Saturday, March 5, 2016

شامات الحسن:الصفة الإيروسية للجمال

        

شامات الحسن:الصفة الإيروسية للجمال





 محمد عمر جنادى


تبتعد "شامات الحسن"، المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب والروائي المصري إبراهيم فرغلي ( دار العين،القاهرة)، عن الصيغ النمطية في تناول العالم الحسي لقصصها،  وأسئلة هذا العالم القلقة عن معاني الرغبة والجسد والجمال والحب، وتعيد كتابة ورسم بعض الأقانيم التي تؤسس لمفاهيم الفن الجمالية وصفاتها وأبعادها الإيروسية، خالقة ً بذلك سردية ذات مقاربة إيروتيكية خاصة، تحاول أن تكشف عن المضمر والمجهول والصادم في علاقة الإنسان بذاته والآخر والعالم.
     تنقسم شامات الحسن إلي اثنتي عشرة قصة، تتلاقي فيها الأضداد جميعها، وتتلاشي الحدود بينها: الإيروس ( الدافع أو الرغبة في الحياة والطاقة الجنسية) في مواجهة ثاناتوس (إله الموت عند الإغريق ويرمز إلي الدافع للموت)، اليقظة والحلم، الواقع والخيال، اللذة والألم، الوهم والحقيقة.
   تخرج ذروة الحياة واللذة من رحم الموت، كما في قصة " دون كيشوت"، حيث تدفع الرغبة/اللذة، في ذروتها، البطل إلي خنق القتاة دليلة حتي موتها، بينما سناء تشاهد ذلك في متعة تتحول في النهاية إلي ذعر صارخ:
 " أحسست أنني انعزلت عما حولي؛ لا أري سوي عينيها اللتين تفيضان بدموع اللذة، فيما هما ترقرقان في بؤبؤي عيني، ولا أسمع سوي صوت صراخها المبحوح من فرط ضغطي علي رقبتها..."
   أو تزداد الرغبة كثافة كلما اقتربنا من الموت، ففي قصة "موديل عار ٍ"، يقوم الرسام بمحاولة رسم لوحة عارية لنورا، التي تقرر الانتحار بعد الانتهاء من اللوحة في غضون أسبوعين. وتتولد المتعة من المازوخية، والخيالات الفانتازية تتحول إلي حقيقة، كما نري في قصص مثل "فانتازيا"، "الغابة السوداء" "عينان شاردتان":
  " كنت سعيدا باستخدام هذه المرأة، وصديقها، لي في علاقتهما الفانتازية، التي أرادا بها أن يحققا فانتازييهما الاستعراضية بين جدار القلعة وأشجار الغابة القريبة".. قصة" الغابة السوداء"
 " قلت له وأنا في قمة لذتي أن يضربني بالسوط، ومددت له يدي به، فأمسك السوط وظل ساكنا للحظات، بينما كنت أتمدد جاثية قريبة منه أتوقع الألم، وأشعر بالرهبة، لكني لم أشعر بأني سأتراجع علي الأقل حتي أشعر بالضربة الأولي علي ظهري".. قصة " عينان شاردتان" .
> > >
    تتلاشي الحدود بين الأمكنة، حيث ترتاد النصوص بلدان وعوالم أخري، متعددة الثقافات، وشخصيات المجموعة من مختلف الجنسيات، الأوروبية والآسيوية والعربية، يوحدها الجسد كلغة تعبر عن "المشترك الإنساني".
   قد يبدو في شامات الحسن أن تباعد معظم النصوص عن محيطنا الاجتماعي وبيئتنا الثقافية، هو محاولة للهروب من واقع اجتماعي يفتقد الزخم المحفزعلي الكتابة الإيروتيكية، واقع يتشكل وفق بنيات سلطوية تقمع الجسد وتحتقر الرغبة، وتفرض أخلاقياتها الزائفة علي الأفراد/الذوات، وأن النصوص ،بهذا التباعد، قد أهدرت فرصة مواتية لتعرية المجتمع ونقد أنساقه القيمية الجاهلة. ولكن قد يعمل تمثيل "الآخر" علي فضح الذات نفسها، وكأن هذا التصويرللواقع "المختلف" هو بمثابة مرآة تنعكس عليها بشاعات واقعنا البائس، ليتضح المعني بنقيضه.   
    ومن المرجح أن تختفي أو تُطمس ذاتية أبطال قصص شامات الحسن، أو تتحول تلك الذوات وتجاربها المتفردة إلي مجرد "نزوات تافهة"، كنتيجة نهائية "لإضفاء الطابع الذاتي علي نطاق كوني"، يتسم هو الآخر بالطابع السلعي الذي يعمل علي تشيؤ الجسد واستلابه، كما يوضح "سلافوي جيجيك"، بينما يمضي واقعنا  الاجتماعي في مساره القمعي. لكن النصوص تحول  دون هذه النتيجة، بما يتبدي في رؤيتها وسردها من وعي. فلا تنطلق شامات الحسن من مفهوم قاصر عن الجسد، ولا من بنية مسبقة للفهم، تقوم علي الاحتقار ما بعد الحداثي للقضايا الإيديولوجية الكبري، حيث يصبح الجسد هو اليقين الوحيد المتبقي، والملاذ، بعد زهد الذات في العالم. لذلك نجد أن "الرحلة الداخلية" لبطل قصة "ما يراه النهد"، كشكل من الممارسة الذاتية الروحية، تنتهي بما يشبه الفشل أو الخواء. ويتجلي الوعي بمعطيات العالم في قصة" عفاريت العولمة" التي تدور أحداثها في الفلبين، وبين شخصيات ذات جنسيات مختلفة، حيث تتحدث الفتاة الفليبينية "ريزال" عن نوع من الطقسية الجماعية، وعن "موت الجنس" و "مابعد الجنس". وحين يرد عليها الراوي المتكلم  بأن هذا يشبه الحداثة وما بعدها، وأن ظواهر التحرر الجنسي صاحبت مرحلة الحداثة، أما الجنس المتعدد فهو مابعد الحداثة، ترد قائلة ً:  " ربما لا أقصد ذلك تماما، لكن الفكرة قريبة مما تقول،لكن لا تفهمنا خطأ، فنحن هنا في الفلبين،    في النهاية، مجتمع عائلي كاثوليكي". ثم يقول الراوي العربي مع بداية التجربة :كنا عفاريت العولمة، ضحايا ما بعد الحداثة، وأهلها، المارقين علي الحداثة بانسجامها الذي بدا مبتذلا في عالم تختلط فيه كل القيم".
