Monday, March 30, 2015

هندسة ثقافية

تغريدة
هندسة ثقافية!



من بين السلبيات التي أعتقد أنها تمثل منهجا للعمل الإداري في مجال الصحافة والثقافة في مصر، قيام المسؤوليْن؛ التحريري في الأولى، والثقافي في الثانية بشؤون الإدارة، من دون اعتبار لأن العمل الإداري يحتاج إلى دراسة متخصصة.
ولعل هذا ما يفسر أسباب الكثير من الخسائر التي تمر بها عديد المؤسسات الصحفية من جهة، والمؤسسات الثقافية من جهة أخرى. ورغم أي اجتهادات قد يقوم بها رئيس تحرير مثقف ومبدع ومبتكر فإن النتيجة كثيرا ما لا تصل إلى الأهداف المرجوة. وكذلك الأمر بالنسبة للعمل الثقافي، لأن ما يتم هنا في الواقع هو مجرد اجتهادات تتحرى الابتكار، لكن بلا أسس مدروسة، أو إعادة إنتاج لخبرات السابقين.
 بالتالي ينبغي أن نتجرأ ونعترف بافتقادنا لأبجديات الإدارة العلمية للصحافة والثقافة، وهو ما يؤكده قليل من تأمل أحوال عشرات من المحطات وكبريات الصحف والمجلات الكبيرة والمؤسسات الفنية في مصر، والتي تبدو في حال بائسة.
تداعت هذه الأفكار بينما أنصت إلى المخرجة والباحثة المغربية هاجر الجندي في ندوة بأيام الشارقة وهي تتناول بالتوضيح مجالا علميا جديدا تأسس في المغرب وهو علم "الهندسة الثقافية" الذي يتمحور حول تحديد وضبط النظم والوسائل الضرورية للتخطيط لسياسة واستراتيجيات المؤسسات الثقافية والقطاعات الحكومية والمقاولات الخاصة التي يستدعي تسييرها التعامل مع المعطى الثقافي بكل أبعاده.
ولعل الإخفاقات المتوالية في الاستراتيجيات الثقافية التي تعاقب عليها وزراء الثقافة من دون نجاح كبير يذكر قد يعود بالفعل إلى غياب فلسفة علمية متخصصة في إدارة العمل الثقافي ومؤسساته، وهو ما أتمنى أن تلتفت له الجهات الأكاديمية خصوصا في كليات الإدارة والإعلام.
أتناول هذا المفهوم بينما يخاتلني مشروع العاصمة الإدارية الجديدة التي أتمنى أن يدخل عنصر الهندسة الثقافية في استراتيجية تخطيطها، ليس فقط من أجل وضع حساب الأولويات الثقافية من متاحف ومسارح ومؤسسات النشاط الثقافي ودور السينما التي ستكون لها أولوية أولى في تحرير المجتمع من الأفكار الظلامية، بل وفي إيلاء الدولة أولوية للمنهج الثقافي في التخطيط ووضع اعتبارات مبدئية لمشروعات مستقبلية تحارب الزحام مثل المترو الأرضي والمعلق، والجسور العلوية متعددة الطوابق، والاستفادة من تجارب العواصم شديدة الكثافة مثل جاكرتا في إندونيسيا بعمل مسارات خاصة بالحافلات وبالدراجات البخارية.

وهذا جانب مكمل لمفهوم الهندسة الثقافية التي تهتم أيضا بالمعطيات الاجتماعية والثقافية، وتعتمد آليات مناسبة لمجالات تطبيقها، وهو رهان أي مجتمع يريد التطور، وربما طرح حلول حقيقية لأزمات العاصمة القديمة أيضا. 

Monday, March 16, 2015

حائط المبكى


تغريدة 

حائط المبكى!



إبراهيم فرغلي


أتابع ما يكتبه أنصار ما يسمى المبادئ الثورية، وأحاول أن أتأمل فيما يكتبون خيطا يقود لمستقبل ما، لطاقة أمل، لمبادرة فعل ما. لكني أعجز حقا عن الوصول إلى شئ من هذا. فأغلب تعليقات هذا التيار النقدية تأتي كرد فعل على "أفعال" أو تصريحات الرئاسة، أو بعض مسؤولي الدولة، وعلى ممارسات سلبية من بعض مؤسسات الدولة، وهذا حق طبيعي وأساسي في عمل الرقابة الشعبية على السلطة. لكن هل يمكن حقا اعتبار مثل هذه الانتقادات المستمرة، مع عدم طرح بدائل رقابة شعبية حقا؟

تنطلق دعوة لثورة إصلاح ديني في مؤسسة الأزهر فيسألون عن حقوق الفقراء وحقوق التعليم وحقوق الإنسان. يذهب الرئيس إلى الكاتدرائية لتهنئة المصريين الأقباط بعيد الميلاد المجيد، فيترحم البعض على الشهيد مينا دانيال! ويتندر البعض على كشوف العذرية. كأن الزمن توقف بهم، من دون فطنة للتغييرات التي لحقت بالجميع: السلطة والشعب وكل من يرغب في مصر جديدة قوية، حيث تم تجاوز الكثير من التفاصيل بسبب مستجدات عالمية وإقليمية، بل وظروف داخلية معقدة بسبب إرث الفساد واللاكفاءة.

 إن التعليقات وردود الفعل التي لا يمكن أن يخرج منها الفرد بفائدة لم تعد تصلح إلا لمجالس عواجيز الفرح، أو لتأسيس حركة "الثرثرة الثورية"، لأن غالبية الجماهير، منذ تسليم الثورة للإخوان ووقوف من سلموها لهم مكتوفي الأيدي، أدركوا أن المستقبل في يد من يملك الخيال والقدرة على الفعل، وليس في يد المتشرذمين المترددين المختلفين المتناقضين الحافظين للنظريات من دون أي أرضية لها علاقة بالواقع وفهم الناس. خصوصا أن أحدا منهم لم يقدم فكرة مشروع ثقافي يعمل لصالح دعم حرية التعبير مثلا، أو لتثوير المجتمع معرفيا، لا مشروع أهلي لمحو الأمية، أو مبادرة حزبية ثورية، لا مشروعات كتابة يمكن أن تستفيد من إمكانات اللحظة الثورية. لم نعرف بديلا مؤسسيا واحدا لما ينتقدون، لم يقدموا شيئا لهذا المجتمع غير التباكي عليه!

 هذه الممارسات يمكن أن تؤسس حائط مبكى ثوري، لكنها لا تسهم في تثوير زقاق في حي شعبي، ناهيك عن إعادة بناء دولة.

من دون مبادرات عملية على الأرض للعمل في السياسة أو تكوين لبنات معارضة سياسية ثورية تسهم في نقد السلطة من جهة وإعادة بناء الدولة من جهة أخرى ستظل مثل هذه الأقاويل محصورة في نطاقها "النخبوي" المتماهي مع خطاب تحريضي "معاد" للدولة يمثله تيار الإخوان والدواعش ومن لف لفهم.


