Sunday, November 9, 2014

أثيوبيا أرض القهوة والقات.. وحضارة سبقت أوروبا


أثيوبيا أرض القهوة والقات.. وحضارة سبقت أوروبا
(2- 5)



 ابراهيم فرغلي


    يرغب البعض في تغيير نمط حياته والثورة على الروتين، وبين هؤلاء من يملك الإرادة، والظروف المناسبة التي تحقق له هذا التغيير بينما تبقى مثل هذه الأمنية مجرد حلم لدى آخرين يشتكون يومياً بلا قدرة على فعل أي شيء. لكن .. هناك أيضاً من يمتلك روح المغامرة مثل الكاتب الأمريكي بول ثيروكس الذي قرر أن يغير حياته ويقضي على الروتين اليومي بشكل مختلف، وذلك بأن يلقي نفسه في أحضان واحدة من أكثر قارات العالم غموضاً وهي قارة أفريقيا، ولمدة عام كامل بدءاً من القاهرة ومروراً بالجانب الشرقي للقارة كله وصولاً إلى جنوب أفريقيا.




النيل الأزرق في إثيوبيا


وقد أحسن ثيروكس صنعاً، لأنه لم يكتف بمغامرته الشخصية وإنما قرر أن يشرك البشر معه في هذه التجربة الخصبة بنشر كتابه « سافاري النجمة السوداء» الذي تضمن تفاصيل هذه الرحلة، وبفضل موهبته ككاتب روائي اكتسب الكتاب طابعاً ممتعاً  حيث امتزجت الأقاويل الشائعة التي يرددها الغالبية العظمى في أرجاء العالم عن إفريقيا دون معرفة حقيقية بمقتطفات تاريخية من قراءات الكاتب ثم تضفيرها جميعاً مع تفاصيل رحلته ومشاهداته وحواراته مع الناس الذين التقاهم في أرجاء القارة الأفريقية التي ينبهنا على أنها القارة الخضراء وليست السمراء كما يشاع عنها، ليس بالنص الصريح المباشر ولكن بالقول إنه شاهد مناطقَ لا تنافس خضرتها أي جغرافيا أخرى.

وفي الحلقة السابقة استعرضنا مشاهداته في كل من القاهرة والسودان باعتبارهما أول محطتين توقف عندهما في رحلته المثيرة، وأغلب مشاهداته فيها قد تكون مدهشة بالنسبة للقارئ الغربي، لكنها تبدو مألوفة لنا كجمهور من القراء العرب، لكن أهم ما فيها - في ظني - هي اكتشاف التحول من الطابع العربي الذي يسود شمال القارة لبلوغ الطابع الأفريقي في الجنوب، وهو ما يمكن ملاحظته في رحلته عبر وادي النيل من القاهرة إلى أسوان، أو في تجواله بين الجزء العربي من شمال السودان إلى الجنوب الأفريقي في نفس البلد.

ولهذا أعتقد أن الرحلة إلى أفريقيا التي قد تكون مجهولة تماماً بالنسبة لنا تبدأ من حدود رحلته إلى إثيوبيا .. المدخل الحقيقي إلى قلب القارة الأفريقية أو شرقها إذا أردنا الدقة.


تقع أثيوبيا في الجزء الجنوبي الشرقي من السودان ويفصلها عن البحر الأحمر بلد صغير هو جيبوتي. ومن العاصمة الأثيوبية أديس أبابا ينطلق القطار إلى جيبوتي مرتين أسبوعياً. ولأن بول ثيروكس كان راغباً في زيارة المدينة ذات الأسوار«هارار» التي تقع في أقصى شرق أثيوبيا، فقد كان عليه أن يستقل القطار المتوجه الى جيبوتي ليصل أولاً إلى مدينة«داير داوا» ومنها يسلك طريقاً برياً قصيراً إلى "هارار".

تعود رغبة ثيروكس في زيارة هذه المدينة إلى قراءت لما كتبه عنها المستشرق البريطاني «ريتشارد بيرتون» الذي يعد أول أوروبي يزور المدينة، كما كان الشاعر الفرنسي الشاب رامبو قد قضى فترة من حياته في أثيوبيا و"هارار" على نحو خاص، وقد عاش بها وتزوج وكان صديقا لحاكم هارار، "راس ماكونين"، والد هيلا سيلاسي، الذي سيحكم إمبراطورية إثيوبيا لاحقا ولعدةعقود قبل أن تقوم ثورة الجونتا الشيوعية في نهاية السبعينات وتقوم بإسقاط سيلاسي عن عرشه.


كان الانطباع الأول لدى ثيروكس عن أديس أبابا كالتالي : شعب تتسم غالبيته بالوسامة واللطف، يجمع بين الكبرياء والتعالي والفقر في الوقت نفسه. فإثيوبيا ؛ كما يشير، كانت تمتلك نوعاً من التفرد بين الدول الأفريقية .. أو دول أفريقيا السوداء على نحو خاص، فهم يمتلكون مخطوطات قديمة تحوي تاريخهم العريق والإحساس القوي بهذا الماضي أو التاريخ. كما أن أهل اثيوبيا يمتلكون وعياً بثقافتهم القديمة وروابطها مع كل من الهند ومصر، ومنابع الأديان أو الأماكن التي ظهرت فيها الأديان في منطقة الشرق الأوسط. وهي تعد غالباً من الأماكن التي عرفت المسيحية فور نشأتها.

ويقول، متفحصاً آراء بعض أهل أثيوبيا العالمين بتاريخهم موجهاً كلامه لأهل الغرب : عندما كان مواطنوكم من البرابرة يطوفون حول أوربا عراة البطون وقد لونوها بألوان غريبة، كان أهل أثيوبيا يرتدون ثياباً مصنوعة جيداً يقودون العربات ويعرفون كيف يحافظون على حياتهم.

كانت رحلة ثيروكس الى إثيوبيا قد تزامنت مع انتهاء الحرب بين إثيوبيا وأريتريا. وبسبب ما دار من أقاويل حول هذه الحرب، وعدم تمتع الدول المحيطة مثل الصومال والسودان بسمعة جيدة في مجال السياحة، فإن ثيروكس لاحظ عدم وجود أي أجنبي في أديس أبابا، والفنادق كانت كلها خالية لهذا السبب.

يوضح أنه لا يوجد الكثيرون من أهل أثيوبيا ممن يستقلون القطار باتجاه مدينة «داير داوا»، وبالتأكيد لا يذهب أحد إلى جيبوتي. ويوضح أن جيبوتي لها سمعة بالغة السوء داخل أثيوبيا. فقد عرفت خلال تاريخها باعتبارها ميناء العبيد الذي تحركت منه آلاف السفن التي حُملت بالعبيد للعالم الجديد، ثم أصبحت الجزء الفرنسي من الأراضي الصومالية، وأخيراً تحولت إلى ما هي عليه اليوم : نتوء صغير في شرق أثيوبيا .. ودولة مستقلة.

لكن الجنود الفرنسيين صنعوا لها سمعة عالمية كمركز لدعارة الأطفال حيث انتشرت نوادٍ ليلية تتركز فيها فتيات لا تتجاوز أعمارهن 12 أو 13 عاماً ينتظرن الجنود الفرنسيين حتى تذهب الخمر بعقولهم ليذهبن معهم أينما شاءوا.
The original TO.MO.CA. Coffee Shop in Addis Ababa, Ethiopia.
http://ethiopiajoe.com/about-tomoca/


في صباح اليوم التالي استقل ثيروكس القطار - ويصفه أنه مثل القطارات في أفريقيا ليس نظيفاً ولكنه ليس سيئاً تماماً - ومر القطار على عشرات المحطات ليستقله في كل مرة عدد بسيط من الناس، وبعد أن تجاوز التلال المنخفضة الكثيفة التي تميز أديس أبابا بدأت مساحات منبسطة شاسعة في الظهور وعند إحدى المحطات توقف القطار عدة ساعات !

واسترعت قلة الحركة عموماً في البلاد اهتمام ثيروكس الذي عرف بعد السؤال أن أهل إثيوبيا يحتفلون في ذلك اليوم بالعيد القومي لبلادهم بمناسبة مرور مئة وخمسة أعوام على«معركة آدوا ». وسمع من أحد الأشخاص أنه "اليوم الذي انتصرنا فيه على موسوليني".