   ".. مع ذلك بدونا منسجمين، نضحك معا ً، ونقدم أجسادنا لوليمة العولمة؛ مستثارين، ومرتبكين، مقبلين علي الحياة وناقمين علي ذواتنا وعلي لا عدل العالم".
  ورغم التماهي الذي يظهر في هذه القصة ،وغيرها، مع المقولات التي تري أنه بدلا من تغيير العالم، لابد أن نعيد اختراع أنفسنا، و كوننا بأسره، عن طريق الانخراط في أشكال جديدة من الممارسات الذاتية (الجنسية والروحية والجمالية)، إلا أن الإدراك بقيود التسليع وتسرب القيم التبادلية الأداتية لمضمارالإيروس يظل قائما، فيمنح إبراهيم فرغلي صوتا سرديا لبطل القصة التي تحمل المجموعة عنوانها،شامات الحسن، السائق الشاب الهندي الذي أتي من بلاد الفقر والبؤس إلي البلد الخليجي بتراتبيته وطبقيته وقيمه الاستهلاكية، ويبدو فعل الحب مع "سيدته" الفتاة، كلحظة إنسانية يتم القبض عليها وسط مرارات عالم طبقي، حتي وإن كانت العلاقة تتسم بمبدأها الخاص:
" كنت أعرف في النهاية، أنها هي التي تقود العلاقة، ولم أكن راغبا في اختبار مخالفة هذا المبدأ الذي فرضته منذ دقت عليّ باب الغرفة". ويمنح السرد أيضا صوتا مميزا لبائعات الهوي، حيث الأجساد مجرد أداة.   لا تطرح المجموعة الجسد وأسئلته بوصفه يقين، كما أن النصوص لا تجهد نفسها أكثر مما ينبغي لكي تمنحنا الحقيقة النهائية. فنفتتح المجموعة بقصة " فيما يري النائم" وسط أجواء الحلم، "الطريق الملكي إلي اللاوعي"، لتنتفي صفة الحقيقة عن السرد، ثم قصة "خارطة الجسد" حيث الوهم يمتزج بالحقيقة. وفي "موديل عار ٍ" نصل إلي قمة الالتباس مع نهاية القصة، فلا نعلم هل وُجدت نورا حقا، أم أن الرسام قد رسم "امرأة حلمه" كما قالت الفتاة التي تحاوره وتحمل نفس علامات نورا.     تتولد المتعة من ثنايا النصوص، التي تقيم ارتباطا بين الخارج عن المألوف واللغة العارية، وتصنع النصوص جدلا وتفاعلا بين الخيالات اللاواعية والدفاعات الواعية ضدها، فتتحول أعمق المخاوف والرغبات إلي معان "مقبولة" أو شديدة الوضوح عن طريق السرد المنمق، حيث يخلغ بلاغة خلابة علي التجارب والرغبات والخيالات الفانتازية لشخوص القصص، ما يذكرنا بما فعله "نابوكوف" في روايته الفذة "لوليتا".
    لذلك تكمن في "شامات الحسن" طاقة جمالية، تتمثل في "الصفة الإيروسية للجمال"، بتعبير هاربرت ماركوز، فالنص القصصي يتكلم اللغة "المتحررة":
   " كنت في أوج شهوتي،وغيابي في جسد الفتاة السمراء، أتساءل عمن تكون، سؤال يولده العناق الشهواني والخيالات واللذة. وكانت الإجابات غامضة. كيان شبحي يفيض بما تفسره الإيروسية بأنه الغرام.."
   تواجه اللغة بشعريتها وصفاتها الإيروسية المبدأ القبلي للجمال، المبدأ السائد للواقع، والذي هو مبدأ سيطرة،وتنتصر لمبدأ اللذة. وتنتقل لغة النصوص من الوصف التفصيلي أو تقرير ما يحدث، إلي وسيلة للبوح الذاتي، وإلي "شعرية" منبنية علي اللاوعي ومجازيته. وتتضافر معها المادة الثقافية داخل المجموعة، والتي تتمثل في النصوص الشعرية التي تستهل كل قصص شامات الحسن، لشعراء كبار مثل: ريتسوس، وديع سعادة، سعدي يوسف، وشاعرات متميزات مثل "جويس منصور" و "كيم أدونيزيو". وتمثل عناصر هامة في تكوين القصص ودلالاتها، لتخلق القصص من خلالها أبعادا دلالية جديدة ومتجاوزة للمعاني المفردة.
> > >
   يديم العمل الفني ذكري لحظة المتعة، تستحضر النصوص الصور المتحررة، وتتحول الحسية القاسية والعارية والجريئة إلي صور محررة، وعناصر "انعتاق جمالي"، وتحاول "استحضار متعة فنية وجمالية من صور الموت والألم والفناء" كما يقول الشاعر "أودن".
   يقول "حنيف قريشي" في حوار حول كتابه "حميمية" : " منذ عشرين عاما كان أمرا سياسيا أن تحاول عمل ثورة وتغيّر المجتمع، بينما تنحصر السياسة الآن في أن جسدين يمارسان الحب في بدروم يمكنهما إعادة خلق العالم بأسره".
   يبدو أن الكاتب يعي أقوالا مثل هذه، والتي بدأت تتعزز في العقود الأخيرة، كما يعي إرث الإيروتيكاالعربية، ويضيف إليها. تذكرنا "شامات الحسن" بأعمال تناولت الإيروتيكا والجسد بفنية عالية: فيلم "امبراطورية الحواس" للمخرج الياباني الكبيرناجيزا أوشيما، وأعمال الشاعر والمخرج السينمائي الإيطالي "بازوليني"، "معلمة البيانو" للكاتبة النمساوية "ألفريدا يلينك".. فهي، بالمثل، تحاول أن "تجعل العالم المتحجر يتكلم" كما قال ماركوز، وتدرك عبر الاستقلال الذاتي للفن، أن الفن لا يستطيع أن يغير العالم ، لكنه يستطيع الاسهام في خلق الجمال،والحرية، وخلق وعي انساني مغاير.
نشرت في أخبار الأدب في أول نوفمبر 2014