أفيروس

تغريدة 

أفيروس!

إبراهيم فرغلي


كانت اللغة العربية لغة العلم، وعنها نقل الغرب بذور نهضته، وظل يتداول اسماء بعض أبرز العلماء العرب كما عرفها آنذاك، بنطقها اللاتيني. فابن رشد هو "أفيروس"، إبن باجه "أفيمبيس"، إبن سينا "أفيسينّا"، إبن طفيل "أبوباكير"، وغيرهم. وخصوصا من تم ترجمة أعمالهم خلال القرنين الحادي والثاني عشر.
واليوم لا تعد اللغة العربية لغة من اللغات التي تنقل عنها العلوم، وإذا أثيرت القضية انتقل النقاش فورا إلى "تعريب العلوم"، وأصبح الجدل حول جدوى تعريب العلم في أوساط عالمية تستخدم مصطلحات علمية عالمية متفق عليها، على الرغم من أن روسيا لها لغتها العلمية، وفرنسا والصين وغيرها.
أما في العالم العربي فالاتجاه الشائع الآن هو تفتيت اللغة العربية إلى اللهجات العامية. إذن في حالة إنتاج العلوم والفكر، إذا شاعت اللهجات العامية على حساب الفصحى، فإلى أين يمكن أن تذهب بنا اللهجة العامية بديلا للفصحى؟
أطرح السؤال كلما تأملت النصوص التي تحتفي بالعامية في الصحافة أو الإنترنت، أو في النصوص المكتوبة. ليس لأنني لا أستسيغ هذه النصوص في الحقيقة بل  بسبب الأفق الضيق الذي تدور فيه. والأفق الضيق هنا لا يعود إلى المخزون الثقافي والدلالي المحدود للهجة المحكية، التي تعتمد على اختيار مفردات يقصد بها معاني ودلالات أخرى فقط ، بل يتجاوز ذلك إلى محدودية قدراتها الدلالية في النقد أو الفكر أو العلوم أو الفلسفة، أو حتى الفقه، على الرغم من نجاح بعض التجارب الشعبية في التفسير مثل تجربة الشيخ الشعرواي.
الشاعر المغربي محمد بنيس يرى أن هجر اللغة العربية من أهل اللغة والأدب، لن تؤدي إلا إلى احتكار التيارات الإسلامية المتطرفة للغة العربية وجعلها وعاء لتلك الأفكار. وبالتالي ارتباط الفصحى بها.
من جهة أخرى لفت انتباهي الفيلسوف الهندي أمارتيا سين في كتابه "الهوية والعنف" إلى أن هذا التلاهي باللغات المحلية، وجعل الفصحى لغة للفقه وعلوم الدين وخطاب الاعتدال أو التطرف الديني، ليس بعيدا عما بدأت به هذا المقال. فهذا ما نجح الغرب أن يلهينا به، حين صور لنا أن أزمتنا الأبدية أننا متخلفين، وأن تخلفنا يعود لخطاباتنا الدينية المتشددة، وبالتالي لا مخرج لنا من مأزقنا إلا بجعل اللغة مجالا للتفيقه والإصلاح الديني، وبهذا جعل من لغتنا محلا للجدل والخلاف الفقهي والديني، ولكنها ليست لغة العلوم البحتة أو الرياضيات أو التقنيات الحديثة، فهذه لغة لا تمتلك إمكاناتها إلا لغات الغرب صانع الحضارة.


مقالي في "القاهرة" 17 مارس 2015

Friday, February 13, 2015

لماذا يجب ان ننزعج من زاب ثروت

"زاب".. مغنى راب هز عرش معرض الكتاب.. باع 15 ألف نسخة فغضب ناشرو الأعمال الجادة ومؤلفوها وثار المثقفون ضده.. ويرد على منتقديه: لا أكتب الأدب وتركت بعض صفحات الكتاب فارغة لكى يملأها القارئ 

      
كتبت سارة علامالأربعاء، 11 فبراير 2015 05:08 م
- زاب: هناك كتابات للمراهقين فى كل أنحاء العالم والمحتوى يتحدد وفقًا للفئة العمرية

- ناشر زاب ثروت: لا نسعى للكسب المادى ونشرنا لكبار الكتاب مثل بهاء طاهر ولدينا لجنة قراءة تختار الأعمال المنشورة وترفض أخرى
- 5 أسباب تدفع للانزعاج من زاب ثروت.. وروائيون: تخلف مناهج اللغة العربية أبعدت المراهقين عن قراءة الأدب فسقطوا فى فخ الأعمال التافهة

كتبت سارة علام 

زاب ثروت أو أحمد ثروت مغنى راب عشرينى، لم يكتف بشهرته فى مجال الغناء ضمن فريق كاريوكى الذى قدم أغانى ذاع صيتها أثناء ثورة يناير، ثم اتجه زاب للكتابة الأدبية، فأصدر ديوانى شعر عامية، أو تجاوزًا سنسميهما ديوانى شعر عامية، ومنهما إلى ما نسميه تجاوزًا رواية، اختار لها عنوان "حبيبتى"، كتبها باللغة العامية أيضًا، أو بما هو أقل من العامية فلنسميها لغة الشباب التى قد لا يفهمها الكبار، حتى أنه وضع فى بعض صفحات الروايةsmile face وكأنه يكتب على الإنترنت.



زاب ثروت باع 15 ألف نسخة فى حفل توقيعه الأول على حد ما صرحت به دار دون صاحبة الإصدار، وتسبب الزحام فى تكسير المقهى الثقافى مقر حفل التوقيع بل والتدافع والإغماءات بين قرائه من المراهقين.



أزعجت ظاهرة "زاب ثروت"، الوسط الثقافى كله، تمامًا مثل ما أغضب الروائيين تجاه الداعية عمرو خالد لكتابة الرواية، ولكن لماذا غضبوا؟، ولماذا رفضوا الاستماع إلى وجهة نظر "زاب" نفسه باعتباره مؤلف العمل؟، وما رأى ناشره فى كل ما قيل؟
فى هذا الملف، يتحدث زاب عن كتابه، ويفسر ناشره لماذا وافق على نشر عمل يوصف بالضعيف فنيًا؟



بداية، اعتذر زاب ثروت، عن عدم الاستمرار فى المكالمة لأنه يقود "الموتوسيكل" فى طريقه لمكان ما، ثم تبرأ مما نشر من سباب وشتائم وأوصاف جنسية فاضحة وخادشة للحياء على حد وصفه على الإنترنت ونسبت إلى كتابه الجديد "حبيبتى"، مؤكدًا أنها صور ملفقة نسبها البعض لكتابه فى إطار الهجوم عليه.