لكنه قرأ عن الموضوع جيداً ليعطينا تاريخ هذه الواقعة الصحيح فيقول : كان انتصار آدوا أحد الانتصارات المصحوبة بالزهو في  تاريخ الإثيوبيين، وإحدى المواجهات المبكرة ضد الكولونيولية، والتي  يعود تاريخها إلى عام 1896 حيث انطلق نحو 20 ألف جندي إيطالي إلى شمال أثيوبيا نازحين من أريتريا ليواجهوا 90 ألفاً من الجنود والمواطنين الأثيوبيين المتعطشين للقتال تحت قيادة الملك «مينليك الثاني» ومساعده قائد الجيوش «راس ماكونين» وهذا الشخص سيتولى ابنه راس تافاري (عرف لاحقاً باسم زعيم أثيوبي مؤثر هو هيلا سيلاسي) عرش أثيوبيا.

وقد طوق أهل اثيوبيا الجنود الإيطاليين فقتلوا نحو 15 ألف شخص منهم، كما أصابوا ألفين آخرين، ويقال، وفقا لما يورده ثوركس هنا، أن الشاعر الفرنسي الشاب رامبو كان له دور في هذه المعركة التاريخية! وقد حظيت هذه المعركة بشهرة كبيرة وشجعت ماركوس جارفي للعودة الى أفريقيا ليؤسس الحركة التي عرفت لاحقاً باسم الحركة الأثيوبية والتي كان لها تأثير مباشر في انتفاضة أفريقيا على مظاهر الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والبرتغالي وانتعاش حركات التحرر التي أدت إلى استقلال الدول الأفريقية.

لكن الأمر أخذ بعداً آخر عام 1935، فقد شنت إيطاليا الفاشية بقيادة « موسوليني» هجمات جوية شاركت فيها 25 طائرة مقاتلة بينها خمس طائرات تحمل غازاً ساماً - رغم توقيع إيطاليا على اتفاقية جنيف لحظر استخدام الغازات السامة في الحروب - وألقت بها على أهل أثيوبيا، وتحديداً في منطقة صحراء أوجادين، وسيطر الإيطاليون على أثيوبيا واعتقل الحاكم «هيلا سيلاسي» وتم نفيه. وهكذا ضم الملك الإيطالي فيكتور إمانويل بلدين إلى مملكته الصغيرة هما أثيوبيا وألبانيا.

وقد كانت حملة آدوا التي انتهت بانتصار أثيوبيا هي السبب الذي اراد به الإيطاليون أن يثأروا لهزيمتهم في معركة موسوليني، لكن أهل أثيوبيا مازالوا يحتفلون بذكرى انتصارهم في المعركة الأولى حتى الآن.

وفي هذه المدينة الصغيرة«داير داوا» كان أهلها أيضا يحصلون على إجازة في ذكرى هذا اليوم. ولكن في الواقع لم يكن هناك الكثير من العمل في الأيام العادية ؛ فقط، البعض يحصدون القهوة من أشجار القهوة الشهيرة هناك، والبعض يمضغون أو يخزنون «القات»، فالمدينة كلها عمرها لا يزيد على مئة عام، وهي مثل السكك الحديدية الموجودة بها عتيقة وبدائية وغير نظيفة، (نحن نتكلم عن كتاب صادر في العام 2004- ولا بد أن الرحلة نفسها تمت في نهايات التسعينات أو بدايات الألفية) وتلعب دوراً أساسياً كمعبر لنقل القات القادم من «أويدي» ثم شحنه مرة أخرى إلى «هارار» التي تعتبر مكاناً مثالياً لزراعة القهوة تشتهر بها في أرجاء أفريقيا.
منزل أرثر رامبو في هارار


في سوق المدينة الذي يقع في قلبها شاهد باعة الخضراوات من كل نوع، ولاحظ أن كل الباعة لا يعرفون الإنجليزية، لكنهم يتقنون الأسبانية أو الإيطالية ! وعرف ثيروكس أن ذلك بسبب المدارس التابعة للكنائس التبشيرية. بينما أخبرته إحدى السيدات أنها تعلمت الإيطالية بفضل الكوبيين؛ فقد عاش الكثيرون من الجنود الكوبيين في أثيوبيا أثناء فترة الاضطرابات.

السوق في مدينة هارار

وكان الكوبيون قد وصلوا إلى إثيوبيا بعد وصول منجستو هايلي ماريام إلى الحكم عام 1974 بعد نفي سيلاسي، وتم إرساء حكم شيوعي تم بمقتضاه تغيير أسماء الشوارع والميادين، واستمر ذلك حتى عام 1991 حيث بدأت الحرب بين أثيوبيا وأريتريا، وتم نقل منجستو إلى زيمبابوي بينما استمرت الحرب حتى انتهت أخيراً بانتصار أريتريا قبل وصول ثيروكس إلى هناك بفترة وجيزة.

ويفشل ثيروكس في إيجاد أي وسيلة للذهاب إلى «هارار» إلى أن التقى راهبة ترتدي رداء بنياً وحجاب رأس بلون أفتح قليلاً بدت ملامحها أجنبية وسألها عن طريقة للذهاب إلى هناك فأخبرته أنها في طريقها إلى « هارار» .. وقات له في الطريق إنها كانت تعيش في أسرة إيطالية متحررة، وإنها كانت تعشق شخصاً بالغ الجاذبية، لكنها فجأة قررت أن تترهبن، وكان هناك نداء داخلي عميق يدعوها للرهبنة وتركت أهلها وخطيبها وجاءت إلى هنا لتلبي النداء. وتزوج خطيبها من سيدة أخرى، وعرفت أخيراً أنه تعرض لسرطان الرئة - رغم أنه لم يكن مدخناً - وتوفي، وأنها مازالت تحبه، وأن أحداً غيرها لا يمكن أن يمنحه ما كان يمكن أن تمنحه إياه.

وخلال جولته يشاهد ثيروكس الطبيعة من حوله، ومنطقة المرتفعات التي كانت السيارة تمر من فوقها ومشاهد الأطفال الذين كانوا يصيحون كلما شاهدوا السيارة تمر أمامهم "أفرنجي" وأحيانا "فرنجون"! ..
عندما وصل « هارار» كان يستطيع أن يشاهد جبالاً عرف أنها تقع في الصومال، وكانت الصومال تصدر الملح إلى «هارار» التي اعتبرت مركزاً تجارياً منذ تاريخ طويل. ويبادل الصوماليون الملح بالقات الذي يعودون به إلى بلادهم. وكان الهنود قد روجوا لتجارة الثياب والسلاح لفترة طويلة. أما في الوقت الراهن فإن التجارة الرائجة هي تجارة المخدرات والعاج، وقد كانت «هارار» أحد المراكز الأساسية - ولازالت - للبيع غير الشرعي لأنياب الأفيال التي يشتريها تجار العاج بأموال طائلة.

وللسوق طابع عتيق، يمتلئ بأهل هارار الذين يعرفون باسم «اورومو» أو «أدير» أو «جالا» وهي أسماء القبائل التي ينتمون إليها يميز كل منهم ألوان الأزياء التي يرتدونها ونوع الجواهر التي ترتديها النساء، ويصف ثيروكس النساء في «هارار» بأنهن جميلات وفاتنات ويذكر أن الشاعر الفرنسي رامبو تزوج فتاة من قبيلة «أرجوبا» أثناء معيشته في أثيوبيا

ولاحظ وجود الإبل والماعز، وعرف من بعض المارة أن المسلمين في أثيوبيا يأكلون لحم الجمال أما المسيحيون فيأكلون الغنم. كما لاحظ انتشار المساجد والشحاذين حول كل منها بأعداد كبيرة. وعرف أنهم الآن في موسم الحج والعيد على الأبواب، وهو ما يجعل الشحاذين ينتظرون عطايا المسلمين المتيسرين.
لتناول القهوة الإثيوبية طقوس خاصة


وعلى حدود المنطقة الشرقية للمدينة المسورة أو البوابة الشرقية لهارار عرف ثيروكس أن هناك قرية صغيرة أنشئت ليعيش فيها المصابون بالجذام وعددهم يصل الى 1000 شخص، وهو مرض يثير الاهتمام لدى السكان أكثر من الإيدز رغم أن أثيوبيا من أعلى دول أفريقيا في نسبة الإصابة بالإيدز، فبين ربع مليون شخص توفوا بالمرض عام 2000 كانت نسبة الأثيوبيين فيهم 8 بالمئة.