لأن الرواية نص كوني اكتب بحرية كاملة ولا تعنيني التقاليد

الروائي المصري إبراهيم فرغلي لـ«أيام الثقافة»: أكتب بحرية كاملة .. ولا تعنيني التقاليد




حاورته بديعة زيدان:

"الفنتازيا"، و"الجرأة على مستوى الطرح والبنية"، و"الأيروتيكا"، و"اللغة المستحدثة"، وغيرها من العوامل، تجعل من روايات الروائي المصري إبراهيم فرغلي، المنحازة للحريات بأشكالها كافة، متميزة ومتمايزة، علاوة على كونها مثيرة للجدل، خاصة روايتيه الأخيرتين "أبناء الجبلاوي"، و"معبد أنامل الحرير"، اللتين شكلتا نقلة نوعية في مشواره الإبداعي، وهو ما لا ينتقص من أهمية أعماله الأولى.
فرغلي، الذي يعترف أن التقاليد والعادات لا تعنيه، وأنه ينتصر للحريات، خص "أيام الثقافة" بالحوار الآتي:
ما يميز روايات إبراهيم فرغلي انحيازها التام للحريات بكامل تجلياتها، في الوقت الذي يعاني فيه الوطن العربي من تشدد في قمع الحريات تحت ذرائع دينية أو سياسية أو غيرها .. كيف يمكن للروائي والرواية التأثير في واقع كهذا؟
- معضلة الحرية تجسد أزمة كبيرة في عالمنا العربي.  فالفرد العربي يواجه قيوداً لا حصر لها، بسبب الرقابة والمناخ المعادي للتفكير الحر، وبسبب غياب ثقافة أمنية تضع أمن المواطن أولوية أولى كما ينبغي، مفترضة أنها تمثل أمن النظام، في مصر وغير بلد عربي.
نعم تنسم عبير الحرية صعب جدا في بلادنا العربية، وبالتالي كنت وما زلت أومن أن النص الروائي أحد أدوات الكاتب لمواجهة القمع، والكبت، وديكتاتورية النظم، ثم ديكتاتورية الأفراد الذين يتشربون هذه الأفكار حتى وهم يطالبون بالحريات.
لكن مع وقوع الثورات على الأرض، وبعد الاندفاع الأول خلف شعارات الحرية والإحساس بالكرامة الكاملة يوم سقوط مبارك، بدأت على أرض الواقع الأحداث التي لم نلتفت لها في كتب الثورات، مثل الثورة المضادة، الطابور الخامس، حرس النظام القديم، المؤامرات الخارجية، الطرف الثالث.
ثم أصبحت الأفكار نفسها المستلبة من معاجم الثورات والتاريخ على الأرض، انسلخت من مغلفاتها البراقة المثالية الجذابة ووقعت أمامنا على الأرض.
وبدا واضحا أن كل كلمة ومعنى يحتاج لإعادة تأمل وفهم حقيقي في ميدان الواقع. الثورة، الحرية، المساواة، الديمقراطية، الفاشية.
حين وصل الإخوان للحكم وبدا أن الحلم بالديمقراطية ليس بالضرورة زاهيا كما يبدو في الكتب، فهو يعني بين ما قد يعنيه حكم الأقلية، أو وصول الفاشية الدينية للحكم، أو الخضوع لسيناريو تدمير الدولة كما يحدث حولنا باسم نفس المصطلح.
أعتقد أننا كان لا بد من أن نعيد تأمل المصطلحات ليس لأنها ليست حقيقية أو صحيحة، ولكن لأن التعامل معها في الواقع يحتاج إلى خبرات وعمل وتنظيم. لكن الشارع الثوري لم يمتلك أيا من هذه الأدوات، ظل الأمر بالنسبة له الوقوف ضد النظام، مبارك، أو من يليه.
اليوم يحاول الكل أن يتنصل من مسؤولياته، ويلقي بأسباب فشله على ما يفترض أنه يثور ضده.
الفشل المرعب للشارع الثوري كشف الضعف الشديد في أدوات المجتمع الثوري المدني، كما كشف عما أسميه فاشية الثوريين، أو ديكتاتوريتهم، فقد تصوروا أن إسقاط النظام يمنحهم سلطة امتلاك الحق والحقيقة، والتعالي على من يختلف عن منهجهم.
وهذا يجعلنا نعيد تأمل الأولويات: هل طالبت الثورات بالحرية في مجتمعات متخلفة لا تعترف بأن الحرية مسؤولية؟ أم أن المساواة هي المطلب الأول الذي ينبغي أن نطالب به اليوم لأنه يحقق ضمانة عدم دخول الأحزاب الدينية في معادلة السياسة والسلطة؟ كيف يمكن أن يتحقق العدل؟ وكيف يمكن تحقيق الديمقراطية في مجتمعات ترتفع فيها نسبة الأمية إلى ما يقترب من نصف عدد السكان؟ أظن أن هذه كانت بعض الأسئلة التي طرحت بشكل فني وغير مباشر في معبد أنامل الحرير وأبناء الجبلاوي، وستظل تشغلني وتؤرقني لفترة مقبلة.

لا تعنيني التقاليد
في إطار حديثنا عن الحريات هناك اختلافات كبيرة بين الروائيين العرب فيما يتعلق بمساحة الحرية في الكتابة الابداعية فمنهم من يراها مطلقة ومنهم من يرى ضرورة احترام عادات وتقاليد المجتمع والقارئ وهناك من هم بين البينين.. أين إبراهيم فرغلي من هذا الجدل؟
- شخصيا أنا مع حرية القارئ في فرز ما يقرأ بلا وصاية، أكتب بحرية كاملة، وما اهتم به هو المعايير الفنية، ولا تعنيني التقاليد، لأنها تختلف من مجتمع لآخر، بينما النص الأدبي يفترض أن يكون إنسانيا، وكونيا يمكن أن يقرأه كل شخص مهما كانت ثقافته، وبما أنني أكتب بكامل الحرية، أفترض أنني أيضا أتوجه إلى قارئ حر في استقبال ما يقرأ .. القراءة تحرير للوعي بشكل عام من كافة القيود ولا يمكن أن تتواطأ الكتابة ضد الفعل المقابل لها الذي تحيا به.

• في الوقت الذي نفتقد فيه لروايات متخصصة في الوطن مثل البوليسية وغيرها، وصف بعض النقاد كتاباتك بالإيروتيكية .. هل الكتابة في هذا المجال تهمة برأيك؟
- طبعا تهمني، وليست إطلاقا تهمة. وقد كتبت مجموعة قصصية تنتمي للإيروتيكا هي "شامات الحسن"، لتأكيد اهتمامي بهذا النوع الأدبي، وهو رغم شيوعه في الأدب الغربي، لكنه في الأساس جزء من تراثنا الأدبي العربي أيضا، في ألف ليلة، وكتب التراث بألوانها.
من جهة أخرى أظن أن تحرير الجسد العربي هو المعيار الذي تتحقق به وتُختبر فكرة الحرية.
تحرير الجسد يعني الانتباه إلى أننا نولد أحرارا، وعرايا، ثم نتدثر بالقيود الاجتماعية وبالأفكار التقليدية التي تجعل من أجسادنا التي نمتلكها بالميلاد، ملكا للآخرين، يقررون لنا ما ينبغي أن نفعل أو لا نفعل بأجسادنا.
الإيروتيكا هي المساحة الكاشفة لقمع الجسد البشري والداعية لتحريره وتخليصه من كل الأعباء الإيديولوجية التي تثقله وتجعله أسيرا، ثقيلا، مقيدا، وهو ما ينتقل لوعي الفرد. ويصبح بالضرورة رقيبا على ذاته وأفكاره بدلا من أن يحرر عقله الذي هو جزء أساسي من الجسد الحر.

تعدد الخطوط السردية
• تتميز رواياتك بتعدد الخطوط السردية داخل العمل الواحد وبرز ذلك جليا في روايتك الأخيرة "معبد أنامل الحرير" وقبلها "أبناء الجبلاوي"، حتى ان البعض وصفهما بروايات ما بعد حداثية، هل التقنية ما تشغلك بالأساس؟
- يشغلني الأسلوب أولا، الذي أحب وصفه بـ "شرف الكاتب"؛ كما يقول صديقي الكاتب المصري مصطفى ذكري. والأسلوب في تقديري صنو التقنية، وأظن أن الكتابة بما أنها فعل يتأمل الراهن من أجل المستقبل، فإنها يجب أن تتحرر أيضا من أطرها التقليدية لصالح تقنيات أكثر حداثة.
النص الأدبي يعبر عن موضوع أو تيمة، ولا بد من تناغم التيمة أو الموضوع مع الشكل، ودور الكاتب البحث والتأمل لإيجاد شكل جديد للنص.
لا يمكن أن أكتب نصا رصينا كلاسيكيا مرتبا بمقدمة ووسط ونهاية مثلا وأنا أتحدث عن تشوش العالم، أو عن الظلم والثورات أو حتى عن انعدام الرؤية لدى الإنسان حين يبدو جليا أنه ينحو نحو جنون إهلاك ذاته والآخرين مأسورا بوهم الإيديولوجيا أو العقيدة أو غيرها من مسببات الوهم.
لا بد هنا أن يأتي النص على نفس القدر من التشظي والتعقد ليلائم مضمونه.
• هل توافق على أنك في رواياتك الأخيرة تنقاد للنص وليس العكس ؟
- أوافق، وبوعي مقصود. يعني أنني كنت في رواياتي التي سبقت "أبناء الجبلاوي"، و"معبد أنامل الحرير" أضع تصورا دقيقا لمسار النص وشخوصه قبل أن أشرع في الكتابة، لكنني اكتشفت أنني بذلك أكبح احتمالات سردية جديدة قد تطرأ أثناء الكتابة، ولهذا حررت نفسي من هذا الشرط، وبدأت أترك نفسي للاحتمالات التي يقترحها النص نفسه في أثناء الكتابة، ثم في النهاية أقوم بتقنين ذلك في شكل البناء النهائي الذي أرجوه للنص.