وعن ضعف مستوى روايته فنيًا، رفض زاب وصف "رواية" مؤكدًا أنها ليست رواية ولا ديوان شعر كما قال البعض على لسانه، بل هى مجموعة من الرسائل تتناول معنى كلمة حبيبتى ومن يستحقها فى حياتى أو حياة القارئ، كالأم والأخت والزوجة والوطن من وجهة نظرى.



وعن تركه لصفحات من الكتاب خالية، يقول زاب إنه قصد ذلك حتى يتيح للقارئ فكرة التفاعل معه، أو بمعنى أدق لكى يكتب القارئ رسائل مشابهة فى تلك المساحات.



وأضاف زاب: فى كل أنحاء العالم، هناك كتب للأطفال وكتب للمراهقين وكتب للبالغين، وتختلف طريقة التناول والكتابة وفقًا للفئة المستهدفة من القراء، بل إن التصنيف لفئة عمرية بعينها نفسه يتم بناء على طريقة الكتابة نفسها، وشكر زاب كل من اهتم بقراءة كتابه، بل واهتم بتوجيه النقد له.



الناشر محمد مفيد، صاحب دار دون للنشر، التى نشرت كتاب زاب ثروت، قال لـ"اليوم السابع"، إنها ليست المرة الأولى التى ينشر فيها "زاب" كتابًا بل له أكثر من إصدار من بينها ديوان شعر عامية "أجندة وسلام"، الذى صدر فى معرض الكتاب العام الماضى وحظى بحضور مشابه فى حفل التوقيع ولكن أحد لم يلتفت، كما سبق لزاب أن قدم ديوان شعر أيضًا بعنوان "سبعة أيام" فى معرض الكتاب العام قبل الماضى وحظى بحضور مشابه.



وأوضح مفيد، أن زاب فضل هذا العام أن يكتب رسائل إلى حبيبته من وجهة نظره ضمن أدب الاعترافات، مؤكدًا أنه زار معرض فرانكفورت الدولى للكتاب منذ خمسة أعوام وكان أدب الاعترافات يحظى بإقبال جماهيرى كبير من القراء الألمان، وهو النوع الأدبى الذى لا يعرفه أحد هنا، إلا كتاب السيرة الذاتية الذين يكتبون اعترافات ضمن تجربة حياتهم كلها.



واستطرد الناشر، نشرت أول كتب أدب الاعترافات للكاتب أحمد مهنى تحت عنوان مزاج القاهرة وهو كتاب رصين جدًا وحقق نجاحًا كبيرًا،ما يعنى أن الباب أصبح مفتوحًا للمزيد من الكتابات من هذا النوع، مشيرًا إلى أن هذه الكتابات تستهدف الفئة العمرية من 14 سنة إلى 21 سنة، وهى نفس الشريحة التى يستهدفها زاب ثروت بكتابه الأخير "حبيبتى"، وهى كتابة الهدف منها تعويد صغار القراء على فكرة القراء، فمن يبدأ بأعمال بسيطة للمراهقين، سيقرأ يومًا ما لكبار الكتاب.



وأشار الناشر، إلى أن دار دون كانت تتوقع أن يحظى زاب بكل هذا الإقبال الجماهيرى فى حفل توقيعه، حتى إنها قررت إقامة الحفل خارج صالات عرض الكتب، واختارت المقهى الثقافى لذلك، نافيًا ما يروج عن الدار باعتبارها تهدف للربح المادى على حساب جودة الأعمال الإبداعية.
وقال مفيد، إن دار دون منذ تأسيسها تستقطب شرائح مختلفة من الكتاب بينهم كبار الكتاب مثل بهاء طاهر الذى نشرت له الدار كتاب أيام الأمل والحيرة، وكذلك الكاتب بلال فضل والكاتب أسامة غريب، بل إن الدار جازفت بنشر مجموعة قصصية لشاب يبلغ من العمر 14 عامًا، وواجهت هجومًا كبيرًا بسبب صغر سنه، كما نشرت مجموعة قصصية باسم "بس يا يوسف"، وحصلت على جائزة ساويرس فى القصة، لذلك فإن الدار تحرص على التنوع فى الإصدارات وليس الكسب المادى.



وعن معايير اختيار الأعمال المنشورة عن دار "دون"، قال الناشر، إن الدار لديها لجنة قراءة تتألف من خمسة من الكتاب ذوى الباع فى الكتابة والنشر رافضًا الإفصاح عن أسمائهم، بالإضافة إلى مدير للتحرير ومدير للنشر يرفضان الأعمال رديئة المستوى، وفى كتاب زاب ثروت كان لدينا هدف محدد وحققناه هو الوصول إلى شريحة من القراء صغار السن.



لماذا أغضبت أرقام مبيعات "زاب ثروت" المثقفين وأصحاب الأعمال الجادة؟



الروائى إبراهيم فرغلى، الذى كتب مؤخرًا رواية للمراهقين بعنوان مغامرة فى مدينة الموتى، يرى أن الفجوة بين المراهقين وأصحاب الكتابات الجادة، يعود لتخلف منهج تعليم اللغة العربية فى مدارسنا أولاً، فما زالت الكتب المقررة على المناهج تعود لعقود مضت، وما كنا نقرأه كمقرر دراسى فى الأدب قبل ثلاثة عقود ما زال يدرس للآن، وكأن التاريخ الأدبى قد تحجر فى وزارة التعليم والقائمين على تخريب الذائقة الأدبية لأجيال متعاقبة، بالإضافة لشيوع ظواهر التسطيح والتفاهة الأدبية التى تروج لها قطاعات من الشباب باسم أنهم جيل جديد مختلف، وكأننا لم نكن مراهقين تربينا على طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، جنبًا إلى جنب مع المغامرين الخمسة والشياطين الـ13، وهو ما قادنا لاحقًا إلى القراءات الجادة فى الأدب والفكر والفلسفة. مع غياب مؤسسات الترويج القوية والمبتكرة لدور النشر الخاصة التى يمكن أن تلعب دورًا فى نشر الكتابة الجيدة سواء للشباب أو من الإنتاج المعرفى عمومًا، إضافة إلى الغياب التام للإعلام فى الترويج للمعرفة والفكر والفلسفة والعلوم والاكتفاء بالثرثرة والجدل اليومى الذى بات أشبه بصراع الديوك الذى أصاب المجتمع كله. 



ولفت فرغلى، إلى أن مثل هذه الظواهر ليست إلا كرة ثلج مهما كبرت تظل هشة وتنفجر عند أول منعطف، بعد أن تحقق أهدافها التجارية لصانعيها والمروجين لها، مضيفًا: أن الكاتب الذى يضلل قراء سطحيين ولا يمتلكون خبرة معرفية ولا ذائقة بالكتابة الأدبية، سواء كان يمتلك ما يقوله أو كان فارغا يتحول إلى ضحية لنفس هذا الجمهور الذى لن يقبل منه إلا بما ارتضاه له من البداية من سطحية وخفة. 



