا الكاتبان الموهوبان القديران مصطفى ذكري، ويوسف رخا.
السبب الأول في احترامي لهاتين التجربتين أن أيا منهما لم يقدم موضوع اللغة وتطويرها بتعسف أو افتعال، بقدر ما أنهما جاءتا في سياق التجربة الأدبية. وهذا لا يعني أنهما التجربتين الوحيدتين المتعلقتين باقتراح تجارب سردية مختلفة تعتمد وتتضمن تطويرا للغة السردية، فهناك في الأدب المصري المعاصر تجارب كثيرة مهمة، لكني أتوقف عند الأحدث والأكثر معاصرة.
اللغة عند مصطفى ذكري هي جزء أساسي من نسيج التجربة السردية. تشعر أن كل كلمة مختارة بدقة وبعناية ومعرفة. كل كلمة ينبغي أن تصنع في النهاية أسلوبا لا يمكن أن يماثل أسلوب كاتب آخر، وهذا هو ما يسميه ذكري شرف الكاتب. وهو توصيف شديد الدقة.
بهذه اللغة التي بدا جليا انشغال ذكري بها منذ بواكير أعماله نحت أسلوبه الخاص، كما أن اهتمامه الشديد بالتفاصيل، أو بالأحرى ولعه بالتفاصيل أثر كثيرا أيضا في طبيعة اللغة السردية التي أنتجها في نصوصه.
على سبيل المثال، سنجده حتى حينما تأثر بألف ليلة وليلة في روايته التي صدرت مطلع التسعينات "هراء متاهة قوطية"، انشغل بحرف واحد هو حرف "الواو"، وهو حرف يوسم أو ينظر إليه بشكل دوني، بتعبير ذكري، لكي يوظفه في المناطق اللغوية البلاغية الضعيفة في اللغة، أي لكي يقوم بما يسميه "هتك البلاغية" الشائعة في ألف ليلة وليلة.
بالإضافة إلى أن نصوص مصطفى ذكري في غالبيتها العظمى تميل لأن تكون مكثفة، وهو ما يحتاج إلى طاقة خاصة لشحن الكلمات بطاقة التكثيف، واختيار الكلمات بأعلى درجة من الحساسية.
بالنسبة ليوسف رخا، فقد مارس أكثر من شكل أدبي، لأنه بدأ بالشعر، ثم انتقل إلى السرد، وأدب الرحلة، وفي كل هذه التجارب بدا جليا أنه مشغول بطرق تعبير فنية مختلفة، ولذلك فحتى حين كتب تجاربه فيما قد ينضوي تحت مسمى أدب الرحلة في "بيروت شي محل" مثلا، أو في كتابه عن تونس أو غيرهما، لم يكن مشغولا برصد ما يرى، بقدر ما بدا جليا انشغاله بالكيفية التي يوجد لهذه الملاحظات وسيلة بلاغية، أو أسلوب لغوي يلائم النص، ويقدم تجربة لغوية جديدة.
وطبعا كانت الطاقة المبذولة في اختلاق بلاغة أدبية جديدة أكثر وضوحا في روايته "الطغرى"، لأنه حاول فيها المزج بين اللغة السائدة في مدونات المرحلة العثمانية مع اللغة المعاصرة تدوينا وشفاهة على مستوى الخطاب اليومي، من دون الوقوع في فخ التحيز لأي منها، لأنه قدمها فقط لخدمة النص، ولإيجاد شكل يناسب مضمون الرواية، وبلغة تخصها وتعبر عنها.
لا ادعاء هنا بأهمية الفصحى أو العامية، ولا تحيز بين الاثنين، بل فقط محاولة لغوية تأتي كجزء من نسيج النص الأدبي، سواء كان الأمر في أعمال مصطفى ذكري، أو في أعمال يوسف رخا.
أما السمات الفنية الدقيقة التي تميز هاتين التجربتين اللغويتين شديدتي الأهمية بين تجارب النصوص السردية المعاصرة فسوف أعود لها تفصيلا، ولكل منهما على حدة في المقالات اللاحقة.

 القاهرة في سبتمبر 2016

غشماء الكتابة



تغريدة

غشماء الكتابة!