فنتازيا
• قلة من الروائيين العرب يتجهون للفنتازيا في كتاباتهم لكنك واحد منهم، وهذا برز في فرضية اختفاء أعمال نجيب محفوظ وهروب شخصياته في دفتي كتاب إلى واقع معيش .. حدثنا عن هذه التجربة وعن أهمية الفنتازيا للرقي بالرواية العربية؟
- لا يمكن أن يهمل كاتب عربي أنه سليل النص الاستثنائي ألف ليلة وليلة، وهو نص كاشف لمرحلة من مراحل الخيال العربي في أوج تحرره وانطلاقه، وبفضل هذا الخيال تحول إلى نص أسطوري قابل للقراءة لمئات السنين، في ثقافتنا وفي ثقافات الغرب.
يظل الإشكال فقط في الكيفية التي نتعامل بها نحن مع النصوص.
أذكر أنني التقيت مصورا فوتوغرافيا فرنسيا حدثني بشغف عن ألف ليلة، لكنني اكتشفت كيف أنه لم يقرأ النص فقط بوصفه مجموعة حكايات خرافية، بل كنصوص لها دلالات واعية كثيرة عن العلاقة بين المجتمع والسلطة مثلا، وعن استلهام الأسطورة في الإسقاط على الواقع وغير ذلك.
أظن أن خصوصيتنا الروائية ينبغي أن تتحقق من تأكيد الخيال الخصب لتراثنا الإبداعي، من جهة، كما أن الخيال والفنتازيا في الحقيقة وسيلة لفتح العقل على آفاق أكثر رحابة واتساعا من حدود الواقع البائس الخانق الذي نحياه، والذي بلغ بؤسه هذا الحد ربما بشكل أساس لانعدام الخيال.


أبناء الجبلاوي
• رغم الاعتقاد بأن غالبية النقاد في الوطن العربي منحازون للمدارس الكلاسيكية إلا أن روايتك "أبناء الجبلاوي" حظيت باهتمام نقدي كبير على المستويين العربي والعالمي؟
- تحركت الرواية ببطء لأنها كانت ذات تقنية مفاجأة .. هي رواية تجريبية، وحداثية وتحتاج لأدوات نقدية مختلفة. وللأسف حتى بعض من كتبوا عنها في البداية كتبوا بشكل تقليدي، في المقابل اهتم بها نقديا كثير من أجيال النقاد الشباب والكتاب أصحاب الأدوات النقدية الحديثة وبينهم مثلا طارق إمام، ومحمود عبد الشكور، وشريف صالح، ويوسف رخا، الذي كتب عنها بالإنكليزية، وسواهم، ومؤخرا أعد الشاعر محمد أبو زيد في موقع الكتابة ملفا رائعا عن مجمل أعمالي، تضمن عددا من القراءات اللافتة لهذا العمل، أضاءت لي حقا الكثير حتى مما لم أنتبه له أنا نفسي في أثناء الكتابة.. أظن أن الكتابة غير التقليدية إبداع يستدعي أقلاما نقدية استثنائية أيضا، مهما تأخر ذلك.

معبد أنامل الحرير

• كان غريبا على قارئ رواية "معبد أنامل الحرير" ونقادها قيامك بأنسنة الرواية وكأنها من لحم ودم ولديها مشاعر إنسانية؟
- بالتأكيد، حين قررت أن أكتب نصا على لسان مخطوط رواية، فكرت بأن الطريقة المثلى لهوية مثل هذا النص، باعتباره، أي النص المتكلم، مختلق بوعي بشري عبر كاتبه أن تمتلك بدورها القدرة على الرؤية والكلام والإنصات، خصوصا وأن هذه هي واقع النصوص المدونة، أفكار تأتي نتاج استخدام الحواس البشرية، وأرجو أن يكون صوت النص المتكلم قد أقنع القراء.

الكتابة عن الكتابة
• القارئ لأعمالك يلمس ولعاً بالكتابة عن عالم الكتابة .. هل هو الخوف من اندثار المعرفة أم ماذا؟
- كنت أقرأ كتابا بعنوان "تعلم الحياة.. سأروي لك تاريخ الفلسفة"، للفيلسوف الفرنسي الشعبي لوك فيري، وكنت سعيدا بفكرة تبسيط تاريخ الفلسفة بالشكل الذي كتبه به، ثم حلمت في ليلة أنني سأموت، وفي الحلم كان أكثر ما يشعرني بالتعاسة أنني سأموت قبل أن أنتهي من الكتاب، أي قبل أن أتعرف إلى ما تهيأ لي في الحلم أنه سر المعرفة.
بعد الحلم كنت أسأل عن مصير ما يحمله المرء من معرفه خلال حياته الأولى في الدنيا، وهل العالم الآخر سيكون مجالا لمعرفة أكثر، ولعل هذا الحلم نفسه يعبر عن هواجسي عن الطريق الطويلة التي قطعتها البشرية في اكتساب المعرفة واستخدامها في فهم الكون، والرعب ليس من اندثارها، بل من عدم استخدامها أو إهمالها كأنها لم توجد أساسا كما نفعل في عالمنا العربي السعيد. هذا هاجس يؤلمني كثيرا في الحقيقة نعم.

ما بين القصة والرواية
• بدأت قاصّاً واشتهرت بذلك، تم تحولت لعالم الرواية لكن بعض النقاد يرون أنك لم تفلت من تقنيات القصة، خاصة في رواياتك الأولى؟
- القصة هي قصيدة السرد الحديث، ومضة الإبداع التي تأتي مثل القصيدة، وبالفعل بدأت قاصا، وما زلت أعتبر فن القصة فنا راقيا يحتاج إلى موهبة كبيرة لإنجازه، لكنني في الحقيقة أيضا كنت مهتما بفكرة كتابة الرواية، وبينما أتأمل أعمالاً عظيمة مثل أعمال دوستويفسكي خصوصا، وهيمنغواي، ومحفوظ وسواهم كنت أرى الأمر مهيبا، ولا تزال ذاكرتي تحتفظ بحوارات قلقة جدا عن كيفية كتابة الرواية على مستوى الحوار الشخصي مع إدوار الخراط رحمه الله مثلا، ومع د. محمد برادة، وسواهما من كبار كتابنا.
أظن أنني كنت أحتاج للتحلي بالشجاعة التي تمكنني من إنجاز نص روائي بشرط أن يمثل إضافة ما لتاريخ الرواية، وربما أخذني هذا التحدي على حساب القصة، ولكن كما تقولين لعلني ما زلت أخلص للقصة بشكل ما ولو في تقنية الكتابة السردية، مع التأكيد على أن أول رواياتي "كهف الفراشات" بنيت على قصة قصيرة باسم "فراشات" ضمن كتابي الأول "باتجاه المآقي".