وقد قامت منظمة مساعدات ألمانية ببناء مبان حديثة لأهل هذه القرية مكونة من عدة طوابق وبها سلالم، وغرف نظيفة، لكن أهل القرية لم يحبوها لأنهم لا يستطيعون أن يصطحبوا فيها الماشية التي يملكونها.

وكان ثيروكس يفكر في المرضى وتجارة الأفيال، والجزارين ذابحي الجمال .. وغيرهم مما تعرف عليه في أثيوبيا بينما كان يفكر في كيفية الذهاب إلى المحطة اللاحقة في خطته .. وهي كينيا .. هذه المرة.

كان قد قرر الذهاب إلى كينيا عبر الحدود البرية من « أديس أبابا» لكنه يوضح أن الشائع في أفريقيا أنه كلما ابتعدت الطرق عن العواصم أصبحت بالغة السوء، وغير مأمونة العواقب، أما المدن التي تقع على الحدود في الدول الأفريقية فيصفها بأنها بشعة ؛ ينتشر فيها اللاجئون السياسيون، والمهربون، وقطاع الطرق، ولديها سمعة في انتشار المرتشين وتجار العملة، والتحرك فيها يتسم بالخطر، وحتى فنادقها تكون على المستوى نفسه. وكانت النصيحة التي تلقاها ثيروكس ألا يذهب إلى هناك !

كانت هناك بعض الحافلات التي تذهب من أديس أبابا إلى مدن الشمال الكيني ومنها « ديلا» و « ميجا» وبعض السيارات التي تذهب إلى مدينة « مويال »، ولم يكن أي من أهل اثيوبيا يعرفون عنها شيئاً إذ لم يسبق لهم الذهاب الى هناك. ولماذا يذهبون ؟ فشمال كينيا ليس سوى أرض صحراوية قاحلة، جافة، تتخللها طرق أشبه بالأخاديد تنتشر على تخومها القبائل المتناحرة، بالإضافة الى جماعات من الرجال الصوماليين المسلحين المعروفين باسم «شيفتا».. يطوفون في أرجاء المكان، ويجعلون من يسمع اسماءهم لا يتردد في الاتجاه فوراً إلى الجهة الأخرى.

ويتذكر الكاتب مشروعاً طموحاً لم ير النور حمل اسم «أطول طريق في أفريقيا» وكان يستهدف إنشاء خطوط سكة حديدية تبدأ من «كيب تاون» بجنوب أفريقيا وتنتهي في القاهرة. لكن القطارات بالكاد كانت يمكن أن تصل من الجزء الجنوبي لكينيا إلى كيب تاون.

وكان ثيروكس قد قرأ عن طريق تجاري يربط نيروبي عاصمة كينيا بأديس أبابا، ورغم أنه لم يكن طريقاً ممهداً إلا أنه كان قابلاً للسير فيه لكنه لم يجد أي شخص على معرفة بهذا الطريق في أثيوبيا أو حتى في سفارة كينيا .

وبمساعدة شخص يدعى «علي» .. بدأت رحلة ثيروكس إلى كينيا عبر الحدود البرية. كان علي سجيناً سابقاً له علاقات بالتجار، عرض أن يقود سيارته حتى إحدى مدن الجنوب ومن هناك يستقل ثيروكس مع بعض التجار إحدى السيارات إلى الحدود. كان « علي» يحصل على أجره بطريقة غير مباشرة، فكلما اقتربا من قرية أو مدينة يقول لثيروكس إن المكان معروف بأن أهله ليسو طيبين، وهذا يعني أنهم سيأخذون اتاوة ليجعلوهما يمران وكان الكاتب يعطيه في كل مرة مبلغاً من المال لهذه الاتاوة. في الطريق حكى له« علي» عن قصة سجنه، فقد اكتشف أن زوجته تخونه، واعترفت هي أنها فعلت ذلك لأنها لا تستطيع أن تعترض لأن من فعل ذلك كان جندياً .. خلال فترة الحكم الماركسي .. وكان الجنود لهم سطوة ونفوذ.

وداهم علي أحد الأماكن التي عرف أن زوجته تلتقي بالجندي فيها ووجدهما في إحدى الغرف عاريين تماماً، فأصاب الجندي بالسلاح وضرب امرأته ثم طلقها بعد ذلك.

وتعرف ثيروكس من خلال «علي» على شخصين هما «تاديل» و«ولد» اصطحباه في طريق طويل إلى الحدود .. توقفوا بعض الوقت في أحد الفنادق الرخيصة البائسة، وعرف ثيروكس أن «تاديل» كان قد غادر مرتين إلى كينيا ليقيم في مخيمات اللاجئين اعتراضاً على الأوضاع السيئة في أثيوبيا وعلى أمل الهجرة بعيداً إلى أي دولة أخرى.

وبعد رحلة شاقة وصل أخيراً إلى « مويال» ولم يكن هناك سوى فندق سيئ - هو أفضل الفنادق في المدينة - والغرف بها ناموسيات بينما تمتلئ بالحرارة والغبار، والمراتب على الفراش صلبة بدرجة لا تحتمل. أما التيار الكهربائي فهو ينقطع من فترة إلى أخرى.

ومن هناك استقل ثيروكس صباح اليوم التالي إحدى سيارات النقل المخصصة لنقل المواشي إلى نيروبي، وكانت السيارات تتحرك في قوافل لا تقل عن عشر سيارات تحسباً لمواجهات «الشيفتا »، وبصحبته كان هناك ثلاث سيدات وطفلان رضيعان وصبي، والسيدات كن محجبات وكانت «الحنة» الظاهرة على أيديهن وأقدامهن توضح أنهن متزوجات، أما السائق فيدعى مصطفى وبدا متذمراً وكارهاً عمله، فالحر شديد والسيارة ممتلئة بالحيوانات - 02 رأساً من الأغنام - والكابينة مكدسة بالسيدات الثلاث مع ثيروكس وعلى السقف وجوانب السيارة وخلفها تتدلى مجموعة أخرى من الأشخاص ! وأغلبهم لا يتحدثون سوى اللغة الأفريقية «السواحيلي ».

يصف ثيروكس الطريق بأنه أسوأ ما شاهد من طرق - ليس في أفريقيا وحدها بل في أرجاء العالم - فهو ممتلئ بالصخور وشديد الضيق وممتلئ بالأخاديد، وهو ما عرض إحدى إطارات السيارة للانفجار، وكان على الجميع أن يقفوا تحت الشمس الحارقة لفترة طويلة حتى استطاع السائق تغييره.

وبعدها كانت مفاجأة قطاع الطرق .. وكانوا من «الشيفتا» الذين استوقفوا السيارة وفتشوا الجميع .. وأخذوا ما يريدون من الموجودين. وبعدها أسرع مصطفي قدر طاقة السيارة حتى وصلوا الى نقطة تفتيش قبل مدينة « مارسابيت» حيث قام أربعة مسلحين بتفتيش السيارة والاطلاع على جوازات السفر..

باختصار كانت رحلة شاقة وطويلة .. شعر بول ثيروكس بعد انتهائها بسعادة لا يمكن وصفها إلا بإحساس شخص كان معرضاً للقتل وأنه .. أخيراً .. قد أنقذت حياته.

لكن هذه الرحلة الشاقة والخطرة لم تكن سوى أول مرحلة من مراحل الرحلة إلى قلب أفريقيا.

 نشرت في صحيفة الرياض بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة 

19 إبريل 2005م - العدد 13448

الطريق إلى افريقيا يبدأ من القاهرة 1- 5

الطريق إلى افريقيا يبدأ من القاهرة 1- 5
القارة السمراء.. الأكثر اخضراراً في العالم.. وشعبها الأكثر تعرضاً للكذب!