إبراهيم فرغلي

استطرادا في موضوع العامية والفصحى الذي أشرت له الأسبوع الماضي، يهمني التأكيد على رفضي لفكرة استخدام العامية كوسيلة تدوين، أولا لخطورة ذلك على لغة الفن، التي ستكون في حالة كهذه مرتعا لكل غشيم من "غشماء السرد"، بوصف الدكتور عبدالله إبراهيم الدقيق، ممن سيجدون ملجأ  آمنا لإخفاء ضحالتهم اللغوية والسردية باسم تطوير اللغة، والتدليس على القارئ بما يتوهمونه تطويرا. فيما لا ولن يعدو جوهر ما يقدمونه حدود الـ"تهتهة" السردية، على أبعد تقدير.
وللتوضيح فإن غشماء السرد، بتوصيف الدكتور عبدالله إبراهيم، وأنا أوافقه تماما: "أولئك الجاهلين بأمور الكتابة السردية من وظيفة، وطريقة، وغاية، وأسلوب، والذين يأتون الكتابة بلا دراية، ولا ذوق، ولا خبرة، ويعارضون الفطنة، ويسفهّون رفعة القول الأدبي، ويحطّون من قيمته، ويطلقون الأحكام الخاطئة، وشريعتهم في كل ذلك الجهل، والاختيال، والغطرسة".
بالإضافة إلى أن الكتابة بالعامية مؤشر خطير على مدى الانغلاق الذي يصل إليه المجتمع في عصر الإنترنت والانفتاح على العالم. هذا الانغلاق الشوفيني لا يدل إلا على مجتمع غارق في ذاته إلى حد العمى، لا يرى إلا نفسه، وبالتالي لا يدرك أنه في الحقيقة أعمى، والنتيجة تضخم مفرط للذات، ونرجسية، وإحساس بالغرور عن جهل. وبالتالي تتفاقم مشاكله باطراد.
وكما قلت في موضع آخر، أنا من اصحاب القناعة التامة بأنه لا يمكن لمجتمع أن يدّون أفكاره بالعامية إلا إذا كان مجتمعا نصف نصف، يرقص على السلم في المجالات كافة. فلا هو يتقن لغته الأم، ولا يمكن أن يخترع شيئا ذا قيمة من هذه اللغة الهجين. ولا يمكنني وصف مثل تلك النصوص العاجزة المكسحة إلا بأنها مسخرة لغوية. وهي نتيجة طبيعية لمجتمع يحب الرقص على السلم فلا ينتج إلا نصفا من كل شيء: نصف لغة، نصف ثقافة، نصف أدب، نصف صحافة، نصف ثورة، وبالتالي؛ نصف مجتمع.
 أتخيل ترجمة نص لهيجل أو نصا علميا متخصصا للعامية، وتضحكني كل النتائج المتخيلة، نتيجة استخدام لهجة شفاهية ليس من بين اهتمام مستخدميها لا العلوم الطبيعية أو الفلسفة والعلوم الإنسانية، ولا حتى دقة الوصف، فهي أداة تواصل تعتمد الاختزال والتكثيف، وربما لذلك تغوي المتحذلقين.
أما ثاني أسباب رفضي لفكرة استخدام العامية أو اعتبارها وسيلة تطوير لغوية فيتمثل في أن هجر السرد للغة الفصحى سيكون بالضرورة مبررا لأن تصبح اللغة، التي يصفها البعض بأنها "لغة رسمية"، مرتعا لأصحاب الخطاب المتشدد.
فحين تُهجر الفصحى من قبل الأدب، سوف تجد، بالضرورة، ملاذها لدى أصحاب الخطاب الديني المتشدد، بوصفها لغة النص المقدس. أي أنهم سوف يحتكرون اللغة الفصحى باعتبارها وسيلتهم في التعبير عن أفكارهم. وبهذا يكون الغرب قد نجح، كما يشير الفيلسوف الهندي آمارتيا سن، في تأكيد ضرورة انشغال اللغة العربية بالإصلاح الديني فقط. وفي المقابل يحتكر الغرب لغة العلم، بالرغم من أن اللغة العربية في عصر التطور المعرفي العربي، خصوصا في الحقبتين العباسية والأندلسية، جسدّت لغة من لغات العلوم الأساسية نقل عنها الغرب بذور نهضته العلمية اللاحقة في عصر النهضة عبر الترجمة. وهو الدور الذي يريد الغرب أن يمحي أثره ليرسخ لأنها ثقافة موت ودمار، لغتها ميتة. وللحديث بقية.