طقوس
• يبدو الحديث عن طقوس الكتابة كلاسيكيا، لكنْ هناك من لديهم طقوس مغايرة قد تدفعهم لترك مصدر رزقهم أو الانتقال من مكان جغرافي إلى آخر.. هل من طقوس خاصة لك مع البدء بأي عمل أو خلاله مثلا؟
- طبعا أنا استقللت عن عائلتي مبكرا، وارتحلت للقاهرة قبل أن أنتهي من دراستي الجامعية التي أنجزتها وأنا أعمل بالصحافة، وبذلك كان لديّ الحرية في الكتابة في أي وقت يناسبني، لكن كان عليّ الانسجام مع واقع إيقاع الصحافة المهلك، وتعلمت بالتالي أنني قد أضطر ليس للكتابة ليلا، وحيدا، كما اعتدت، بل أن أجد أية فرصة مناسبة للكتابة، وبدأت أبحث عن أماكن مميزة في المقاهي أهرب إليها كلما وجدت وقتا للكتابة، وهذا الحل استمر بعد زواجي حيث أصبحت أكتب دوما في المقاهي بعيدا عن تفاصيل الحياة اليومية وأعباء البنات ... إلى آخره.

الرواية المصرية
• يؤخذ على الرواية المصرية أنها في الغالب معدة سلفا لتتحول إلى عمل درامي أو سينمائي .. لماذا برأيك هذا التوجه وأين أنت منه؟
- طبعا هذا كان مناسباً لمرحلة كان للحكاية التقليدية سطوة كبيرة، وخصوصا حين ساد في مصر منهج الواقعية الاشتراكية الذي يتبنى البحث عن الفرد ومعاناته في المجتمع في المدينة أو الريف، وهو سمة لأعمال محفوظ الواقعية، ويوسف إدريس، وإحسان عبد القدوس، وغيرهم، ولكن النص الحديث مع جيل التسعينيات كان في الحقيقة ضد هذا التوجه، وكان التحدي إنجاز نص لا يمكن تحويله للسينما، وأظنني أنتمي لهذه المدرسة، لكن بعد انهيار النقد في مصر وظهور ظواهر البيست سيللر والاحتفاء بنصوص كتاب تقليديين عادوا للحواديت على حساب التقنية، أو على حساب الأشكال الحديثة في الكتابة، بدا أن هناك رأسمالا معينا يغذي ويوجه مثل هذه الاتجاهات، بل وصل الأمر حتى الآن خارج مصر عن طريق جوائز تمنح للنص الذي يتحول لفيلم سينمائي.. أظن أن أسوأ قراءة للنص المعاصر هي قراءة المخرج السينمائي، ولا أعتقد أن هناك أفلاما خرجت بنفس مستوى الأعمال الأدبية.

تأثـــــر
• البعض تحدث عن تأثرك بساراماجو وهناك من يتحدث عن تأثرك بإيكو أو حتى دوستويفسكي .. ما رأيك؟ وبمن تأثر إبراهيم فرغلي؟
- قرأت ساراماجو، مثل الكثير من جيلي، متأخرا نسبيا، بعد حصوله على نوبل ونقل رواياته العظيمة للعربية، وقرأت لإيكو أيضا، وربما تأثرت به، لكن صعب القول إنني تأثرت بكاتب محدد، فأنا أحب بول أوستر جدا مثلا، وأحب أعمال الإيطالي إيتالو كالفينو، وسرفانتس، الذي تعلمت منه السخرية الأدبية في أرقى صورها، ومن كونراد النفس الأدبي للغة، وذلك الإحساس الذي ينعم على النص بنعمة "الأدب"، ومن د.ه.لورانس، التقمص الدقيق لروح المشاعر الإنسانية وهي تتوالد وتتراكم في أعماق النفس البشرية، وغيرهم، لكن الكتابة هي نتاج اختمار الوعي بنصوص وأعمال وأفكار وفلسفة، والكاتب الجيد الذي يمزج هذا كله ليصنع أسلوبه الخاص وصوته الذي لا يشبه أي صوت آخر.
مع ذلك أظن أن الشروط الفنية التي نفذ بها دوستويفسكي مشروعه الفني هي أكبر ملهم لي في مشروعي في الكتابة، هذا المزيج المبهر بين صنعة الفن وبين الفكر والفلسفة والمعرفة العميقة بنزعات النفس البشرية في حالاتها المتعددة وانقلاباتها المجنونة المدوية أيضا، وساراماجو ليس بعيدا عن هذا بالمناسبة، مع الإشارة إلى اختلاف تكوين الجمل والأسلوب لدى كل منهما بطبيعة الحال.

لعنــــة
• ناشد العديد من النقاد والأدباء في أكثر من مناسبة أصحاب دور النشر إلى التروي كي لا يتحول عالم الإبداع إلى مساحة من الفوضى .. ما رأيك بالكم الهائل من المنشورات مؤخرا؟
- هذه لعنة، الحقيقة ولا أريد أن أصفها بالمهزلة، واليوم باسم الحرية يطالب الكثيرون بأن يترك الأمر للقراء ليفرزوا، فاختلط الحابل بالنابل للأسف، بل إن مهازل عديدة اليوم نراها في صفحات القراء الذين يدلون بدلوهم ويعبرون عن انطباعاتهم عما يقرؤون بشكل سطحي، وبعضهم يصل للابتذال والوقاحة، التي هي كل أدواته النقدية التي يمتلكها، والتي تكشف حجم السطحية التي يرفلون فيها، وإذا لم يعد الاعتبار للنقد الأدبي المنهجي قد تستفحل هذه الظاهرة، لذلك أكرر الدعوة للناشرين العرب والمؤسسات الثقافية العربية الرسمية أن تسارع إلى توسيع نافذة النقد، كما كان عليه الأمر في السابق حيث كانت مجلات مثل "القاهرة"، و"إبداع"، و"الكرمل"، و"الآداب"، وسواها تقدم مساحة كبيرة للنقد، جعل منها روافد أساسية للنقد الأدبي .. نحتاج لمنابر نقدية متخصصة مثل فصول، لكننا أيضاً وأساساً نحتاج لمنابر سيارة وشعبية للنقد لعلها تكون وسيلة لفتح الباب أمام جيل جديد من النقاد العرب.
رواية مصاصو الحبر للفتيان، وصلت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد

جديد فرغلي
• أخيراً .. هل من مشاريع ابداعية بدأت تلوح في الأفق؟
- عادة قبل أن أنتهي من أي نص أكون قد فكرت في نصين مختلفين، وقد شرعت بالفعل فيهما، واستقررت على النص الذي سأستمر فيه حتى يكتمل، ولدي نية لكتابة جزء ثالث من روايتي المتواليتين "ابتسامات القديسين"، و"جنية في قارورة"، وأتمنى أن تصدر الثلاثية في كتاب واحد، وطبعا بدأت في رواية جديدة للفتيان لسن 12 – 14 عاما.
نشر هذا الحوار في القسم الثقافي "أيام الثقافة" في صحيفة الأيام الفلسيطنية في فبراير شباط 2016