إبراهيم فرغلي





    ما الذي نعرفه عن أفريقيا؟ أسأل أي شخص سؤالا كهذا وتوقع على الفور إجابات لن تخرج عن بعض الكوارث البيئية والطبيعية.. حروب أهلية - أوبئة .. قبائل بدائية.. زلازل وبراكين.. حشرات سامة وحيوانات متوحشة.. وربما يضيف البعض .. المجاعات وآكلي لحوم البشر.
ولن تختلف إجابات أشخاص يعيشون في أرجاء العالم بعيدا عن حدود القارة السمراء عن بعض ممن يعيشون على حدودها الشمالية كأهل المنطقة العربية.
ولاشك أن متابعة القنوات الإخبارية لها دور كبير في مثل هذه الانطباعات؟ فمن بين الأخبار على اتساع نطاقها لا تهتم نشرات الأخبار ولا برامج القنوات العربية بأفريقيا إلا لبث خبر كارثي أبطاله وجوه سمراء ترتسم عليها ملامح البؤس ، فهل هذه هي حقا أفريقيا؟ أو بالأدق هل نعرف شيئا عن أفريقيا؟

والإجابة .. هي لا . نحن لا نعرف شيئا عن أفريقيا، وقد أصبح هذا يقيني بعد انتهائي من قراءة كتاب ممتع بعنوان «سافاري النجمة السوداء» لكاتب أمريكي يدعى «بول ثيروكس» الذي قرر أن يذهب إلى جنوب أفريقيا على أن تكون محطته الأولى هي القاهرة.

وهكذا بدأ رحلته من القاهرة إلى السودان ومنها إلى إثيوبيا، كينيا، أوغندا، تانزانيا، مالاوي، موزمبيق، زيمبابوي، وصولا إلى محطته الأخيرة : جنوب أفريقيا.. وهي رحلة استغرقت عاما كاملا زار خلالها بعضا من أجمل المناطق الطبيعية على ظهر الكرة الأرضية، كما واجه الكثير من المخاطر.. لكنه نجح في النهاية أن يرينا القارة الغامضة التي لا نعرف عنها شيئا عن قرب، ويعرفنا بالبشر الذين يعيشون هناك، ويختلف كثير منهم عما اعتدنا مشاهدته في القنوات الإخبارية.
الكاتب الذي يتحلى بروح المغامرة هو بول ثيروكس، ولد وتلقى تعليمه في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد تخرجه عام 1963 سافر إلى إيطاليا ومنها إلى أفريقيا حيث عمل مدرسا في مالاوي، ثم كمحاضر في جامعة ماكيرير بأوغندا، وفي عام 1968 التحق بجامعة سنغافورة ودرس بقسم اللغة الإنجليزية بها ولمدة ثلاثة أعوام.
وخلال تلك الفترة كان قد نشر عدة مجموعات قصصية وروايات منها «نونج والهنود وبنات يلهون» و«عشاق الأحراش»، في بداية السبعينات انطلق مع زوجته وأبنائه إلى دورسيت حيث أنجز كتاب «سان جاك» وبعدها انتقل إلى لندن، وعلى مدى 17 عاما قضاها في بريطانيا أنجز نحو دزينة من الكتب الروائية وبعض كتب الرحلات. ومن أعماله : تاريخي السري، ميلوري الساحر، شاطئ الناموس وحصل عنه على جائزة يوركشاير بوست السنوية لأفضل كتاب عام 1981، وغيرها، وكان الكتاب الذي نعرض له هنا قد رشح لجائزة توماس كوك لكتب الرحلات ولكن المؤلف كان قد حصل على نفس الجائزة عن كتابه حول الهوية الصينية وبقايا الاشتراكية.
في مقدمة الكتاب الذي بين أيدينا عن رحلته في افريقيا يقول بول ثيروكس : «كل الأخبار القادمة من أفريقيا سيئة. لكنها جعلتني أريد أن أذهب إلى هناك، ليس من أجل الفزع، والمناطق الساخنة والمجاعات والزلازل التي نقرأ عنها في الصحف ، ولكن من أجل الاستمتاع بفكرة وجودي في أفريقيا مرة أخرى. فقد كنت أشعر أن المكان شديد الاتساع ومازال يمتلك العديد من القصص التي لم ترو بعد، وبعض الأمل، والمواقف الطريفة والمشاعر العذبة أيضا. ولشعوري بأن هناك ما هو أكثر من البؤس والإرهاب في أفريقيا، قررت أن أعود إلى الأحراش فهناك عشت وعملت سفيرا منذ نحو أربعين عاما في قلب القارة الأكثر اخضرارا على وجه الإطلاق».
وفي موضع آخر يقول : في أفريقيا.. حيث لا يجدك أحد .. هذا ما كنت أطمح إليه. فأمنية الاختفاء كانت قد أرسلت الكثير من الرحالة إلى أرجاء بعيدة والترحال في ربوع أفريقيا - كما يرى ثيروكس - يوفر فرصة مثالية للانتقام من الهواتف المحمولة وأجهزة الفاكس والهواتف، والصحف اليومية، ومن كل عناصر العولمة وأدواتها التي تتيح لكل من يريدك أن يحاصرك في أي وقت.
لكن الملاحظة الأساسية التي يؤكدها ثيروكس قبل أن نخوض معه هذا العالم الغامض في قلب أفريقيا هي أنه لاحظ أن الأمور في أفريقيا إجمالا قد ساءت مقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل أربعين عاما .. فقد أصبحت أكثر جوعا، وفقرا وأقل تعليما..



ولهذا يرى أن الشعوب الأفريقية هي أكثر شعوب العالم التي تعرضت للكذب، من قبل حكامها الذين قدموا وعودا كاذبة بالرفاهية فلم يفعلوا سوى قيادة دولهم من سئ إلى أسوأ.
ومع ذلك فهو لا يرى أن أفريقيا هي مكان واحد أو ظرف خاص، فكل دولة وكل مكان له ظروفه وله خصائصه المميزة وهو ما وسم الرحلة بسمات التغير، وكشف التنوع الثري بين بلاد القارة.
عندما وصل بول ثيروكس إلى القاهرة كان ذلك في أحد أيام فبراير الباردة، لكن القاهرة كانت تتعرض لعاصفة ترابية جعلت الجو ممتلئا بالغبار، وهو ما جعله يصف المدينة ذات الهواء غير النقي والزحام غير الطبيعي - كما يقول - بأنها رغم ذلك صالحة للسكنى بل ومبهجة بفضل مسرات أهلها ونهرها السخي.

ويعود ثيروكس إلى التاريخ البعيد محددا بدء زيارات السياح لها منذ نحو 2500 عام، وهو تقريبا الوقت الذي كان هيرودوت قد وصل فيه إليها وكتب عنها كتابه الشهير. وبعدها زار اليونانيون والرومان مصر، ودخلوا المعابد، وسرقوا كل ما استطاعوا أن يحملوه وأبقوا كل ما ظل ماثلا حتى اليوم.

ولأنها بلد عرفت بأنها أرض الألوان والأمن فقد استقطبت الكثيرين ممن مروا عليها من المستشرقين والأجانب وعبدة الأوثان . ثم العرب والمسلمين .. بل وحتى وصولا للفرنسيين في القرن التاسع عشر، وقبلهم الأتراك ، وأخيرا الإنجليز.
يقول ثيروكس إنه بالرغم من كل ذلك، فقد ظل المصريون مصريين، ففي عصر الفراعنة كان لدى قدماء المصريين عادة صد أي أجنبي من الدخول إلى مملكتهم، ولكن ومنذ هيرودوت أصبحوا يرحبون بالأجانب بمزيج من المزاح والمناكفة وبنوع من الألفة غير المخلصة أحيانا مثلما يفعل بعض الذين يريدون الحصول على أي أموال من السائحين بأي شكل.
الملاحظة التي لاحظها ثيروكس هي وجود خيط رفيع بين كرم ضيافة حقيقي وبين من يمارسون الشئ نفسه لأغراض خاصة. وهو هنا يقصد ما يفعله المنتفعون من السياح في مصر. ويقول إن هناك الكثير من الشحاذين ، والقليل من النصابين لكنهم جميعا أصحاب نكتة. ينفثون يأسهم في اختلاق المرح. «ومن الواضح أن كلا منهم يأمل في أن يكون ثروة» أحيانا، بأي شكل، لكنهم يفعلون ذلك وهم يرسمون على وجوههم ابتسامة.

ولعل هذا هو الانطباع العام لدى الأجانب الذين يزورون مصر للسياحة وليس للعمل، فهم لا يلتقون إلا بالنماذج التي ألتقى بها ثيروكس وخرج منها بمثل هذه الانطباعات ومنهم مثلا سائق التاكسي، والمرشد السياحي في منطقة سقارة أثناء زيارته للأهرام وأبي الهول.