فرق الشاعر سمير درويش مدير تحرير مجلة الثقافة الجديدة، بين القارئ الحقيقى والموسمى، ورأى أن الأول يبدأ بقراءة أدب الأطفال والناشئة والأعمال الأدبية الخفيفة، ثم يتدرج فى التورط حتى يصير قارئًا مدرَّبًا يعرف مكامن المتعة ويغوص فيها، ولا يضيع وقته فى متابعة الكتابات الرديئة التى يتوهم أصحابها أنهم كتاب، ولا تخدعه أرقام التوزيع استنادًا إلى علمه أن الأعمال السطحية والتى تغازل حواس المراهقين أوسع جماهيرية من الأعمال الثقيلة، ليس فى الأدب فحسب، بل وفى السينما والموسيقى والغناء والفن التشكيلى والمسرح.. إلخ.



أما القارئ الموسمى فهو الذى يبحث عن إشباع سريع لحاجة مؤقتة، يعبرها هو نفسه بتغيير حالته النفسية والمزاجية والاجتماعية والعاطفية، من ذلك مثلاً أن نصف الشباب يكتبون الشعر فى سن المراهقة، ثم ينسون الأمر ويخجلون منه بعد الزواج وإنجاب الأطفال والانخراط فى العمل. هؤلاء ليسوا قراء حقيقيين، ولا يعول عليهم، وهم جمهور "زاب ثروت" و"أوكا وأورتيجا" و"بوسى"، وأفلام المقاولات، لذلك لن يستطيع زاب أن يحتفظ بهم كثيرًا، فسيذهب ويذهبون ككثير من الظواهر المشابهة.



وتابع: شخصيًّا لا أقلق من هذه الظواهر وأراها طبيعية ولازمة لاستمرار الحياة، وأنا مقتنع أن جمهور الأدب الراقى لا بد أن يكون محدودًا إذا قيس بجمهور الكتابات المراهقة، مثل أن جمهور البالية لا يقاس على جمهور الرقص الفاضح، وأفلام المهرجانات لا يقاس جمهورها على أفلام البورنو وأفلام المقاولات. فلنحافظ على توازننا وصحتنا النفسية، وننظر لتلك الظواهر باعتبارها ملح الحياة، ولا تؤرقنا، ولا ننشغل بها قدر انشغالنا بإبداعاتنا التى تؤثر فيمن يتابعها تأثيرًا حقيقيًا ودائمًا وعميقًا.



الكاتب سامح فايز، الذى يعمل على رصد ظاهرة البيست سيللر فى كتاب يصدر قريبًا، قال أن والخطورة الأكبر من وجهة نظرى تتمثل فى حالة الانفصال التام بين الشباب وبين الكتابة الجادة، وتأسيسهم لعالم خاص بهم لا يقرأون سواه، حتى ظنوا أن ذلك هو الأدب المطلوب. إلى جانب عزوف الحركة النقدية والثقافية الحقيقية عن بلورة وتقنين هذه الحالة تحت دعوى أنها أعمال ركيكة وتافهة،ذلك أن هذه الأعمال أصبحت المسيطرة على حركة الكتاب فى مصر وبعض الدول العربية أيضًا.



5 أسباب تدفعك للانزعاج من "زاب ثروت"



• مبيعات زاب ثروت مزعجة ومزعجة جدًا لأن الكتابة الجادة تبحث عن قراء، أو تجد قارئًا نوعيًا مقابل كتابة بسيطة وهو التعبير الأكثر تأدبًا، لأنها ليست كتابة فى الأساس، غضب الروائيون لأن حياتهم التى كرسوها للقراءة والكتابة وللاجتهاد فى البحث عن الجديد فى عالم الكتابة الواسع لا تجد من يقدرها إلا لجان تحكيم الجوائز الأدبية، بينما يعيش الكاتب عمره كله وهو يحلم بقارئ منتظر.



• ظاهرة زاب ثروت مزعجة ليس من قبيل الغضب على الكتابة كقيمة كبيرة وفن عظيم، بل لأنها توحى بما هو أخطر، تدق أكثر من جرس إنذار حول اختيارات الجيل الجديد الذى يميل إلى تسطيح فكرة القراءة، وهى فكرة مقدرة دائمًا فى مجتمعات لا تقرأ، خطيرة لأن الإقبال على أعمال مكتوبة باللغة العامية يعنى التخلى عن اللغة العربية كلغة قراءة نهائيًا وهى اللغة التى تعانى من مشكلات فى تعليمها خاصة مع زيادة الاقبال على تعليم اللغات الأجنبية، فتصبح القراءة ملاذها الوحيد وخط دفاها الأخير، رغم تقديرنا البالغ لفن الشعر العامى وهو فن عظيم وكبير له قواعده التى يضربها كتاب البيست سيللر عرض الحائط من أجل قراء أكثر.



• ظاهرة زاب ثروت مربكة لأنها تعنى أن نظرية السبكى تتمدد لتشمل كل جوانب الفن، نظرية السبكى أى الأرباح الكثيرة مقابل ضآلة القيمة الفنية للأعمال، كان السبكى منتجًا لأفلام تجارية رديئة ثم صار السبكى أسلوبًا للحياة، فى كل فن لدينا سبكى جديد، سبكى فى الكتابة وهو دور النشر الصغيرة التى تبحث عن أرباح هائلة ولا تلتفت لمستوى ما تقدمه، وسبكى فى الصحافة وهو المواقع الصغيرة التى تقوم على الكذب والأخبار المفبركة، وغيرهم من السبكى.




• ظاهرة زاب ثروت قاتلة، لأنها تعنى أن المستقبل القريب سيشهد انسحاب دور نشر كبيرة ومحترمة من نشر أعمال أدبية حقيقية ولائقة لصالح نشر أعمال أخرى معدومة القيمة ولكنها عظيمة الفائدة المادية، فيتزامل كاتب كبير كالمنسى قنديل مثلًا مع زاب ثروت فى دار نشر واحدة، ويبيع الثانى آلاف النسخ بينما يبحث الأول عن قراء.



• ظاهرة زاب ثروت مزعجة، لأنها تعنى ببساطة إننا سنمل من مواجهة انحدار الذوق العام إلى هذا المستوى، مع استمرار اتهام الكاتب الجاد بالاستعلاء على قرائه بينما يحاول ثروت أن يصل لهم، وهى حجج غير منطقية أيضًا لأن الجيل الجديد من الكتاب الشباب طور أساليب وتجارب الكتابة حتى صارت فى متناول القراء كلهم، دون الاستجابة لدعوات السقوط فى فخ الابتذال والاستخفاف بالكتابة كقيمة.