Friday, March 4, 2016

ناجي والمسؤولية


تغريدة

ناجي والمسؤولية

إبراهيم فرغلي


 نشرت في "القاهرة" في 1 مارس 2106


يتصور البعض أنني تنبأت باختفاء كتب نجيب محفوظ حين قدمت تصورا أدبيا لهذا الافتراض في روايتي "أبناء الجبلاوي"، ثم فوجئت بما حدث لروايات الرجل من سيناريو شبيه تقريبا.
ثم سألني البعض أسئلة شبيهة تخص توقعات شبيهة في "معبد أنامل الحرير"، بعد أحكام السجن التي طالت كل من فاطمة ناعوت، وإسلام البحيري، وأحمد ناجي.
والحقيقة أنني فيأسوأ كوابيسي لا أستطيع توقع لا هذا السيناريو ولا ذاك. فلا زلت حتى اليوم، رغم كثرة ما مررنا به من تجارب سجن الكتاب أو التنكيل بهم، لا أستطيع أن أصدق خبر سجن كاتب أو حتى الحكم عليه. يظل الخبر في حد ذاته بالنسبة لي كأنه مسألة كابوسية، مكانها الحلم، الخيال، ولكن ليس على أرض الواقع. أتلقى الخبر مصفوعا وغير مصدق تماما كما حدث أيضا عقب معرفتي بخبر سجن ناجي، خصوصا أننا كنا تنفسنا الصعداء قبل فترة بعد حصوله على البراءة في جلسة الحكم الأولى، ولم نعرف باستئناف النيابة إلا بعد صدور حكم السجن.
 وأعتقدأننا قد أتخمنا من إدانة أحكام السجن، التي تتوالى ونحن نقف أمامها عاجزين، مندهشين من التهم التي يتعرض لها النص وكاتبه، نصرخ بإدانة السجان ونبكي على حرية التعبير المغدورة. 
نعرف جميعا أن كل هذه الأحكام تتناقض مع بنود الدستور التي أقسم على الحفاظ عليها رئيس الدولة وأعضاء حكومته، ونواب البرلمان، ونعلم أن الغالبية العظمى من القضاة الذين يصدرون هذه الأحكام يغتنمون فرصة تناقضات وازدواجية التشريعات التي تتناقض بدورها مع الدستور، لكنها مفعلة وبموجبها يمكن الزج بالناس للسجون. وأن هؤلاء القضاء في غالبيتهم يتسمون بالمحافظة، كما نعلم أن كل هذه القضايا التي أدت إلى مصادرة كتب أو منع تدريسها أو ألقت بالكتاب في السجن كان وراءها دوما شخصيات من المجتمع، وبعضهم لا ينتمي حتى للسلطتين الدينية أو السياسية، مثل محمد عباس في قضية وليمة لأعشاب البحر، أو المحامين الذين يتبرعون للوشاية بالنصوص التي يتربصون بها بدعوى أن قلوبهم الضعيفة لم تحتمل ذكر الأشياء بأسمائها، أو حتى بعض الجهلة الذين حاولوا قتل نجيب محفوظ أو الذين قتلوا فرج فودة.
 نعرف كل هذه الوقائع التعيسة، لكننا نكتفي بالشجب والمؤتمرات والتضامن، بينما أعتقد أن هذا الزمن قد انتهى, وأصبح على الجميع أن يجدوا وسيلة عملية فاعلة يثبتوا بها تناقض الأحكام مع بنود حرية التعبير في الدستور لوقف هذه الأحكام فورا. والأمر الثاني تكوين جبهة بالتعاون مع نواب مجلس الشعب من أنصار حرية التعبير ورجال القانون والمجتمع المدني لكي يتبنى أحد النواب تشريعا يقضي بمنع القوانين السالبة للحريات في المجتمع المصري. 
وأظن أن وزير الثقافة المصري أيضا وبصفته أحد المدافعين عن حرية التعبير مطالب بأن يكون طرفا في تبني، أو على الأقل دعم، مثل هذه الجبهة وتيسير السبل لها لكي تحقق هذا الهدف.

دعونا نعترفأننا جميعا نتحمل جزءا من المسؤولية، بالإهمال أو التراخي أو عدم الاصطفاف، أو التحرك المتأخر باستمرار والاعتماد على ردات الفعل بدلا من أن نكون فاعلين، لكي نتحمل جميعا مسؤولياتنا في استعادة حق كل مواطن مصري في ممارسة حرية التعبير بقوة الدستور والقانون. 

Wednesday, February 17, 2016

دولة المراهقين


تغريدة 

دولة المراهقين

إبراهيم فرغلي



نحتفل هذا الأسبوع بالذكرى الخامسة لثورة 25 يناير، التي أطاحت بواحد من أفسد الأنظمة التي حكمت مصر في تاريخها، ولكننا حين نتأمل الوضع السياسي والمعارض والمؤسسي من حولنا، فلا نرى إلا مجموعات من المراهقين. مراهقون سياسيون لا يمتلكون سوى بعض الخطب والشعارات، وأحزاب بلا جماهيرية لغياب العمل الحزبي الجماهيري من الأساس، ونواب برلمان لا يصلح بعضهم إلا لتأليف قواميس للسب، أوإلهام بلطجية الشوارع بكيفية الابتذال داخل المؤسسة التشريعية للدولة. كما قد لا يصلح البعض منهم إلا لجلسات الثرثرة على مصاطب قضاء أوقات الفراغ بجوار الترع. ويا للعار!
جهاز شرطة، سيحتفل بعيده أيضا في نفس الوقت، يُشهد له بأنه تمكن من استعادة الأمن، وإنقاذ الدولة من البلطجية، ويضم قطاعات من كفاءات مقاومة الإرهاب، والعمل الأمني، المشهود لهم بالكفاءة والتضحية بالذات، وإنقاذ الدولة يوميا من عناصر المخططين لإرهاب الدولة. ولكنك تسمع، أيضا، عن عناصر من نفس الجهاز ممن يمنعون ضيوفا من المثقفين العرب من دخول البلاد، أو منع بعض المواطنين من السفر، وإلقاء القبض على عناصر من شباب صغير هنا وهناك من دون تهم حقيقية، وقيام بعض مراهقي هذا الجهاز بتعذيب مواطنين حتى الموت تحت سمع وبصر المصريين والعالم بلا رادع.
وقس على ذلك مراهقي مؤسسات عديدة في الدولة ممن يجيدون توصيل أصواتهم للإعلام الذي يحتفي بالابتذال أينما كان. يتناثرون في كل مكان حتى في المؤسسة الدينية مع الأسف.

شباب ثوري يفتخر، وله الحق، بأنه شارك في ثورة 25 يناير، بعيدا عن الإخوان ومن لف لفهم، لكنه يتصور أن الثورة مجرد حلم رومانسي طويل، وليست عملا بدأت شرارته بأحداث 25 يناير، وتحتاج لجهد دؤوب؛ سياسي، نعم سياسي، وتثقيفي وإعلامي على الأرض، في مجتمع لا تزال نسبة الأمية فيه تفوق الخيال. ويكتفي، فقط، باستعراض قدراته في الغمز واللمز.
مخربون للغة يدونون أفكارهم بالعامية بزعم "الوصول للناس"، من دون تقدير لمستقبل هذه الآفة التي ليست سوى مرحلة مراهقة خطيرة من تشويه اللغة، تعبر عن التباس الهوية، وتشوش الأفكار.
مثقفون مشغولون بإلقاء التهم على بعضهم البعض، أو بمنافع صغيرة من مؤسسة الثقافة الرسمية، بدلا من الانشغال بإنتاج الفكر والثقافة والاشتغال على أنفسهم.
مجتمع يعاني من النكوص، لا يرى فاجعة مراهقته المتأخرة أو الأصيلة، ولا يدرك أن النضوج هو ما ينتقل بالمجتمعات من الحضيض إلى القمة، وأن العمل والمبادرات الجادة لكل فرد في مجاله أبرز وسائل النضج والنهضة.