يقول مؤلف الكتاب بعد نبذة تاريخية عن الأهرام وأبي الهول، إنه كثيرا ما شاهد صورا فوتوغرافية للأهرامات عبر كتب الرحالة أو عبر الإنترنت، وقرأ بعض ما كتبه الرحالة الذين زاروا مصر وبينهم الكاتب الفرنسي فلوبير، لكنه يرى أن هذه الصور أضاعت الإحساس الحي لرؤية الأهرامات في الواقع والاستمتاع بمتعة الاكتشاف في الترحال.

ومن القاهرة قرر ثيروكس أن يرحل إلى الأقصر وأسوان قبل الانتقال إلى المحطة التالية وهي السودان، ولهذا كان عليه أولا أن يحصل على تأشيرة دخول من السفارة السودانية . فلم يكن لديه مثل هذه التأشيرة وهي عملية صعبة كما يصفها بسبب تعقد العلاقة بين الولايات المتحدة والسودان بعد الضربة التي وجهها الرئيس السابق بل كلينتون إلى السودان بضرب أحد معامل الأدوية بدعوى احتوائه على تجارب لعمل أسلحة كيماوية وذلك في أغسطس 1998.

وعند زيارته للسفير السوداني في القاهرة أوضح ثيروكس أن سبب الزيارة هو رغبته في مشاهدة موقع الضربات الأمريكية للمصنع الكيماوي في الخرطوم.
ويصف ثيروكس السفير السوداني بكونه رجلا مرحا، تلقى تعليما جيدا ، كان قد عمل سفيرا لبلاده في فيتنام، وأوضح السفير أنه من النوبة وأنه يتحدث باللهجة النوبية.
هل تشبه اللغة العربية في شيء؟
ليس للنوبية علاقة بالعربية، فقد كانت هذه لغة الفراعنة!
وقد أثار هذا الحوار رغبة الكاتب في السفر لزيارة النوبة فقال له السفير «ان شاء الله، فهناك سوف تشاهد أهراما وآثارا أكبر من المصرية. فالنوبة هي أساس الحضارة المصرية. يجب أن تشاهد دنقلة، ومروي وأعالي النيل والمعابد النوبية".
وبعد ثلاثة أيام جدد ثيروكس زيارته للسفير فأخبره أن طلب «الفيزا» الخاص به قد رفض . واقترح عليه مقابلة القنصل أو إعادة تقديم طلب جديد . ولفت انتباه ثيروكس تردد كلمة «ان شاء الله » باستمرار ، لكنه أبدى دهشته من المعنيين المتناقضين لاستخدام الكلمة في مصر أو السودان حيث يقصد بها «أننا نأمل » أو «لا تعتمد على ذلك » ! ولم يعرف هو أي المعنيين يقصدهما محدثوه .
وكان عليه في كل الأحوال أن ينتظر لمدة أسبوع آخر ، وبالرغم من أن انتظار التأشيرة - كما يقول - بالنسبة للرحالة هو أمر غير مستحب ، فقد خطط لقضاء وقته في خلال تلك الفترة بشكل مفيد ، وهكذا قرر زيارة المتحف المصري ، ثم زيارة الكاتب صاحب نوبل نجيب محفوظ ، وكان ثيروكس قد التقاه قبل ذلك أثناء وجوده في قسم العناية المركزة بالمستشفي بعد تلقيه طعنة شاب صغير ينتمي لإحدى الجماعات المتطرفة . كما ذهب إلى إحدى الحفلات الخاصة ، وحصل على تأشيرات لعدة دول أفريقية أخرى اتسمت كلها بسهولة الحصول عليها.والسؤال المدهش الذي أضطر الكاتب لطرحه بالصدفة هو .. هل مصر دولة أفريقية ؟
كان الكاتب قد دعا الى حفل عشاء مع بعض الأمريكيين في حي المعادي القاهرة ، وكان يتحدث عن رحلته الى أفريقيا فعلق رجل أمريكي قائلاً : « .. لم يسبق لي أبداً الذهاب إلى أفريقيا .. »
ولكن .. نحن في أفريقيا ..
« لا .. لا .. هذه ليست أفريقيا .. أفريقيا هي .. »
ولم يكمل الرجل عبارته .. ولكن بدأ حوار مطول شارك فيه آخرون كان لكل منهم تعليق لم يكن بينها ما يشجع الكاتب أبداً على استكمال الرحلة ، وكلها تؤكد ، من جانب آخر ، مدى الأقاويل الشائعة حول هذه القارة الغامضة .. أحدهم قال : « لقد سبق لي زيارة السودان - شعب رائع - ولكن الطرق هناك لا يمكن أن تسير فيها».
هناك يعتقلون الجميع » .. « زامبيا هي المكان الذي يجب أن تتجنب زيارته . فالناس يبنون أسواراً عالية حول بيوتهم فلا يمكنك أن تسير في الشوارع » .
الحرب بين أثيوبيا وأرتيريا تجعل الاقتراب منها خطرا»
هل قرأ أحدكم الكتاب الأخير الذي يتناول المذابح في رواندا ؟ » .ويرى ثيروكس من كل هذه التعليقات تأكيدا آخر على الأقاويل الشائعة التي تسم أفريقيا بكل ما يشيع عنها من فقر ومآس وجوع ومذابح .
« لم أفزع لما قاله هؤلاء الناس رغم أن تشاؤمهم جعل من أفريقيا مسرحاً للتناقضات ، ومجهولة ، لا تجدي زيارتها شيئاً . كانوا يقولون ما كان يردده كل شخص آخر دائماً : أليست أفريقيا بشعة ؟! إنهم بدوا وكأنهم يؤكدون أن ملامح الخارطة الأفريقية أصبحت معتمة وشحبت حتى أصبحت بلا وجود » .

هكذا يقول بول ثيروكس ثم يضيف : لا .. لم يفزعني ما قالوه ، فإن ما يزهو به الرحالة أنه يلقي بنفسه إلى المجهول ، وأفضل رحلة هي تلك التي يقفز فيها الشخص الى الظلام . فإذا كان ما يذهب اليه الرحالة مألوفاً ومعتاداً فما جدوى الذهاب الى هذا المكان من الأساس ؟
ومن بين ما يقدم له الكاتب وصفاً تفصيلياً هو القاهرة القديمة ، وخاصة حي الجمالية باعتباره المكان الذي كتب عنه نجيب محفوظ الكثير من أعماله الإبداعية وباعتباره أيضاً المكان الذي ولد وعاش فيه جانباً كبيراً من طفولته وصباه . ثم يقدم وصفاً لشارع قصر الشوق خلف خان الخليلي ، وحارة قرمز وميدان بيت القاضي ، ويورد فقرات من روايات محفوظ المترجمة يصف بها نفس الأماكن ، ثم يصف زيارته لمحفوظ بصحبة مترجمه ريمون قبل ذلك بسنوات ، والتعليق الذي مازالت ذاكرته تحتفظ به وألقى به محفوظ ضاحكاً قبل أن يشعل سيجارة معلقاً على حادث الضربة الأمريكية البريطانية للعراق بدعوى أن طائرات عراقية حومت في منطقة محظورة من العراق وفقاً لقرارات مجلس الأمن آنذاك بالعقوبات على العراق . قال محفوظ : « الهجوم على العراق يشبه الهجمات العشوائية التي وردت في رواية « الغريب » لكامي » .
وكان التعليق في جلسة محفوظ الأسبوعية بالمعادي وتخللها حوار موسع حول الدور الأمريكي في الشرق الأوسط وتأثير نوبل محفوظ على عالمية الأدب العربي .. كما سأله ثيروكس عن مدى حقيقة أن النوبة كانت أصل الحضارة الفرعونية. هنا أوضح محفوظ أن هذا محل جدل ، وأن المصريين غزوا النوبة واحتلوها أولاً ، ثم احتشد أهل النوبة وقاموا بحملة مضادة .
وعندما عرف محفوظ أن ثيروكس في طريقه الى النوبة أخبره أنها تعرف باسم « أرض الذهب » .وأخيراً في اثناء زيارته للأقصر وأسوان حصل ثيروكس على تأشيرة دخول السودان ، لكنه عرف من السلطات أن الحدود البرية مغلقة بين البلدين ، وبالتالي كان عليه العودة إلى القاهرة والسفر بالطائرة .
في السودان كان فندق » الأوكروبول » هو أول ما شاهده ثيروكس ، موضحاً أنه الفندق الرئيسي في الخرطوم، ويقيم فيه أغلب المراسلين الصحفيين وموظفو منظمات الإغاثة الدولية . لكن الجو العام للفندق بدا لثيروكس كأنه في «كازابلانكا » .
يصف الكاتب الخرطوم بأنها مدينة الرجال ذوي الجلابيب البيضاء الفضفاضة والعمامات العالية بنفس اللون ، والنساء الطويلات المحجبات واللائي يرتدين القفازات السوداء بينما تعلو المآذن الشبيهة في بنائها بشكل الأقلام الرصاص في كل مكان . أما المدينة نفسها فتتوسط نهرين واسعين هما النيل الأبيض والنيل الأزرق .
ويلتقي الكاتب مجموعة من الطلبة السودانيين يدهشه أنهم يتحدثون بالإنجليزية .. ويؤكدون له أنهم يحبون الأمريكيين لكنهم لا يحبون الإدارة الأمريكية . وأنهم يميزون بين الشعب الأمريكي وبين حكومته .
ويبدي الكاتب دهشته من تقسيم السودان إلى منطقة يعيش بها المسلمون فقط وأخرى للمسيحيين ، وأربعين عاماً من الحروب في المناطق الجنوبية ، رغم أنه لم يشعر بأي شيء من ذلك في الخرطوم . ولم يكن ليعرف عن ذلك شيئاً إلا بعد لقائه ببعض أهالي قبائل الدنكا ، والشلوك ونوير من المسيحيين الذين فروا من الجنوب هرباً من نيران الحرب .ويصف الحر الشديد الذي يتسم به المناخ في السودان ويقول إنه تمنى آنذاك أن يرتدي مثل كل الموجودين حوله .. جلباباً فضفاضاً وعمامة بيضاء . وتأمل فكرة أن النساء المحجبات قد تظهر أقدامهن وكواحلهن الرسومات البديعة بالحنة .
كما يصف سوق المدينة المركزي الذي بدا له مثل أسواق العصور الغابرة .. مكان يلتقي فيه الناس والباعة والرحالة والسودانيون من الشمال والجنوب على السواء كل بلباسه التقليدي . والعارضون الشعبيون مثل الحواة . بعض الباعة يعرضون الصابون والسجائر، ويوجد شارع كامل لباعة الصنادل.. ثم الخضروات واللحوم .. وفي قلب السوق يستقر المسجد الأكبر في أرجاء المدينة وباعة الذهب ، الذين لا تزيد بعض متاجرهم عن مساحة كشك صغير .