نشرت في القاهرة سبتمبر 2016

Friday, October 7, 2016

هيباتيا الضائعة


تغريدة


هيباتيا الضائعة

اللوحة من أعمال الفنانة هند عدنان


إبراهيم فرغلي

أتابع دوريا واحدة من المدونات الأمريكية التي تبحث في موضوع المرأة التي تستهدف دراسة الفلسفة.
وهي مدونة تنشر تعليقات في حدود نحو 300 كلمة لكل مشاركة عن وضعها كدارسة للفلسفة. وتلقي المدونة المذكورة الضوء على وضع المرأة، الباحثة، بين مجتمع الباحثين الذكوري، وتناقضات فكرة إمكانية تعرض امرأة للتعامل معها بوصفها أنثى أولا، وليست باحثة. بمعنى آخر تركز هذه المدونة على فكرة المساواة بين الجنسين في حقل البحث، وخصوصا في مجال دراسات العلوم الإنسانية. لكنني وجدت نفسي أتساءل: أين فيلسوفاتنا المصريات؟
أجريت بحثا على الإنترنت فوجدت أن الاسم الوحيد الظاهر هو اسم الفيلسوفة السكندرية الشهيرة، شهيدة العلم، هيباتيا.
وكالعادة استدعى سؤال كهذا أسماء عالمات مصريات أو عربيات، ومنها إلى حقول مختلفة، والنتيجة هي ندرة شديدة في إمكانية تذكر أكثر من بضعة أسماء في كل حقل منها.
وقد يكون من البديهي جدا القول في الإجابة عن سؤال الفلسفة أن المجتمع العلمي العربي كله، بمن يتضمنه من باحثين وباحثات لا يزال يحبو في العلوم الإنسانية، مقارنة بالطفرة الهائلة التي سبقنا إليها الغرب، رغم مبادراتنا القوية التي بدأت خلال حقبة النهضة العربية الإسلامية والتي انقطعت منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.
لكن اللافت في الوقت نفسه يظل أن موضوع الفلسفة وندرة وجود فيلسوفات بالمعنى الحقيقي من أمثال رموز الفكر الفلسفي ليس مقصورا على العالم العربي بل يمتد كذلك إلى الغرب. ومع ذلك فندرة الفيلسوفات الغربيات المعاصرات لا يقارن بأي حال بوضع الفيلسوفة العربية الموءودة تقريبا في عالمنا العربي.
ربما يعود الانقطاع الرهيب بيننا كعرب وبين الفلسفة والفكر الحر عموما منذ تم محاربة أفكار المعتزلة وما أسفر عن ذلك من قمع فكري وواحدية وصولا إلى المستنقع الفكري الذي نعيش فيه اليوم.
لكني لا أزال أرى الأمر مثيرا للدهشة من حيث غياب مبادرة امرأة عربية للتفوق في مجال الفلسفة. بالرغم من تزايد الاهتمام بالدراسات النسوية في مجالات النقد الفني والأدبي والاجتماعي دون غيرها من حقول البحث العلمي.
صحيح أننا لا نزال نعيش، بسبب التفاوت المرعب في مستوى التعليم، وسيادة الرجعية والتخلف والإنفاق على تغذيتها بوحشية، في عالم جهول ينظر للمرأة بشكل فيه تمييز بشع، ويصفها بقلة العقل تارة، وبالعاطفية المفرطة تارة أخرى، ناهيك عما ابتلينا به من مظاهر ارتبطت مؤخرا بالأحداث الدامية على أيدي دواعش العصر من استعادة لعصور بائدة كنا نظنها حقبة مظلمة في أعماق التاريخ تداولت فيها مصطلحات مثل سبي، وجهاد النكاح، وغيرها من ظواهر قهر المرأة في أشد صورها فجاجة ولا إنسانية.
 لكن كيف يمكن لنا ان نتغلب على مثل هذه الكارثة من وجود فيلسوفات عربيات يؤكدن للعالم أن الفكر ليس مقصورا على نوع أو جنس بعينه
طبعا، وبديهي، أن هناك باحثات رصينات مهمات في مجال الدراسات الفكرية العربية في تونس والمغرب ومصر وربما غيرها من الدول العربية، لكني لا أعتقد أننا يمكن أن نرصد أكثر من ثلاثة أسماء منها في كل دولة على الأكثر.
ربما لا يكفي مقال كهذا للتدقيق في مثل هذه الظاهرة، مع ذلك ففي الإشارة إفادة حتى نعود.
نشرت في جريدة القاهرة الثلاثاء 4 اكتوبر 2016


Tuesday, September 6, 2016

الأكذوبة السردية والحقيقة الروائية



محاضرة إبراهيم فرغلي
 في "تكوين"..


منصة الكتابة الإبداعية

بعنوان 

الأكذوبة السردية والحقيقة الروائية 



يمكن الاطلاع على المحاضرة على الرابط التالي 





Thursday, September 1, 2016

ثقب أسود!


تغريدة

ثقب أسود!