مع ذلك فالمراهقة بسمتها المتمثل في طاقة الاستفزاز التي يمتلكها المراهق، لتوقه دخول عالم الناضجين، ويقينه أنه لا يمتلك من أدوات ذلك العالم شيئا، لا يمكن أن تستمر، لأن دولة المراهقين، مهما تباهى فيها المراهقون بعدم نضجهم، لا تعدم المخلصين الصامتين من أصحاب الرسالات الإنسانية، في الطب والعلم، والفن والموسيقى والأدب، والسياسة والاقتصاد، وحتى في الداخلية والجيش والدبلوماسية. فهؤلاء هم منبع الإلهام وإن لم ينتبه لهم اليوم أحد، ووقود النضج القادم؛ على يد أجيال ستنتفض على المراهقة لتحقق المستقبل اللائق. فتحية إلى المخلصين، في الدولة وبين أفراد الشعب، الذين يعملون بلا ضجيج، ويعلموننا الإخلاص والأمل والسبيل الى النضج.

نشرت في "القاهرة" في 19 يناير 2016

طعنة الشعر

تغريدة
طعنة الشعر!

إبراهيم فرغلي

"كتيبة سوداء" أم "يحمل جبلا بين كتفيه"؟ أو لعلنا يمكن أن نصوغ السؤال بطريقة أخرى أيضا: نجيب محفوظ أم أحمد شوقي؟
لكن يجب أن يحذر جيدا من يود الإجابة، ويتريث، فقد تكون الإجابة أخطر مما يتصور أحد.
نعم، فقد تداولت الصحف الغربية، مؤخرا، خبرا غريبا عن جريمة قتل راح ضحيتها رجل روسي في السابعة والستين على يد صديقه، المدرس المتقاعد، إثر نقاش حول أحقية نوعين أدبيين بالتفوق، فبينما ذهب القتيل إلى أحقية السرد أن يجلس على عرش الأدب، لم يحتمل القاتل أن يهوي صديقه بالشعر من أعلى عرش مملكة الأدب فطعنه بسكين وفر هاربا.
معركة أدبية روسية على الشعر والسرد، كأن العالم لم تعد تكفيه الخلافات على الطائفة والعقيدة والمذهب السياسي والإيديولوجيا.
وبهذا أصبح سؤالا مثل: دوستويفسكي أم بودلير؟ مثلا أو الحب في زمن الكوليرا أم الأرض الخراب؟ سؤالا يحتاج للكثير من التفكير قبل الإجابة إذ قد يكون ثمن الإجابة الخطأ طعنة من سكين الشعر، أو رصاصة السرد في الجبهة.
نعم رصاصة في الجبهة كتلك التي تلقاها مواطن روسي آخر في منطقة قريبة، كان سبب إطلاقها تلك المرة الفيلسوف الألماني كانت. رصاصة وسكين قتلا شخصين في بلد يعرف بأن أهله الأكثر قراءة في العالم. فأين الخطأ؟
مرة أخرى الخطأ في السؤال؟ الأفضلية الثنائية المستلبة من ذهنيات القرون الوسطى التي لا تستطيع أن تزن قيمة أي شئ إلا عبر معيار الصواب والخطأ؟ المثالية التي تحتوي في قلبها جوهر الخطيئة التي عرفتها البشرية مبكرا حين لم تكن قيم الحوار والنقاش والاختلاف قد ولدت بعد.
هذه الواقعة المدهشة في الحقيقة تعود لتدق جرس الإنذار، لتؤكد أن الخلاف المذهبي بين العوام ليس هو الخطر الوحيد الذي يتهدد البشرية التي تتقدم نحو حتفها بإصرار بسبب من جنون الاختلافات والصراعات، بل يتهدد حتى العقلانيين الذين يتحزبون لأفكارهم وإيديولوجياتهم ويقينهم فيما يرونه خيرا وعدلا، ولكنهم لن يتورعوا، إذا احتدم الخلاف، عن إقصاء الآخر، بأي وسيلة، قتلا بالرصاص أو حتى بالإقصاء والتجاهل بغية القتل المعنوي، وهو ما نراه جميعا اليوم واضحا وساطعا بجلاء التحزبات القبلية للقيم والأفكار المتنازع حولها والمختلف عليها.
وكما يبدو خبر الصراع على الأدب وأحقية الأنواع الأدبية بسيادة عرشه عبثيا بل وعدميا، لا يعرف المرء حتى كيف يستقبله من فرط جنونه، فإن انقسام النخب اليوم وإن بدا مغلفا بالتعالي الأخلاقي الذي يتسلح به كل فريق، لا تختلف دلالاته عن هذا العبث. إذ يكشف الانغلاق الذهني المغلف بقشور الأفكار النخبوية وامتلاك الحقائق المطلقة، خصوصا ممن يتحركون وفق مبادئ يؤمنون بها بعيدا عن أية مصالح من أي نوع بين فرق المختلفين والمتناحرين.
صحيح أيضًا أن المسارات التاريخية تضع الجميع على منصة الاختبار، وتفرز المدعين في الأدب والنقد والثقافة عن سواهم من أصحاب المواهب، ولكن العقلاء في الجانبين مدعوين لمراجعة ليس أفكارهم، فهذا حق الجميع، وإنما في أخلاق الاختلاف، وفي طرح الموضوعية أساسا لكل اختلاف، واستبعاد الشخصاني عن الموضوعي، وتفريق الإنساني عن السياسي، فكما تكون للمبادئ جذور فإن التعبير عنها له مبادئ أساسها الحوار والدفاع عن حق الاختلاف.

 نشرت في جريدة القاهرة الثلاثاء 17 فبراير 2016




Friday, February 5, 2016

رغيف ودستور !



تغريدة

رغيف ودستور!

إبراهيم فرغلي

تابعت مبادرة رغيف وكتاب، لمؤسسة بتانة الأهلية، التي دشنت مع فعاليات معرض القاهرة للكتاب هذا العام. أولا لأني من المتحمسين لأي مبادرة "عمل" إيجابية؛ بوصفها جزء من صناعة الأمل الذي تعيش به الحضارات وتنتصر على هزائمها، وتاليا لأن الفكرة وجيهة، بداية من دلالاتها الرمزية في أن يصبح اهتمام الفرد بالكتاب مماثلا لاهتمامه برغيف العيش، مرورا بأنها توفر كتابا بسعر يكاد يكون رمزيا لأفراد ربما لا يكون بينهم من فكر في شراء  كتاب من قبل.

أسعدني أن تلقى المبادرة الإقبال، في مجتمع تشتد فيه اليوم وطأة الظروف الاقتصادية على الجميع، حيث أصبح الغلاء ظاهرة تطبق بخناق البلد، للسلع كافة تقريبا،  فما بالك بالكتاب، الذي يعد رفاهية لكثير من فئات الشعب.