ويزور المؤلف في اليوم التالي «نادي النيل الأزرق العائم » الذي يستقر على ضفة النهر ويعود تاريخ بنائه الى العشرينات وهو في الأصل آخر المراكب الإنجليزية العسكرية الذي لم يدمر في معركة أم درمان .

كما زار متحف الخرطوم الذي يصفه بأنه كان ممتلئاً بالتماثيل الفرعونية ، وكان الكثير منها يشبه التماثيل الفرعونية المصرية ، وأدرك آنذاك أن الوجوه الفرعونية التي تمتلئ بها المعابد والمتاحف المصرية كانت لها جذور أفريقية عميقة . وشاهد ثيروكس بعض المتدينين وعرف أنه يطلق عليهم اسم « دراويش » وهم المتصوفة ، كما عرف أن المتصوفة هم الذين يعود لهم فضل دخول الإسلام إلى السودان وأن كبيرهم «يوسف فضل حسن» يعيش في الخرطوم .. وهناك قريباً من داره يستقر أكبر تجمع للصوفية ومناسبات الذكر والاحتفالات الدينية التي حضر ثيروكس إحداها مبهوراً بطقوس الذكر التي يحييها الدراويش بملابسهم الفضفاضة التي تتراوح ألوانها بين الأبيض والأخضر .

وعندما يحل الغروب تبدأ الطقوس في الخفوت ويختتم الحفل ويذهب الجميع رجالاً ونساءً للصلاة في منطقة فسيحة من الخلاء بين الصحراء والنهر .


نشرت في الرياض 16 ابريل 2005


بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة

Friday, November 7, 2014

المثقفون المبتسرون في مجتمعات الزومبي


بين "الطغرى" و"التماسيح"
المثقفون المبتسرون في مجتمعات الزومبي!

إبراهيم فرغلي




لا أظن أن هناك عملاً روائيًا قدم نقدًا ذاتيًا لجماعة المثقفين بهذه القسوة والدقّة كما فعل نص "التماسيح" للكاتب المصري يوسف رخا، أحد الأصوات الطليعية والتجريبية المهمة، وهي العمل الروائي الثاني له بعد روايته الأولى "كتاب الطغرى"، الذي قدم فيها رصدًا روائيًا لأزمة الهويّة في المجتمع المصري، بسبب الحركة الوهابية، التي انتقلت أفكارها إلى مصر عبر المهاجرين المصريين الذين ذهبوا للعمل في السعودية في السبعينات وعادوا إلى مصر بتلك القيم البدوية، ما أدى، مع أسباب أخرى، إلى تزييف أزمة هذه الهوية بتحويل الجمهور إلى كائنات أشبه بالزومبي تسيّرها خطابات مزيّفة، تستغل خواءها الذهني لتدفعها لأن ترى في الدين هويّة وحيدة تبتلع كل مكونات الهوية الأخرى، وترى في أوهامها أن فكرة الخلافة هي البديل لفكرة الدولة المدنية.
لكن التماسيح تُضّيق زاوية الرؤية لتتأمل جماعة أو دائرة المثقفين في مصر، خلال فترة التسعينات على نحو خاص، منطلقة من حدثين مركزيين هما انتحار واحدة من أبرز رموز مثقفي جيل السبعينات وهي أروى صالح، ويختار لها الكاتب اسما روائيا (رضوى عادل) لتأكيد الطابع التخييلي للنص، الذي تزامن مع تكوين مجموعة من ثلاثة شعراء مغمورين جماعة شعرية سرية اسموها التماسيح، ووضعوا لها مانيفستو يمثل قوانين الشعر السري، وقد شكلت هذه الجماعة رابطًا شعريًا إضافيًا لروابط صداقتهم التي سوف تتداعى لاحقًا لأسباب مختلفة.
تدور وقائع الرواية بين العام 1997 الذي شهد تأسيس جماعة التماسيح، وصادف انتحار أروى صالح في يوم واحد تقريبا، وصولا إلى تاريخ ثورة يناير في 2011، وما بعدها بعام.
ويجد الراوي في هذه الصدفة مسوغا للبحث والتأمل في كثير من المشتركات التي تجمع جيلين من المثقفين هو جيل أروى صالح الذي عرف بجيل السبعينات، والذي قاد الحركة الطلابية في عام 1972 ضد السادات ليطالب بدخول مصر في حرب استعادة كرامتها أمام إسرائيل، وهو أيضا نفس الجيل الذي حرك أكبر انتفاضة شعبية ضد السادات أيضا في العام 1977، وبين جيل التسعينات الذي ظهرت أعماله الأدبية مع مطلع تسعينات القرن الماضي، متأملا حال الجيلين عبر عدد من النماذج الذين مثلوهما، مستخدما أسماء وهمية في بعض الحالات أو باستخدام الأسماء الأصلية للأشخاص في أحيان أخرى، لتأكيد الجانب التخييلي للعمل. مارا على تجارب دورالنشر الخاصة التي تزامنت مع ظهور هذا الجيل، والجماعات الأدبية التي ظهرت واختفت، والمجلات الأدبية التي واكبت ظهور جيل التسعينات مثل مجلتي "الجراد" و"الكتابة الأخرى"، وغير ذلك من تفاصيل.