إبراهيم فرغلي

 تزامن توقيت وضعنا لهاتفينا المحمولين بجوارنا في نفس اللحظة. بعد ساعة كاملة مرت بيننا، كنا فيها صامتين، كل مشغول بعالمه الافتراضي المجنون.
سألتها بأسى وبنبرة لا تخلو من اليأس:
-       وبعدين يا لولو؟

-       مش عارفة يا بابا. إحنا وقعنا في الحفرة .

-       الحفرة؟

-       أيوه حفرة.. زي الثقب الأسود تقريبا.

تأملت وصفها للحظة، وروّعتني دقته. ولم أعرف ماذا أقول لها. فراحت تخبرني بضعة أمثلة عن صديقات لها تعتبرهن مدمنات بلا أمل للشفاء من استخدام السوشيال ميديا.
تذكرت كيف كانت حياتنا قبل أكثر من عشرين سنة. حكيت لها كيف أننا عشنا عقودا بلا هاتف محمول. فقط هواتف أرضية. ولم يكن ذلك يسبب قلق أحد على الآخر. كانت ذاكرتنا تحتفظ بأرقام بضعة هواتف مهمة للاتصال بها. وتمر الحياة بلا توتر. نتابع قناتي تلفزيون وحيدتين، وبرنامج اسبوعي واحد تقريبا، ومسلسل واحد غالبا، مع ذلك نستمتع بما نشاهده، ونشاهد كل شيء بتركيز. كما كنا، وهذا الأهم، نقرأ كثيرا.
قلت لها أنني أعاني الآن من التشوش، وفقدان الذاكرة بشكل مرضي. ومن الوقت المهدور.
تابعتني مبتسمة، فذكرتني ابتسامتها بنفسي حين كنت أنصت لوالدي وهو يتندر على زمننا ويستعيد ذكريات، أسعار زمان، من سعر رطل اللحم، إلى قيمة الوجبات، وصولا لوصف رحلته مع أصدقائه في الخمسينات من المنصورة للقاهرة بالقطار لمشاهدة مباراة كرة قدم، وكيف كانوا بجنيه واحد يسافرون ويأكلون سندوتشات بطارخ في وسط البلد، ويحضرون المباراة ويعودون.
 استدعت ابنتي، ربما لتقلل من إحباطي، تجربة فتاة أمريكية قررت أن توقف التعامل مع السوشيال ميديا. اشترت هاتفا قديما ليس به سوى خاصية الاتصال. أبلغت أصدقائها بذلك. امتنعت تماما عن كل وسائل التواصل. ألغت حسابات الانستجرام، الفيس بوك، تويتر، سناب شات. واكتشفت أن حياتها أصبحت ممتعة أكثر. أصبح لديها الوقت لتمارس هواياتها. تقرأ بتركيز. المشكلة الوحيدة أنها تشعر بأنها غير طبيعية، بين محيطها الاجتماعي، وأصدقائها خصوصا.

بدونا كمدمنين وفيين لمخدر السوشيال ميديا. ندرك أننا نعاني من الإدمان ولا نعرف كيف سنخرج يوما من دائرته الملعونة.

ولأنني كنت أقرأ لباشلار قبل هذه المحادثة، ومض مصطلح يردده الفيلسوف الفرنسي واصفا شعلة اللهب بأنها "مضيء معتم"، مشيرا أن مضيء معتم النفس هو أحلام اليقظة. ووجدتني أردد لنفسي أن السوشيال ميديا هي المضيء المعتم لهذا العصر كله.
ولو استخدمت وصف ابنتي "الثقب الأسود" لأدركت فعلا كيف ننجذب جميعا لهذا المعتم غير المرئي بفعل جاذبيته الهائلة التي تقتله ليتحول لكتلة من العتمة. ننجذب إليه ضاربين عرض الحائط بالحياة، والقيم الحقيقية الموجودة في الواقع، وبقيمة الوقت. مستسلمين لما أورده لنا من قتال لفظي، واستعراض مجاني، وتذاكي وعنصرية واستسهال للعبث، ومتحولين إلى مسوخ باكتساب قيمه التي تغذي أوهامنا عن ذاتنا.
ربما هو مضيئ كاذب لأنه يتضمن قيما معتمة عديدة من مثل ما ذكرت، وقد يكون مضيئا لعتمة نفوسنا؛ كاشفا مدى عتمتها التي كانت المختبئة ومخفية خلف جدران النميمة والاغتياب في الواقع، والتي أصبحت تَلسينًا مستمرا على الآخرين في الوسيط الجديد.
وبينما نفكر في حل هذه الكارثة المروعة، تسللت أيدينا، كل إلى هاتفه، ربما  للبحث عبثا عن حل هذه المأساة!