• لا أفهم كيف تطوع البعض بالدفاع عن زاب ثروت بحجة حرية الرأى والتعبير، نحن لا نعادى حرية التعبير ولكننا نبحث عن مستوى يليق بمن يمتهنون مهن الرأى والتعبير وعلى رأسها الكتابة، ومن ثم فإن الدفاع عن الـ"زاب" بهذا المنطق كمن يدافعون عن حرية طهى الحشرات فى مطابخنا لأنها ستجد من يأكلها.

Monday, January 26, 2015

ثقافة التخفي


تغريدة 5
ثقافة التخفي!



قبل ما يناهز ثلاثة عقود تقريبًا قرأت مجموعة "الموت يضحك" للقاص المبدع الكبير محمد المخزنجي. وفي واحد من نصوص الكتاب تناول سيكولوجية السِتْر عبر قصة شخص أراد أن يعتزل العالم، فاختبأ في ثياب منقبة، حتى تحول الأمر لديه إلى رغبة في الهروب المستمر من الحياة.
منذ قرأت تلك القصة وأنا أنظر لكل منقبة باعتبارها مشروعا للهروب من الحياة، لإخفاء الهوية، لاعتزال العالم، للقبول بتصنيف ذكوري يصنفها في مرتبة أدنى، للقبول بالتهميش، للقمع الذاتي، وغير ذلك مما تطرحه ثقافة التخفي.
حين ذكرت الأسبوع الماضي أن الإصلاح الديني يقترن بتحرير الجسد، سألني صديق وكيف نحرر الجسد؟ وهذا سؤال مهم سأعود إليه مرارا، لكني أود التوقف عند جانب رئيس في موضوع النقاب باعتباره يجسد جوهر فكرة قمع الجسد العربي ذاتيا عبر أفكار مغلفة بالدين، ويتعلق، في الوقت نفسه، بجوهر فكرة تحرير الجسد.
وبعيدا عن الجدل النصي والنقلي، وإعمالا للعقل، انطلاقا من أن الشرائع السماوية لا يمكن لها أن تناقض العقل، فلست أظن أنه من العقل، حين نطالب بدساتير تقول بالمساواة التامة بين المواطنين، ألا تفترض هذه المساواة بالضرورة الاتفاق على أن المرأة قادرة على القيام بكافة ما يمكن أن يمارسه الرجل من أعمال. وفي هذا العصر لا يمكن أن نتصور أن طبيبة متخصصة في جراحات القلب مثلا يمكنها أن تقوم بعملها متسربلة بالنقاب، لا ترى جسد مرضاها بشكل واضح، وتتقيد حركتها، مع التأكيد على أن الرداء المخصص للطبيبات لا يمكن أن يتنافى مع المتعارف عليه من مظاهر الاحتشام المتفق عليها. وقس على ذلك مئات الأمثلة.
ولعل ما يزيدني تأكدا من أن الأمر يخضع للاعقلانية أكثر من الذرائع التي تتمسح في الدين، ما نراه من إصرار المدافعين عن النقاب على البحث عن المبررات الدينية، وتأكيد الطابع النقلي، لا العقلي، في تعديد المبررات، بينما تجد نفس هذا الفريق حين ينتقل إلى المجتمعات الغربية، وقد استند إلى مبررات أخرى؛ احتماء وتملقا لقوانين الحرية المفروضة هناك.
يريد أهل النقاب، والمنادون بالدولة الدينية معا فرض دعاواهم على الغرب باسم الحرية، من دون الانتباه إلى أن انتهازيتهم هذه تتعارض مع المفارقة في أن فكرة النقاب، بوصفها وسيلة قمع جسدية للمرأة وقدراتها، ونفي للمساواة، تتنافى مع جوهر مفهوم الحرية عن المرأة وعن الحياة. وهذا مكمن الصراع الذي سيبدأ في الغرب ضد الإسلاميين وصاعدا.  


Sunday, January 18, 2015

عن مسلمي أوربا ودور الأزهر

رئيس العلماء ومفتي البوسنة د‏.‏ مصطفي تسيرتش:
ردود الفعل العنيفة من المسلمين تسيء لسماحة الدين

أجري الحوار في سراييفو‏:‏ إبراهيم فرغلي

د.مصطفى سيرتش ، الرئيس الأسبق للمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك 


هذا الحوار أجري للأهرام ونشر في الأهرام في مارس العام 2006 عقب فترة من موضوع الرسوم المسيئة للرسول، ويتضمن أفكارا مهمة حول الطريقة الواجب مواجهة هذه الإساءات بها من قبل المسلمين في أوربا من خلال حوار مع المفتي الأسبق للبوسنة الدكتور مصطفى سيريتش (في وقت إجراء الحوار كان يتقلد المنصب لا يزال)، بالإضافة إلى إشارات مهمة عن أثر تارجع دور الأزهر على المسلمين في أرجاء العالم، وما أشبه اليوم بالبارحة!

بخلاف الكثير من دول العالم الإسلامي جاء رد الفعل البوسني علي ما نشرته صحيفة يلانذر بوستن الدانماركية من رسوم كاريكاتورية مختلفا نسبيا عن طبيعة ردود الفعل العنيفة التي عمت أرجاء العالم الإسلامي‏.‏ والسبب في هذا الاختلاف يعود إلي طبيعة وضع البوسنة كبلد تعيش فيه أغلبية من المسلمين في قلب أوروبا وتجمع بين الانتماء إلي أمة الاسلام وإلي الثقافة الأوروبية في نفس الوقت‏,‏ وكان موقف أهل البوسنة من المسلمين في الحرب العرقية التي تعرضوا لها خلال التسعينيات قد حقق انتصارهم في الحرب وتأكيدهم علي أن قيم الإسلام الأساسية هي قيم التسامح ونبذ العنف‏,‏ ولهذا فإن أهل البوسنة في سراييفو لم يطلقوا رصاصة واحدة علي أي كنيسة أو كاتدرائية رغم تعرض المساجد لقصف الصرب‏.‏

وفي حوار خاص لـ الأهرام أوضح سماحة الدكتور مصطفي تسيرتش رئيس العلماء والمفتي العام في البوسنة والهرسك أن المشيخة الاسلامية في البوسنة والهرسك تدين أشد الإدانة ذلك العرض المسيء لشخص النبي محمد صلي الله عليه وسلم وتطالب وسائل الاعلام الاوروبية باسم الحرية أن تتوقف عن إشاعة الخوف من الاسلام‏.‏

لكن المشيخة الاسلامية‏،‏ في الوقت نفسه،‏ في البوسنة والهرسك تناشد المسلمين في العالم‏، وخاصة المسلمين في أوروبا والبوسنة والهرسك أن يحجموا عن ردود الأفعال والاحتجاجات العنيفة التي تسيء إلي مكانة رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