لكن، هل كل من يمتلك بطاقة التموين من الأساس يمتلك مهارة القراءة؟ وللإجابة اطلعت على الإحصاءات الخاصة بنسبة الأمية في مصر. وكما هو متوقع وجدت أرقاما مفزعة، فالإحصاءات الموثقة تشير إلى وجود نحو 17 مليون أمي أبجدية في مصر، وإحصاءات غير رسمية ترفع هذا التقدير إلى ما نسبته نصف عدد السكان، ناهيك عن الأمية الثقافية.
يعني هناك نحو 20 مليون شخص تقريبا،أضف إليهم المتسربين من التعليم، والأميين ثقافيا، لا يصل إليهم شيئا من كل وسائل النشر المطبوعة في مصر. وغالبا يتغذون إما على الإعلام المريض الذي يبث سموم التخلف يوميا، أو على خطب الدعاة المتطرفين الذين يبثون سموم كراهية الآخر، ويغيبون قيمة العلم والعقلانية في خطابات لا حد لها.
عدت إلى الدستور المصري فوجدت المادة 25 تنص على التزام الدولة" بوضع خطة شاملة للقضاء على الأمية الهجائية والرقمية بين المواطنين فى جميع الأعمار، وتلتزم بوضع آليات تنفيذها بمشاركة مؤسسات المجتمع المدنى، وذلك وفق خطة زمنية محددة".
أما المادة 48 فتنص على "الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة وتلتزم بدعمه وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافي أو غير ذلك. وتولي اهتمامًا خاصًا بالمناطق النائية والفئات".
لكن كيف تكفل الدولة الثقافة لكل مواطن، بينما هناك نحو ثلث السكان تقريبا يفتقدون الأداة الرئيسة الخاصة باستقبال الثقافة ممثلة في القراءة والكتابة؟
ثم إذا كان الدستور المصري يقضي بضرورة إنهاء الأمية في زمن محدد فأين هي هذه الخطط؟ وما هي مؤسسات المجتمع المدني التي ستعاون الدولة في ذلك؟ وكم عاما سنحتاجها للقضاء على الأمية في مصر حقا؟
هذه الأسئلة لا تتعلق بمدى احترام بنود الدستور من الدولة فقط؟ بل هي أسئلة ضرورية لرفع مستوى تأهيل قطاعات كبيرة من المواطنين الذين يمارسون أعمالا في أنشطة الدولة لكن تكلفتها باهظة  بسبب عدم الكفاءة، أو العمل العشوائي في قطاعات النقل الأهلي بعيدا عن رقابة الدولة، أو في أعمال البلطجة والجريمة، وبينهم بعض فئات تستعين بهم الداخلية في عملها الذي أصبح صداعا في رأس الدولة بسبب الممارسات غير المسؤولة والوحشية ايضا في كثير من الأحيان. 
مشروع كتاب ورغيف لمؤسسة بتانة الاهلية مشروع نبيل ومهم، لكنه يحتاج تضافر جهود الدولة ووزارة الثقافة والتعليم لكي يحقق المأمول منه في اسرع وقت ممكن.


 نشرت في جريدة "القاهرة" الثلاثاء 2 فبراير2016

Tuesday, February 2, 2016

الغالب والمغلوب


تغريدة

الغالب والمغلوب

إبراهيم فرغلي

خلال الاحتفاء الشعبي بمرور39 عاما على انتفاضة 17 و18 يناير 1977، التي تعد واحدة من أقوى الانتفاضات الشعبية ضد السلطة الحاكمة في عهد الرئيس السادات، تناول العديد من جمهور وسائل التواصل الاجتماعي المناسبة بالاحتفاء. وبغض النظر عن المعنى المقصود من استدعائها، فقد لفت انتباهي قيام البعض بتدوين بعض الشعارات التي نادى بها الغاضبون تعبيرا عن رفضهم لسياسات رأى الشعب أنها تأتي على حساب الفقراء وتزيد من تجويعهم.
توقفت متأملا شعارا بثه صديق مقرب استدعاه من تراث الهتافات الشعبية آنذاك يقول: "لما الشعب يقوم و ينادي.... يا احنا يا هُمّا في الدنيا دي.. شوف من فينا هيغلب مين".
وبعيدا عن كونه شعار يأتي من زمن آخر، وعبر جمهور أغلبهم اليوم في عقدهم السادس تقريبا، يرفض سلطة بعينها في ظروف تاريخية محددة، لكنه بدا لي ملخصا لأزمة عميقة في ذهنية "المعارض" المصري.
فالشعار يشير إلى عقيدة معارضة تنبني على وضع السلطة كلها في كفة وكل المعارضة في أخرى. وتصور العلاقة بينهما كعلاقة خصمين لا يمكن أن "ينتصر" أحدهما إلا بإبادة الآخر.
وعلى مستوى التعبير عن القهر فإن الشعار يجمع بين جماهير الشعب عاطفيا، ضد إرادة المستغلين والفاسدين، مع الأخذ في الاعتبار أن تلك السنوات شهدت وجود كفاءات سياسية وحزبية وفكرية  في كل من معسكري السلطة والمعارضة معا.
أعتقد أن هذه الذهنية تعبر عن نوع منالمراهقة السياسية التي لم تتمكن من تغيير الخطاب الذي استلبته من تاريخ المقاومة الوطنية ضد الاستعمار والاحتلال، فاستخدمته كما هو، من دون تمييز من الفارق بين معارضة الاحتلال التي تأخذ شكلا حادا، دونه الموت، من سلطة الاحتلال، وبين طبيعة المعارضة في حالة وصول حكومة وطنية إلى السلطة لا يمكن النظر إليها كعدو، مهما اختلفنا أو اتفقنا على الممارسات الفاسدة أو الجاهلة أو الفاشلة التي تمارسها، لأنها في الحقيقة، هي تمثل بديلا سياسيا من المفترض أن تعمل المعارضة على إقصائه لتقدم البديل المتضمن للسياسات والإجراءات التي تود أن تقدمها كبديل للسلطة الحاكمة.
وبافتراض نجاح قيادات ثورة 1977، فهل المفترض أن تعد نفسها حكومة خصومة مع كل من قام بعمل سياسي في عهد السادات؟ وهل يعني ذلك أن يتحول الجمهور لخصوم مع السلطة الوطنية الجديدة إذا ما خالفت ممارساتهم توقعات الشعب أو مصالحهم؟
أظن أن هذا الشعار يحتاج للمراجعة، في ظل مناخ يفتقر الحد الأدنى من الثقافة السياسية كما يتجلى اليوم على الساحة السياسية الهشة، والبرلمان الجديد خير مثال. إضافة إلى أن ما يعبر عنه هذا الشعار ليس مجرد رفض سياسات بعينها بقدر ما يؤسس ويمثل رؤية أحادية تذكرنا بالخطاب الإقصائي السلطوي من جهة، وذلك المعبر عن خطاب المتأسلمين الذين يقتلون كل من يخالفهم تاليا.
في ظل ثقافة سياسة مراهقة كهذه سيكون من الطبيعي جدا، وربما البديهي أن يسود المناخ العام، الثقافي والسياسي، مفهوم التخوين كاتهام وحيد وبديل يستخدمه كل فصيل أو جماعة أو طائفة أو جماعة سياسية مع معارضيهم، ثقافة قبلية تنتهج قيام قبيلة أنصار السلطة أو قبيلة الثوريين بإقصاء كافة القبائل الأخرى والعكس صحيح. 

نشر في صحيفة القاهرة 26 يناير 2016