ينطلق النص من الكتاب الشهير للراحلة أروى صالح المعنون باسم "المبتسرون"، التي قدمت فيه نقدا لاذعا للمثقفين المصريين المنتمين لليسار والماركسيين من جيلها، ويتأمل حال نماذج الجيلين متتبعا ما يرى أنه دوما كان جانبًا من ملامح هذا الابتسار، أو النقص، أو عدم النضج، أوعدم الاكتمال.
ويوسع الراوي هنا زاوية رؤية هذا الجيل لافتا إلى أن الأصل القادم منه المثقف المصري إلى القاهرة، باعتبار أن الغالبية العظمى منهم من الريف ووفدوا إلى المدينة للعمل أو الدراسة، لها تأثير قوي عليهم. فهو يرى أن المثقف ذو الأصل الريفي تظل القيم التقليدية الريفية تتحكم فيه، مهما بدت عليه ملامح التحرر. لكن الفتيس او يوسف أو الراوي، يضيف نقدا آخر لاذعا للريفي قائلا: " أنا أتحدث عن المكر والمهادنة، الجبن الذي يؤدي إلى التكتل حتى لو كان الانطلاق مدفوعا بالتمرد على الكتلة الاجتماعية". ثم يورد نقدا آخر له علاقة بان نماذج من هؤلاء كانوا يعبرون أحيانا على جثث آخرين من الاصدقاء او المحبين، ويرى الراوي أن ما يفعلونه، أو يحققونه فيما يتصورون أنه "تقدما" للامام قد يبدو أنه يبتعد بهم عن قيم الريف لكنه من جهة أخرى يملأ القاهرة بقيم ريفية وبدوية، لا يكونها الجهل والفاقة التي تعاني منه القاهرة فقط، بل مضافا إليه آفات بشر يقررون أن يصبحوا عراقيل لآخرين بدلا من أن يكونوا أناسا وبشرا طبيعيين.
 في نفس الوقت فإن إشارة الراوي إلى "الكتلة الاجتماعية" في الجملة السابقة، تتضمن إشارة إلى تناقض آخر بين النزعة الفردية التي كانت شعارا مرفوعا بين أفراد هذا الجيل من المثقفين، وبين حياته المستمرة فيما يشبه دائرة أو جماعة. في عدم قدرتهم على تحقيق الفردية كما عرفتها الأجيال الأخرى من المثقفين في الغرب، خصوصا اولئك الذين انبهر بهم البعض من طلائع ال Beat Generation، أو الـ Beatniks  خصوصا الشاعر الأمريكي ألن جينزبرج والروائي جاك كيرواك وغيرهما.
  وبين التناقضات التي يرصدها الراوي أيضا المثالية التي قد يكون في جوهرها لونا من ألوان الاستعراض، لدرجة أنه يرى أن فعل الانتحار بالنسبة لأروى صالح نفسها لم يكن سوى أحد أعراض هذه الرغبة المدمرة في الاستعراض، ليصل إلى أن كل هذه السمات التي ميزت جيلين، كان لا بد ان تقود إلى انتفاضة أو ثورة أو حركة ناقصة أو مبتسرة أوغير مكتملة، ايا كانت وجهة نظر من يتعامل مع ثورة 25 يناير.

 هناك ملمح عام في نصوص رخا خصوصا في رواية الطغرى، أنه يختار نماذج من الحياة، ويصورها بشكل كاريكاتوري ساخر، أو يختار اشخاصا هم بالفعل نماذج غريبة في الواقع، مثل شخصية وحيد الدين، لأن وجودها في الحياة بالفعل يبدو كنتوء غير مفهوم، شخص كان عبقريا في مجاله في العمل التحريري ثم اختفى وعاد شخصية أخرى. لا يظهر إلا مساء أو ليلاً ، يسير صامتا بمحاذاة الجدران ، ويعاني من وساوس قهرية.
 هذا النموذج وغيره يبدو جذابا لعيني الروائي عند يوسف رخا الذي يلتقطها ثم يلقي عليها بأردية واقنعة للدخول في مسرح الرواية بشخصية تبدو طول الوقت كأنها على تسير على حدود الواقع والتمثيل أو الاستعراض- أو بين حدود الحقيقة والوهم. كأنه يأخذ من الهامش ما يرى أن وراءه قصة يجب أن تروى، أو أنه الهامش الذي تكاد لا تراه، لكن امنحه الفرصة ليظهر وسوف يأتي بما لا تتخيله، ليس اقل من اقتراح دولة خلافة إسلامية في بلد بدأ مسيرته نحو المدنية قبل أكثر من قرن كامل. ويستكمل هذا الطابع الساخر في بناء الشخصيات باختيار اسماء غريبة لهم مثل "فستق" أو "الدو" أو "يلدز"، وهي أسماء غير دارجة في الواقع.

لكن على العكس من ذلك تأتي الشخصية الأنثوية في عملي يوسف رخا، فهي لا تخضع لمنطق البناء الكاريكاتوري، بل تقدم بوصفها الواقعي، كأنه يرى في التناقضات التي تحملها تلك النماذج النسوية ما يفوق الخيال من ازدواجية وتناقض، سواء كن العشيقات الثلاث لأعضاء جماعة التماسيح في التماسيح؛ موون الشاعرة المتزوجة التي كانت على استعداد لأن تحب على زوجها، ونرجس الفنانة التشكيلية الوصولية الرسامة الطليعية الموهوبة التي تعبر عن ازمة الفتاة المتحررة حين تقرر ان تعيش بمفردها في مجتمع مغلق، الهاربة من تاريخ من الزواجات الفاشلة في إحدى مدن الجنوب، وصبا الناشطة الحقوقية المتزوجة من إيطالي ولكنها بدأت علاقاتها بعلاقة مثلية مع صديقة لها، أو كانت شخصية زوجة الراوي في "الطغرى"، أو إحدى صديقاته في العمل "يلدز". ويمكن أن نرى تلخيصا لماساة هذه النماذج جميعا في وصفه ليلدز "الظاهر ثقة وثقافة وفعل الخير، فماذا عن الحقد والجبن وخداع الذات". وهي سمات تنطبق تقريبا على أغلب نماذج النساء في العملين.
لكنه يتوقف عند نموذج الفتاة "علياء المهدي" التي وقفت عارية أمام مصور وبثت صورتها على الإنترنت لتقدم ثورتها على طريقتها الخاصة؛  "بافتخار من يقدم روحه قربانا للحرية، الأمر الذي لم يفعله أحد من أرباب الحركة الطلابية في السبعينات، وضعت علياء المهدي جسدها على النت وقالت أن هذه ثورتها".

وبينما تأخذ اللغة في نص التماسيح مسارا أكثر انسجاما، ولو انه في النهاية يبدو مركبا في اكثر من موضع، ويميل لأن يكون نصا ذهنيا أقرب للشعر في تركيبه، فإنها في رواية "كتاب الطغرى" تأخذ أكثر من مسار، فهي في مستوى تعتمد على مزج بين الفصحى وبين مفردات العامية أو المصطلحات الشائعة اللاتينية التي تستخدم في العامية، وفي مستوى آخر تبنى على مزيج من الفصحى التقليدية القديمة التي شاعت في العصور العربية الإسلامية خصوصا في الفترة العثمانية. ويعد يوسف رخا أصيلا تماما في ابتكار لغته الخاصة في هذين النصين.
وفي الطغرى يبدو جليا الولع بالتجريب لدى يوسف رخا في الشكل والبناء.  فالرواية تعتمد على التشظي، والدائرية، إذ تبدأ من وصف الراوي لانفصاله عن زوجته وما مر به في هذه الخبرة المأسوية التي تفيض بالألم وجلد الذات والآخر، واصفًا نفسه في ليلة الانفصال وهو يودع زوجته كأنه جنرال مهزوم يتأمل مدينته لآخر مرة، ثم يوازي بين بكائه على هذه الخسارة وبكائه على القاهرة التي يرى أنها تعاني من نفس ما يعانيه على مستواه الشخصي.
ثم تمتد من هذا المنطلق إلى تتبع أحوال عدد ممن يعرفهم من زملاء وأصدقاء في مرحلة محاولة تجاوز ألم الانفصال عن زوجته، وعلاقته الممتدة بصديقه أمجد الذي كان علمانيا من الطبقة الوسطى وتحول فجأة في إطار المد الديني المزيف الذي انتشر في القاهرة إلى ملتح متدين، تفيض حياته بالمتناقضات، ثم التقائه بالشيخ وحيد الدين وصولاً الى حالة الحب التي تجمعه بسيدة غلامية متفرنجة متزوجة يعرف بين أحضانها أو يختبر معنى آخر لمفهوم الحب الحسي والروحي على السواء.
وتوازياً مع هذه الأحداث المتشظية نجده يحاول أن يقدم رسماً لمدينة القاهرة، وهنا ملمح آخر للتجريب بانتثار عدد من الرسوم التوضيحية بخط اوريشة الراوي – الكاتب، تمر بمراحل متعددة من التطور الشكلي، حتى يصل الراوي الى تطابق تام بين تصوره لشكل القاهرة كما رسمه وختم الطغرى السلطاني الشهير في العصر العثماني.
في نهايات نص الطغرى نجد أن النماذج التي يشير لها الراوي وهي تمثل قطاعا أكبر من جمهور عريض تسير بالسؤال من دون أدنى محاولة للبحث عن إجابات، فتبدو مثل «الزومبي» الذين يعيشون في الحياة أنصاف أحياء، أو كجثث حية سلمت عقولها لغيرها وظلت تسير كأشباح خلف ما يريده غيرهم، في دلالة رمزية الى التدين الشكلي وأنماط الريفية العقلية التي يرفل بها مجتمع كامل يبدو عائشاً في غياب عقلي كامل، أو حتى الانصياع التام لمظاهر الاستهلاك والمظاهر الشكلية لدى فئات أخرى.
 أما نص التماسيح  فيحوم حول نموذجين لحيواني التمساح والأسد، ويتأمل مدلولات كل منهما، ووجود الأسد في النص ضروري لأننا نرى في النهاية نايف، أحد أعضاء جماعة التماسيح وقد اصيب بلوثة جعلته يتوهم رؤية أسد في البيت، وتزداد حالته سوء حتى يكون الأسد المتوهم سببا لموته في حادث مروع.
يوسف رخا 