وأضاف سماحة الدكتور تسيرتش‏:‏ أن ما يقلقنا بشكل خاص هو ما أدت اليه بعض الاحتجاجات العنيفة من سقوط ضحايا أبرياء وعوضا عن ذلك ينبغي علي المسلمين في شتي أنحاء العالم‏,‏ وخاصة في أوروبا أن يفتحوا الأبواب أمام الحوار بين الأديان والثقافات‏.‏ ولهذا فإني أقترح أن يعلن هذا العام‏2006‏ عاما للحوار بين الأديان والثقافات في أوروبا‏.‏

وعاد سماحة الشيخ ليوضح أنه من الطبيعي أن اثنتي عشر كلمة خبيثة لن تقلل من مكانة رسول الله صلي الله عليه وسلم عند المسلمين، ولن تزيد هذه الكلمات الخبيثة من حرية التعبير عند الأوروبيين،‏ ولكن من المؤكد أن هذه الرسوم الكاريكاتورية الأوروبية الاثني عشر عن النبي محمد صلي الله عليه وسلم سوف تترك أثرا عميقا من فقدان الثقة لأن جرح السيف يندمل وجرح اللسان الذي يمس مشاعر النفس صعب أن يندمل‏.‏

إن ما يصلنا في هذه الأيام من رسائل في أوروبا بشع حقا وخاصة ما يصل الينا نحن المسلمين في البوسنة والهرسك بعد الإبادة الجماعية في سريبريتشا‏.‏ فالموقف الاعلامي لأوروبا تجاه أسمي القيم عند المسلمين‏، ما كان له أن يحظي بأي اهتمام لولا ما يخفي في طياته من شيء أشد خطورة ألا وهو الكراهية تجاه الاسلام والمسلمين‏.‏ لذلك فالمسلمون الاوروبيون محقون في تساؤلاهم‏، أليس حظر المجاهرة بالعداء للسامية في أوروبا قد وجد ضريبته في عدم حظر المجاهرة بالعداء للإسلام‏.‏ انه أمر خطير علي أوروبا‏.‏ ويجب علي أوروبا أن تداوي نفسها من هذا الداء‏..‏ داء الخوف من الاسلام‏.‏

ولكن من الاجحاف هنا ألا نشير الي الأخطاء التي يرتكبها بعض المسلمين‏.‏ فالدفاع عن نبينا لا يكون بالضوضاء والعنف اللذين لا يمكن التعرف فيهما علي رسائل السلام والثقة بين الناس والشعوب‏.‏ إنما الدفاع الحقيقي عن مكانة رسول الله صلي الله عليه وسلم هو في اتباع سنته الزاخرة برسائل السلام والتفاهم ورسائل المحبة والثقة والعدل بين الناس والشعوب‏.‏

* فضيلتكم قمتم خلال الأيام الماضية بجولة في عدد من الدول الأوروبية لاجراء مباحثات حول سبل علاج قضايا المسلمين في أوروبا‏..‏ هل يمكن أن نتعرف علي طبيعة هذه الجولة؟

الحقيقة أننا الآن بصدد مناقشة اقتراح إعلان المسلمين الأوروبيين لتوضيح موقف الاسلام من العنف والتأكيد للاتحاد الأوروبي أن المسلمين الأوروبيين ملتزمون بالكامل وبشكل صريح بحكم القانون العادل وبمباديء التسامح وبقيم الديمقراطية وحقوق الانسان والاعتقاد في أن كل انسان له الحق بأن تصان حقوقه الضرورية الخمسة وهي‏:‏ النفس والدين والعقل والمال والعرض‏.‏

وبعد أن قدم المسلمون الأوروبيون تعهداتهم للاتحاد الأوروبي فإن لهم الحق في التعبير عن توقعاتهم في هذا الاعلان مثل الاعتراف الرسمي بالاسلام والمؤسسات الاسلامية في أوروبا‏,‏ والتنمية الاقتصادية للجالية الاسلامية التي توفر لها الحرية والاستقلال الروحي والثقافي التأميني‏,‏ وتطوير المدارس الاسلامية القادرة علي تعليم المسلمين المولودين في أوروبا بشكل يجعلهم مؤهلين للتعامل مع تحديات المجتمع الأوروبي الجديدة‏,‏ والحرية السياسية التي ستمكن المسلمين الأوروبيين من أن يصبح لديهم ممثلوهم الشرعيون في برلمانات الدول الاوروبية‏.‏

ما هي أهمية هذا الاعلان للمسلمين الذين يعيشون في أوروبا علي نحو خاص؟

إن توجيه الخطاب لهم أمر مهم جدا سواء بالنسبة لتحديد هويتهم الاسلامية بشكل واضح وصريح أو لتحديد مواطنتهم الاوروبية‏.‏ وقبل كل شيء يجب علي المسلمين الذين يعيشون في أوروبا أن يدركوا أن الحرية ليست هدية يقدمها الآخرون‏.‏ بل ان الحرية الاسلامية في أوروبا يجب أن تكتسب ويجب أن يتم الاعتراف بالوضع العام للمسلمين رغم معارضة الكارهين للمسلمين‏.‏

وبالطبع فإن الحرية تتطلب المسئولية لذا فإن المستعدين لتحمل المسئولية هم الذين يستحقون الحرية‏.‏

والبيان الأكثر أهمية الذي يجب أن يتضمنه الاعلان الموجه الي المسلمين الذين يعيشون في أوروبا هو التزامهم بتقديم الاسلام الي الجمهور الغربي علي أنه الرؤية الكاملة لحياة الانسان‏,‏ وليس ثقافة قومية أو عرقية أو عشائرية معينة‏.‏ لأنه لا يمكن للمسلمين أن يتوقعوا من الأوروبيين تقديرهم لرسالة الاسلام العالمية اذا كانوا يقدمونه لهم ملونا بلون عرقي أو قومي‏.‏ كما أن المسلمين الأوروبيين يمكنهم أن يستأثروا بإعجاب الجمهور الأوروبي من خلال عرض عالمية الاسلام‏.‏ ويجب علي المسلمين أن يكونوا صادقين ويعترفوا بأن الكثيرين منهم اكتشفوا الاسلام في أوروبا علي نحو مختلف كليا من وطنهم الأصلي‏,‏ لأنهم هنا في أوروبا يقابلون اخوانهم المسلمين من أجزاء أخري من العالم الاسلامي ويبدأون باحترام التنويع في التجربة والثقافة الاسلامية‏.‏

وهذا الاعلان الذي قدمت مقترحاته نوقش علي مستوي واسع من قبل أكاديميين ورجال دين خلال مؤتمر موسع في لندن الشهر الماضي‏,‏ ولاقي قبولا واسعا‏.‏

فضيلتكم من خريجي جامعة الأزهر‏،‏ ولكم علاقات وثيقة بالمشيخة الاسلامية في القاهرة‏،‏ كيف تقيمون العلاقات بين الأزهر والمشيخة الاسلامية هنا في البوسنة‏، وطبيعة العلاقات المستقبلية؟
العلاقة بين المشيخة الاسلامية‏، أو بين المسلمين في البلقان‏،‏ وبصفة خاصة المسلمين البوسنيين مع الأزهر علاقة مصيرية‏،‏ وتاريخية‏ وعندما نقول هذا نستطيع أن نقول إنه لولا الأزهر ودوره في الحفاظ علي الهوية الاسلامية في البلقان لتلاشينا أو متنا روحيا‏.‏

فكما نعرف‏ أن الاسلام دخل في البلقان والبوسنة في عام‏1463‏ ومنذ ذلك الوقت وحتي عام‏1878‏ الذي شهد انعقاد مؤتمر برلين الذي سلمت خلاله البوسنة للملكة النمساوية كانت البوسنة والهرسك جزءا من الامبراطورية العثمانية‏.‏ وبالتالي كانت كل العلاقات الدينية والاقتصادية والسياسية مرتبطة مباشرة باسطنبول‏‏ لكن بعد الانفصال انقطعت العلاقات التركية مع البوسنة والهرسك بما فيها العلاقات الدينية حيث كان رجال الدين يذهبون إلي اسطنبول للحصول علي درجاتهم العلمية في العلوم الاسلامية ويتقنون اللغات التركية والعربية والفارسية‏,‏ لكن بعد انقطاع هذه العلاقات كان من الضروري أن نجري عملية جراحية للاتصال روحيا بمؤسسة دينية عريقة هي الأزهر‏.‏ ولذلك نقول إننا لولا الأزهر لمتنا روحيا‏.‏

فبصمات الأزهر في الفقه والفكر وفي فهمنا للإسلام‏,‏ والآن العلماء المسلمون البوسنيون لايتقنون التركية وإنما مصلحون اللغة العربية‏ لذلك فالأزهر قام بمهمة أساسية في استعراب العجم‏ وكان أكثر العلماء الذين عرفوا بأنهم معلمون مثل الشيخ محمد عبده والشيخ شلتوت ورشيد رضا وغيرهم كانوا من العلامات المؤثرة في جيل من العلماء البوسنيين مثل محمد حنجيج والذي كتب حصل علي رسالة دكتوراه من الأزهر عن شعراء البوسنة وهناك حسين بوزو رحمه الله‏ الذي كان فقيها وتأثر جدا بالاسلام الاصلاحي علي يد الشيخ محمد عبده‏.‏ وكان أحد المفكرين ذوي التأثير القوي خلال المرحلة الشيوعية في يوجوسلافيا السابقة‏,‏ حتي أن الرئيس عبدالناصر خلال زياراته ليوغسلافيا كان يسأل عنه باستمرار‏.‏ وكذلك الدكتور أحمد اسمايلوفيتش رحمه الله وهو من الجيل الجديد نسبيا فقد عاصرته أثناء وجودي في الأزهر وكان هو علي وشك الانتهاء من رسالة الدكتوراه في السبعينيات وكان موضوعها أدب الاستشراق وأثره علي الأدب العربي الحديث وكان رئيس المشيخة الاسلامية في يوغسلافيا السابقة علي مستوي البوسنة والهرسك آنذاك‏.‏

والأزهر صنع مني رجلا مسئولا واثقا في نفسه في العلوم الاسلامية وله فضل كبير في الحفاظ علي الهوية الاسلامية في البوسنة والهرسك‏.‏

لكن مهمته أن يعرف المصريون القدر الكبير الذي ساهموا فيه في الحفاظ علي الهوية الاسلامية والتراث الاسلامي خلال القرنين الآخرين ليس فقط في البوسنة والهرسك وإنما في العالم العربي وأفريقيا‏.‏

وأنا أتمني أن يعقد مؤتمر دولي كبير في الأزهر الشريف لكي نراجع دور الأزهر خلال القرنين الأخيرين في الدعوة الاسلامية في العالم كله ليس من أجل تمجيد الأزهر وإنما لتكون هناك فرصة لكل المدينين للأزهر أن يقولوا له شكرا علي ما فعلت لنا‏.‏