هذا الوهم، أو الأوهام هي جزء مما يراه الراوي آفة جيل كامل لم يتعاط سوى الأوهام، وكانت الأوهام كفيلة به، وهذا ما يؤدي إلى إحساس الراوي بالفجيعة : الفجيعة في موت نايف العبثي، وفي أوهام ثوار لم يمتلكوا سوى الحس بالاستعراض الذي جعلهم لا يرون في الثورة إلا وقوف في الميادين ومواجهات  سلمية مع الشرطة المدججة بالغاز والسلاح، فيما يقدمون جثثهم بهذا الحس الانتحاري ويعودون، بعد كل معركة من تلك المعارك، ليبكون على أصدقائهم الذين يموتون من دون أدنى شعور بعبث ما يفعلون.

كأن جماعات الزومبي في الطغرى لم يكن ينقصها سوى المبتسرون في التماسيح لتكتمل دائرة مروعة من انكسار الأحلام قبل أن تبدأ. 

Sunday, November 2, 2014

شامات الحسن‮:‬الصفة الإيروسية للجمال

شامات الحسن‮:‬الصفة الإيروسية للجمال

شامات الحسن‮:‬الصفة الإيروسية للجمال

شامات الحسن‮:‬الصفة الإيروسية للجمال

السباحة في بحيرة هادئة قبل لقاء الحوت..اليس مونرو

قصص لأليس مونرو..
السباحة في بحيرة هادئة قبل لقاء الحوت!




إبراهيم فرغلي
أعترف أنني لم أكن قرأت لأليس مونرو شيئا قبل أن تقع في يدي مجموعة بعنوان "قصص" من ترجمة الكاتب والمترجم أحمد شافعي، والصادرة عن "كتب خان"، ولاحقا عرفت أن المترجم أحمد الشيمي ترجم عددا ضخما من قصصها سبق حصولها على نوبل في كتاب بعنوان كتاب "العاشق المسافر وقصص أخرى"، عن هيئة قصور الثقافة. لكن ما يهمني قوله هنا أن عالم هذه الكاتبة القصصي عالم غير مسبوق في تقديري. تبدأ القصص عادة من مشاهد عادية وعائلية لكنها تغوص بعيدا في أعماق النفس البشرية، وتنقلب هذه العادية بلا أي صخب أو افتعال لتجد نفسك إزاء مأزق إنساني كبير، شيئا يشبه أن يسبح المرء في بحيرة هادئة ثم يجد نفسه وقد ارتفع عن المياه على ظهر حوت عملاق.
ثمة شئ بارع في البناء القصصي لأليس مونرو، إذ أنها تبدو وكأنها تشيد بناء مسلحا راسخا تحفر اساساته عميقا، من دون أن يرى القارئ شيئا من هذا، إذ ينشغل بداية بالمظهر الخارجي الخادع الذي يبدو كأنها تكسوه بغطاء خشبي خفيف وملون بألوان خافتة وهادئة. حين يدلف القارئ لمبنى النص الخارجي  في بداية العمل يبدو الأمر مثل نشوة الوصول إلى حفل عشاء مع أصدقاء مألوفين، لكن ما أن يضع قدمه داخل البناء حتى يتبين أن ضحكات الأصدقاء الخافتة ليست إلا عويلا قويا، مع ذلك فليس ليس هيستيريا بقدر ما هو عويل مكتوم من فرط قوة الدراما الماثلة في خلفيته، ولكن من دون أي ابتذال عاطفي.
 في قصة بعنوان "البعد" نرى سيدة تعرف باسم "دوري" تغير اسمها وتعيش حياة جديدة تماما، خادمة في فندق تنظف الغرف حتى تنهك قواها، ثم تدريجيا، تستغرقنا تفاصيل يومها، الحافلات الثلاث التي تستقلها لكي تصل إلى عملها، ومشقة الحياة، وتفاصيل من واقع يومها، حتى يصلها مظروف مكتوب عليه اسمها، ومنه تبدأ تداعيات نصل بها إلى أزمتها في الإجابة عن سؤال حول مدى قدرتها على زيارة زوجها في مصح عقلي، تأخذنا الكاتبة إلى الحياة الذهنية لأشخاصها عبر تفاصيل يومية، أو عبر حوارات مستفيضة يحكي فيها كل منهم طرفا من قصة حياته، ثم نشعر، فيما نسبح في دوائر البحيرة الهادئة بحركة غامضة لندرك أننا نجلس فوق حدبة حوت ضخم. حين ندرك أن الزوج قاتل، والضحايا هم أبنائهما الثلاثة، ثم ينفجر الألم في قلبنا قادما من قبل الأم "دوري"، لنرى لاحقا كيف ستبحث الأم في حادث عابر عن وسيلة تعبر بها على الذكرى بتجاهل الأب تماما، بانقطاع الرحلة خلف محاولة بث الحياة في شاب صغير، تعرض لحادث. فتصبح القدرة على منح الحياة وسيلة لمواجهة الموت العبثي لثلاثة أطفال كان اختيارها لزوج هش نفسيا في هذه الدورة المأساوية.


في القصص الأربعة الأخرى سنجد دوما شيئا من هذا، تفاصيل حياة يومية لدورة حياة تنقطع بالانفصال وبداية دورة جديدة، تأمل تقاطعات دورتي الحياة عبر الصدف التي تلقي بها الحياة الينا. نتعرف على شخصيات أغلبها ذات خلفية ثقافية، اساتذة جامعة أو كاتبات شباب، أو ربات بيوت يعانين الوحدة، ثقافة كندا، التي لا نعرف الكثير عنها، هذا المزيج الفريد بين الفردية الأوربية ومظاهر من طبيعة الحياة الأمريكية. الاحتفاء بالحياة، ورفض الفاجعة في الحزن بتحدي الشفقة والتعاطف، هكذا سنرى مثلا في قصة شوارد حرة التي تبدأ بها المجموعة نجد نيتا الوحيدة تجتر أحزان وفاة ريتش، وفي وحدتها ورفض زيارات المتعاطفين نتعرف على تفاصيل علاقتها بريتش كزوجة ثانية، وتاريخهما المشترك، وفيما نسبح في بحيرة العلاقة يرن الجرس ويدخل عامل الكهرباء، وسرعان ما ندرك أنه محتال، لص في زي عامل الكهرباء المزيف، ويبدأ بينهما حوار يعترف فيه بجرائمه وبينها جريمة قتل، فتبدأ نيتا بالرد عليه بكذبة تتقمص فيها شخصية الزوجة الأولى وتتخيل أنها سممت عشيقته، وهي تتبادل أدوارهما في الحياة، ويصاب الرجل بوهم أنها سممت له الكعك الذي قدمته له، وتنقذها الحيلة.

أليس مونرو بارعة بحيث يمكنها أن تخطف القارئ في كل قصة إلى عوالم رغم عاديتها وواقعيتها فإنها تشع بوهج مبهر من الغرائبية وعجائب تدابير القدر وكيفية الاحتيال أو التواؤمات النفسية التي يبذلها الفرد في موجهة القدر. وترجمة أحمد الشافعي التي تضئ جمال النصوص تؤكد جمالها وقدرتها على بلوغ جوهر نصوص مونرو.