Wednesday, January 14, 2015

في ذكرى غياب محمود العالم



محمود أمين العالم..غياب المثقف النموذج


بالرغم من إحساسي بالغبن للطريقة التي تحدث بها الرائد الراحل طه حسين مع نجيب محفوظ في الحلقة الحوارية الشهيرة التي جمعت طه حسين بعدد من الكتاب والأدباء وأدارتها المذيعة ليلى رستم وبثها التلفاز المصري مطلع الستينات، تعبيرا عن رفضه لكتابات الادباء الشباب وبينهم محفوظ، فإنني امتلأت بالفضول للتعرف على الشاب النبيه الذي بدا واضحا إعجاب طه حسين به وتشجيعه له، والذي عرفت ان اسمه هو محمود امين العالم.
قرأت له "في الثقافة المصرية"، و"معارك فكرية"، وتابعت مقالاته النقدية في "إبداع" بعد صدورها في عهد حجازي مطلع التسعينات، ثم شاهدته لأول مرة في إحدى ندوات المجلس الأعلى للثقافة في مقره القديم بحي الزمالك. تأملته بشغف، وذهلت بحيويته، وتدفق أفكاره، وبالطريقة التي يتحدث بها، التي تعبر عن دماثة لافتة، تعلو وجهه ابتسامة آسرة، لا تغيب عن وجهه، لا في ذلك اليوم، ولا في المرات العديدة اللاحقة التي شاهدته خلالها في ندوات مثيلة، مهما ووجه بأفكار تختلف مع رؤاه أو ما يتبناه، أو خلال حوارين صحفيين أجريتهما معه في مقر المجلة التي أصدر منها عشرين عددا لافتة "قضايا فكرية"، وفي غيرها من مناسبات اقتضاها العمل الصحفي، أغلبها في مناقشة قضايا تخص الواقع الثقافي الراهن، كما كان كعادته حريصا على التشجيع كلما اتصلت به هاتفيا، والثناء، وأظنه جزءا من شخصيته الدمثة، المتفائلة، المتعلقة بالمستقبل، وبالشباب، وما ينجزون، ومحاولة فهم ذلك ما أمكن.
وكلما تقدم في العمر فاجأني ببنطاله الجينز، وحيويته، وابتسامته الدمثة، وأكد لي قناعتي باعتباره نموذجا فريدا للمثقف المصري النبيل، العلمي، المتابع للشباب، المؤمن بحق الاختلاف حد اليقين الكامل، المؤمن بضرورة تحقق الشيوعية كنظام يحقق للإنسان تحرره من كل صور الاستغلال والقهر.
عندما علمت بخبر وفاته أصابني الحزن لهذا السبب، وهو افتقاد الثقافة العربية لوجه مضيء من أبرز وجوهها الفكرية والفلسفية والنقدية، لكنني لم أستطع أن أتخيل وجهه ميتا إلا وقد علته تلك الابتسامة التي ميزته في جل حياته، وهو الرجل الذي واجه السجن مبكرا في عهدي عبد الناصر والسادات، كما واجه المنفى، وتلقى من صنوف التعذيب ما وصفه أنه لا يليق سوى بالإبل، ومنع عن عمله، وتعرضت عائلته للمضايقات، وبالرغم من ذلك فقد مضى في طريقه، دون أن يستسلم لمرارات وعذابات وقع كثير من مجايليه في حبائلها واختنقوا بها كمدا وقهرا ويأسا واكتئابا وموتا.
بالرغم من أن اغلب كتبه التي أعقبت كتبه الأولى كانت تجميعا لمقالات أو اطروحات نقدية موزعة على العديد من القضايا، لكن اللافت أنها في مجملها عبرت عن قناعاته، وكأنها في النهاية تجسد مشروعا فكريا، نقديا، فلسفيا، واحدا، شواهده فيما كان يفضل ان يكتب عنه، إن فكرا ونقدا، أو تأريخا، أو إثارة لقضايا جدلية في الراهن المعاصر سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
في كتابه "الوعي والوعي الزائف" تناول بالنقد والعرض مشروع المفكر المغربي عابد الجابري حول نقد العقل العربي، كما تناول مشروع أدونيس المشابه في الثابت والمتحول، وبدا لافتا أنه قبل ان ينطلق في عرضه النقدي يهتم أولا بعرض أفكار من يتناول أفكارهم بشكل واضح يعطي للقاريء فكرة جيدة عما يتحدث عنه قبل أن يتناول نقده هو، وابرزه إشارته إلى تجريد الجابري للعقل العربي عن تاريخيته، وكأن العقل العربي تكون خارج التاريخ.
وهي قراءة ماركسية بامتياز، لكنها رؤية تخصه أيضا، وهو القائل:" نرى ان الماركسية بمصادرها المادية الجدلية بالنسبة للطبيعة والتاريخ، ترفض التجريدات المطلقة، كما ترفض القول بالجزئيات المنعزلة، وتقول بالوقائع المادية في علاقتها المتشابكة المتفاعلة المتحركة المتغيرة المتصارعة. ولهذا فمنهجها يتسلح بهذه الرؤية نفسها".
في تناوله النقدي لأعمال الكاتب الروائي صنع الله إبراهيم في كتابه"ثلاثية الرفض والهزيمة" قد أفسح مساحة لنفسه للتخلي عن أدوات النقد الماركسي، واشتبك بالبنيوية، بغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا على المنهج، كأنه بذلك يؤكد يقينه بحتمية التطور وضرورة الجدلية، من جهة أخرى، وهي الرؤية التي تبناها في تأكيده لأن المشروع الماركسي رغم فشل تطبيقه يتضمن في جوهره عوامل استمراريته التي لم يتمكن المنفذون لها من استيعابها، إذ يرى أن الفكر الماركسي هو حيوي وضد البيروقراطية بامتياز، وهذا بالضبط كان معقل مواتها في النموذج السوفييتي.
كان يرى أن ذلك أيضا يعود إلى"ان معرفتنا الحقيقية بالماركسية معرفة محدودة مسطحة هشة" على اعتبار ان ذلك امتداد "امتداد لمعرفتنا النظرية العامة التي تتسم بالمحدودية والتسطيح والهشاشة".
ولعل أحد أبرز وجوه محمود العالم هو ليبراليته المتجردة، ويقينه بالحرية، وفي حرية التعبير كجزء أساسي من أسس تكوين الإنسان، وأحد حقوقه الأساسية، وخاض معارك عديدة في هذا الاتجاه، وشارك برأيه، وجهده، تقريبا في أغلب قضايا المصادرات وحرية التعبير التي مرت على الثقافة المصرية، خاصة بعد عودته من المنفى للقاهرة منذ العام 1984.
ومن بين ما يوثق ذلك مشاركته في التضامن مع الفنان الراحل يوسف شاهين خلال القضية التي واجهها بسبب فيلم "المصير"، حيث توجه العالم، بين جموع من الفنانين والمثقفين المصريين آنذاك، ليحضر المحاكمة، وأدلى برأيه في لقطة توثيقية في فيلم تناول القضية، وبدا شجاعا في إعلانه عن حق الفن في التعبير وتناول أي قضية من القضايا.
فقد أعلن أيضا في مقالة نقدية لتناول الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل للحركة الشيوعية في مصر أن "إن الماركسية كمذهب اجتماعي فكري ليست ضد الدين وإنما ضد استخدام الدين استخداما سلطويا مصلحيا ضيقا، ولعل الحروب الصليبية في المسيحية، وسياسات بعض الدول الإسلامية قديما وحديثا، وخاصة أثناء الحكم الأموي، وضرب الكعبة بالمنجنيق وغير ذلك أن تكون من أبرز معالم استخدام الدين استخداما متناقضا مع قيمه الروحية وما أكثر الأمثلة وفي تقديري أن موقف السلطة السوفيتية من الكنيسة الروسية كان خطأ، وإن كان يفسر بالعلاقة الحميمة التي كانت قائمة بين هذه الكنيسة والسلطة القيصرية".
وهذا وجه آخر من وجوه محمود العالم الذي لم ينف ماركسيته، ولا إيمانه بالعلمانية، كما لم يعتبر استخدام كلمة شيوعية من المسميات التي يتعامل معها المثقفون بحذر بوصفها كلمة ذات سمعة سيئة لدى قطاع واسع من الجماهير العربية التي ترى فيها مكافئا للكفر والإلحاد، وتختزلها في هذا الإطار الضيق المحدود.
رحل محمود امين العالم عن عالمنا في وقت نحتاج إليه فيه بشكل قد يفوق اي وقت آخر، في ظل ساحة ثقافية هشة، تسودها صراعات المصالح، وغياب الجدية، وشوائب القيم التقليدية الريفية والقبلية، كما تشيع فيها الضحالة، وغياب النقد بمعناه الشامل الذي يتطلب نقادا موسوعيين من أمثال العالم، وانحدار مستوى تعليم العلوم الإنسانية، لكن الأمل، سيظل قائما فيما أورثه لأجيال جديدة، بما أنتجه، من جهة، وبنموذج الإنسان المثقف النبيل، الذي ستفتقده الثقافة العربية بحق الآن وهنا.

إبراهيم فرغلي
عن (النهار) 18 يناير 2008